إعداد موقع الإمام حسن البنا
[أحب إن أصارحكم، إن دعوتكم لا زالت مجهولة عند كثر من الناس، ويوم يعرفونها ويدركون مراميها وأهدافها ستلقى منهم خصومة شديدة وعداوة قاسية، وستجدون أمامكم الكثير من المشقات وسيعترضكم كثير من العقبات].
بهذه الكلمات أوضح الإمام البنا حقيقة الطريق الذي يدعو الناس إليه، كما كان صريحا مع أتباعه الذين أمنوا بفكرته، وساروا معه وفق منهجه الإسلامي، حيث بصرهم أن الطريق كثير المحن، وأن من سلك طريق العمل للإسلام سيواجه بالعقبات وسيبتلى في نفسه وماله وأهله، ولذا سطر الكثير من الكتابات حول هذه المعنى، بل ابتلى هو أيضا فتجلت المعاني التي يربي بها أتباعه في محنه.
الطريق من هنا
] الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا [الأحزاب: 39].
الأمة الإسلامية تحمل رسالة الله لعباده، وتحرس أمانته فى أرضه؛ أمانة المُثُل العليا والأخلاق الكريمة والأوضاع السليمة التى تقوم على العدل والإحسان وإيتاء ذى القربى، وتنهى عن الفحشاء والمنكر والبغى.
وقد أخذ الله العهد والموثق على هذه الأمة التى اجتباها، وما جعل عليها فى الدين من حرج، وجعلها أمة وسطًا، وهى خير أمة أخرجت للناس.. أن تبلغ رسالة الله لعباد الله، وألا تقصر فى هذا التبليغ بحال من الأحوال، وأن تحفظ هذه الأمانة القدسية وتحميها من كل اعتداء، وأن تبذل فى سبيل هذا التبليغ وهذه الحماية كل ما تملك من أنفس وأرواح ودماء وأموال، وافترض عليها الجهاد بذلك كله فى سبيل الله متى تعرضت رسالة الله وأماناته التى بين يدى هذه الأمة لبغى الباغين وعدوان المعتدين ]إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ [التوبة: 111]، ]إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 15].
وحين وجه الله عباده المؤمنين برسالته الحافظين لحدوده هذا التوجيه الربانى الكريم القويم، غشاهم السكينة، وألقى فى قلوبهم الطمأنينة، وجللهم برداء الإيمان، وثبتهم بهداية اليقين؛ فلم يرهبوا أحدًا، ولم يخافوا شيئًا، ولم يقصروا فى واجب، ولم يحسبوا حسابًا لقلة أو كثرة أو عدد أو عدة، وحسبهم أنهم آمنوا أصدق الإيمان بأن الله سينصرهم، وأنه إن نصرهم فلا غالب لهم ]الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران: 173].
فى هذا الطريق سارت هذه الأمة شوطًا بعيدًا، آمنت برسالة الله وأمانته، واجتهدت فى التبليغ عذرًا أو نذرًا، وامتشقت الحسام حماية للعدل والرحمة والحق من أن يضيع فى جلبة الظالمين وضوضاء المعتدين، وحقق الله لها وعده فنصرها نصرًا مؤزرًا.
واليوم وقد ران على قلوب الناس ما كان يكسبون من إثم وفساد وبغى وعناد، وضلت الإنسانية كلها سواء السبيل، وتألبت قوى الشر على ما بقى فى الأرض من بقية الخير، وتقمص إبليس عصابات الصهيونية الشريرة ومن ورائها اليهودية العالمية الفاجرة، ومعها دول الكفر وأمم الاستعمار الظالمة المعتدية الباغية..
الآن علينا نحن المسلمين فى كل أقطار الأرض أن ندرك خطأنا، وأن نعدل خط سيرنا، وأن نبدأ الطريق التى سلكها أسلافنا من جديد، ونكفر بهذه النظم جميعًا، ونتنكر لهذه الأوضاع جميعًا، ونقاطع هذه الضلالات كلها، ونؤمن بالله ربًا قويًا قديرًا جبارًا قهارًا لا يعجزه شىء؛ لأن بيده ملكوت كل شىء ]إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82]، ونؤمن برسالة الله التى بين أيدينا نظامًا اجتماعيًا ربانيًا لا عوج فيه ولا أمتا، ونتجمع من حول هذه الرسالة من أقصى المحيط إلى أقصى المحيط؛ من إندونيسيا المسلمة إلى الدار البيضاء المسلمة كذلك، ونعلن الجهاد لله وللحق وللعدل وللإحسان على هذا البغى الذى عم وطم، وجاوز التقديرات والحدود، واكتوينا بناره وجحيمه، وسيصلى العالم كله عن قريب ما لم تتغير الحال لهيب جمراته وحميمه؛ فإن انتصرنا عشنا سعداء، وإن قضينا قضينا شهداء كرماء ]قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا [التوبة: 52]، ولا بد من النصر ما دمنا صادقين ]وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ [الحج: 40].
يا رؤساء الدول الإسلامية، ويا زعماء الشعوب الإسلامية، إياكم أعنى، وإليكم أوجه القول: الطريق من هنا.
هدانا الله وإياكم سواء السبيل.. آمين(1).
محنة
] حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّىَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف: 110].
دعا نوح قومه إلى الله ألف سنة إلا خمسين عامًا، سلك معهم فيها كل سبيل؛ فلم يزدهم هذا الدعاء إلا فرارًا، حتى إذا استبد بهم الباطل، ويئس رسول الله من أن يصل إلى قلوبهم بصيص من الحق، وأخذوا يسخرون منه ويهزءون به، فدعا اللهَ -تبارك وتعالى- ألا يذر على الأرض من الكافرين ديارًا، وتلقت السماء دعوته الصارخة ]أَنِّى مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ [القمر: 10] فانتصر الله له؛ فـ]أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللهِ أَنْصَارًا [نوح: 25].
وهود وصالح وشعيب ولوط وإبراهيم وموسى وعيسى وكل رسل الله وأنبيائه أحاطت بهم المحن من كل جانب، ولكن رحمة الله ونصره لم تتخلَّ عنهم طرفة عين؛ فكانوا هم الغالبين، وكان أعداء الحق دائمًا هم المخذولين المغلوبين ]كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى إِنَّ اللهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ [المجادلة: 21].
وهذا الإسلام الحنيف هداية السماء للأرض، ونور الله المبين، وكنزه الثمين؛ فقد جاء به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وهو يقابل الصعاب ويواجه المحن، ولكنه يبرز من كل بلاء أصفى ما يكون جوهرًا، وأقوى ما يكون حيوية وقوة واستعدادًا للكفاح والبقاء؛ فلم يزده يوم أحد ولا يوم الأحزاب ولا يوم حنين إلا قوة ومضاء، وصدق الله العظيم ]إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِىَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِىَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة: 40].
وفى حروب الردة وقف أبو بكر وحده وقد تفرقت القبائل عن دين الله، وابتلى المؤمنون، وزلزلوا زلزالا شديدًا، حتى قال عمر بن الخطاب وهو قرن الحديد للخليفة: "وماذا تصنع يا أبا بكر وقد تفرق عنك الناس؟ ادخل بيتك، وأغلق بابك، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين"، ولكن العبد المؤمن والخليفة الصالح كان أعرف بسنة الله فى خلقه، وأوثق بنصره لأهل الحق من عباده، فقال قولته الحازمة وهو يعنى ما يقول: "والله لو منعونى عقالا كانوا يؤدونه لرسول اللهصلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه ما استمسك السيف بيدى"، وحقت كلمة الله على الباغين، وفى سنتين اثنتين استطاع الخليفة القوى الإيمان أن يأمن الجزيرة، وأن يواجه الفرس والروم فى جبهتين، وينتصر عليهم أجمعين.
وأجمع الكفار أمرهم على هذا الإسلام دوله وأممه وحكوماته وخلافته، وانقضوا عليه انقضاض الصاعقة الماحقة، ووصلوا من ذلك إلى ما لم يكونوا ينتظرون، واحتلوا دار الخلافة، ومثلوا بالإمام المستعصم بالله، ومزقوا جيش المسلمين كل ممزق، ودانت لهم الأرض، وزحفوا إلى الشام ليجاوزوها إلى مصر، فقضى الله عليهم فى عين جالوت، ]وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم: 47].
وتألبت أوروبا بالأمس على هذا الإسلام أيضًا عامة وعلى الأرض المباركة فى فلسطين خاصة، واغتصبوا الساحل، واحتلوا القدس، وأقاموا ملكًا، وأسسوا دولا ]وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللهِ [الحشر: 2]؛ فلم يطُل بهم الأمد، وأُخرجوا منها أذلة وهم صاغرون ]وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ [الحشر: 3].
واليوم تتألب اليهودية العالمية والمسيحية الاستعمارية والشيوعية الإلحادية على الإسلام والعرب دولهم وأممهم وشعوبهم، ويظنون أن الأرض لهم يقسمونها كما يشاءون، ويوزعونها على من يريدون، وإنهم لمخدوعون ]إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف: 128].
أيها العرب والمسلمون:
لا يهولنكم ما ترون؛ فإن الله من ورائهم محيط، ولكن اجعلوا همكم إن أردتم النجاح فى الوحدة والإيمان والاستعداد والاعتماد على أنفسكم بعد الله، واسلكوا سبيل المجاهدين الصادقين، وانتظروا بعد ذلك النصر، ولا شك ]وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَن يَّتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ [محمد: 35].
والله أكبر ولله الحمد(2).
بين المنحة والمحنة
] وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء: 35].
وهل تنضج الموهبة، ويصفو الجوهر النقى الحر إلا بين المنحة والمحنة؟ وتلك سنة الله -تبارك وتعالى- فى تنشئة الأفراد، وتربية الأمم، وسبيل أصحاب الدعوات ممن اصطنع لنفسه من عباده، وصنع على عينه من خلقه ليكونوا أئمة يهدون بأمره ]وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء: 35].
والأمة الإسلامية اليوم بين منحة ومحنة إن فهمت عن الله فيهما، وأدت ما وجب عليها من حقهما، فشكرت النعمة، وثبتت وصبرت على الشدة، وواصلت السير فى قوة إلى الغاية؛ فهى واصلة -بإذن الله تبارك وتعالى- إلى ما تريد، مهما اعترضها من صعاب، وواجهها من عقبات، ونصر الله قريب ]وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ [الحج: 40]
وصدق رسول الله القائل: "عجبت لأمر المؤمن، إن أمره كله له لخير؛ إن أصابته النعماء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته الضراء صبر فكان خيرًا له".
والإخوان المسلمون اليوم وهم الأمة الجديدة القائمة على الحق المهتدية بنور الله، الداعية إلى صراطه المستقيم بين منحة ومحنة.. وعليهم أن يشكروا الله أجزل الشكر، على ما أولاهم من نعمه، وأغدق عليهم من فضله ومنته، وأن يصبروا أكمل الصبر على المحنة مهما علا ضجيجها، وأرعد برقها وعظم هولها، وأجلبت بخيلها ورَجلها، وليثقوا بوعود الله -تبارك وتعالى- لسلفهم الصالحين ]وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران: 120]..
يا أيها الإخوان المسلمون:
فى الحرم المكى وأمام الكعبة المشرفة تجلس بعثتكم المتواضعة خاشعة لله مخبتة، تذوب حياء من رب البيت، وتنطوى على نفسها خشية لجلاله وعظمته، والأبصار ترنو إليها من كل مكان، والأيدى تدل عليها بكل بنان، ووفود الحجيج من كل قطر وبلد ومصر تقبل عليها بقلوب متوادة متحابة، تسأل فى شوق ولهفة: أأنتم الإخوان المسلمون؟ مرحبًا بكم، وما أشوقنا إلى لقائكم، ونحن إخوانكم فى إندونيسيا أو فى جاوة وسيلان، أو الهند، أو الباكستان، أو فى جنوب إفريقية، أو فى مدغشقر ويونيو، أو فى نيجيريا والكامرون، أو فى إيران والأفغان، أو فى غير ذلك من أرض الله الواسعة التى امتدت إليها أضواء الإسلام الحنيف، وانبسط فيها هدى كتابه الشريف المنيف، وتكون تحية وسلام، وتفاهم وكلام، وتدارس لحال أبناء الإسلام، وإعجاب بجهودكم المتواضعة، وأعمالكم النافعة، لا نرى أنفسنا له أهلا، ولا نعتبرهما إلا منة من الله وفضلا ]ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد: 21].
ويعود إخوانكم من البعثات العلمية أو من الرحلات التجارية فى إنجلترا أو أمريكا أو فرنسا أو غيرها من بلاد الغرب المتهالكة على المادة المتهافتة على الطغيان، فإذا بهم قد أنشأتهم المرحلة نشأة أخرى، وسمعوا ورأوا من حديث الناس هناك عنكم واهتمامهم بشأنكم، والتعليق على جهادكم وجهودكم بما يجعلهم يستشعرون التقصير فى حق الدعوة، ويعتزمون بذل الجهد وفوق الجهد فى العمل لها والجهاد فى سبيلها. ولقد سمعت أحدهم بالأمس القريب يخاطبنى فى حماسة ويحدثنى فى قوة وحزم فيقول: "يا أخى والله إنا لسنا مجهولين إلا فى وطننا، ولا مغموطين إلا فى أرضنا؛ فإذا أراد الناس أن يعرفونا، بل إذا أردنا نحن أن نعرف أنفسنا ومدى تأثير دعوتنا؛ فعلينا أن نرحل إلى هذه الأقطار، ونجوس خلال تلك الأمصار، ونستمع إلى أهل تلك الديار فى مجالسهم الخاصة أو مجامعهم العامة، وسنرى من ذلك العجب العاجب، والقول اللازب"، فأقول له: لا بأس عليك فقديمًا قيل: "وزامر الحى لا يحظى بإطراب"، وليس نبى بدون كرامة إلا فى وطنه وبين عشيرته، وسيدرك قومنا بعد ذلك من نحن وماذا نصنع؟ والعاقبة للمتقين ]وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ [الحج: 40].
وفى هذه الغمرة الغامرة من نعم الله عليكم بحسن الأحدوثة، وجميل الذكر، وجليل التقدير، تواجهكم محنة القول الزائف؛ فتبلغ قلوب المنافقين الحناجر، ويظن الكثير من المتربصين بالله الظنون، وتقول طائفة كما قال أسلافها من قبل: ]يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا [الأحزاب: 13]، وتقول طائفة أخرى: ]مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا [الأحزاب: 12]، وأنتم خلال ذلك كله تسيرون فى ركاب نبيكم والمؤمنين معه، وتهتفون بندائهم: ]هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب: 22].
يا أيها الإخوان المسلمون:
ستنكشف الغمة، وتزول المحنة إن شاء الله، وتخرجون من البلاء خروج السيف من الجلاء، أنقياء أتقياء، والله -تبارك وتعالى- يربيكم بالمنحة والمحنة ]سُنَّتَ اللهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ فِى عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [غافر: 85]، ]اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران: 200](3).
محنة أو منحة
] قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ [يوسف: 33].
كذلك مضت سنة ربك من قبل ومن بعد: ما صدع أحد بالحق وجهر به، ودعا الناس إليه إلا أوذى، والعاقبة للمتقين والنصر للصابرين، ]وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة: 207]، ]وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج: 11]، ]وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِىَ فِى اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِى صُدُورِ الْعَالَمِينَ [العنكبوت: 10]، وسبحان من قسم الحظوظ فلا عتاب ولا ملامة: فريق فى الجنة، وفريق فى السعير.
تلوت هذه الآيات جميعًا، واسترسل بى التفكير، وتداعت إلى نفسى المعانى يأخذ بعضها بحجز بعض، وانتقل الخاطر من الآيات إلى العظات، ومن الحاضر إلى الغابر، وتكشفت صحائف التاريخ؛ فلمحت فى ثناياها المشرقة أئمة الفقه الإسلامى الأربعة: أبا حنيفة النعمان بن ثابت، ومالك بن أنس، ومحمد بن إدريس الشافعى، وأحمد بن حنبل الشيبانى، رضى الله عنهم جميعًا، أولئك الذين مهدوا للناس سبيل الفقه، وعبدوا طرائقه للسالكين، وكانوا فى الناس كالشمس للدنيا والعافية للبدن، ومع هذا لم ينجُ أحدهم من محنة فى سبيل الحق، كانت له منحة، ولا شك.
عرض القضاء على أبى حنيفة مرتين، وهو يعلم أن استقلال القاضى حينذاك قد يهدد بتدخل الولاة ورأى الخلفاء، مع أن القاعدة العامة يومئذ أن منزلة القاضى من السمو بحيث لا تنال منها رهبة ولا تؤثر فيها رغبة، وكان لأبى حنيفة فى الدولة رأيه فلم يشأ أن يقبل، وألح أبو جعفر وأصر أبو حنيفة، وأقسم الخليفة فأقسم الإمام، وانتقل الأمر إلى التهديد والوعيد؛ فلم يفعلا شيئًا أمام عزيمة أقوى من الحديد، وضُرب الإمام أكثر من مائة سوط حتى سال الدم على عقبيه وهو ثابت لا يلين، وحبس حتى مات فى حبسه أو أخرج منه واعتقل فى منزله لا يفتى، ولا يجتمع الناس عليه، وهو على موقفه الأول، وجاءته أمه تعاتبه وتقول: "يا نعمان إن علمًا ما أفادك غير الضرب والحبس لحقيق بك أن تنفر عنه"، فقال: "يا أماه، لو أردت الدنيا ما ضربت، ولكن أردت وجه الله وصيانة العلم".
وسئل مالك عن طلاق المكره -وهو يعلم ما يقصد السائل، وأنه يسأل عن يمين البيعة يكره الوالى عليها الأمة؛ فلا تجد مخرجًا إلا اليمين هربًا من العذاب الأليم- فقال: "طلاق المكره لا يقع"، وغضب الوالى لفتوى الإمام، وأحضره، وحاول أن يثنيه عن عزمه، وأنى له، فأمر به فضُرب مائة سوط، وجُذب جذبًا عنيفًا حتى خُلعت كتفه، وطيف به فى الأسواق وهو يقول مع هذا كله: "طلاق المكره لا يقع".
واتهم الشافعى رضى الله عنه فى اليمن بانضمامه إلى حزب الطالبيين وشغبه على حكومة الرشيد وإمامته، فأحضر من صنعاء إلى بغداد بالسيف والنطع، وأعدم قبله تسعة وكان هو العاشر، ومع هذا لم تَهُن عزيمته، ولم تلِن قناته، ولم يذهب الخوف بلبه، وأثبت الحق لنفسه حتى فاز بإعجاب الخليفة به، وتقريبه إياه، وسلم العلم والفضل بسلامته.
وحاول المعتصم أن يظفر من الإمام أحمد بن حنبل الشيبانى بكلمة توافق رأى الخلافة ومذهبها حينذاك، والإمام حيث هو وقاف عند كتاب الله وسنة رسوله، منكر لكل ما يسمع عداهما لا يتحول ولا يتردد، وضُرب حتى غُشى عليه، وسُجن فى بيته لا يتصل بأحد ولا يتصل أحد به، حتى فرج الله عنه، فلم يكن خصومه معه إلا على حد قول القائل:
كناطح صخرة يومًا ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
ومن قبل ومن بعد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، مضت وتمضى سنة الله العلى الكبير ]وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد: 31]. فاللهم إن كان بلاء فى مرضاتك وفى سبيلك فمرحبًا به وأهلا ولك العتبى حتى ترضى، وما لم يكن بك غضب علينا فلا نبالى، وعافيتك بعد ذلك أوسع لنا، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
وأنتم أيها المجاهدون العاملون لدعوات الحق اليوم وغدًا، هذا نبأ من الأمس ]أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90](4).
سنة
] لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [آل عمران: 186].
وكذلك جرت سنة الله -تبارك وتعالى- فى أصحاب الدعوات والمؤمنين بها والعاملين لها: أن يبتليهم بمعانى البذل من أنفسهم وجهودهم وأقوالهم وأوقاتهم وعصارة أرزاقهم وقوة أولادهم وحبات قلوبهم، وبمعانى التهجم والإيذاء والكيد والافتراء والكذب والاعتداء من منافسيهم وخصومهم، والذين لا يعرفون حقيقة دعوتهم ]فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلا [فاطر: 43].
ما بعث الله نبيًا من الأنبياء، ولا أرسل رسولا من لدنه إلا بالحق والخير والهداية والصراط المستقيم والرحمة والعدالة ]لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ [إبراهيم: 1-2]، لهذا جاء نوح، وبهذا بُعث إبراهيم، ولهذا دعا موسى، وفى سبيله أُرسل عيسى، وبهذه الحقائق هتف بهم محمد، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.. فماذا كان موقف الناس منهم؟
أوذى نوح بالقول فقالوا: ]مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ [القمر: 9]، وبالتهديد: ]لَئِن لَّمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ [الشعراء: 116]، وبالهزء والسخرية: ]وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ [هود: 38].
وأوذى إبراهيم بالعناد الشديد والاتهام الظالم: ]مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء: 59-60]، ثم بالكيد الجائر ]وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأخْسَرِينَ [الأنبياء: 70].
وأوذى موسى بالقول والعناد والتهديد والوعيد؛ فبرأه الله مما قالوا: ]وَكَانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهًا [الأحزاب: 69]، وأزاغ الله قلوب هؤلاء المؤذين بالباطل، والله لا يهدى القوم الفاسقين.
وأوذى عيسى وأمه الصديقة -عليها السلام- بالفرية الشنعاء والفعلة النكراء، وهى الصديقة المطهرة المبرأة المصطفاة على نساء العالمين.
وما أكثر ما تحدثت ألسنة المشركين والمعاندين والمنافسين والمخاصمين عن محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فقالوا: ]مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ [الدخان: 14]، وقالوا: ]سَاحِرٌ كَذَّابٌ [ص: 4]، وقالوا: ]أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِىَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا [الفرقان: 5]، وغمزوه فى الصدقات، وقالوا: ]هُوَ أُذُنٌ [التوبة: 61]، ولم يتورعوا عن الإفك يلصقونه بنسائه الأطهار الأخيار، وحماهم الله من ذلك كله، وسجل فضلهم وطهرهم فى كتابه ]إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب: 33].
تلك سنة الله التى لا تتخلف ]فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلا [فاطر: 43]، ]وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا [الفرقان: 31].
ودعوة الإخوان المسلمين لم تخرج عن أنها دعوة إصلاح وخير وحق، نطبق عليها سنة الله -تبارك وتعالى- التى استنها لكل الدعوات؛ فيتألب عليها المنافسون والأعداء، ويمتحن أهلها فى الأنفس والأموال والأوقات بالبذل والعطاء، ثم يمتحنون بعد ذلك بهذا الكيد والإيذاء والكذب والافتراء، ويجدون من الألسن والأقلام الجاهلة أو الحاقدة أو المأجورة على حد سواء ما يشوه جمال أعمالهم، ويبرز حسناتهم للناس فى صورة سيئات، ويختلق لهم التهم والمفتريات.
حدث هذا الانقلاب فى اليمن، ولم يكن دور الإخوان المسلمين فيه إلا دور الناصح الأمين من أول يوم إلى هذه الساعة، فأرجف المرجفون، وأوضع خلال الفتنة المبطلون، وأوغلوا فى الكيد والافتراء ما شاء لهم الحقد وأملت عليهم البغضاء، وسيكشف الزمن عن نصاعة موقف الإخوان وروعته وجميل أثره وبراءته، وإن غدًا لناظره قريب.
وحدث بعد ذلك حادث المرحوم أحمد الخازندار بك، والإخوان المسلمون أول من يأسفون له، ويتألمون له، ويألمون لحدوثه؛ فانطلقت الصحف المغرضة والألسنة الحداد تهرف بما لا تعرف، وتقول بغير علم، وتفترى على الإخوان الكذب، وتسبق حكم القضاء، وتشوه الوقائع، وتتمادى فى ذلك كله.. لا لشىء إلا لإرضاء شهوة الكيد والإيذاء.
وهكذا سيظل هؤلاء المغرضون ما دام الإخوان هم القوة العاملة المتحركة الناجحة الإيجابية فى وسط هذا الجمود والركود بين هذه الهيئات والأحزاب السلبية القائمة المفككة التى لا تملك نفسها فضلا عن أن تقود غيرها يعكرون الماء ليصطادوا فيه، ويشوهون الحقائق ويلصقون بالإخوان كل فرية ويكابرون فى الحق وإن كان أوضح من فلق الصباح، وها هى ذى إحدى المجلات الأسبوعية التى صدرت منذ يومين لا تستحى أن تطلع على الناس بأن الإخوان المسلمين لم يصلحوا للأعمال العسكرية فى سوريا، ولهذا سافر المرشد العام ليرجو القيادات التى هناك أن تقبلهم ولو بالاستثناء؛ كأن المعسكرات مدارس ابتدائية أو مكاتب أولية يجوز فيها الإغضاء ويصح الاستثناء، وقد علم الخاص والعام أن شباب الإخوان بحمد الله قد أثبتوا نهاية الجدارة وعلو الروح وتمام الاستعداد، وكانوا موضع إعجاب وتقدير كل القيادات، سواء كان هذا فى مصر أم فى سوريا أم فى جنوب فلسطين، وليست الكلمة فى هذا لمأجورى الأقلام، ولكنها لرجال الميدان وحملة الحسام، وصدق رسول الله: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت".
إنها سنة الله التى لا تتخلف، وقد صور الله الداء ووصف الدواء، والدواء قول الله العلى الكبير: ]وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [آل عمران: 186].
وفى آية أخرى ]وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران: 120].
فيا أبناء الدعوة اصبروا واتقوا..
ويا أيها المرجفون بالباطل حسبكم، فإن الله بما تعملون محيط.
والله أكبر ولله الحمد(5).
صبر
] قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج: 4-8].
وقفت عند هذه السورة الكريمة -سورة البروج- وأنا أتلو الجزء الثلاثين من كتاب الله، فأعدتها مرارًا، ووجدتنى مدفوعًا بشعور قوى إلى الوقوف عندها فترة من الزمن؛ فقد تمثلت أولئك الكفرة المتمردين، يدلون بقوتهم ويعتزون بسلطانهم، ويستطيلون بالقهر والجبروت على المؤمنين من عباد الله؛ فيشقون الأخدود فى الأرض، ويقذفون فيه بالنار ذات الوقود، ويقعدون من حوله يترقبون أولئك المؤمنين المحتسبين، وقد حشدتهم إليه القوة القاهرة، ودفعتهم إلى جوفه اليد الباطشة، وهم صابرون لا يترددون ولا يتهيبون، قد استعذبوا طعم الموت بعذوبة طعم الإيمان، وذهلوا عن قوة العذاب بشهود رحمة الإله الديان، حتى حدثوا أن امرأة منهم معها صبيها ترددت بعض الشىء، وهى على حافة هذا الأخدود الملتهب، وكأنها أشفقت على صبيها لا على نفسها، فسبقها هذا الصبى إلى التضحية والفداء، وقذف بنفسه فى أعماق هذا البلاء، وهتف بها أن "اقتحمى يا أماه؛ فإنما هى برد وسلام، لا نار وضرام".
كل ذلك وهؤلاء القساة شهود على ما يفعلون بالمؤمنين الذين لا ذنب لهم ولا جريرة إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد.
والإيمان جريمة عند الجاحدين، والحق إثم كبير فى أعين المبطلين، والمعرفة ظلام أمام الجاهلين ]إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِى مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص: 56].
ارتسمت فى نفسى هذه الصورة المثيرة، فأخذت أكرر آيات هذه السورة، وتداعت المعانى تترى يتبع بعضها بعضا، فتلوت قول الله العلى الكبير: ]وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم: 13-14]، وقوله تعالى حكاية عن قوم شعيب: ]قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَىْءٍ عِلْمًا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [الأعراف: 88-89].
ومرت على الخاطر هذه الصور التاريخية الكثيرة: صور عصور الأنبياء والمرسلين والشهداء والصديقين والدعاة والمصلحين، وليس منهم إلا من قارع الباطل بحقه، وأخذ من كأس الجهاد والمحنة بحظه، ثم كانت له العاقبة بعد ذلك والعاقبة للمتقين ]حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّىَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ * لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِى الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُّفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُّؤْمِنُون [يوسف: 110-111].
فيا أيها العاملون المجاهدون، اقرءوا سورة البروج، وتدبروها مرات، وقفوا عندها وعند أمثالها من السور والآيات، واستلهموا منها الصبر، وخذوا عنها وعن أخواتها بشائر النصر، ]وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف: 21](6).
معتقلات
] قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِى الآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ [يونس: 101].
المعرفة والنظر والعلم فطرة الإنسان الأولى وخصوصيته.
ويوم خلق الله آدم علمه الأسماء كلها، ففضل بذلك الملائكة، وأمرت بالسجود له، تكريمًا لهذا العلم الذى اختصه الله به: ]قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّى أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة: 33].
ولقد امتن الله بهذا العلم والتعليم على الإنسان فى القرآن، فقال: ]اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 1-5]، كما قال: ]الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ [الرحمن: 1-4].
وأمده بأدوات العلم ووسائله؛ فوهب له السمع والبصر والفؤاد، وجهزه بالعقل والفكر والإرادة والوجدان، وأضاء جوانب روحه العليا بأنوار الهداية الربانية والإيمان، وجبلها على الهيام بالحقيقة والشوق إلى المعرفة، والحنين إلى ما حجبت عنه من رياض الملأ الأعلى فى سالف الأزمان: ]وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل: 78].
ثم أمره بعد ذلك كله بأن يبحث وينظر ويدرس ويفكر، وأوجب عليه ألا يعطل مواهب الله التى وهبها له؛ فالعقل والفكر سر الأمانة، ومناط التكليف، ومظهر التفاضل بين بنى الإنسان، وقد تكرر ذكره والإشارة إليه فى أكثر من أربعين موضعًا فى القرآن: ]إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة: 164].
ولقد ابتلى العقل الإنسانى منذ وجد بمعتقلات إجبارية، حجبت عنه النور، ومنعته الإدراك والظهور، وكان أولها ما ورث من خرافات بائدة وعقائد فاسدة، حالت بينه وبين إدراك الحقائق على وجهها، والتسليم لأهلها: ]وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ * قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [الزخرف: 23-25].
كما كانت البيئة الفاسدة، والتقاليد الزائفة، وشياطين الأصدقاء والخلان، ووسوسة الشيطان معتقلا آخر يحول بينه وبين الهداية، ويسلك به سبيل الضلال والغواية، ويجعله عبد العادات، وأسير المألوفات، وإن جرته فى الدنيا إلى البوار، وفى الآخرة إلى العذاب والدمار: ]وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلا * لَقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِى وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولا [الفرقان: 27-29]، ]وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ [العنكبوت: 25].
ولا عذر للإنسان فى أن يحبس نفسه فى هذه المعاقل، ويظل أسير هذه المحابس؛ بل عليه أن يجاهد فى سبيل الخلاص، وأن يتبع الحق متى أشرقت أشعته، وظهرت براهينه وأدلته.
وأعجب من ذلك وأغرب معتقلات اختيارية، يسجن الناس فيها أنفسهم بمحض إرادتهم، ويضعون أغلالها المحكمة فى أيديهم وأرجلهم وأعناقهم باختيارهم، ويرون فى ذلك سعادتهم فى دنياهم وآخرتهم.
فرؤساء الأديان الذين يتهجمون على العقول الإنسانية بعقائد ما أنزل الله بها من سلطان، وخرافات لم يقم عليها دليل أو برهان، ولم ترد فى كتاب منزل، ولا جاءت على لسان نبى مرسل، ولكنهم اخترعوها من وحى خيالهم، ونسجوها من أوهام ضلالهم، ثم حصروا الأتباع فى نطاقها، وحجزوها فى حدود رواقها، وحرموا عليهم ما سواها، وحجبوهم عن كل ما عداها، وحالوا بينهم وبين العلم والفهم.. هؤلاء إنما يقيمون معتقلات روحية لأغراض شخصية، عجيب أن يدخلها الناس طائعين، ويسجنوا أنفسهم فيها مختارين.
وهؤلاء الزعماء الذين يستغلون فى الجماهير معانى الثقة والتعظيم، والطاعة والتكريم؛ فلا يسمحون لهم بإبداء رأى، أو إحالة فكر، ولا يتقبلون منهم المشورة والنصح، بل هم يعتبرون من حدثته نفسه بذلك خارجًا على الزعامة جاحدًا لحقوق الإمامة، خائنًا تجب مقاطعته، آثمًا تتلمس له المعايب، وتصب على رأسه المصائب، هؤلاء الزعماء كذلك سجانون، حكموا على أتباعهم بالاعتقال فى سجون من الوهم شادها التهريج والتدجيل، ودعمها الاستغلال والتضليل، وعجبت أن يقيم الناس فيها مسرورين، ويحشروا أنفسهم فيها راضين.
والجماعات ثنايا المرتقى للمعالى وجسور العابرين
والرؤساء والحكام الذين يحكمون بالقهر، ويكبتون الحرية بالجبر، ويأبون أن يصل بصيص النور إلى أممهم وشعوبهم ورعاياهم، أو يتسرب شعاع العلم والمعرفة إلى دورهم أو مدنهم وقراهم.. سجانون كذلك، حكموا على هذه الشعوب بسجن مؤبد، وإن اتسعت لهم الشوارع والطرقات، وتقلبوا فيها غادين رائحين فى قضاء المصالح والحاجات؛ لأنهم عن نور العلم محجوبون، ومن لذة المعرفة محرومون.
وعجيب أن تقيم أمة على هذا الضيم، أو ترضى جماعة بهذا الهوان، وماذا يبقى للإنسان من إنسانيته، إذا حرم أقدس خصوصيته؟.
أيها الناس، إن القرآن الكريم إنما جاء ليخرج الناس من ظلمات هذه المعتقلات، ويحطم عنهم هذه القيود والأغلال حتى ينعموا بنسمات الحرية الروحية والفكرية فى ظلال المعرفة الإلهية الربانية؛ فأعينوا على هذا التحطيم بالعلم والعمل، واقتحموا الباب على الظالمين المتجبرين ]فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ [المائدة: 23](7).
المصادر
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثالثة – العدد 689 – صـ1 – 23رمضان 1367هـ / 30يوليو 1948م.
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثالثة – العدد 736 – صـ1 – 21 ذو القعدة 1367هـ / 24سبتمبر 1948م.
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثالثة – العدد 794 – صـ1 – 2صفر 1368هـ / 3ديسمبر 1948م.
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الأولى – العدد 192 – صـ1 – 25محرم 1366هـ / 19ديسمبر 1946م.
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثانية – العدد 591 – صـ1، 5 – 22جمادى الأولى 1367هـ / 2أبريل 1948م.
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الأولى – العدد 210 – صـ1 – 17صفر 1366هـ 9يناير 1947.
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الأولى – العدد 111 – صـ1، 4 – 16شوال 1365هـ / 12سبتمبر 1946م.