إعداد موقع الإمام حسن البنا
الإمام البنا والتفسير:
كتب الإمام البنا فى تفسير القرآن الكريم بمنهجين؛ الأول فهو التفسير المنهجي أو التفسير بمعناه الاصطلاحي، وهو المشهور عند المفسرين بالرأي. والثاني هو منهج الظلال والخواطر القرآنية، والفرق بين المنهجين عند الإمام البنا واضح جلى.
أما التفسير المنهجي فإن الإمام البنا يكتبه بمنهج واضح ثابت يحدده سلفًا، ويخط لنفسه فيه طريقًا يسير عليه، وثوابت يلتزم بها، كما فعل فى مجلة الشهاب؛ حيث حدد لنفسه منهجًا أسماه "مقاصد القرآن"، وكما فعل فى مجلة المنار؛ حيث أكمل التفسير على منهج السيد رشيد رضا فى المنار.
وفى هذا النوع من التفسير نلاحظ أن الإمام البنا يبدأ التفسير من أول القرآن أو من موضع معين، ناويًا أن يتم تفسير القرآن على نفس المنهج، مستهدفًا أن يوضح معاني الآيات ومقاصدها، وما تشتمل عليه من حكم ومواعظ، وربما أحكام، متعرضًا لنواحي الإصلاح المختلفة المستنبطة من الآيات، وكثيرًا ما نجده يتطرق إلى مباحث تكميلية حول آيات، تربوية كانت أو إنسانية أو غيرها، مبتعدًا عن كل جدل فلسفى لا طائل من ورائه.
ولا يغفل الإمام البنا خلال ذلك أن يستأنس فى التفسير بعرض الأقوال المأثورة، والأحاديث الواردة فى المعنى، ويحاول جاهدًا أن يوفق بين الأقوال المتعارضة، ويرجح إذا احتاج الأمر إلى ترجيح، ملتفتًا ومنبهًا إلى ما ينبني عليه العمل.
أما فى تفسير الظلال والخواطر فإن الإمام البنا لا يلتزم فيه بالالتزامات السابقة، وإنما هو ظلال وخواطر يستشعرها الإمام من وحي الآيات التى يقرؤها، ومن غاية الإصلاح التى ينشدها، ومن تلاقى الأمرين تنفعل نفسه، ويجيش صدره، وينطلق لسانه بتلك الخواطر والظلال، خاصة إذا كانت أحداث الواقع الذي يعيشه تؤجج مشاعره وتلهبها.
ولذلك فإن الإمام البنا لا يتقيد فيه بترتيب معين للآيات؛ حيث يختار من الآيات أو من السور ما يؤيد معنى معينًا يعالج به الواقع، أو يربى عليه النفوس، أو يوجه إليه الأفئدة والقلوب؛ فتجده يهدف مباشرة إلى المعنى المقصود يفصل فيه، ويؤكد عليه، ويجمل باقي المعاني والتوجيهات الأخرى فى الآيات، ولا يكثر من استنباط الحكم والمواعظ، ولا يعرض للأقوال المأثورة والآراء الواردة، إلا بإشارة عابرة تؤكد المعنى المراد توصيله، وتحت هذا النوع يدخل كثير مما كتبه الإمام البنا فى الصحف والمجلات، وكثير مما ألقاه خطبًا على المنابر وفى الاجتماعات والزيارات؛ من أمثلة ما كتبه فى جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية فى الثلاثينيات، وفى مجلة النذير، ومجلة الإخوان فى الأربعينيات، ومعظم ما قاله وتحدث به على المنابر أو مع الإخوان.
أما عن المنهج الأول (التفسير المنهجي) فقد كانت للإمام البنا فيه ثلاث محاولات؛ أولاها: عندما تولى الإمام الشهيد تحرير القسم الديني من مجلة الإخوان المسلمين الأسبوعية، حيث كتب فى مقاله المشهور "كيف أكتب القسم الديني لمجلة الإخوان المسلمين؟" منهجًا كاملا عما سيكتبه فى التفسير، وهو منهج مبسط يقدمه للقارئ العادي، يهدف إلى توضيح مختصر لمعاني الآيات، يجمع للقارئ فهم المراد والتأثر به، ومعرفة إجمالية لما فى الآية من أحكام وعبر، لكن مشيئة الله حالت دون اكتمال المراد فلم يفسر بهذا المنهج إلا سورة الفاتحة، بعدها ترك باب التفسير إلى الشيخ مصطفى الطير، وكانت المحاولة الثانية عندما تولى الإمام الشهيد كتابة أبواب مجلة المنار خلفًا لمحمد رشيد رضا، ففسر القرآن بالطريقة التى رسمها الإمام محمد عبده وسار عليها الشيخ رشيد رضا، إلا أن ذلك لم يستمر كثيرًا؛ حيث صودرت المجلة بعد أن أخرج منها الإمام الشهيد ستة أعداد، اشتملت على تفسير سبع آيات من سورة الرعد، فاكتمل بها المجلد الخامس والثلاثون، وكانت المحاولة الثالثة فى مجلة الشهاب؛ حيث بدأ الإمام الشهيد بتفسير الفاتحة، ناويًا أن يتم التفسير إلى نهاية المصحف، ويسميه "مقاصد القرآن الكريم"، إلا أن المجلة صودرت أيضًا بعد العدد الخامس، ولم يفسر فيها إلا الفاتحة وخمس آيات من أول سورة البقرة.
أما المنهج الثاني -وهو منهج الظلال والخواطر القرآنية- فهذا ما كان الإمام البنا كثيرًا ما يتناوله ويعرضه للإخوان على صفحات المجلات أو فى الدروس الأسبوعية، أو فى الزيارات أثناء رحلاته الكثيرة فى القطر المصري.
وهو تراث متنوع، أكثره حول آية أو عدة آيات من كتاب الله، وبعضه حول آيات سورة كاملة من سور القرآن الكريم، عادة ما كان يختار الإمام البنا ما يفسره من آيات وفقًا لحاجة الإخوان إلى معانٍ معينة يربيهم عليها، أو ربما ليعالج به قضية اجتماعية أو إسلامية معينة، يحتاج المجتمع إلى التعرف على أصولها وحدودها والقول الفصل فيها.
سورة الرعد
يرى بعض العلماء أن من حرمة القرآن وتوقيره ألا يقال: سورة النحل، وسورة الرعد، وسورة البقرة.. إلخ ولكن يقال: السورة التى يذكر فيها النحل، والسورة التى يذكر فيها الرعد.. وهكذا. ولقد جرى على ذلك شيخ المفسرين الطبري، فعنون لهذه السورة فى تفسيره بقوله: "أول السورة التى يذكر فيها الرعد". وقد رد القرطبي على من قال بهذا الرأي فقال: "هذا يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم: "الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأ بهما فى كل ليلة كفتاه". أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود. ولعل هذا هو الأقرب إلى سماحة الإسلام، وإبعاده عن التعقيد الشكلي، وفى اللغة والمجاز مندوحة.
مكان النزول:
قال ابن الجوزي: اختلفوا فى نزولها على قولين: أحدهما أنها مكية؛ رواه أبو طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن وسعيد بن جبير وعطاء وقتادة. وروى أبو صالح عن ابن عباس أنها مكية إلا آيتين؛ إحداهما قوله تعالى: }وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ [الرعد: 31]، والأخرى قوله تعالى: }وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً [الرعد: 43]. والقول الثاني أنها مدنية، رواه عطاء الخراساني عن ابن عباس، وبه قال جابر بن زيد. وروى عن ابن عباس أنها مدنية إلا آيتين نزلتا بمكة؛ وهما قوله: }وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ [الرعد: 31] وقال آخرون المدني منها قوله: }هُوَ الَّذِى يُرِيكُمُ الْبَرْقَ [الرعد: 12] إلى قوله تعالى: }لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ [الرعد: 14]. وقال آخرون: نزلت آية منها بالجحفة وهي قوله تعالى: }وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي [الرعد: 30] الآية، وتكاد الطبعات فى المصاحف تجمع على أنها مدنية نزلت بعد سورة محمد صلى الله عليه وسلم.
ويلاحظ اضطراب الروايات عن ابن عباس -رضى الله عنهما- فى تحديد المكي والمدني منها، ولعل ذلك من اشتباه الأمر على الرواة.
والذي يتفق مع القواعد العامة فى تعرف المكي والمدني أن معظم هذه السورة الكريمة مكي؛ فقد جعل العلماء من علامات المكي غالبًا أنه يتعرض للعقائد وأدلتها؛ من النظر فى الكون، واستجلاء عجائب صنع الله فيه، مع الزجر والوعيد، وبيان جزاء المخالفين والمؤمنين؛ لأن ذلك هو الموافق لحال المخاطبين من الكفار والمشركين، أما المدني فغالبه: تقص فيه الأحكام التفصيلية من عبادات ومعاملات وغيرها. وأيضًا فمن علامات المكي أن يغلب فيه الخطاب والتعبير بـ(يأيها الناس) ونحوها من ألفاظ العموم، على حين أن الخطاب والتعبير يغلب فى المدني أن يكون بـ(يأيها الذين آمنوا) ونحوها، والناظر فى مقاصد السورة الكريمة يراها بحال المكيين وموقفهم أخلق، فنحن نرجح القول بمكية معظمها، والله أعلم.
وعدد آياتها ثلاث وأربعون عند الكوفيين، وخمس وأربعون عند الشاميين، والسبب فى ذلك اختلافهم فى أن الآية الأولى }المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِى أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ [الرعد: 1] أو أن }المر وحدها آية و}تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ آية ثانية، وما بقي بعد ذلك آية ثالثة، فعلى الأول هى ثلاث وأربعون، وعلى الثاني هى خمس وأربعون مع الاتفاق على جواز الوقف؛ بل على استحسانه فى كل موضع من هذه المواضع.
المقاصد العامة فى السورة:
عرضت السورة الكريمة لتقرير عظمة الخالق، وإثبات المعاد والرد على منكريه، مع التقديم لذلك بعرض الأدلة من ظواهر هذا الكون العجيب، والتقفية بضرب الأمثلة الرائعة لكل من الحق والباطل.
ثم عرضت بعد ذلك لقسمي المؤمنين والمخالفين، وأوصاف كل منهما، والأخلاق التى تنبتها فى نفسه العقيدة وتنميها، وجزاء كل من الفريقين فى الدنيا والآخرة، ثم تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم وارتقاب يوم الفصل الذي يعلم فيه الجاحدون لمن عقبى الدار.
وتستطيع أن تجمل هذه المقاصد السامية فى أنها إثبات التوحيد والمعاد، وبيان ما ينتج من الإيمان بهما من أخلاق فاضلة، وجزاء حسن كريم، والمقابلة بين ذلك وضده؛ كما هى عادة القرآن.
المناسبة بين هذه السورة الكريمة وما قبلها:
وتستطيع من ذلك أن تلمس المناسبة بين هذه السورة وبين السورة التى قبلها؛ ففي السورة التى قبلها أجمل يوسف -عليه السلام- عقيدة التوحيد فى قوله: }يَا صاحبي السِّجْنِ أرباب مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف: 39] الآيات، وفى هذه السورة أفاض فى بيان هذه العقيدة، وتدعيمها بالأمثلة الواضحة والبراهين والأدلة.
وفى السورة التى قبلها تناول بالتحليل نفوس إخوة يوسف، وما استولى عليها من أخلاق إذ ذاك دفعتهم إلى ما فعلوا بأخيهم، ثم ما كان بعد ذلك من توبتهم ومسامحته إياهم واستغفار أبيهم لهم، وفى هذه بسط لأخلاق المؤمنين؛ كالتأكيد لما ذكر هنالك والتبيين له.
وفى سورة يوسف أجمل الإشارة إلى ما فى الكون من روائع الآيات وإن أعرض الناس عنها ولم يكلفوا أنفسهم عناء النظر فيها، فذلك قوله تعالى: }وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ [يوسف: 105]. وفى هذه السورة الكريمة تناول هذا الإجمال بالتفصيل المبين؛ فذكر من آيات الله فى السماء والأرض والشمس والقمر والليل والنهار والماء والنبات والرعد والبرق... إلخ، ما يلفت الأبصار الزائغة، ويسترعي الأفئدة الغافلة المعرضة.
ولما كانت سورة يوسف قد تناولت بالبيان والتفصيل ما كان من جدود اليهود والنصارى وهم أبناء يعقوب بالنسبة لأخيهم، ثم ختمت بأن فى قصص هؤلاء وغيرهم من أنبياء الله الذين قص الله من نبئهم على رسوله عبرةً لأولى الألباب، وكان ذلك مظنة اعتراض من اليهود على عادتهم فى التحريف والعناد، جاءت فاتحة سورة الرعد مؤكدة لكل هذه المعاني؛ فذلك قوله تعالى: }وَالَّذِى أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ [الرعد: 1]، وبذلك ينقطع عليهم سبيل الاعتراض، ويتقرر المعنى فى نفس القارئ والسامع.
ولما كان ختام سورة يوسف قد عرض لحقيقة الدعوة القرآنية وسبيلها فى قوله تعالى: }قُلْ هَذِهِ سبيلي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتبعني [يوسف: 108] مع بيان أن هذه الدعوة ليست بدعًا من دعوات المرسلين، ولا مخالفة لما جاءوا به، وكانت المناسبة تامة بين السورتين، فقد جاء كذلك فى ختام سورة الرعد عرض لهذه الدعوة الكريمة فى قوله تعالى: }قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلاَ أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ [الرعد: 36] ثم ذكر بعدها طرفًا آخر من شئون المرسلين من قبل؛ لبيان أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يكن فى أحواله بدعًا منهم، فقال: }وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً [الرعد: 38].
وإذا نظرنا إلى أن سورة يوسف كلها جاءت تفصيلا لما وقع من ذرية يعقوب وأبنائه -عليه السلام- رأينا أن ورود هذه الآية الكريمة فى سورة الرعد إجمال فى الدليل يتكئ على ذلك، وسيأتي التفصيل؛ فالمناسبة تامة ولا شك.
وثَمَّ وجوه أخرى من المناسبات يطول بنا الأمر إذا أردنا أن نتقصاها، وسيأتي بعضها خلال التفسير إن شاء الله.
} المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِى أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ [الرعد: 1].
(المر): الكلام فى فواتح السور بهذه الحروف الكريمة تقدم مسهبًا، واختار صاحب المنار فى ذلك أنها أسماء للسور، وقد يُعْتَرَض على هذا القول بأن ذلك يتجه لو لم يكن لهذه السور أسماء، أما وقد سميت بعد ذلك فما الحكمة فى تعدد التسمية؟ وقد أشار الحافظ ابن كثير إلى أن كل سورة تفتتح بمثل هذه الحروف ففيها الانتصار للقرآن وبيان أحقيته، مما يدل على أن المقصود بها لفت النظر إلى اختصاصه بالإعجاز، مع أنه مركب من جنس هذه الحروف التى تفتتح بها السور، ومن طرائفه فى ذلك أنه نقل عن بعضهم أن مجموع حروف الفواتح فى القرآن أربعة عشر حرفًا يجمعها قولك "نص حكيم قاطع له سر"، ولا شك أنه استئناس طريف ولكن غير مقصود طبعًا.
وقد قيل فى تأكيد المعنى الأول -وهو أن هذه الحروف فى فواتح السور للإشارة إلى الإعجاز-: إنك لو أنعمت النظر فى حروف كل سورة من السور التى تفتتح بالحروف المتقطعة لوجدت حروف الافتتاح أكثر الحروف دورانًا فيها، وعلى هذا القول نستطيع أن نفهم حكمة اختلاف هذه الفواتح؛ فهي أحيانًا "الم" فقط، وأحيانًا "المص" وأحيانًا "الر" وأحيانًا "المر"، وتتضح لك بهذا حكمة زيادة الميم فى فاتحة الرعد بخلاف ما قبلها وما بعدها. ونقل عن ابن عباس أن الحكمة فى زيادة الميم فى هذه الفاتحة أن معنى الفواتح السابقة فى "الر" فقط أنا الله أرى، وأما فى هذه فمعناها أنا الله أعلم وأرى بزيادة أعلم على ما نقل عن ابن عباس فى أن هذه الحروف أجزاء كلمات، والقول الأول أوضح وأبين.
ومما يعجبني فى حكمة افتتاح السور بهذه الحروف ما أشار إليه الحافظ ابن كثير؛ أن المراد التحدي بنفس هذه الحروف، وبيان ذلك أن المعلوم لدى قريش ومن جاورها بل لدى كل من عرف النبى صلى الله عليه وسلم واتصل به أنه أمي لم يقرأ ولم يكتب، فحين يفجأ الناس باستفتاح كهذا فى أول تلاوته للقرآن فهو -بلا شك- سيسترعى التفاتهم لما يقرأ من جهة، وسيحملهم على التفكير فى مصدر هذا العلم الجديد الذى طلع عليهم به من جهة أخرى، والتفكير سلم الهداية وأول خطوات الإيمان الصحيح، ثم نقول بعد هذا: والله أعلم بمراده بذلك؛ كما كان يقول سلفنا رضوان الله عليهم.
} تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِى أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ [الرعد: 1].
إشارة إلى آيات القرآن الكريم، وتأكيد لمعنى أحقيته ونزوله من عند الله تبارك وتعالى، وأنه لا شك فيه ولا مرية -إنه تبارك وتعالى لما أشار فى سورة يوسف إلى القرآن الكريم وبين أنه سيقص على نبيه فيه أحسن القصص، ثم ختم السورة بأن هذه القصص القرآنية عبرة لأولى الألباب، وتصديق لما بين يديها من الكتب السماوية السابقة والشرائع الإلهية الماضية، وهى بعد ذلك كله تفصيل كل شىء ينفع الناس فى دينهم ودنياهم، وهى كذلك هدى ورحمة لقوم يؤمنون بها ويصدقون- لما تقدم ذلك فى فاتحة السور وختامها أكد ذلك المعنى فى فاتحة هذه السورة فقال: تلك آيات الكتاب بخصائصها وروعتها وصفاتها النافعة الجليلة التى تقدمت، وهى حق من عند الله لا شك فيه ولا مرية.
} وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ [الرعد: 1].
لما ذكر فى الآية السابقة صفات هذه الآيات، وأنها عبرة وتصديق وتفصيل وهداية ورحمة ختم ذلك بأن الذي يستفيد هذه الفوائد جميعًا إنما هم المؤمنون المصدقون، وقد ورد أنه ما جلس أحد إلى القرآن إلا زاد أو نقص؛ فإن كان مؤمنًا زاد إيمانًا وهدى، وإن كان غير ذلك نقص }وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا [الإسراء: 82] .
لما ذكر ذلك قرر فى هذه الآية ناموسًا اجتماعيًّا؛ وهو أن أكثر الناس لا يؤمنون، وقد تكرر هذا المعنى كثيرًا فى القرآن الكريم، وقلما تذكر الكثرة إلا ومعها الضلالة والإعراض، وقلما تذكر القلة إلا ومعها الهداية والنور والإنتاج. وتأمل ذلك فى قوله تعالى: }وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: 103] }وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ [الأنعام: 116]، }وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف: 17]، }وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ [يوسف: 38]. } وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا [التوبة: 25] إلى جانب قوله تعالى:} وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ [سبأ: 13] }إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ [ص: 24]، }وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران: 123]، }كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: 249].. إلخ، تجد ذلك يكاد يكون مطردًا.
وأنت إذا طالعت مصداق ذلك فى شئون الناس وأحوال الدعوات وجدته صحيحًا مطردًا، فما من دعوة حق إلا كان أهلها قلائل بالنسبة لمن يناوئها من أهل الباطل والدهماء، ولكنك إلى جانب هذا تجد أن الغلبة دائمًا للقلة المحقة والنصر دائمًا إلى جانبها، وبذلك يتضح لك وجه الجمع بين ما سبق من وعد الله لدينه أن يظهره على الدين كله، مع تقرير أن أكثر الناس لا يؤمنون الإيمان الكامل الحق ولو مع الحرص على ذلك.
ومن ذلك تعلم أن قول ذلك العربي: "وإنما العزة للكاثر" لا يتمشى إلا إذا تساوت الفئتان فى غير العدد من وسائل القوة وزادت إحداهما فى الكثرة، أما إذا تميز أهل الحق من أهل الباطل فقد كتب الله الغلب للمحقين مهما كان عدد خصومهم كثيرًا }وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم: 47].
والسر فى انصراف أكثر الناس عن الإيمان أن الإنسان تتجاذبه قوتان تحاول كل منهما أن تتغلب عليه وأن توجهه وجهتها؛ قوة الخير التى يؤازرها العقل ويرشدها الوحي ويقويها العمل الصالح، وقوة الشر التى تمدها الشهوات ويزينها الشيطان ويقود إليها الهوى، وتغرى بها زخارف المادة وأعراض الحياة الدنيا ولذائذها، وتزداد ضراوة بالمعاصي والمخالفات.
ولما كان العقل والوحي وما إليهما من عالم النفس السامية الفاضلة، وكانت الشهوات والأهواء والزخارف المادية من عالم هذا الحس، وكان الإنسان ما دام فى حياته الدنيا فهو إلى الحس أقرب وبه ألصق ولا يقوى على مقاومة هذه الدوافع إلى الشر إلا بتوفيق رباني وإرادة قوية ومجاهدة دائمة وعزيمة صادقة، وهو ما يشق على أكثر النفوس.
من هنا كان أكثر النوع الإنساني ماديًّا دنيويًّا إلا القليل الذي ملك عنان نفسه، وقوى على التصرف فى عوالم حسه، واستعان بطاعة الله على تثبيت هذا الإيمان الكريم، وسلوك هذا المسلك القويم، وتأمل الإشارة إلى ذلك فى قول الله –تعالى-: }إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلاَّ الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج: 19-23] وتأمل دوران هذا المعنى فى كثير من الآيات التى ورد فيها ذكر الإنسان.
وانظر كيف أن صوارف الحس ونوازع النفس وتعلق الروح بالمادة لا تزال تحاول أن تصرف الإنسان عن إيمانه لأقل المناسبات، حتى بعد أن تثبت العقيدة وترسخ، وانظر مصداق ذلك فى الآية الكريمة: }وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاَءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف: 138-139].
وإلى ما كان من بعض أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم فى غزوة حنين حينما مروا بشجرة للمشركين كانوا يعلقون عليها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط، فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله، هذا كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة. والذي نفسي بيده لتركبن سنن من قبلكم".
تأمل ذلك كله لتعلم صدق هذا الناموس الخالد }وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ [هود: 17] وليس معنى أنهم لا يؤمنون أن يكونوا جميعًا كفارًا ولا شك؛ بل يدخل معنى الآية أن من الناس من لا يؤمن لا ظاهرًا ولا باطنًا وهم الكفار على اختلاف أنواعهم من وثنيين وكتابيين وملاحدة وزنادقة.. إلخ، ومنهم من يؤمن ظاهرًا ولا يؤمن قلبه كالمنافقين، ومنهم من يؤمن لفظًا ولا يؤمن عملا كعصاة المسلمين، ومنهم من لا يتحقق بصفات أهل الإيمان الباطنة مع قيامه بأعمالهم الظاهرة فيكون ناقص الإيمان، ومنهم من يتردد بين الشك والإيمان، وهكذا.
والحكمة فى تقرير هذا الناموس فى كتاب الله -تبارك وتعالى- أمور:
"منها" بيان أن الحق لا يعرف بالرجال؛ بل الحق حق فى نفسه مهما قلَّ تابعوه وكثر مخالفوه، فعلى الناس أن يتلمسوا الحق فى البحث الصحيح والنظر الصادق والدليل القوى والبرهان المقنع بغير نظر إلى ما سوى ذلك من كثرة الأتباع عددًا أو جاهًا أو قلتهم.
"ومنها" تعزية المصلحين الذين يقضون الزمن الطويل فى الجهاد العنيف والكفاح الممض، ثم يرون أنهم بعد ذلك كله لم يظفروا إلا بالعدد القليل من المؤمنين. وفيه إلى جانب هذه التعزية إرشاد لأصحاب الدعوات أن تكون وجهتهم فى التكوين أولا الكيف لا الكم، والإيمان الصادق بالمبدأ والعقيدة لا العدد الكثير الذي لا يغنى شيئًا، ولهذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم شطر مدة الدعوة فى مكة يتخير لها الأكفاء حتى مكث مدة طويلة ولما يبلغ أصحابه الأربعين، ولكن الرجل منهم كان أمة وحده.
"ومنها" إرشاد المؤمنين إلى وجوب حياطة إيمانهم بصلاح العمل ومجاهدة النفس وسد الذرائع، والبعد عن الشبهة، واتباع سبيل الله؛ حتى لا ينتكسوا ويعودوا بعد الإيمان الكامل إلى مرتبة دون هذه المرتبة. وأكثر ما يكون ذلك إذا قلدوا غيرهم من الأمم، وسلكوا سبيل سواهم ممن لا يدين دينهم، ولا يعتقد عقيدتهم }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [آل عمران: 100-101]. وفى الآية الكريمة إشارة إلى أن الإيمان لا يكون كاملاً حقيقيًّا إلا إذا اعتقد المؤمن أن هذا القرآن حق نزل من عند الله، ثم عمل على إنفاذه، وجعله حكمًا على نفسه، والله أعلم(1).
} اللهُ الَّذِى رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لأجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأمْرَ يُفَصِّلُ الآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ [الرعد: 2].
أكدت الآية الكريمة الأولى فى السورة صدق القرآن وأحقية ما نزل على النبى صلى الله عليه وسلم من ربه وإن أعرض أكثر الناس عن الإيمان به، وفى هذه الآيات الكريمة بيان لأول ما يجب أن يؤمن به الناس ويعتقدونه ويصدقوا بأحقيته، وذلك هو الإيمان "بالله"؛ فمعرفة الله والإيمان به أول ما يجب أن تتوجه إليه الهمم وتعنى به النفوس. وقد سلكت الآيات الكريمة بالناس إلى هذا الإيمان أقوم السبل؛ وهي سبيل التفكير فى مخلوقات الله وعجائب صنعه؛ من رفع السماوات، وتسخير الكواكب والأجرام، وتدبير الأمور والشئون، وتصريف الآيات والعبر، ومد الأرض وبسطها وإمدادها بما ينفع أهلها من الجبال والأنهار والنبات والجنات على نسق رائع بديع هو الآية فى الإعجاز، وصدق التصوير، والاستيلاء على المشاعر والقلوب.
(الله) أكبر أسماء الخالق -سبحانه وتعالى- وأجمعها لا يُثَنَّى ولا يجمع، والألف واللام من بنيته لم تدخلا عليه للتعريف؛ إذ هو أعرف المعارف. قال الخطابي: والدليل على ذلك دخول حرف النداء عليه؛ كقولك: يا الله. وحروف النداء لا تجتمع مع الألف واللام. ألا ترى أنك لا تقول: يا الرحمن، ولا يا الرحيم كما تقول يا الله، فدل على أنهما من بنية الاسم.
(الله) اسم كريم للموجود الحق الباري، الخالق المنعوت بنعوت الربوبية المنفرد بالوجود الحقيقي لا إله إلا هو سبحانه، ولا تظن أننى أحاول بذلك الشرح أو التفسير "أن أحصر صفات الله"؛ فكمالات الحق -تبارك وتعالى- فوق هذا، ولكن أريد أن ألخص لك رأى الإسلام الذي يشبع الروح ويطمئن القلب، فيما يجب على المسلم أن يعتقده فى ذات الخالق -جل وعلا- وصفاته مستغنٍ بالقليل عن الكثير، فاعلم أن الإسلام قد أجمل ذلك فيما يأتى:
مجمل ما يجب على المسلم اعتقاده:
أولاً: عدم التعرض للحقيقة والماهية من حيث هما، مع التنبيه على المخالفة التامة بين ماهية الإله وماهية الخلق؛ يقول القرآن: }ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ * لاَ تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 102-103]، وهو بذلك يشير إلى الكف عن التعرض للماهية، ويقول أيضًا: }فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] وهو بذلك يشير إلى المخالفة التامة بين الخالق والمخلوقات جميعًا. وفى الحديث: "تفكروا فى آلاء الله ولا تفكروا فى خلق الله". ومن البديهي أن هذا الموقف لا يؤخذ على الإسلام فى شىء؛ فإن العقل البشرى -وهو عماد العقيدة فى الإسلام- يقف إلى الآن موقف العجز المطلق أمام حقائق الأشياء جميعًا، وكل الذي وصل إليه إنما هو الخواص والصفات والآثار، أما الحقائق والبسائط المجردة فلم يصل إليها بعد، وما كان الإسلام ليكلف الناس ما لا تستطيع أن تدركه العقول والأفهام.
ثانيًا: التوصل إلى معرفة صفات الإله، وإدراك كمالات الألوهية ومميزاتها عن طريق النظر فى الكون نظرًا صحيحًا، وتحرر العقول والأفكار من الموروثات والأهواء والأغراض؛ حتى يصل إلى الحكم الصائب. والقرآن مملوء بالحث على النظر فى المكونات والتأمل فى المخلوقات. وقد ذكر العقل فى القرآن الكريم فى أكثر من أربعين موضعًا مقرونًا بالتبجيل والتكريم، والحث على الجد والعمل فى إدراك الحقائق، والسير فى سبيل كشف مستوراتها؛ وذلك من مثل قوله تعالى: }إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة: 164].
ومن مثل قوله تعالى: }أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 27-28] فهو فى هذه الآية يحض على اكتشاف غرائب النبات والحيوان والجماد بأقسامه، ثم يرتب على ذلك الخشية من الله؛ لما بين معرفة الكون ومعرفة مكونه من صلة، ومن مثل الآيات الكريمة التى نحن بصددها من سورة الرعد.
ثالثًا: إثبات صفات الكمال للخالق نتيجة للنظر فى هذا الكون؛ فالله موصوف فى الإسلام بالوجود وبالعلم وبالقدرة وبالحياة والسمع وبالبصر وبالجمال وبالحكمة وبالإرادة... إلخ، مع الإقرار بأن كيفياتها وحدودها مجهولة ضرورة الجهالة بذات الله تعالى، ولكنا نعلمها علم اليقين من وضوح آثارها فى هذا الكون البديع الصنع؛ فالخالق حكيم لما يجتلى فى كونه من أسرار حكمته، وقادر وعالم بأجمع معاني العلم والقدرة؛ لأن هذا الكون البديع لا يكون إلا عن علم واسع وقدرة محيطة.. وهكذا. والقرآن يعدد هذه الصفات فى كل المناسبات مثل قوله تعالى: }هُوَ الأوَّلُ وَالآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ [الحديد: 3] ومثل سورة الإخلاص، وهكذا.
رابعًا: نفى صفات المشابهة والنقص عن الخالق، فالتجسيم منفى عنه؛ لأن المادة تتحول والخالق لا بد أن يكون ثابتًا، والتثليث منفى عنه لأنه تركيب والإله لا بد أن يكون واحدًا، والأبوة والبنوة منفصلان عن صفات الخالق لأنهما تجزئة والخالق لا يتجزأ، وهكذا. والقرآن يقرر هذا ويجادل عنه فى منطق دقيق وحجة قوية؛ من مثل قوله تعالى: }أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء: 22-23]، ومن مثل قوله: }قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [المؤمنون: 84] إلى قوله تعالى: }مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ [المؤمنون: 91]، وقل مثل ذلك فى نفى التثليث وغيره من عقائد الأمم السابقة جميعًا.
خامسًا: تقوية الصلة بين الوجدان الإنساني والخالق؛ حتى يصل الإنسان بذلك إلى نوع من المعرفة الروحية هو أعذب وأصدق أنواع المعرفة جميعًا؛ وذلك أن الوجدان الإنساني أقدر على كشف المستورات غير المادية من الفكر المحدود بقيود المادة والأرقام، فالإسلام كثيرًا ما يخاطب الوجدان ويستثير الخواص النفسانية الكافية فى الإنسانية لتتصل بالله -تبارك وتعالى- وتسمو إلى حظائر الملأ الأعلى؛ يقول القرآن الكريم: }الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] وفى ذلك يقول أحد الفلاسفة الكونيين: "إن ضمائرنا قد شهدت لنا بوجود الله قبل أن تشهد به عقولنا".
ويصور القرآن هذا المعنى فى الآية الكريمة: }وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِى الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا [الإسراء: 67].
هذه الصلة الخفية بين الضمير الإنساني وبين الخالق التى تبدو فى غاية الوضوح والجلاء عند الشدائد التى تنقطع فيها الآمال هى التى يعمل الإسلام كثيرًا على أن تكون ضوءًا يتعرف به الإنسان خالقه العظيم سبحانه وتعالى.
سادسًا: مطالبة المؤمنين بأن تظهر عليهم نتائج هذه العقائد العملية؛ فالمؤمن إذا اعتقد أن ربه قادر كانت نتيجة هذه العقيدة العملية أن يتوكل عليه ويلجأ إليه، وإذا اعتقد أنه عالم راقبه واستولت عليه خشيته، وإذا اعتقد أنه واحد لم يدع سواه ولم يسأل غيره، ولم يصرف وجهه إلا إليه وحده، وإذا اعتقد أنه عظيم عظَّمه فخافه وأحبه.. وهكذا. وقد أشارت إلى ذلك الآيات الكريمة فى كثير من المواضع؛ قال تعالى: }إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال: 2-4] والآيات فى هذا المعنى كثيرة فى كتاب الله تبارك وتعالى، وكل عقيدة لا تنتج أثرها ولا تحمل صاحبها على مستلزماتها فهي عقيدة واهية ضعيفة لا تؤدى إلى الإيمان الكامل الصحيح.
ولعل من تمام هذا البحث أن أنقل لك بعض عبارات المؤمنين الصادقين فى التعريف برب العالمين جلت ذاته وتقدست صفاته.
سأل ذعلب اليماني عليًّا -كرم الله وجهه- فقال: هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين؟ فقال رضى الله عنه: أفأعبد ما لا أرى. فقال السائل: وكيف تراه؟ فقال: "لا تدركه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان. قريب من الأشياء غير ملامس، بعيد عنها غير مباين، متكلم لا بروية، مريد لا بهمة، صانع لا بجارحة، لطيف لا يوصف بالخفاء، كبير لا يوصف بالجفاء، بصير لا يوصف بالحاسة، رحيم لا يوصف بالرقة. تعنو الوجوه لعظمته، وتجب القلوب من مخافته".
ومن كلامه رضى الله عنه فى هذا المعنى: "لا يدركه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن، ليس لصفته حد محدود ولا نعت موجود ولا وقت معدود ولا أجل ممدود، أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له". أ هـ من (نهج البلاغة).
وسئل بعض العلماء عن صفته – تبارك وتعالى – فقال: "هو الواحد المعروف قبل الحدود والحروف". وسئل آخر عن التوحيد ما هو؟ فقال: "أن تعلم أنه غير مشبه للذوات، ولا منفى الصفات".
ومن أحسن ما قيل فى التنزيه قول بعض الصالحين: "تنزه ربنا عن أحوال خلقه، فليس له من خلقه مزاج، ولا فى فعله علاج، باينهم بِقِدَمِهِ كما باينوه بحدوثهم. إن قلت: متى؟ فقد سبق الوقتَ كونُه، وإن قلت: هو، فالهاء والواو خلقه، وإن قلت: أين؟ فقد تقدم المكانَ وجودُه. معرفته توحيده، وتوحيده تمييزه من خلقه، ما تصور فى الأوهام فهو بخلافه؛ فالذي يظفر الوهم به يرتقي التصوير إليه. لا تماقله العيون، ولا تقابله الظنون علوه من غير توقل، ومجيئه من غير تنقل }هُوَ الأوَّلُ وَالآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ [الحديد: 3]، }لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11]".
} الَّذِى رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا [الرعد: 2] يحسن قبل الكلام عن رفع السماوات وما يليه من آيات الكون فى هذه الآيات البينات أحب أن ألفت النظر إلى أصلين مهمين: "أولهما" حكمة ذكر المظاهر الكونية فى القرآن الكريم، "وثانيهما" معرفة مدى ما وصل إليه العقل الإنساني فى تعرف حقائق هذه المظاهر.
لماذا تذكر هذه المظاهر الكونية فى القرآن الكريم؟
جاء فى القرآن الكريم ذكر السماوات والأرضين، والشمس والقمر والسحب والأمطار، والنبات والحيوان، وعجائب الخلق، وغرائب المكونات فى كثير من المواطن، فهل يريد القرآن بهذا أن يتناول هذه النواحي بالتحليل العلمي فيوضح للقارئين ماهيتها وكنهها وعناصرها وأجزاءها، ويبين لهم طبائعها وخواصها، ويكشف لهم عن أسرار نواميسها وحقيقة قوانين سيرها ووقوفها ونموها وضعفها؛ أم أن القرآن الكريم يعرض لكل هذه الظواهر الكونية لغرض آخر غير هذا التحليل العلمي ويدع هذا التحليل لوقته والظروف الملائمة له عندما تتهيأ العقول البشرية لقبوله وإدراك غوامضه وأسراره؟
لا شك أن القرآن الكريم لم يجئ ليكون كتاب فلك ولا هيئة ولا كيمياء ولا هندسة، ولا لغير ذلك من الشئون التى تتناولها العلوم الكونية البحتية، وإنما جاء ليكون كتاب هداية وإرشاد وتطهير للنفس البشرية، وسمو بها إلى الكمال الممكن اللائق بجمالها، وإيضاح وتقوية للصلة بين الخالق والمخلوق بعضهم وبعض، وتقرير للحقوق والواجبات، وتفصيل للمصالح والمضار فى المأمورات والمنهيات التى تتصل بسعادة الناس فى معاشهم ومعادهم وإن أشار فى كثير من الأحيان إلى دقائق العلوم الكونية، وعجائب النواميس التى تسير عليها المخلوقات.
وإنما جاء القرآن كذلك لحكم جليلة؛ "منها": أنه إذا تناول حقائق العلوم والمعارف الكونية بالشرح والبيان فقد قطع على العقل البشرى سبيل الرقى، وحرمه لذة الجهاد العلمي، وقضى على استقلاله وحريته بالجمود والخمود ولم يبق للعلماء فضل على الجهلاء، وكان الناس فى المواهب سواء فلم تشهد الإنسانية إلا جيلاً واحدًا ثم يقضى عليها بعد ذلك بالفناء. "ومنها": أن طبيعة العقل البشرى فى نشوئه وتكوينه لا تقبل هذه الطفرة ولا تحتملها، وإنما يسلك العقل البشرى فى النوع الإنساني مسلكه فى الفرد الواحد له أطوار وأدوار؛ فهو ينشأ ضعيفًا لا يكاد يدرك ما حوله، ثم تتسع أمامه آفاق الإدراك وحدوده، فلا يزال يتعلم فيعلم حتى يبلغ أقصى قوته ويأخذ من المعرفة بالنصيب الذي كتب له، وأنت إن فاجأته وهو فى دور طفولته وضعفه بما لا يستطيع إدراكه ولا يقوى على اكتناه ماهيته آذيته وشردته وأضللته، وقذفت به فى مهاوي الفتنة والشك والارتياب. وتصور أن طفلاً سألك عن قوانين التيار الكهربائي كيف يتولد، وكيف يسير، وكيف تتحرك به القوى العظيمة وتشتعل بضوئه المصابيح القوية على البعد والقرب سواء، أو سألك عن أوجه القمر فى نشوئه هلالاً، ثم اكتماله بدرًا، ثم عودته بعد ذلك من الكمال إلى النقص حتى يختفي جرمه ويخبو نوره، أو سألك عن البخار كيف يدير البواخر ويحمل على الماء الأعلام المواخر؟ أتستطيع أن تتبسط فى شرح ذلك لطفل صغير لم يتلقَّ مبادئ هذه العلوم، ولم يستقِ بعد من معين هذه المعارف؟
كذلك العقل الإنساني فى نشأته وأدوار حياته وأطوار؛ نموه دائم الرقى والاكتمال بحسب ما يكتسب من المعارف المتجددة والتجارب المتكررة المتعددة، وما كان للقرآن -وهو كتاب العصور كلها والأمم كلها والعقول جميعًا- أن يتناول من علوم الكون إلا ما يتفق مع مدركات هذه العقول، ثم يدع لرقيها الفكري الكشف عما سوى ذلك بحسب قوانين النمو والارتقاء، وذلك من أدب الإسلام فى التعليم، ومن سننه فى إرشاد الناس إلى حقائق المعارف. روى البخاري فى صحيحه عن على -كرم الله وجهه-: "حدِّثوا الناس بما يعرفون؛ أتحبون أن يكذب الله ورسوله". وروى مسلم عن ابن مسعود رضى الله عنه قال: "ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة".
ومن هنا نستطيع أن نفهم السر فى إجابة القرآن الكريم للسائلين عن أوجه القمر فصرفهم عن السؤال، ولفت أنظارهم إلى فوائد ذلك ومزاياه }يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة: 189].
"ومنها": أن القرآن الكريم لو عرض لبيان هذه الشئون كلها واستوعب حقائقها وتفصيلاتهم لصعب على الناس حفظه، ولمضت الأزمان الطويلة دون استيعابه نزولاً أو معرفة، ولنسي الناس هديه وإرشاده؛ فإن كثير الكلام ينسى بعضه بعضًا. ولقد يسره الله –تعالى- وسهله ليكون ذلك أدعى إلى تذكره، وأقرب للوصول إلى مقاصده، والعمل بما فيه }وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [القمر: 17].
تلك هى بعض الحكم التى من أجلها يتناول القرآن الكريم حقائق العلوم الكونية بالتفصيل والتوضيح، وترك ذلك للعقل البشرى يرقى إليه ببحثه المتواصل، ويتذوق لذة معرفته بكفاحه وجهاده. وهناك حكم أخرى لا نطيل القول فيها، وحسبك من القلادة ما أحاط بالجيد، والكلام فى أسرار كتاب الله ذو سعة.
ومن ذلك نستطيع أن نقول: إن القرآن الكريم جاء بهذه الظواهر واستعرضها وعرضها على الناس فى كثير من المواضع لغرض واحد هو العبرة والعظة، ولفت العقل والقلب إلى ما فيها من جمال وروعة ورقة وإعجاز وإبداع لا يكون إلا عن صانع حكيم متصف بالكمالات كلها، لا يلحقه نقص ولا يناله قصور جل ربنا عن ذلك، وتعالى علوًّا كبيرًا. يسوق القرآن كل ذلك ليكون سبيلاً إلى معرفة الخالق والإيمان بالله. وفى الوقت الذي يقصد فيه إلى هذا المعنى نجد أن فى ذكر هذه المخلوقات ولفت الأنظار إليها ومطالبة الناس بالتفكير فيها، والتصريح بعلو منزلة العلماء بها دفعًا بكل مؤمن أن يتعلم، وأن يحيط بأسرار هذا الكون العجيب.
ذلك مع الإشارات اللطيفة إلى بعض الحقائق الدقيقة التى تعنو لها عقول الخاصة، وتنحنى أمامها هام الفطاحل من الراسخين فى العلم، يتلوها عليهم أمي كريم لم يدخل جامعة علمية، ولم يتعلم فى مدرسة؛ كذكر ناموس التلقيح }وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ [الحجر: 22]، وذكر ناموس التقدير فى المخلوقات }إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49] وغيرها من النواميس.
والعجيب فى شأن القرآن الكريم أنه حين عرض لهذه المكونات ساق الكلام عنها فى مساق غريب وأسلوب مدهش معجز حقًّا، يساير تمام المسايرة الإدراك الفطري، ويتفق تمام الاتفاق مع التحليل العلمي والبحث الفلسفي المنطقي؛ فهو يجمع بين الشعر والمنطق، ويغذى العاطفة والعقل، ويرقى الشعور والفكر، ويستولى على الإرادة كل الاستيلاء، ويفيد هذا وذاك الأثر المقصود والعزة المنشودة، وذلك من أسرار الإعجاز التى انفرد بها القرآن الكريم، وامتاز بها كلام الخالق العليم عن كلام المخلوق القاصر العاجز.
تقرأ مثل قوله تعالى: }فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَاءِ [الأنعام: 125] فتصور هذه الآية الكريمة فى النفس العادية ذلك المعنى الفطري السهل، وتمثل لها ذلك الضال رجلاً منهوكًا متعبًا قد بهرت أنفاسه، وتقطع نياط قلبه مما حمل من أعباء الضلال، كأنما عليه أن يقاسي فى مرارة متجددة هول صعود السماء. والآية بهذا المعنى الفطري تحدث فى تلك النفس العامية ما قصدت إليه من تأثير فى تقبيح صورة الضلال والإبعاد عنه، وهذه الآية نفسها تثير فى النفس العلمية ذلك المعنى الكوني الذي أيده البحث، وأثبته العلم من تخلخل طبقة الهواء كلما علا الإنسان عن سطح الأرض، وفناء عنصر الأوكسجين منها، وهو العنصر الصالح للتنفس فتنقطع بذلك أنفاسه، ويقف عن التنفس صدره فيزول عنه معنى الحياة جملة؛ بل إن الضغط الهوائي ليختل توازنه على جنبات جسمه باطنها وظاهرها فتنفجر عروقه، ويسير فى الفضاء دمه مهدورًا. والآية بهذا المعنى العلمي تحدث الأثر المقصود لها كذلك؛ من تقبيح صورة الضلال، وإبعاد الناس عنه.
هذا معنى من معاني الإعجاز لم يتفق لغير القرآن الكريم، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا.
رأى الإمام محمد عبده فى موقف الوحي من العلوم:
وأسوق لك هنا بمناسبة هذا البحث ما ذكره الأستاذ الإمام عند تفسير آية الأهلة فى بيان موقف الوحي من العلوم قال -رحمه الله-: "العلوم التى نحتاج إليها فى حياتنا على أقسام؛ منها ما لا نحتاج فيه إلى أستاذ كالمحسوسات والوجدانات، فهذا هو (القسم الأول)، ومنها ما لا نجد له أستاذًا؛ لأنه مما لا مطمح للبشر فى الوصول إليه البتة، وهو كيفية التكوين والإيجاد الأول المعبر عنه بسر القدر. يمكن للنباتي أن يعرف ما يتكون منه النبات وكيف ينبت وينمو ويتغذى، وللطبيب أن يعرف كيف يولد الحيوان والأطوار التى يندرج فيها مذ يكون نطفة إلى أن يكون إنسانًا عاقلاً مستقلاً، ولكن لا يعرف نباتي ولا طبيب كيف وجدت أنواع النبات وأنواع الحيوان أو مادتهما لأول مرة، ولا كيف وجد غيرها من المخلوقات، ومن هنا كانت العلاقة بين الخالق والمخلوق من هذه الجهة؛ جهة الإيجاد والخلق لا يمكن اكتناهها، وكذلك لا يمكن اكتناه ذات الله تعالى وصفاته، وهذا هو (القسم الثاني). ومنها ما يتيسر للناس أن يعرفوه بالنظر والاستدلال والتجربة والبحث كالعلوم الرياضية والطبيعية والزراعية والهيئة الفلكية، ومنها أسباب تطور الهلال وتنقله من حال إلى حال، وهذا هو (القسم الثالث). و"منها" ما يجب علينا للخالق العظيم الذى أودع فطرنا الشعور بسلطانه، وهدى قلوبنا إلى الإيمان به بما نراه من آياته فى الآفاق وفى أنفسنا، فإن هذا الشعور وهذه الهداية مبهمان لا سبيل لنا إلى تحديدهما من حيث ما يجب اعتقاده فى الله -تعالى- وفى حكمة خلقنا ومراده منا، وما يتبع ذلك من أمر مصيرنا، ومن حيث ما يجب له من الشكر والعبادة، وهذا مما لا سبيل إلى معرفته بطريق صناعي أو كسب بشرى، فقد وقعت الأمم فى الحيرة والخطأ فى مسائله؛ لجهلهم بالصلة والنسبة بين المخلوق والخالق؛ فمنهم من وصفه تعالى بما لا يصح أن يوصف به، ومنهم من توهم أن أعمالنا تفيده أو تؤلمه، وأنه ينعم علينا أو ينتقم منا بالمصائب لأجل ذلك، ومنهم من توهم أن الحياة الآخرة تكون بهذه الأجساد، والجزاء فيها يكون بهذا المتاع فاخترعوا الأدوية لحفظ أجسادهم ومتاعهم.
وإذا كان الإنسان عاجزًا عن تحديد ما يجب عليه ويحتاج إليه من الإيمان بالله وبالحياة الأخرى، و ما يجب عليه فى الحياة الأولى شكرًا لله واستعدادًا لتلك الحياة؛ لأن الحواس والعقل لا يدركان ذلك، فلا شك أنه محتاج إلى عقل آخر يدرك به ما يعوز أفراده من هذه الأمور، وهذا العقل هو النبى المرسل، وهذا هو (القسم الرابع).
وبقى قسم خامس؛ وهو ما يستطيع العقل البشرى إدراك الفائدة منه، ولكنه عرضة للخطأ فيه دائمًا؛ لما يعرض له من الأهواء والشهوات التى تلقى الغشاوة على الأبصار والبصائر، فتحول دون الوصول إلى الحقيقة، أو تشبه منافع الضار، وتلبس الحق بالباطل، ومثال ذلك: السعاية يدرك العقل ما فيها من الضرر والقبح، ولكنه إذا رأى لنفسه فائدة من السعاية لشخص يزينها له هواه ويراها حسنة من حيث هو يخفى عليه ضررها لذاتها، وكذلك شرب الخمر والحشيش؛ قد يعرف الإنسان مضرتهما فى غيره ولكن الشهوة تحجبه عن إدراك ذلك فى نفسه، فيؤثر حكم لذته على حكم عقله الذى ينهاه عن كل ضار، فصار محتاجًا إلى معلم آخر ينصر العقل على الهوى، ووازعٍ يكبح من جماح الشهوة ليكون على هدى.
فما يمكن للإنسان أن يصل إليه بنفسه لا يطالب الأنبياء ببيانه، ومطالبتهم به جهل بوظيفتهم، وإهمال للمواهب والقوى التى وهبه الله إياها ليصل بها إلى ذلك، وكذلك لا يطالبون بما يستحيل على البشر الوصول إليه؛ كقول بعض بنى إسرائيل لموسى: }لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً [البقرة: 55] وأما ما كان إدراكه ممكنًا وكسبه بالحس والعقل متعذرًا أو تحديده متعسرًا فهو الذي نحتاج فيه إلى هاد مخبر عن الله تعالى؛ لنأخذ عنه بالإيمان والتسليم، ولذلك قلنا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم عقل الأمة.
لو كان من وظيفة النبى أن يبين العلوم الطبيعية والفلكية لكان يجب أن تعطل مواهب الحس والعقل، وينزع الاستقلال من الإنسان ويلزم بأن يتلقى كل فرد من أفراده معلوماته بالتسليم، ولوجب أن يكون عدد الرسل فى كل أمة كافيًا لتعليم أفرادها فى كل زمن كل ما يحتاجون إليه من أمور معاشهم ومعادهم، وإن شئت فقل: لوجب ألا يكون الإنسان هذا النوع الذي نعرفه.
نعم إن الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- ينبهون الناس بالإجمال إلى استعمال حواسهم وعقولهم فى كل ما يزيد منافعهم ومعارفهم التى ترتقي بها نفوسهم، ولكن مع وصلها بالتنبيه على ما يقوى الإيمان ويزيد فى العبرة.
القرآن والعلوم الكونية:
ونستطيع بعد ذلك أن نلخص موقف القرآن من العلوم الكونية العصرية وغير العصرية مما سبقها أو مما سيلحقها، أو موقف هذه العلوم من القرآن الكريم فى هذه النقاط:
1- ليست مهمة القرآن شرح بحوث هذه العلوم تفصيليًّا، وإنما ترك ذلك للعقل الإنساني يكشف فى كل طور من أطوار رقيه وكماله جزءًا منه يتناسب مع مقدرته، وما أتيح له من وسائل البحث والإدراك السليم.
2- إنما عرض القرآن لما عرض له من هذه البحوث تنبيهًا لما فيها من دقة الصنع وجمال الإبداع؛ ليكون ذلك حافزًا إلى معرفة الله وصدق الإيمان به، كما يكون حافزًا إلى دوام البحث والنظر كذلك.
3- إن هذا لم يمنع القرآن الكريم من أن يتعرض لكثير من النواميس الدقيقة فى هذه العلوم؛ إرشادًا للخاصة من الناس، وإثباتًا لنسبة هذا الكتاب الكريم إلى العليم الحكيم.
4- كان أسلوب القرآن فى التكلم عن هذه المظاهر الكونية أسلوبًا معجزًا حقًّا.. فيه إجمال، وفيه دقة، وفيه وضوح إلى جانبهما؛ فهو يرضى النفس الفطرية كما يشبع نهمة الفكرة العلمية، كما لا يمكن أبدًا أن يصطدم فى مرونته وسعة معاني ألفاظه بنتائج البحث العلمي أيًا كان فى أى عصر من العصور، وهذا من أبلغ وجوه إعجاز القرآن.
5- إن القرآن بهذا الأسلوب فارق ما فى أيدي الناس مما يزعمونه التوراة والإنجيل؛ فقد امتلأت بالتفريعات الدقيقة لهذه العلوم والتفصيلات الشاملة للتحدث عن كل مظاهر الكون، والتصوير المادي لكل ما فيه، فكانت نتيجة ذلك أن اصطدمت هذه الصور والأحكام بنتائج البحوث العقلية الثابتة، فسقطت قيمتها العلمية فى نظر الكونيين سقوطًا لا قيام لها بعده، وكانت عن ذلك الخصومة الحادة التى ذهب ضحيتها كثير من العلماء أمثال "جاليليو" وغيره، وانتهت بأن قبع الدين فى زوايا الكنائس والأديرة. وليس فى القرآن الكريم شىء من هذا كله، وهو قد ساير العلوم والمعارف منذ نزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم فأشرقت الدنيا بنوره إلى الآن؛ فلم يصطدم بنظرية علمية صحيحة، ولم يخالف حقيقة كونية ثابتة، ولم يأته الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ ذلك لأنه تنزيل من عزيز حكيم.
6- والنتيجة من هذا البحث: أنه لا يصح للمسلم أن يعترض نصوص القرآن بنتائج هذه العلوم؛ فإن من هذه النتائج ما لم يثبت بعد، ومنها ما توهم العقل البشرى ثبوته فى عصر ثم نقضه أشنع النقض فى عصر آخر، وتلك طبيعة الترقي العلمي كما سترى فى الفصل الذي يلي هذا. وفى التفسير الذى يجمع بين الإيمان بالنص وإرضاء نتائج البحث الصحيح مندوحة، بل مخارج كثيرة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فلا يجوز للمسلمين أن يقفوا عن البحث العلمي فى مستورات الكون وخفاياه اعتمادًا على ما جاء فى القرآن من ذلك، ولا سيما والقرآن نفسه مملوء بالحث على النظر فى الكون، ووجوب الازدياد من العلم }وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْمًا [طه: 114] ولعلك بعد ذلك تدرك سر هذه الآية الكريمة مع قوله تعالى: }وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء: 36]؛ فالأولى حَثٌّ على تعرف ما تمكن معرفته مما هو فى حيز البحث العلمي، والثانية نهى عن مزاولة ما لا يمكن الوصول إليه حتى تنصرف الجهود للنافع.
إلى أى مدى وصل العقل فى العلوم الكونية؟
يحسن بعد هذا البحث أن نجيب على هذا السؤال؛ ليعلم المغرورون بنتائج البحث العلمي إلى أى مدى وصل العقل الإنساني فى حل مشكلات الكون وكشف مستوراته؟ وسنورد فى هذا البحث بعض الشواهد من كلام علماء الكون غير المسلمين ونعتذر عن ذلك مقدمًا، فلسنا فى حاجة على تأييد كتاب الله -تبارك وتعالى- بغير ما هو فيه، ولكننا قصدنا بذلك إلى أمرين؛ أولهما: انتزاع الدليل من غير المؤمنين بالقرآن؛ ليكون ذلك أبلغ فى الفضل، وأقوى فى الاستدلال، "والفضل ما شهدت به الأعداء". وثانيهما: إقناع المغرورين بعلوم الفرنجة المفتونين برقى أوربا المادي أعظم الفتنة إذا عرفوا أن أساتذتهم قد أعلنوا العجز، واعترفوا بالقصور، وطامنوا من غرورهم وخفضوا من حدة تعصبهم لما لا يعلمون، والله الهادي إلى سواء السبيل.
لقد أتى على الناس زمان توالت فيه الكشوف العلمية المادية، ولمس الناس آثارها العملية فى مجرى حياتهم الدنيا، وظن علماء الكون أنهم وصلوا إلى لب الحقائق، وابتكروا من النظريات والقواعد ما يستطيعون به تفسير كل المظاهر الكونية، وأعلن كثير منهم فى ذلك الوقت تبرمه بالأديان وأهلها والعقائد ومعتقديها، وطغت موجة من الإلحاد على العقول والأفكار، ثم لم تلبث هذه الموجة أن انحسرت أمام ما تجلى لهؤلاء العلماء أنفسهم من عظمة الكون، وأمام ما انكشف لهم من النواميس التى هدمت ما اطمأنوا إليه من قبل، وما اعتقدوا أنه الحق؛ فطامنوا من غرورهم، واعترفوا بقصورهم، وأعلنوا هذا العجز التام، وواصلوا بحوثهم فى تواضع وأدب.
ذلك أمر طبيعي؛ فإن هذا العقل السائح فى ملكوت الله لا يستطيع أن يكشفه جملة، ولا أن يصل إلى مكنوناته طفرة؛ فهو لا بد أن يبلغ المدة التى كتبها الله له باحثًا منقبًا، ولا بد أن يصل إلى الحقائق متدرجًا، ولا بد أن يخطئ مرة ويصيب أخرى فيتلقى عن الخطأ درسًا، ويكشف بالصواب حقيقة، وهكذا دواليك. على أن العقل مهما بلغ من الكمال فهو لم يصل بعد إلى حقيقة شىء من الأشياء، إنما كل ما ظفر به بعض العوارض والصفات التى تنفع الناس، أما حقائق البسائط المجردة فهو لم يصل إلى شىء منها بعد، وأغلب الظن أن ذلك ليس من شأنه ولا مما يعنيه، وإنما هو سر الخلق الذي استأثر الله بعلمه.
رأى بعض العلماء فيما وصل إليه العقل:
وإليك بعض أقوال علماء الكون فى ذلك نستفتحها بقول الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده فى رسالة التوحيد فى هذا المقام:
"إذا قدرنا عقل البشر قدره وجدنا غاية ما ينتهي إليه كماله إنما هو الوصول إلى معرفة عوارض بعض الكائنات التى تقع تحت الإدراك الإنساني حسًّا كان أو وجدانًا أو تعقلاً، ثم التوصل بذلك إلى معرفة مناشئها وتحصيل كليات لأنواعها، والإحاطة ببعض القواعد لعروض ما يعرض لها، وأما الوصول إلى كنه حقيقته فمما لا تبلغه قوته؛ لأن اكتناه المركبات إنما هو باكتناه ما تركبت منه، وذلك ينتهي إلى البسيط الصرف وهو لا سبيل إلى اكتناهه بالضرورة. وغاية ما يمكن عرفانه منه هو عوارضه وآثاره، خذ أظهر الأشياء وأجلاها كالضوء.. قرر الناظرون فيه له أحكامًا كثيرة حصلوها فى علم خاص به، ولكن لم يستطع ناظر أن يفهم ما هو؟ ولا أن يكنه معنى الإضاءة نفسها، وإنما يعرف من ذلك ما يعرف كل بصير له عينان، وعلى هذا القياس" أ هـ.
1- وتحدث الفيلسوف الفرنسي "جوستاف لوبون" فى كتابه (تحول المادة) عن تطور المعارف الإنسانية الكونية، وقصور العقل البشرى عن إدراك حقائق النواميس الطبيعية فى كلام طويل نقتطف منه ما يلى: "كل نظرياتنا العلمية العظيمة ليست بقديمة العهد؛ لأن تاريخ العلم التجريبي المحقق لا يصعد إلى أبعد من ثلاثة قرون، وفى هذا العهد القريب قُرْبًا نسبيًّا حدث دوران مختلفان من أدوار التحول فى أفكار العلماء؛ فالدور الأول كان دور الثقة والاعتقاد، فكانت فيه المقررات الفلسفية والدينية، وهى قواعد مدركاتنا القديمة عن الوجود، تضمحل وتزول ببطء أمام المكتشفات العلمية التى تتوالى يوميا ولا سيما النصف الأول من القرن الماضي، وكان يظن مؤسسو كل علم جديد أنهم متى أتموا بناء الصرح العلمي استمر هذا الصرح قائمًا على أنقاض أوهام الزمان الماضي، فكانت العقيدة العلمية فى هذا الدور على غاية تمامها. دامت هذه العقيدة فى المقررات الكبرى للعلم العصري حافظة لقوتها، إلى أن حدثت فى الأيام الأخيرة مكتشفات غير منتظرة قضت على الفكر العلمي أن يكابد من الشكوك فى نتائج بحثه ما كان يعتقد أنه قد تخلص منه أبد الآبدين، فإن الصرح الذي كان لا يرى صدوعه إلا عدد قليل من العقول العالية تزعزع فجأة بشدة عظيمة، فصارت التناقضات والمحالات التى فيه ظاهرة للعيان بعد أن كانت من الخفاء بحيث تكاد لا تبلغها الظنون.
أدرك الناس على عجل أنهم كانوا مخدوعين، وأسرعوا يتساءلون عما إذا كانت الأصول المكونة للمقررات اليقينة لمعارفنا الطبيعية لم تكن إلا فروضًا واهية تحجب تحت غشائها جهلاً لا يسبر له غور، فحدث فى إدراك المقررات العلمية مثل ما حدث قبل ذلك للعقائد الدينية عندما شرعوا فى مناقشتها الحساب، فبدأت ساعة الانحطاط ثم تلاها دور الزوال والنسيان.
لا مشاحة فى أن الأصول التى كان العلم يختال بها اختيالاً لم تزل كل الزوال؛ بل هى ستبقى أمدًا طويلاً فى نظر الدهماء كحقائق مقررة، وستستمر الكتب الابتدائية على نشرها ولكنها قد فقدت كل ما كان لها من الإجلال فى نظر العلماء الحقيقيين. تلك المكتشفات التى نوهت بها آنفًا قد كشفت اللثام عن الظنيات التى بدأت تفضحها الكتب الحديثة، وبذلك دخل العلم نفسه فى دور من الفوضى كانوا يظنون أنه قد سلم منه إلى الآن، وأصبحنا نرى أصولاً كان يظن أنها ذات قاعدة رياضية محققة صارت موضوع النزاع بين العلماء الذين من وظائفهم تعليمها والدفاع عنها. ثم أورد بعد ذلك عدة شواهد على قوله هذا من كلام "هنري بوانكاريه" و"إميل بيكار" و"ماتش" و"لوسيان بوانكاريه" ختمها بقول هذا الأخير: "فالآراء التى كانت تظهر لمن سبقنا كأنها تأسست تأسيسًا ثابتًا صارت اليوم لدينا موضوعًا للمناقشة، وقد رفض اليوم على وجه تام الرأي القائل بأن كل الظواهر الطبيعية تقبل تفسيرًا ميكانيكيًّا؛ فإن أصول علم الميكانيكا نفسه صارت مشكوكًا فيها، وقد شوهدت حوادث جديدة زعزعت عقائدنا المتعلقة بالقيمة المطلقة للنواميس التى اعتبرت أساسية إلى اليوم". ثم قال بعد ذلك: "من حسن الحظ أنه لا شىء أكثر ملاءمة للترقي العلمي من هذه الفوضى؛ فالوجود مفعم بمجهولات لا نراها، والحجاب الذي يحجبه عنا منسوج غالبًا من الآراء الضالة أو الناقصة التى توجبها علينا تقاليد العلم الرسمي. وأشد الأشياء خطرًا على تقدم العقل الإنساني هو تقديم الظنيات للقراء لابسة حلل الحقائق المقررة على نحو ما تفعله كتب التعليم، والتطاول لوضع تخوم للعلم ورسم حدود لما تمكن معرفته كما كان يود ذلك "جوست كونت".أ هـ.
2- حتى "دارون" نفسه وقد فتن مذهبه كثيرًا من الأغرار بيَّن أن غاية نجاحه العلمي لم يتعد بعض التفسيرات فى أصل الأنواع، وقد كتب فى هذا المعنى إلى صديقه المستر "هيات" فقال: "اسمح لى أن أضيف إلى هذا بأني لست من قلة العقل بحيث أتصور أن نجاحي يتعدى رسم دوائر واسعة لبيان أصل الأنواع".
3- ومن كلام "وليم جيمس"؛ الأستاذ بجامعة هارفارد بالولايات المتحدة: "إن علمنا ليس إلا نقطة، ولكن جهلنا بحر زاخر. والأمر الوحيد الذي يمكن أن يقال بشىء من التأكيد هو أن عالم معارفنا الطبيعية الحالية محاط بعالم أوسع منه من نوع آخر لم تدرك خواصه المكونة له إلى اليوم".
4- وقال الأستاذ "وليم كروكس" الإنجليزي من خطبة له فى مجمع العلوم: "متى امتحنا من قرب بعض النتائج العادية للظواهر الطبيعية لم نبدأ بإدراك إلى أى حد تحصر هذه النتائج أو النواميس كما نسميها فى دائرة نواميس أخرى ليس لنهايتها أقل علم عندنا، أما أنا فإن تركي لرأس مالي العلمي الوهمي قد بلغ حدًّا بعيدًا؛ فقد تقبض عندي هذا النسيج العنكبوتي للعلم، كما عبر بذلك بعض المؤلفين إلى حد أنه لم تبقَ منه إلا كرة صغيرة تكاد لا تدرك".
5- وقال "كاميل فلامريون" فى كتابه (المجهول): "ترانا نفكر، ولكن ما هو الفكر؟ لا يستطيع أحدنا أن يجيب على هذا السؤال، وترانا نمشي ولكن ما هو العمل العضلي؟ لا يعرف أحدنا ذلك، بل كيف ينقل العصب البصري الصور الخارجية إلى الفكر؟ وقل لى: كيف يدرك هذا الفكر وأين مستقرة؟ وما هى طبيعة العمل المخي؟ أستطيع أن أسأل عشر سنين، ولا تستطيع أكبر رأس فيكم -يقصد العلماء الكونيين- أن يجيب على أحقر أسئلتي".
6- وقال الفيلسوف "أندريه كريسون" فى كتابه (قواعد الفلسفة): "العلم لا يعطينا عن الوجود فى مجموعه إلا معارف مبهمة للغاية؛ فإننا لا نعلم البدء الحقيقي للنجوم ولا للكواكب التى تحيط بالشموس البعيدة فإبداء فرض، والحالة هذه على تركيب مجموع الكون لا يمكن أن يكون إلا تحكمًا".
تلك صورة مصغرة فى الحقيقة عن اعتراف علماء الكون بجهالتهم بنواميس الكون، نسوقها تذكرة لإخواننا الذين افتتنوا بهذه البحوث وأرادوا أن يتخلصوا من سلطان العقيدة الدينية استنادًا إليها؛ بل أزيدهم فى ذلك أن الفيلسوف الإنجليزي "هربرت سبنسر" كان من حججه القوية فى المطالبة بالعناية بالعلوم الطبيعية أن معرفتها مما يقوى الإيمان ويؤدى إلى معرفة الله؛ فإن ما فى الموجودات من جمال التناسق والإبداع ودقة الصنع والاختراع يثير فى النفس الإنسانية فطرة الإيمان العميق فتعترف راضية مطمئنة بعظمة الخالق العظيم، ويزيدها تسليمًا وتفويضًا عجز العقل البشرى عن تخطى الحدود العرفانية المقررة لله، وضرب لذلك عدة أمثلة فى غاية الروعة فلتراجع فى رسالته فى التربية.
ومن ذلك نعلم أن الإنسان لا زالت أمامه مراحل واسعة لإدراك حقائق الظواهر الكونية، فإذا عجزنا الآن عن إدراك ملكوت السماوات وعن تعرف عجائب الأرض، وعن اكتناه سر الحياة -إذ أن القرآن الكريم لم يكشف لنا من ذلك إلا ما نحتاجه للعظة والعبرة، والعقل البشرى لم يصل فى كشفه إلا إلى بعض الجوانب دون بعض- إذا عجزنا الآن فليس ذلك بنقص ولا بعيب، ولسنا ملزمين أبدًا بإدراك كل الحقائق، فلنقنع مؤقتًا بما وصلنا إليه، ولنعمل بجد لإدراك ما خفى عنا أمره، ولكل مجتهد نصيب }وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69].
} اللهُ الَّذِى رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا [الرعد: 2].
تقدم فى سورة الأعراف فى الجزء الثامن من تفسير المنار كلام مطول نفيس عن السماوات والأرضين، وعن الأيام الستة التى خلقت فيها، وعن المطابقة بين الوارد فى القرآن والمعروف من نظريات علماء الفلك، وفى الرد على كثير من الأقاصيص حول هذه الموضوعات فليراجع هناك، وخلاصته ما يأتى:
1- أن السماوات والأرض يطلقان فى مثل آية الأعراف على كل موجود مخلوق، أو ما يعبر عنه بالعالم العلوي والعالم السفلى، وإن كان العلو والسفل فيهما من الأمور الإضافية. وقد تطلق السماوات على ما دون السفلى من العالم العلوي، ولا سيما إذا وصفت بالسبع، وهذا المعنى هو الموافق فى آية الرعد.
2- أن الأيام الستة التى وردت فى خلق السماوات والأرض هى من أيام الله التى يتجدد اليوم منها بالعمل الذى يكون فيه، فالمراد بها إذن -والله أعلم- التطورات التى اعتورت خلق السماوات والأرض من الدخان إلى المائية إلى اليبوسة إلى خلق الأحياء والتعمير بالنسبة للأرض، فهذه أربعة أيام، ثم إلى تكوين الأجرام السماوية فى زمنين آخرين؛ فليست هى كأيام الدنيا، وما جاء من الآثار فى ذلك فهو إسرائيلي أو ضعيف، وأصح ما ورد فيه حديث أبى هريرة فى ذلك، وفى سنده حجاج بن محمد الأعور وهو قد تغير فى آخر عمره، وثبت أنه حدَّثَ بعد اختلاط عقله.
3- أن تكلف التوفيق بين ما ورد فى ذكر السماوات السبع وبين الأفلاك التسع المعروفة فى الهيئة الفلكية عند اليونان مردود ببطلان هذه النظريات، ولا حاجة إلى الخوض فيه.
هذه خلاصة ما تقدم فى سورة الأعراف، ونزيد عليه هنا ما انفردت به هذه الآية وهو:
النص على أن رفع السماء بغير عمد إظهارًا لكمال قدرة الله -سبحانه وتعالى- وعظيم سلطانه؛ فهذه السماوات كلها وما فيها من الأجرام والكواكب والخلائق مرفوعة بإذنه وإمساكه من غير أن تستند على شىء؛ بل بذلك الناموس العجيب الذي أودعه طبيعتها، وجعله لازمًا لتكوينها فاستغنت به عن أن تعتمد على ما سواه، وسواء أسمينا هذا الناموس الجاذبية أو نسبية أو إمساكًا إلهيًّا وقدرة ربانية فلا تغير هذه الأسماء من حقيقة الأمر شيئًا.
} إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [فاطر: 41].
وقد نقل بعض المفسرين عن بعض السلف أن للسماء عمدًا ولكن لا ترى أو أنها مرتكزة على الأرض كما يشاهد فى الأفق، وكل ذلك غير صحيح وقد نفاه شيخ المفسرين ابن جرير فقال فى ذلك: "وأولى الأقوال فى ذلك بالصحة أن يقال كما قال الله -سبحانه وتعالى-: }اللهُ الَّذِى رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا [الرعد: 2] فهي مرفوعة بغير عمد نراها كما قال ربنا -جل ثناؤه- ولا خبر بغير ذلك ولا حجة يجب التسليم لها بقول سواه". بل إنه قد ورد فى شعر الجاهلية ما يفيد الاستدلال على قدرة الله وعجيب صنعه برفع السماء بغير عمد؛ قال أمية بن أبى الصلت، ويرونها لزيد بن نفيل رضى الله عنه:
إلى الله أهدى مدحتي وثنائيا
وقولا رضيًّا لا يني الدهر باقيا
إلى الملك الأعلى الذي ليس فوقه
إله ولا رب يكون مدانيا
ألا أيها الإنسان إياك والردى
فإنك لا تخفى من الله خافيا
وإياك لا تجعل مع الله غيره
فإن سبيل الرشد أصبح باديا
رضيت بك اللهم ربًّا فلن أرى
أدين إلها غيرك الله ثانيا
وأنت الذي منْ فضل مَنٍّ ورحمة
بعثت إلى موسى رسولا مناديا
فقلت له: فاذهب وهارون فادعوا
إلى الله فرعون الذي كان طاغيا
وقولا له: هل أنت سويت هذه
بلا وتد حتى استقلت كما هيا؟
وقولا له: أأنت رفعت هذه
بلا عمد أو فوق ذلك بانيا؟
وقولا له: هل أنت سويت وسطها
منيرًا إذا ما جَنَّك الليل هاديا؟
وقولا له: من يرسل الشمس غدوة
فيصبح ما مست من الأرض ضاحيا؟
وقولا له: من أنبت الحَبَّ فى الثرى
فيصبح منه العشب يهتز رابيا؟
ويخرج منه حبة فى رؤوسه
ففي ذاك آيات لمن كان واعيا
فرب العباد ألقِ سيبا ورحمة
علىَّ وبارك فى بنىّ وماليا
وما ورد فى تحديد مادة السماوات وتقدير الأبعاد بينها وبين الأرض أو بينها وبين عوالم الملأ الأعلى لا يصح، فضلاً عن أنه غامض مبهم.
} ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الرعد: 2].
قال صاحب المنار -رحمه الله- فى مثل هذه الآية من سورة الأعراف بعد كلام فى المعنى اللغوي للاستواء والعرش، وإيراد للآيات التى ذكر فيها ذلك ما نصه: "لم يشتبه أحد من الصحابة فى معنى استواء الرب -تعالى- على العرش على علمهم بتنزهه سبحانه عن صفات البشر وغيرهم من الخلق؛ إذ كانوا يفهمون أن استواءه -تعالى- على عرشه عبارة عن استقامة أمر ملك السماوات والأرض له وانفراده هو بتدبيره، وأن الإيمان بذلك لا يتوقف على معرفة كنه ذلك التدبير وصفته، وكيف يكون؛ بل لا يتوقف على وجود عرش، ولكنه ورد فى الكتاب والسنة أن لله عرشًا خلقه قبل خلق السماوات والأرض، وأن له حملة من الملائكة فهو -كما تدل اللغة- مركز تدبير العالم كله؛ قال تعالى فى سورة هود: }وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [هود: 7] ولكن عقيدة التنزيه القطعية الثابتة بالنقل والعقل كانت مانعة لكل منهم أن يتوهم أن فى التعبير بالاستواء على العرش شبهة تشبيه للخالق بالمخلوق، كيف وإن بعض القرائن الضعيفة لفظية أو معنوية تمنع فى لغتهم حمل اللفظ على معناه البشرى، فكيف إذا كان لا يعقل، وكيف والاستواء على الشيء يستعمل فى البشر استعمالاً مجازيًّا وكفائي كما تقدم؟ والقاعدة التى كانوا عليها فى كل ما أسنده الرب -تعالى- إلى نفسه من الصفات والأفعال التى وردت اللغة فى استعمالها فى الخلق أن يؤمنوا بما تدل عليه من معنى الكمال والتصرف مع التنزيه عن تشبيه الرب بخلقه، فيقولون: إن اتصف بالرحمة والمحبة واستوى على عرشه بالمعنى الذى يليق به لا بمعنى الانفعال الحادث الذى تجده للرحمة والحب فى أنفسنا، ولا ما نعهده بالاستواء والتدبير من ملوكنا، وحسبنا أن نستفيد من وصفه بهاتين الصفتين أثرهما فى خلقه، وأن نطلب رحمته ونعمل ما يكسبنا محبته، وما يترتب عليهما من مثوبته وإحسانه.
ونستفيد من الاستواء على عرشه كون الملك والتدبير له وحده، فلا نعبد غيره، ولذلك قرنه فى آخر آية يونس بقوله: }مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ [يونس: 3] وفى سورة الم السجدة: }اللهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ [السجدة: 4].
ونقول: لك أن تقول هذا فتلاحظ فى معنى الاستواء الوارد فى الآيات القرائن والملابسات وذكر الخلق والتدبير والتصريف ونفى الشفعاء فى معظم الآيات التى ورد فيها الاستواء، ولم يجئ ذلك عبثًا؛ وإنما جاء لرابطة بين المعاني الواردة فى الآية، فتعتقد أن المراد بالاستواء على العرش مطلق التدبير والتصرف، وتصرفه صرفًا تاما عن معناه الذي يوهم التشبيه كما جاء فى هذا القول المتقدم. ولك أن تتوقف مبالغة فى التورع، فتقول: نَمره كما جاء من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل، ولكل من الموقفين موضعه؛ فأنت إذا خفت على نفسك أو غيرك شبهة التشبيه فأمامك المعنى الأول يثلج الصدر ويطمئن القلب، ولا يتنافى مع ظاهر اللغة، ولا يقدح فى جلال الصفة، وإن كنت رجلاً رضىَّ النفس مطمئن القلب بالإيمان، مستريح البال بالتفويض والتسليم، تخشى أن الكلام فى هذه المعاني يفتح عليك وعلى غيرك أبوابًا من الفتنة المغلقة فقل: آمنت بما جاء عن الله، على مراد الله والله أعلم بمراده، واستفت قلبك وإن أفتوك وإن أفتوك وإن أفتوك، والله أعلم.
} وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لأجَلٍ مُّسَمًّى (الرعد: 2].
وقد يكون المراد بالجريان ما يرى من حركتهما الظاهرة التى تلازم ناموس الاتصال بينهما وبين الأرض وبقية الكواكب حتى تقوم الساعة، فيبطل ذلك النظام، ويختل ذلك الناموس، وتبدل الأرض غير الأرض والسماوات. وقد يكون المراد جريانهما الحقيقي، وقد ثبت أن لكل الأجرام حركات حول نفسها، ولكثير منها حركات حول غيرها. وللشمس حركة حول نفسها، ولها هى ومجموعتها الكوكبية حركة انتقالية فى السماء؛ بحيث إن دوران الأرض حول الشمس ليس فى خط منحنٍ مقفل؛ بل فى خط حلزوني مفتوح دائمًا، يجعلها لا تمر من نقطة واحدة دفعتين منذ دارت إلى الآن وهذا عجيب حقا.
وإلى أين تسير الشمس فى السماء؟ لا يجيبك أحد الفلكيين، ولكن القرآن الكريم يقول: }لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا [يس: 38] وأين هذا المستقر؟ ذلك ما يعلمه الله ولم يصل إليه العلم التجريبي بعد، وكلا المعنيين صحيح؛ الأول معنى نظري والثاني معنى علمي، وهو أسلوب القرآن المعجز الذي ذكرت لك آنفًا، وإنما خصت الشمس والقمر بالذكر لصلتهما الواضحة بالأرض وما عليها، وإلا فالتسخير والتصريف والقهر يتناول كل الأجرام السماوية بل كل العوالم، وقد صرح القرآن بذلك فى كثير من الآيات؛ كقوله تعالى: }وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 54].
} يُدَبِّرُ الأمْرَ يُفَصِّلُ الآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ [الرعد: 2].
هذا النظام المعجز والخلق البديع والتكوين الكامل والتصريف العجيب هو تدبير الله وصنعه وكذلك يدبر الله أمر الخلق، ويفصل لهم الآيات الكونية والقولية؛ لعل ذلك يكشف عن قلوبهم حجب الغفلة، ويزيل غشاوة الشك والريب، فإذا أدركوا بعض مظاهر هذه العظمة الربانية اعتقدوا وأيقنوا أن هذا الخالق قادر على إعادتهم، وأنهم سيلقونه فيحاسبهم على ما قدموا من الأعمال فى حياتهم الدنيا.
واليقين صفة من صفات العلم، ومرتبة من أعلى مراتب الإيمان وهو فوق المعرفة والدراية؛ وهو سكون القلب واطمئنانه مع ثبوت الحكم فى النفس واستقراره، وزوال كل عوارض الشك والريب، والله أعلم(2).
} وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِى اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَفِى الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وغَيْرُ صِنْوَانٍ يُّسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِى الأُكُلِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرعد: 3-4].
افتتحت السورة الكريمة بتقديم القرآن للناس على أنه الكتاب الحق المنزَّل من عند الله -تبارك وتعالى- وإن صرفت الصواف كثيرًا منهم عن الإيمان به والاهتداء بهديه، ثم عرضت لما فى هذا القرآن الكريم من أمهات العقائد الكفيلة بالنجاة والفوز فى الآخرة، ولا شك أن أول هذه العقائد "معرفة الله تبارك وتعالى". ولما كانت الوسيلة إلى معرفة الله -تبارك وتعالى- والإيمان العميق بعظمته وقدرته وجليل صفاته النظر فى ملكوته والتأمل فى عجائب صنعه وبدائع مخلوقاته عرضت السورة الكريمة لهذه المظاهر الكونية مشيرة بها إلى عظمة الخالق المدبر تبارك وتعالى، وبدأت بخلق السماوات وما فيها من عجائب تسخير الشمس والقمر وجريانهما إلى أجل مسمى، فذلك قوله -تبارك وتعالى-: }اللهُ الَّذِى رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لأجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأمْرَ يُفَصِّلُ الآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ [الرعد: 2].
ثم لفتت السورة أنظار العباد بعد ذلك إلى خلق الأرض وما فيها من عجائب الصنع ودقائق الإبداع، فذلك قوله تبارك وتعالى: }وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنْهَارًا ... [الرعد: 3].
توجيه المعنى حسب القراءات المختلفة:
قرأ حمزة والنسائي ويعقوب وأبو بكر عن عاصم }يُغَشِّي بفتح الغين وتشديد الشين، وقرأ الباقون }يُغْشِى بالتخفيف، وقرأ الجمهور }وَجَنَّاتٌ برفعها على تقدير: وفى الأرض جناتٌ؛ فهو معطوف على "قطع متجاورات" أو على تقدير "وفيها جنات". وقرأ الحسن بالنصب، وجنات على تقدير: وجعل فيها جنات. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص }وزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وغَيْرُ صِنْوَانٍ برفع الأربع عطفًا على جنات، وقرأ الباقون بالجر عطفًا على }أَعْنَابٍ، وقرأ مجاهد والسلمي بضم الصاد من صنوان، وقرأ الباقون بالكسر، وهما لغتان.
قال أبو عبيدة: صنوان: جمع صنو، وهو أن يكون الأصل واحدًا ويتفرع فيصير نخيلاً ثم يحمل، وهو قول جميع أهل اللغة والتفسير. وقال ابن الأعرابي: الصنو: المثل، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "عم الرجل صنو أبيه". والمعنى على ذلك أن أشجار النخيل قد تكون متماثلة وقد تكون غير متماثلة.
وأخرج الغربانى وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنضر وابن أبى حاتم وأبو الفتح وابن مردويه عن البراء بن عازب فى قوله: }صِنْوَانٌ وغَيْرُ صِنْوَانٍ قال: الصنوان ما كان أصله واحدًا، وهو متفرق، وغير صنوان التى تنبت وحدها. وقرأ عاصم وابن عامر قوله تعالى: }يُّسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ بالتحتية، أو يسقى ذلك كله بماء واحد. وقرأ الباقون بالفوقية؛ بإرجاع الضمير إلى جنات، واختاره أبو حاتم وأبو عبيد وأبو عمرو. وقرأ حمزة والكسائي قوله تعالى: }وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِى الأُكُلِ بالتحتية؛ كما فى قوله تعالى: }يُدَبِّرُ الأمْرَ يُفَصِّلُ الآَيَاتِ، وقرأ الباقون بالنون، على تقدير: ونحن نفصل. وفى الآيتين بعد ذلك مباحث عدة نجملها فيما يلي:
} وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الأَرْضَ [الرعد: 3].
ورد التعبير عن خلق الأرض فى القرآن الكريم بألفاظ كثيرة، منها المد المذكور هنا، ومنها الفرش فى قوله تعالى: }يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً [البقرة:21-22]، وقوله تعالى: }وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ [الذاريات: 48]، ومنها البسط فى قوله تعالى فى سورة نوح: }وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجًا [نوح: 19-20]، ومنها الدحو أو الدحي فى قوله تعالى فى سورة النازعات: }وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا [النازعات: 30-31].
والمراد من ذلك كله: خلقها وسواها وجعلها ممهدة لمعايش الخلق ومصالحهم؛ كما قال تبارك وتعالى فى سورة الحجر: }وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَىْءٍ مَّوْزُونٍ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ [الحجر: 19-20]، وفى هذا التنويع فى التعبير إشارة إلى تصرف القرآن فى أساليب البلاغة اللفظية، وبلوغه من ذلك المبلغ الذى لا يسامى، وفيه كذلك فائدة معنوية؛ وهى الإشارة بهذه التعبيرات المختلفة إلى فوائد الأرض ومنافعها للناس؛ ففي المد إشارة إلى السعة والامتداد لمن شاء الغدو والرواح والتقلب فى مناكبها والاضطراب فى مذاهبها، وفى البسط إشارة إلى السعة والتذليل لمن شاء اجتناء منافعها وتحصيل خيراتها، وفى الفرش إشارة إلى الراحة والإيواء والاستقرار على ظهرها لمن شاء أن يتذكر نعمة الله فى ذلك فيقوم بشكرها، وفى الدحو إشارة إلى عجائب صنع الله -تبارك وتعالى- فى خلقها وتسويتها، وهكذا.
ولا تنافى بين ما جاء فى القرآن الكريم من التعبير بهذه الألفاظ وما يقوله علماء الفلك من كروية الأرض، فإن كل جزء من أجزاء سطح الأرض يبدو فى رأى العين ممتدًا مبسوطًا، وحقيقة وضعه تكاد تكون كذلك؛ إذ لا يتوفر فيها معنى التكوير والتقوس لسعة المحيط. والقرآن لا يريد تنبيه الناس على المعنى العلمي البحت فى شأن الأرض، ولكنه يريد تنبيههم إلى الاعتبار والتفكر فيما يقع تحت حواسهم منها، وهذا الذي يقع تحت حواسهم منها هو ما يستخدمونه فعلاً ويعيشون عليه فعلا، وهذا الجزء لا مظهر فيه ولا حقيقة ولا حسًّا لمعنى التقوس الذي لا يكاد يدرك، فلهذا أثر التعبير بالمد والبسط والفرش ونحوها.
قال الشوكاني: }وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الأَرْضَ [الرعد: 3] قال الفراء: بسطها طولاً وعرضًا. وقال الأصم: إن المد هو البسط إلى ما لا يدرك منتهاه، وهذا المد الظاهر لا ينافي كرويتها فى نفسها لتباعد أطرافها. وفى الجزء الأول من تفسير المنار عند قوله تبارك وتعالى: }هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ (البقرة: 29] استطرادًا إلى معنى الدحو، "الدحو" فى أصل اللغة دحرجة الأشياء القابلة للدحرجة؛ كالجوز واللوز والكرى والحصا ورميها، ويسمون المطر الداحى لأنه يدحو الحصا وكذا اللاعب بالجوز، وفى حديث أبى رافع: "كنت ألاعب الحسن والحسين رضوان الله عليهما بالمداحى -وهى أحجار أمثال القرصة- كانوا يحفرون ويدحون فيها بتلك الأحجار، فإن وقع الحجر فيها غلب صاحبها وإلا غُلب". ذكره فى اللسان، وقال بعده: والدحو وهو ورمى اللاعب بالحجر والجوز وغيره.. إلى أن قال: وهذا لا ينافي ما قيل من أن معناه بسطها -أى وسعها- ومد فيها، وأنه سطحها؛ أى جعل لها سطحًا واسعًا يعيش عليه الناس وغيرهم، فمن جعل مسألة كرويتها وسطحها أمرين متعارضين، يقول بكل منها قوم يطعنون فى الآخرين، فقد ضيقوا من اللغة والدين واسعًا بقلة البضاعة فيهما "معًا" والله أعلم.
} وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنْهَارًا [الرعد: 3].
الرواسي: الجبال الثوابت، وهي جمع راسية، والإرساء الثبوت، قال جميل:
أحبها والذي أرسى قواعده
حتى إذا ظهرت آياته بطنا
وأنشدوا من قول زيد بن عمرو بن نفيل:
وأسلمت وجهي لمن أسلمت
له الأرض تحمل صخرًا ثقالا
دحاها فلما استوت شدها
بأيد وأرسى عليها الجبالا
والأنهار مجاري الماء العذب على وجه الأرض، وقد ورد ذكر الجبال والأنهار فى كثير من آيات القرآن الكريم، وقلما يرد ذكر الجبال خاليًا من وصفها بالإرساء، ومن بيان أن حكمة ذلك الإرساء التثبيت للأرض حتى لا تميد بمن عليها، مع مقارنة ذكر الأنهار فى أغلب الآيات.
ففي سورة الأنبياء: }وَجَعَلْنَا فِى الأَرْضِ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ [الأنبياء: 31] وفى سورة النحل: }وَأَلْقَى فِى الأَرْضِ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [النحل: 15]، وفى سورة فاطر: }أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ [فاطر:27].
ووجه الارتباط بين الجبال والأنهار ملحوظ معروف؛ فإن الجبال هى سبب حدوث الأنهار؛ لأن الماء حين يسقط من السحب على رؤوس الجبال ينحدر إلى سطح الأرض، فيخدها بقوة الانحدار ويحدث فيها بمرور الزمن مجرى يكوِّن نهرًا عظيمًا، وقلما نجد نهرًا لا يبدأ فى منبعه بجبل أو بمجموعة من الجبال. ولم يعرض القرآن الكريم للكيفية التفصيلية فى حدوث الجبال وتركيبها وتعداد فوائدها ومنافعها، وترك ذلك إلى النظر العقلي والبحث العلمي، وإنما أشار إلى دقة الصنع وعظيم الإبداع ليكون فى ذلك عظة للناظرين وعبرة للمعتبرين.
} وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [الرعد: 3].
الزوج يطلق على الاثنين وعلى الواحد المزاوج للآخر، والمراد هنا بالزوج الصنف الواحد، ولهذا أكد بالاثنين لدفع توهم أنه أريد بالزوج هنا الاثنين. ذهب كثير من المفسرين إلى أن المقصود من ذلك أن الله -جل جلاله- جعل كل نوع من أنواع ثمرات الدنيا صنفين إما فى اللونية كالبياض والسواد ونحوهما أو فى الطعمية كالحلو والحامض ونحوهما، أو فى القدر كالصغر والكبر، أو فى الكيفية كالحر والبرد. وقال الفراء: إن المراد بالزوجين الذكر والأنثى. وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد فى قوله: }وَجَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [الرعد: 3] قال: ذكرًا وأنثى من كل صنف.
وأنت إذا عرفت ما قرره النباتيون من أن الاتحاد فى كل أصناف النبات لا يكون إلا بعد "الإخصاب" الذي يكون بعد التلقيح، وأن الأزهار النباتية منها ما هو ذكر ومنها ما هو أنثى ومنها ما هو مزدوج؛ ففيه أعضاء الذكورة والأنوثة معًا. علمت مبلغ الإعجاز فى هذه الآية الكريمة، وأنها تشير إلى قانون نباتي لم يكتشف إلا فى الأعصار الحديثة، ورجحت بهذا ما ذهب إليه الفراء ومجاهد من أن المراد بالزوجين الذكر والأنثى.
ولا يرد على هذا أن بعض الثمار ينمو من غير تلقيح كالدرنات؛ مثل نبات البطاطس ونحوها، فإن هذه ليست ثمارًا حقيقية، ولكنها امتدادات أو جذور من جسم النبات الأصلي تنمو بقوة التوالد الخضري.
} يُغْشِى اللَّيْلَ النَّهَارَ [الرعد: 3].
تقدم الكلام على ذلك فى سورة الأعراف عن قوله تعالى: }إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِى اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا [الأعراف: 54] وملخص ما قيل هناك: إن معنى التغشية أو الغشاء التغطية، وفى قراءة التشديد المبالغة والكثرة، والمعنى أن الله قد جعل الليل -الذى هو الظلمة- يغشى النهار وهو ضوء الشمس على الأرض؛ أى ينبعه ويغلب على المكان الذى كان فيه ويستره، وأن مسألة الليل والنهار صارت معلومة بالقطع فى كل قطر، ومخاطبة أهله بالتلغراف للتأكد من صحة الوقت الحسابي عندهم، وأن المحققين من علماء المسلمين فى المعقول والمنقول -كالغزالي والرازي وابن تيمية وابن القيم- قد اتفقوا على كروية الأرض، وظواهر النصوص أدل على هذه الكروية، وأن هؤلاء المحققين قد حكوا القول بدوران الأرض على مركزها، وأوردوا عليه نظريات تشكك فى كونه قطعيًّا ولا تنقصه كما فى المواقف والمقاصد وغيرها، والنصوص لا تمنع مما يقول به علماء الهيئة من هذا الدوران.
ونزيد هنا أن الامتنان بعجائب الليل والنهار وما فى تعاقبهما من الفوائد والمنافع جاء فى كثير من آيات القرآن الكريم فى كثير من المواضع وبأساليب متنوعة ففي سورة الإسراء }وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَىْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً [الإسراء: 12]، وفى سورة الفرقان: }وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَّذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان: 62].
وفى سورة القصص: }قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ * وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [القصص: 71-73]، وفى سورة يس: }وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ [يس: 37] إلى كثير من هذا المعنى فى كتاب الله، وهو فى ذلك كله إما أن يلفت الأنظار إلى سلخ النهار من الليل أو إلى غشيان الليل النهار أو إلى تعاقبهما وتخالفهما، وفى التعبير بالتغشية والسلخ والتخالف إشارة إلى الاتصال التام بين وقتي الليل والنهار، والتدرج فى تعقب أحدهما الآخر فكل جزء من سطح الأرض يخلو من أحدهما يعقبه فيه الثاني توًّا، وهكذا دواليك، وهو يوافق ما يقرره الفلكيون فى هذه الأعصار.
} إِنَّ فِى ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الرعد: 3].
إن فيما ذكر من مد الأرض وما يتصل بها من عوالم الجبال والأنهار وغرائب النبات والأفلاك لدلائل واضحة على قدرة الصانع الحكيم لمن أراد أن يعمل فيها فكره ويوجه إليها أشعة بصيرته، وهذه الآيات تظهر لكل أحد على قدر علمه وفهمه وجودة فكره وصفاء ذهنه وصدق توجهه، فأما علماء الهيئة والنبات وغيرهم من الباحثين فى علوم الكون فهم يعرفون من نظامها ما يدهش العقل، وأما سائر الناس فحسبهم هذه المناظر البديعة والأجرام الرفيعة والعوالم العجيبة، وما فيها من الحسن والروعة والجمال.
} وَفِى الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ [الرعد: 4].
من دقائق البلاغة فى تركيب هذه الآية الكريمة أن تقرأ هذه الجملة منها منفصلة عما سواها فتفهم أن المراد بذلك لفت النظر إلى التأمل فى طبيعة الأرض وأسرار تكوينها؛ ففيها قطع متجاورات، ولكنها تختلف فى العناصر وتتنوع فى الطبائع وتتباين فى المواد والصفات باختلاف بعض العوارض الطبيعية؛ فترى فى الأرض قطعة خصبة يانعة لما يجرى فيها من أنهار وما ينبع منها من ماء، وبجوارها صحراء قاحلة قد حرمت هذه المزايا وعطلت من تلك الخواص، وترى قطعة من الأرض معتدلة العناصر صالحة للزرع وإلى جواره سبخة مالحة لا تمسك ماء ولا تنبت زرعًا، وترى سهلاً فسيحًا منبسطًا يمتد فى سفح جبل عالي الذرا شامخ القمة، وفى كل ذلك فوائده ومنافعه للناس. هذه المعاني الكثيرة تتوارد إلى ذهنك إذا قرأت هذه الجملة منفصلة عما بعدها من بقية الآية الكريمة، فإذا وصلتها بهذه البقية تبادر إلى ذهنك معنى آخر؛ هو أن المراد الاعتبار والتفكر فى اختلاف ألوان النبات وصنوفه مع أن الأرض التى يزرع فيها متجاورة متحدة الخواص، والماء الذي يسقى به كذلك، ولكنه هو ينبت مختلفًا فى شكله فهو صنوان وغير صنوان، وفى طعمه فبعضه يفضل بعضًا فى الأكل.
} وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وزَرْعٌ وَنَخِيلٌ [الرعد: 4].
وفى الأرض كذلك جنات وحدائق وبساتين فيها الأعناب ونحوها من النباتات المتسلقة، وفيها الزروع ونحوها من النباتات الحشيشية السابقة، وفيها كذلك النخيل ونحوه من الأشجار العظيمة الكثيرة الأغصان والأوراق.
} صِنْوَانٌ وغَيْرُ صِنْوَانٍ [الرعد: 4].
متشابهة وغير متشابهة أو مفردة الساق ومزدوجة؛ كما قال تبارك وتعالى: }وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ [الأنعام: 141].
} يُّسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِى الأُكُلِ [الرعد: 4].
هذه الجنات والأعناب والزروع والنخيل تسقى بماء واحد وتزرع فى قطع متجاورة من الأرض، ثم تختلف بعضها عن بعض فى الطعم؛ فمنها الحلو ومنها الحامض، ومنها المز، ومنها المر.
أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عباس قال: (هذا حامض وهذا حلو، وهذا دقل وهذا فارسي) بل إن الصنف الواحد من النبات قد يزرع فى الأرض المتجاورة ويسقى بالماء الواحد، ثم يختلف طعم بعض ثمراته عن بعض. ويقول علماء النبات: إن ذلك الاختلاف يرجع إلى طبيعة الجنين المستقر فى البذور، وما ينجم عنه من جذور تمتد فى باطن الأرض، ثم تمتص منها ما يناسب هذا الجنين ويوافق أطوار حياته حتى ينمو ويصير شجرة كاملة تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها، فما يمتصه جنين الفول من أجزاء الأرض غير ما يمتصه جنين القمح من هذه الأجزاء ولو فى نسب العناصر المختلفة، وما يمتصه العنب غير ما يمتصه الخوخ والتفاح، وهكذا.. فسبحان من أعطى كل شىء خلقه ثم هدى.
} إِنَّ فِى ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرعد: 4].
إن فى هذه العجائب جميعًا لدلائل على قدرة الخالق وعظمته لقوم يستخدمون عقولهم فى إدراك الحقائق وتعرفها. ومن دقائق البلاغة فى الآيات الكريمة الإشارة إلى مراتب الاعتقاد فى تدرج وتلطف؛ فإن النظر فى عوالم السماوات والعرش والشمس والقمر -كما هو فى الآية الثانية من السورة- يؤدى إلى اطمئنان القلب وحسن اليقين، ولذلك ختمها بقوله: }لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ [الرعد: 2] والتأمل فى عوالم الأرض ومداها وما فيها من جبال وأنهار وصلتها بغيرها من العوالم تلك الصلة التى تظهر فى تعاقب الليل والنهار يؤدى إلى يقظة الفكر وجودة النظر، ولذلك ختمها بقوله: }إِنَّ فِى ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الرعد:3].
والبحث فى عوالم النبات وعجائب حياته بعد حياة القلب باليقين وصحة الفكرة يؤدى إلى كمال العقل وتمام المعرفة، ولذلك كان ختام الآيات }إِنَّ فِى ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرعد: 4] فاليقين شعور يلتئم مع الفكرة فينتج العقل الكامل }وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا [النساء: 87].
الحث على تعلم هذه العلوم:
ولعل من نافلة القول أن تذكر أن ورود هذه الآيات بهذا الأسلوب فى القرآن أكبر دافع للمسلمين إلى أن يدرسوا هذه العلوم، ويستبحروا فى دراستها، ويأخذوا منها بالنصيب الأوفر؛ فهي وسيلتهم إلى معرفة الله -تبارك وتعالى- وقد اعتبر الإسلام التفكر فى هذه المصنوعات الربانية والتبحر فى دراسة أسرار الكون عبادة لا تعدلها عبادة، وهم بذلك يستطيعون أن يدفعوا عن دينهم شبهات بعض الذين عرفوا قشورًا من هذه المعارف، ثم راحوا يهاجمون بها العقائد مخادعين بأن العلم يناقض الدين، وهو كلام كاذب لا حجة عليه؛ بل إن معرفة الكون هى الوسيلة الصحيحة لمعرفة الله فى نظر الإسلام. ومن كلام الفيلسوف الإنجليزي "هربرت سبنسر" فى هذا المعنى فى (رسالة التربية): "العلم يناقض الخرافات ولكن لا يناقض الدين نفسه. يوجد فى شىء كثير من العلم الطبيعي الشائع روح الزندقة، ولكن العلم الصحيح الذي فات المعلومات الصحية ورسب فى أعماق الحقائق براء من هذه الروح. العلم الطبيعي لا ينافي الدين، ولكن الذي ينافي الدين هو ترك هذا العلم. التوجه للعلم الطبيعي عبادة صامتة، واعتراف صامت بنفاسة الأشياء التى تعاين وتدرس ثم بقدرة خالقها، فليس ذلك التوجيه تسبيحًا شفهيًّا، بل هو تسبيح عملي، وليس باحترام مدَّعى إنما هو احترام أثمرته تضحية الوقت والتفكير والعمل، وهذا العلم لا يسلك طريق الاستبداد فى تفهيم الإنسان استحالة إدراك "ذات الله"، ولكنه ينهج بنا النهج الأوضح فى تفهيمنا هذه الاستحالة بإبلاغنا جميع أنحاء تلك الحدود التى لا يستطاع اجتيازها، ثم يقف بنا فى رفق وهوادة عند هذه النهاية وهو بعد ذلك يرينا بكيفية لا تعادل صغر العقل الإنساني إزاء ذلك الذى يفوت العقل". أ هـ.
الإنسان والطبيعة:
إن القرآن بهذا الأسلوب البديع الفريد قد ربط بين القلب المؤمن والعقل المفكر، وآخى بذلك بين الدين والعلم، ووفق بين الإنسان والطبيعة؛ بين الفرد وبيئته، وهذا أقصى ما وصل إليه الاجتماعيون والمربون من سمو الغاية ونبل المقصد؛ قد سبقهم به الإسلام بعدد عظيم من الأجيال. يتبرم كثير من الشبان العصريين بالطقوس والترانيم التى جعلتها الكنيسة لب العبادة وعماد المناجاة، ويرى هذا الفريق من الشبان أن هذا الوجود هو أقدس سفر يتلو فيه الإنسان آيات عظمة الله -تبارك وتعالى- وهم لذلك يرددون آثار "شوبنهور" و"جوته" و"بيرون" و"لامرتين"، وغيرهم من شعراء الغرب الذين تناولوا الكون بالوصف الرائع البديع. هذا الفريق من الشباب لو قرءوا القرآن الكريم ودرسوا الدين الإسلامي الحنيف لوجدوا فيه فوق ما يتصورون من تغذية العقول والأرواح بالتأمل فى خلق الله -تبارك وتعالى- والتفكر فى كونه ومخلوقاته، ولوجدوا فى ذلك حياة أرواحهم وسعادة أنفسهم، فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيى الأرض بعد موتها، إن ذلك لمحيى الموتى وهو على كل شىء قدير(3).
} وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأغْلاَلُ فِى أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ [الرعد: 5].
بعد ذكر العقيدة الأولى -وهي عقيدة التوحيد- ومعرفة الصانع -جل وعلا- وإفاضة العقول فيها، وذكر الدلائل الكونية لذوي اليقين والفكر والتعقل على وجود البارئ سبحانه، تناولت الآيات العقيدة الثابتة من أصول العقائد، وهي عقيدة المعاد والبعث بعد الموت؛ فذكرت الآية أن هؤلاء الذين أرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغربون هذه الإعادة بعد التحلل، ويرونها أمرًا عجبًا، مع أن العجيب حقًّا هو اعتقادهم هذا مع وضوح الدلائل عليه ونهوض البراهين المثبتة له فقال تعالى:
} وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ [الرعد: 5].
أخرج ابن أبى حاتم وأبو الشيخ عن الحسن فى قوله تعالى: }وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ قال: إن تعجب يا محمد عن تكذيبهم إياك فعجب قولهم. وأخرج ابن جرير وابن أبى حاتم وأبو الشيخ عن أبى زيد فى الآية قال: إن تعجب يا محمد من تكذيبهم وهم رأوا من قدرة الله وأمره وما ضرب لهم من الأمثال وأراهم من حياة الموتى والأرض الميتة }فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ أولا يرون أنه خلقهم من نطفة، فالخلق من نطفة أشد من الخلق من تراب وعظام.
ولك أن تقول: وإن يكن شىء يستحق العجب فهو هذا القول منهم بعد وضوح الدلائل والبراهين على قدرة الله -تبارك وتعالى- لهم، وتكرير الاستفهام فى قوله أئذا كنا، وأئذا فيه إشعار بشدة استغرابهم لهذا المعاد واستبعادهم إياه، وهذا مما يضاعف العجب من جمودهم هذا. وفى التعبير بالتراب بدلا من الموت، وبالخلق الجديد بدلا من الإعادة تصوير دقيق لشدة استمساكهم بهذا الجحود، وعدم تصورهم إمكان البعث بعد الموت.
ثم وضحت الآية الكريمة سر ذلك الجحود وسببه فقال تبارك وتعالى:
} أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ [الرعد: 5].
فالسبب الأول لجحودهم البعث هو كفرهم بالله -تبارك وتعالى- وعدم تقديرهم لعظمته وجليل قدرته، فلو علموا أن قدرته -تبارك وتعالى- فوق التقيد بالأسباب والوسائط العادية، وأنه ما شاء فعل "إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" لهان عليهم الخَطْب، ولوجدوا أن هذا المعاد أمر داخل فى حيز القدرة لا غرابة له ولا مشقة }وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ * وَلَهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ [الروم: 25-26] ولكنهم لما كفروا بالله وظنوا عدم القدرة أو عدم كمالها أو إنكار العلم أو إنكار كماله أو إنكار الصدق إلى غير ذلك من صفات الكمال التى يتصف بها الباري جل وعلا. لما كانت عقيدتهم فى ربهم هكذا صعب عليهم أن يتصوروا سهولة الإعادة بعد الموت.
} وَأُولَئِكَ الأغْلاَلُ فِى أَعْنَاقِهِمْ [الرعد: 5].
وسبب آخر هو هذا الجمود الذي استولى عليهم، فلم يطلقوا لعقولهم عنان الفكرة ولم يتأملوا فيما بين أيديهم وما خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم من دلائل القدرة، ورضوا بالتقليد الأعمى لأسلافهم وآبائهم، وجمدوا على ما ورثوا من فاسد عقائدهم. لما وضعوا فى أعناقهم هذه القيود والأغلال من التقليد والجمود لم يكن لهم مجال إلى إدراك الحقيقة الواضحة؛ حقيقة الإيمان بالمعاد والتسليم بالبعث والنشور، فتكون الآية على ذلك كناية عن الجمود والتقليد المانع عن إدراك الحق وتعرف أصوله وقواعده. وبنحو قال هذا الأصم، وتؤيده الآية الكريمة فى سورة يس: }إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فهي إِلَى الأذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ [يس: 8]. قال أبو عبيدة: هو مثل ضربه الله لهم فى امتناعهم عن الهدى كامتناع المغلول. وقال الشاعر: "لهم عن الرشد أغلال وأقياد". ولا ريب فى أن الجمود أشد ما يبعد الناس عن إدراك الحقائق.
وذهب جمهور المفسرين إلى أن الآية على ظاهرها، وأنها وعيد لهؤلاء الجاحدين على جحودهم وتصوير لحالهم يوم القيامة، وبيان لما ينتظرهم من عذاب فهو من قبيل قوله تعالى: }إِذِ الأغْلاَلُ فِى أَعْنَاقِهِمْ والسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ * فِى الْحَمِيمِ ثُمَّ فِى النَّارِ يُسْجَرُونَ [غافر71-72] ثم بينت الآية بعد ذلك جزاءهم على هذا الجحود فقال تبارك وتعالى.
} وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ [الرعد: 5]. فهؤلاء الجاحدون للمعاد، المكذبون بالبعث سيذوقون النار ويخلدون فيها، وهذا هو العقاب الطبيعي لهم؛ فمن جحد المعاد وكذب بالجزاء جوزي بما كذب به؛ حتى يعلم أحقية الخبر وصدق المخبر }وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِى كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [السجدة: 20].
الإسلام والمعاد:
جاء الإسلام الحنيف يقرر أن للناس حياة بعد هذه الحياة الدنيا هى الدار الآخرة، وأنها الدار الباقية حقا، الكاملة النعيم، الشديدة العذاب كذلك، وأن الناس يبعثون من قبورهم بعد الموت ليحاسبهم الله على ما قدموا من الأعمال }فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7-8] وأن هذا البعث سيكون للأجسام وللأرواح جميعًا، وأن هذا النعيم أو العذاب حسي ومعنوي معًا. وآيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ناطقة بذلك كله على وجه لا يحمل التأويل ولا التعطيل، وقد سلك القرآن فى تقرير هذه العقيدة ورد الشبهات عنها، وتصوير ما يكون من شأن القيامة وأهوالها، وذكر المناظرات بين أهل الطاعة وأهل العصيان فيها، وبيان الغاية منها، والاستدلال على ذلك كله تارة بعجائب صنع القدرة الإلهية، وأخرى بالمشاهد الكونية من الإيجاد بعد الإعدام، وغرائب حياة الجنين والنبات، ولفت الأنظار إلى ابتداء الخلق على غير مثال والإعادة أهون من الابتداء، وأنت ترى ذلك كله منثورًا فى ثنايا كتاب الله -تبارك وتعالى- وفى أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإليك بعض هذه الآيات البينات:
1- فى سورة الإسراء: }وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا * يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء: 49-52]، وفيها الاستدلال على البعث بسهولة الخلق الأول.
2- فى سورة الحج: }يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنْتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِى الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِى الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَن فِى الْقُبُورِ [الحج: 5-7]، وفيها الاستدلال على البعث بأطوار خلق الإنسان فى بطن أمه، وأطوار حياة النبات فى الأرض بهذا الأسلوب المعجز الرائع.
3- فى سورة المؤمنون: }وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ [المؤمنون: 12-17].
وفيها الاستدلال على البعث بغرابة أطوار خلق الإنسان، وعجائب قدرة الله -تبارك وتعالى- على إبداع سواه من المخلوقات.
4- وفى سورة يس: }أَوَ لَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِىَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِى الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِى جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِّنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَ لَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس: 77-83] وفيها ملخص أدلة البعث التى تدور فى القرآن الكريم؛ ففيها الاستدلال بالإنشاء الأول وبعجائب قدرة الله -تبارك وتعالى-، وخلق الإنسان من النطفة والمشابهة بين المخلوقات فى الإيجاد، فمن أوجد هذا الخلق فهو على مثله قادر، ثم بتتويج ذلك كله بذكر اتصاف الباري -جل وعلا- بالخلق والإبداع، وعلم ذلك علمًا لا جهالة معه ولا صعوبة فى شىء أمامه }إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
[يس: 82].
5- وفى سورة ق: }بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنْذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَىْءٌ عَجِيبٌ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنْبَتْنا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [ق: 2-11].
وفيها الاستدلال بعجائب هذا الخلق وما فيه من تحليل وتركيب وإبداع وتصوير على سهولة إعادة الموتى من تراب، وفيها كذلك الرد على شبهة تداخل الأجساد بعضها فى بعض بالتحليل والنبات، فهذه الآية الكريمة تبين أن ما تنقصه الأرض من أجساد الموتى معلوم عند الله -تبارك وتعالى- ثابت فى كتاب حفيظ، فإذا جاء وقت البعث وجدت الأجساد الذاهبة من مادتها الأصلية على النحو الأول مادة وصورة وكمًّا وكيفا؛ فلا تغيير ولا تبديل.
6- وفى سورة الواقعة إجمال رائع لأدلة البعث فى القرآن الكريم فى قول الله -تبارك وتعالى-: }وَكَانُوا يَقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَاؤُنَا الأوَّلُونَ [الواقعة: 47-48] هذه أقوالهم، وتلك مذاهبهم، وقد جاء القرآن يقرر هذه الحقيقة الآتية: }قُلْ إِنَّ الأوَّلِينَ وَالآَخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لآَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ * نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ [الواقعة: 49-57] ثم لفت أنظارهم إلى عجائب ما فى النطفة؛ وذلك أن الماء المنوى يحتوى على مئات الملايين من العلقات التى تصلح كل منها لإيجاد رجل إذا التقت ببويضة اللقاح، حتى قيل: إن المليمتر المكعب من ماء الرجل يحتوى على نحو مليون من هذه العلقات، فكم فى قذفة واحدة من ماء الرجل من أناس لو كانوا يعقلون. لفتهم القرآن إلى هذا فقال: }أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِى مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الواقعة: 58-61] ثم لفت نظرهم كذلك إلى الخلق الأول، ثم إلى عجائب النبات، ثم إلى خلق الماء والماء بيئة الحياة الأولى، ثم إلى عجيبة العجائب؛ وهى كمون النار فى الشجر الذى لا ينبت بغير الماء، ومن يستطيع أن يوجد من عنصر الأوكسجين نارًا وماء فيكون قوامهما وهما ضدان لا يلتقيان يستطيع أن يوجد الموتى بعد التحلل ويعيدهم إلى سيرتهم من الحياة، فذلك قوله تعالى: }وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ * أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِى تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِى تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة: 62-74].
7- وفى سورة الزمر: }اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِى ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الزمر: 42]. وفيها الإشارة إلى أن البعث يقظة كبرى، كما أن الموت نوم أكبر، ونحن نرى كل يوم وليلة بعثًا وموتًا جزئيين لهذه الكائنات الحية.
وفى القرآن الكريم كثير من الآيات المطهرة تؤكد هذه المعاني وتوضحها، وفيما أوردنا بلاغ والحمد لله.
وقد جاءت السنة المطهرة مبينة وموضحة وشارحة لما جاء فى هذه الآيات المطهرة، ولقد استدل رسول الله صلى الله عليه وسلم فى عبارة وجيزة بليغة بكثير من البراهين التى مرت فى الآيات الكريمة؛ من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لقريش فى أول خطبة أعلن بها دعوته: حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الرائد لا يكذب أهله، والله لو كذبت الناس ما كذبتكم، ولو غررت الناس ما غررتكم. والله الذي لا إله إلا هو إنى رسول الله إليكم حقا وإلى الناس كافة، والله لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبون بما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحسانًا وبالسوء سوءا، وإنها للجنة أبدًا أو النار أبدًا، وإنكم لأول من أنذر بين يدي عذاب شديد.
وروى أحمد ورزين بسندهما عن أبى رزين العقيلي، قال: قلت: يا رسول الله؛ كيف يعيد الله الخلق، وما آية ذلك؟ قال: "أما مررت بوادي قومك جدبًا ثم مررت به يهتز خضرًا؟" قلت: نعم، قال: "فتلك آية الله فى خلقه، كذلك يحيى الله الموتى".
بهذا الأسلوب البديع يقرر القرآن الكريم والسنة المطهرة عقيدة البعث فى نفوس الناس، وهي أمر مركوز فى هذه النفوس مستقر فيها لا يحجبها عن التسليم به والإذعان له إلا هوى جامح أو شهوة غالبة أو مادية كثيفة أو خبل فى التصور والإدراك. وما أحسن ما قرره الشيخ محمد عبده فى رسالة التوحيد فى هذا المعنى إذ يقول: "اتفقت كلمة البشر موحدين ووثنيين مليين وفلاسفة، إلا قليلاً لا يقام لهم وزن، على أن لنفس الإنسان بقاء تحيا به بعد مفارقة البدن، وأنها لا تموت موت فناء، وإنما الموت المحتوم هو ضرب من البطون والخفاء وإن اختلفت منازعهم فى تصوير ذلك البقاء وفيما تكون عليه النفس فيه وتباينت مشاربهم فى طريق الاستدلال عليه، هذا الشعور العام بحياة بعد هذه الحياة المنبث فى جميع الأنفس عالمها وجاهلها، وحشيها وإنسيها، باديها وحاضرها، قديمها وحديثها لا يمكن أن يعد ضلة عقلية أو نزعة وهمية، وإنما هو إلهام من الإلهامات التى اختص بها هذا النوع. قد ألهمت العقول وأشعرت أن هذا العمر القصير ليس هو منتهى ما للإنسان فى الوجود بل الإنسان ينزع هذا الجسد كما ينزع الثوب عن البدن، ثم يكون حيًّا باقيًا فى طور آخر وإن لم يدرك كنهه، ذلك إلهام يكاد يزاحم البديهة فى الجلاء". أ هـ.
وثم برهان آخر غير هذا البرهان الفطري ألفتك إليه وأوجه نظرك نحوه؛ ذلك أن نظام هذا الكون وما فيه ومنزلة الإنسان منه يدلك أوضح الدلالة على أن هذه الحياة القصيرة الأمد التى تحسب بأعوام قلائل مهما طالت فهي مدة محدودة وفترة معدودة لا تتناسب أبدًا مع الحكمة فى تكوين هذا الإنسان وإبداعه هذا الإبداع، وتمييزه بهذا العقل المفكر، والفكر المدبر الذي سخر الله له ما فى السماوات وما فى الأرض جميعًا.
فإذا انتهت سعادة الحيوان بحصوله على مطالب جسمه، وانتهت سعادة النبات ببلوغه حد نموه، فإن نفس هذا الإنسان قد خلقت مستعدة لقبول معلومات غير متناهية من طرق غير محصورة شيقة إلى لذائذ غير محدودة ولا واقفة عند غاية، مهيأة لدرجات من الكمال لا تحددها أطراف المراتب والغايات، ومن كان كذلك لا يصح أن يكون بقاؤه قاصرًا على أيام أو سنين معدودات، وتأمل سر ذلك الخلق فى قول الله تبارك وتعالى: }أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون: 115-116].
والقول بأن بعث الأجساد بعد فنائها أمر يصطدم بنواميس الكون المقررة ولا يتفق مع المشاهدة كلام سقيم، لا حجة عليه ولا برهان معه.
فهذه النواميس نفسها تدعم ذلك المعنى وتدل عليه، ومتى كانت النواميس الكونية تتحكم فى القدرة الإلهية والله غالب على أمره. ومن ذا الذي يستطيع أن يدعى العلم بكل النواميس حتى يحكم بمخالفة هذا الشيء لها أو موافقته إياها؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يزعم أن نواميس المادة وقواعدها تطبق على عالم غير عالمها، ونظام لا يتصل بنظامها، ونحن نرى من عجائب الظواهر الروحية فى عالمنا هذا ما لا يقضى منه العجب؟ وأين هؤلاء الجامدون على نواميس المادة وقوانينها مما يفعل فقراء الهند؟
وما أبدع الإشارة إلى هذه المعاني فى قصة أهل الكهف: }وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا [الكهف: 21].
وفى قصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، وفى قصة إبراهيم إذ قال: }رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْيِى الْمَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قلبي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة: 260](4).
} وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ [الرعد: 6].
بعد أن فصلت الآيات السابقة مظاهر قدرة الله -تبارك وتعالى- وأدلة عظمته وعجائب صنعه فى الكون ذكرت الشبهات التى يتذرع بها الجاحدون فى إنكار نبوة الأنبياء، ويبررون بها انصرافهم عما جاء به الرسل الكرام من الهدى والنور، ومن هذه الشبهات استبعاد أمر البعث والخلق الجديد بعد الموت والفناء، ومنها استبطاء العقوبة على التكذيب واستعجالها؛ لتكون دليلاً على صدق المبلغ عن الله -تبارك وتعالى- فى دعواه، ومنها اقتراح الآيات والمعجزات.
فأما الشبهة الأولى فقد فصلتها الآية الكريمة وردتها فى قوله -تبارك وتعالى-: }وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأغْلاَلُ فِى أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ [الرعد: 5].
وأما الشبهتان الباقيتان فقد أشير إليهما فى الآيتين الكريمتين كما عرض لهما القرآن الكريم فى سور كثيرة ماضية وتالية.
} وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ [الرعد: 6].
ويطلبون إليك أن يوقع الله بهم العذاب والعقوبة قبل النعمة والعافية، وهذا خلق من أخلاق الجاحدين المعاندين فى كل زمان ومكان؛ استكبارًا فى الأرض وتعاليًا بالباطل وبطرًا على الحق. ولقد حكى الله عن قوم هود -عليه السلام- فى سورة الأعراف }قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الأعراف:70].
كما حكى عن قوم نوح فى سورة هود -عليه السلام- }قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [هود: 32-33].
كما حكى ذلك عن كفار قريش فى كثير من الآيات؛ ففي سورة الأنفال }وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال: 32] وقد سبق الكلام عليها فى الجزء التاسع من هذا التفسير، وجاء قبل ذلك فى سور كثيرة }يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [العنكبوت: 54]، وفى سورة يونس }وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ [يونس:48]، وقد تقدم الكلام عليها فى الجزء الحادي عشر، فليراجع.
وهذا الخلق غريب حقا فى الإنسان؛ فإن مقتضى العقل السليم الذي يتحلى به هذا الجنس البشرى أن يطلب الهداية والعافية بدلاً من العذاب والنقمة، وما أظرف رد هذا السبأى الذي خاطبه معاوية بقوله: "ما أجهل قومك حين ملَّكوا عليهم امرأة" فقال: "أجهل من قومي قومك؛ حين قالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، ولم يقولوا: فاهدنا له". ولعل السر فى ذلك أن الإنسان مفطور على نوع من التعالي والكبرياء يجعل قبوله للحق أمرًا شديدًا على نفسه، لا يستطيع إلا من ألهمه الله الرشد وهداه سواء السبيل، وقد سبق فى الجزء الأول من هذا التفسير إشارة لطيفة إلى هذا المعنى؛ فقد جاء هناك ما نصه: "إن كل قوة من قوى هذه الأرض، وكل ناموس من نواميس الطبيعة فيها خُلِقَ خاضعًا للإنسان، وخلق الإنسان مستعدًا لتسخيره لنفعته إلا قوة الإغراء بالشر، وناموس الوسوسة بالإغواء الذي يجذب الإنسان دائمًا إلى شر طباع الحيوان، ويعيقه عن بلوغ كماله الإنساني. فالظاهر من الآيات أن الإنسان لا يغلب هذه القوة ولا يخضعها مهما ارتقى وكمل، وقصارى ما يصل إليه الكاملون هو الحذر من دسائس الوسوسة والسلامة من سوء عاقبتها بألا يكون لها سلطان على نفس الكامل تجعله مسخرًا لها وتستعمله بالشرور؛ كما قال تعالى: }إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [الحجر: 42]، وقال عز وجل: }إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ [الأعراف: 201] قال صاحب التفسير، ثم زاد الأستاذ هنا قوله: "أما سلطان تلك القوة فى الفناء، وقطع حركة الوجود إلى الصعود، فلا يستطيع إخضاعه لقدرته من البشر كامل، ولا يقاوم نفوذه عامل، وإنما ذلك لله وحده وهذا حكمها فى الكائنات إلى أن تبدل الأرض غير الأرض والسماوات" أ هـ.
والمراد بهذا الكلام -كما ترى- بيان قوة الشر ونزعاته، ووضوح أثرها فى الوجود، وسهولة انجذاب النفوس إليها، وسرعة التصاقها بها، وليس المراد استحالة التخلص منها؛ فإن من عصمه الله -تبارك وتعالى- وحفظه ويسره لمغالبة الشرور وأعانه على مقاومة النزعات الفاسدة والوساوس المضلة كان منها بمنجاة ولا شك؛ كما تشير إليه الآية الكريمة.
ووجه العِبْرة فيما تقدم أن يتنبه الإنسان لقوة هذه الناحية فى نفسه وفى ناموس الخليقة، وأن يراقب نفسه مراقبة دقيقة، وأن يخضد فيها دائمًا شوكة الكبرياء الكاذب والتأبى على الحق، وأن يلح على الله فى الدعاء أن يجعله من أهل الهداية والتوفيق الذي لا يجد الشيطان إلى نفوسهم سبيلاً.
} وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ [الرعد: 6].
خلت: مضت وذهبت. المثلات: جمع مثله، قال الراغب: والمثلة نقمة تنزل بالإنسان فيجعل مثالاً يرتدع به غيره، وذلك كالنكال، وجمعه: مثُلات ومَثلات.. وقد أمثل السلطان فلانًا إذا نكل به. وقال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: "ويستعجلونك يا محمد مشركو قومك بالبلاء والعقوبة قبل الرخاء والعافية فيقولون: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، وهم يعلمون ما حل بمن خلا قبلهم من الأمم التى عصت ربها وكذبت رسلها من عقوبات الله وعظيم بلائه؛ فمن بين أمة مسخت قردة وأخرى خنازير، ومن بين أمة أهلكت بالرجفة وأخرى بالخسف، وذلك هو المثلات التى قال الله -جل ثناؤه- }وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ (الرعد: 6]. والمثلات: العقوبات المشكلات، والواحدة منها مَثُلة بفتح الميم وضم الثاء، ثم تجمع مثلات؛ كما واحدة الصدقات صدقة ثم تجمع صدقات. وذكر أن تميمًا من بين العرب تضم الميم والثاء جميعًا من المثلات، فالواحدة على لغتهم منها مثله، ثم تجمع مثلات؛ مثل غرفة وغرفات، والفعل منه مثلت به أمثل مثلاً بفتح الميم وتسكين الثاء. فإذا أردت أنك أقصصته من غيره قلت: أمثلته من صاحبه أمثلة مثلاً، وذلك إذا أقصصته منه، وبنحو الذي قلنا فى ذلك قال أهل التأويل.
أ هـ.
وفى الآية تبكيت لهم على هذه الغفلة التى تجعلهم يتناسون الاتعاظ بغيرهم، وتجاهل ما حل بسواهم من السابقين. وفى المثل: السعيد من وعظ بغيره، والشقي من وعظ بنفسه، وبهذا تقرر الآية الكريمة ناموس العبرة والعظة، وتلفت إليه أنظار الأمم والشعوب.
واعلم أن العِبْرة والعظة لا تنحصر فى الفرد ولا فى الجماعة على الاعتبار بحال غيرهما وعاقبته؛ بل تكون كذلك فى الفرد وفى الجماعة بما يقع لهما من الحوادث؛ فالفرد الذي يحرص على الاستفادة من تجاربه ونتائج أعماله يزيد صوابه دائمًا فتزيد سعادته، ويقل خطؤه فيزول شقاؤه وكذلك الأمة، والفرد الذي لا يعتبر ولا يستفيد من تجاربه ونتائج أعماله يظل على خطئه وضلاله فلا يلقى إلا الخسارة والوبال.
وإلى هذا يشير حديث أبى هريرة رضى الله عنه: "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين". ولا يعرض عن الانتفاع بالآيات والنذر إلا الجاحدون الذين لم يتمكن الإيمان من قلوبهم، والله -تبارك وتعالى- يقول: }وَمَا تُغْنِى الآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ [يونس: 101] ولو أن المسلمين راجعوا تاريخهم وتاريخ الأمم السابقة والمعاصرة وأنعموا فى ذلك النظر لخلصوا بكثير من العبر، ولاستطاعوا أن يجدوا فى صفحات هذا التاريخ دروسًا وافية تدفعهم إلى العمل وتجنبهم الأخطاء والزلل، ولو ذهب الباحث يستقصى ذلك لأعجزه حصره، ولقد علم الناس لو يتعلمون.
ولا نريد أن نفيض فى ذكر حوادث التاريخ وعبره فذلك ما لا يستطاع، ولكنا نلفت أنظار المسلمين إلى عبرتين واضحتين فى التاريخ الحديث؛ واحدة تتصل بتاريخهم وحياتهم، والثانية تتصل بتاريخ غيرهم وحياته.
قامت الحرب العالمية الماضية سنة 1914 – 1918م وللمسلمين حكومة جامعة ودولة واسعة ووحدة قائمة، وإن كان قد دب فى ذلك كله الضعف والوهن، ولكنهم زادوا هذا الضعف ضعفًا بتفرقهم وتباغضهم وتحاقدهم ونسيانهم الأخوة الإسلامية ورابطة الدين والعقيدة التى هى أقدس الروابط وأوثق الوشائج والصلات، ودب فيهم دبيب الفكرة العنصرية؛ فالأتراك يحاولون تتريك عناصر الدولة وإظهار الشعائر الطورانية، والعرب يحلمون بالاستقلال على أساس من الوحدة العربية، وبذلك دب إلى النفوس الإسلامية داء الأمم من قبل؛ البغضاء وفساد ذات البين التى تفسد أمر الدنيا والدين، وهبت عواصف الحرب فزادت دسائسها ومكائدها النفوس جفوة وتباعدًا، وكان أن ثار العرب على الحكومة التركية وصار المسلمون قسمين كل قسم إلى صف عدو من أعداء دينهم وقوتهم وجامعتهم، وانتهت الحرب بتفريق جامعتهم وضياع الرسم الباقي من خلافتهم، وانحلال حكومتهم، وكان ذلك جزاء وفاقًا بما كسبت أيديهم، ومثلة منذرة بعاقبة المقصرين المفرطين. هذه عبرة من تاريخنا يجب أن نطيل إليها النظر فى هذا العصر الذي لا يعيش فيه إلا الأمم القوية بعددها وعددها ورابطتها وإيمانها، ونعمل جاهدين لإحياء الجامعة الإسلامية والوحدة المحمدية، ولا ننخدع أبدًا بهذه الوعود الكافرة الجاحدة؛ بل نعتمد على أنفسنا، ونستمد النصر والتأييد من الله وحده، وبذلك تعود إمامة المسلمين وتتجدد دولتهم.
وقامت هذه الحرب الحاضرة بين قوتين عظيمتين فى أوربا؛ بين الدولة الألمانية ومن شايعها من جانب، وبين فرنسا وإنجلترا ومن شايعها من جانب آخر، وما كان الناس يظنون أو يخطر ببالهم أن دولة غنية مجهزة مستعدة كفرنسا تُهْزَم شر هزيمة فى أيام قلائل، ويقضى على استقلالها وجيشها وسلطانها، ويحتل عدوها أرضها ويتحكم فى كل مقدراتها، هذا أمر لم يكن يخطر ببال أحد بمثل هذه السرعة العجيبة ولكن رئيس وزرائها "المسيو بيتان" قد أماط اللثام عن سر ذلك بكلمته المشهورة: "لقد أتت الهزيمة من الانحلال، ودمرت روح الملذات ما شيدته روح التضحية". وكان ذلك مصداقًا للناموس الإلهي الخالد فى حياة الأمم والشعوب }ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال: 53] }وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء: 16] ومع هذا فما زال كثير من المسلمين يعجبون بحياة فرنسا الزائلة، ويتغنون بآدابها وفنونها ومفاتنها التى صرفت شعبها عن الجد والتضحية إلى اللهو والملذات، فحق عليها القول، وصارت مثلة بين الدول فى هذا المصير.
وهذه عبرة أخرى من تاريخ غيرنا ممن يعاصروننا ويتصلون بنا أوثق اتصال، يجب كذلك أن نطيل النظر فيها ونعمل جاهدين على بناء نهضتنا على دعائم قوية صحيحة من الجد والعمل والخلق والإيمان والتضحية والكفاح؛ فإن البقاء دائمًا للأصلح؛ فأما الزَّبَدُ فيذهب جُفَاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض.
} وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ [الرعد: 6].
إن الله -تبارك وتعالى- لم يخلق الخلق عبثًا ولم يتركهم سدى، وإنما خلقهم ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، وليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى. وفى الإنسان الاستعداد القابل للخير والشر }وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا [الشمس: 7-10] وإنما تجيء الأديان لتقوى فى النفوس البشرية معانى الخير، وتبين لها طرق المقاومة لنوازع الشر، وبذلك تهتدى إلى الصراط المستقيم }قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِى بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [المائدة:15-16] والنفس الإنسانية إنما تقاد إلى الخير وتردع عن الشر بأحد عاملين إما الخوف وإما الرجاء، بالرغبة أو بالرهبة، ولا بد من تعادل هذين العاملين فى التأثير فى النفس، وإلا كانت عرضة للانحراف فإذا غلبها الخوف بغير رجاء أداها ذلك إلى اليأس، وإذا غلبها الرجاء بدون خوف أداها ذلك إلى التحلل والإباحة، ومن هنا كان ناموس المؤاخذة من الله لخلقه دائرًا بين هذين العاملين، فهو سبحانه وتعالى يطمعهم فى رحمته ومغفرته وفاقا لقانون الفضل الرباني، ثم يحذرهم سطوته وعقوبته وجبروته إحقاقًا للعدل الإلهي.
قال الحافظ ابن كثير فى تفسير هذا الشطر من الآية الكريمة: "أى أنه تعالى ذو عفو وصفح وستر للناس مع أنهم يظلمون ويخطئون بالليل والنهار، ثم قرن هذا الحكم بأنه شديد العقاب ليعتدل الرجاء والخوف كما قال تعالى: }فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام: 147] .
وقال: }نَبِّئْ عِبَادِى أَنِّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عذابي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر: 49-50] إلى أمثال ذلك من الآيات التى تجمع الرجاء والخوف. وقال ابن أبى حاتم: حدثنا أبى، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد عن على بن زيد، عن سعيد بن المسيب قال: لما نزلت الآية: }وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحدًا العيش، ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل أحد".
وفى حديث أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد" رواه مسلم.
وذهب ابن جرير إلى أن المغفرة المذكورة هنا خاصة بالمؤمنين التائبين والعقوبة للكافرين والعاصين، وأن الكلام إن كان خبرًا فى ظاهره فإنه وعيد وتهديد للمشركين من أهل مكة إن لم يتوبوا وينيبوا إلى الله -تبارك وتعالى- قبل أن يحل عليهم غصبه وعقوبته ونقمته، ولا ينافي هذا ما ذكرناه من تقرير الناموس العام فى حكمة ذكر الثواب والعقاب والعدل والرحمة مقترنين دائمًا فى كتاب الله.
واستدل الأشاعرة بقوله تعالى: }عَلَى ظُلْمِهِمْ [الرعد: 6] بعد ذكر المغفرة على مذهبهم من جواز العفو عن صاحب الكبيرة قبل التوبة. وقد أطال النيسابوري فى توجيه هذا الاستدلال، وكأنهم يريدون أن يجعلوا الظلم المذكور فى الآية: "إنما يراد به التلبس بالإثم والعصيان".
والذى تطمئن إليه النفس أن المراد بالظلم هنا ما عرف من قوة ميل النفس الإنسانية إلى الشر أكثر مما تميل إلى الخير حتى صار ذلك وصفًا ملازمًا لهما لا لاصقًا بها، وقد تردد هذا المعنى فى كثير من آيات القرآن الكريم، وجاء ذكر الإنسان والنفس الإنسانية مقرونًا بالظلم تارة وبالجحود تارة أخرى، وهكذا قال تبارك وتعالى: }إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34] }وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً [الأحزاب: 72] }إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف: 53]، ويكون المراد على ذلك -والله أعلم- أن الله -تبارك وتعالى- يغفر للناس تفضلاً منه وكرمًا وإن كانت طبائعهم إلى الشر والظلم أقرب.
ومن ذلك تعلم أن الإنسان فى أشد الحاجة على محاسبة نفسه ومراقبتها أدق المراقبة، ومقاومة غرائز السوء فيها، وتقوية عوامل الصلاح والخير التى تحيط بها حتى يسلسل له قيادها، ويسير فى الطريق المستقيم، وذلك بإشعارها الخوف تارة وأخذها بالشدة والقسوة، وإشعارها الرجاء تارة أخرى وأخذها باللين والأمل، قال الإمام النووي فى (رياض الصالحين): "اعلم أن المختار للعبد فى حال صحته أن يكون خائفًا راجيًا ويكون خوفه ورجاؤه سواء، وفى حال المرض بمحض الرجاء وقواعد الشرع من نصوص الكتاب والسنة متظاهرة على ذلك، فيجتمع الخوف والرجاء فى آيتين مقترنتين أو آيات أو آية واحدة"، وكأنه -رحمه الله- أشار بتغليب الرجاء فى حال المرض إلى قوله صلى الله عليه وسلم فى حديث جابر بن عبد الله -رضى الله عنهما- أنه سمع النبى صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل" رواه مسلم. والقاعدة التى يجب أن يسير عليها الإنسان دائمًا الفرار إلى الخوف إذا استنام إلى الرجاء، والفرار إلى الرجاء إذا استبد به الخوف، وهكذا لا يزال يكسر حدة أحدهما بالآخر بحسب حاله فى مجاهدة نفسه.
وفى التعبير بالربوبية فى قوله تبارك وتعالى: }وَإِنَّ رَبَّكَ [الرعد: 6] إشارة إلى عظيم لطف الله -تبارك وتعالى- بعباده وتعهدهم إياه بفضله وبره، وأن المراد بالثواب والعقاب إنما هو كمال تربية النوع الإنساني حتى يصل إلى كماله المنشود.
ووجه الارتباط بين أجزاء الآية الكريمة واضح؛ فإنهم لما استعجلوا السيئة قبل الحسنة ذكرهم القرآن الكريم بما وقع للأمم من قبلهم وأحالهم على ما عرفوا من أحوال المكذبين السابقين الذين حقت عليهم الكلمة ووقعت بهم المثلات، وبيَّن لهم بعد ذلك أن الله قادر على المغفرة كما أنه قادر على العقوبة الشديدة، ولكنه يغفر لمن يشاء ويعاقب من يشاء لا تتوقف عقوبته ولا مغفرته على اقتراح أحد أو تحكم مخلوق. وفقنا الله وإياكم إلى الخير، وهدانا سواء السبيل(5).
} وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [الرعد: 7].
تشير الآية الكريمة إلى صفة من صفات الكفار وحجة من حججهم الواهية التى يتعللون بها فى تكذيب الرسل -صلوات الله عليهم وسلامه- ويحاولون بها التشكيك فى صدقهم ويعترضون بها رسالاتهم، وفى الآيتين عرض لبعض هذه الحجج؛ فهم يستبعدون البعث بعد الموت، وهم يستعجلون العذاب الدنيوي، ويستبطئون نزوله بالمخالفين، ويريدون أن يتخذوا من هذا وذاك حجة على أن الرسول ليس بصادق، وقد علمت ما فى ذلك من المغالطة والضعف.
وهذه الآية تقرر أن هؤلاء أخذوا يقترحون على الرسول أن ينزل عليهم آية يستدلون بها على صدقه، وقد تكرر هذا المعنى فى كثير من آيات القرآن بل ورد فى هذه السورة نفسها فى موضع آخر قول الله -تبارك وتعالى-: }وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ [الرعد: 27]، وفى سورة الأنعام ورد ذلك فى موضعين؛ ففي الأول منهما اقترحوا آية معينة: }وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الأنعام: 8] وفى الثاني اقترحوا آية مبهمة }وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [الأنعام: 37]، وفى سورة طه: }وَقَالُوا لَوْلاَ يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِى الصُّحُفِ الأُولَى [طه: 133]، وفى سورة يونس: }وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّى مَعَكُم مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ [يونس: 20]، وفى سورة الإسراء ذكر لآيات مفصلة اقترحوها: }وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنْهَارَ خِلاَلَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِىَ بِاللهِ وَالْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرُؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً [الإسراء: 90-93] وقد تكرر طلبهم نزول الملك بدلاً من الرسول البشرى فى آيات كثيرة غير سورة الأنعام ففي سورة الحجر: }وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * مَا نُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُّنْظَرِينَ [الحجر: 6-8]، وفى سورة هود: }فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ [هود: 12]، وفى سورة الفرقان: }قَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الأسْوَاقِ لَوْلاَ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا [الفرقان: 7-8]، وجاء فى سورة العنكبوت أنهم اقترحوا آيات لا آية واحدة، فذلك قوله تعالى: }وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآَيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت: 50-51].
وقد بيَّن القرآن الكريم أن تلك كانت سنة الأمم السابقة؛ أن يقترحوا على أنبيائهم الآيات المعجزات وأن يستعجلوهم بالعذاب، فلقد قالت ثمود من قبل لصالح -عليه السلام-: }مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الشعراء: 154].
وقال فرعون لموسى -عليه السلام-: }إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ [الأعراف: 106-108].
الحِكَم من عدم إجابتهم إلى ما يطلبون:
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة جميعًا الرد على مقترحاتهم هذه بما يفحمهم ويلجمهم، وبينت أن السبب فى عدم إجابتهم ليس العجز عنها فإن الله على كل شىء قدير، وإنما السبب فى ذلك اعتبارات جليلة وحكم سامية وردت منثورة فى هذه الآيات، وهذه هى حكمة تكرارها وورودها فى سور كثيرة، ومن هذه الاعتبارات والحكم التى تقتضي عدم إجابتهم إلى ما سألوا:
1- بيان أن ذلك ليس من مهمة الرسل -عليهم الصلاة والسلام- فهم دعاة هداية وأساتذة إرشاد، يبينون للناس الحق ويدعونهم إليه، فمن اهتدى فقد فاز ومن أبى فقد خسر، وليس من مهمة الرسل ولا من وظائفهم التصرف فى نواميس الكون ونظمه، فذلك لله وحده إن شاء ذلك فهو على كل شىء قدير، وإن لم يرده فلا قدرة لأحد عليه، وقد أشير إلى هذا فى الجواب عليهم فى كثير من الآيات السابقة؛ مثل قوله تعالى: }قُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّى مَعَكُم مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ [يونس: 20]، }إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [الرعد: 7]، }قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ [الرعد: 27]، }قُلْ إِنَّمَا الآَيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ [العنكبوت: 50]، }قُلْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [الأنعام: 37].
وإنما آثر وصف الإنذار للرسل فى هذه الآيات الكريمة مع أنهم -صلوات الله عليهم- مبشرين ومنذرين كما جاء فى آية النساء }رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165]؛ لأن هذا الوصف هو الأليق والأخلق بهذه النفوس العنيدة والرؤوس الصلبة التى تأبى الإيمان إلا أن تقسر عليه قسرًا، فالمقام يقتضى هذا الوصف، ولهذا أفرد بالذكر بدون الوصف الثاني وهو التبشير لأنه مقتضى المقام، وهذا المعنى هو الغالب على النفوس البشرية أن تقاد بالقهر والتخويف أكثر مما تقاد بالحب والتبشير.
2- بيان أن حكمة الله –تعالى- قد اقتضت أن الأمة التى تقترح الآيات ثم تكذب بها لا بد أن تعذب عذاب استئصال، ويأخذها الله -تعالى- أخذ عزيز مقتدر، فثمود حين كذبت صالحًا أخذتها الصيحة والرجفة، وفرعون حين كذب موسى أخذه الله هو وجنوده فنبذهم جميعًا فى اليم وهكذا، ولما كانت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم نبوة خالدة أبد الدهر، وكانت أمته هى الوارثة إلى يوم القيامة، وقد علم الله من عناد هؤلاء الكفار وصلابة رءوسهم أنهم لن يؤمنوا حتى ولو جاءتهم هذه الآيات؛ كما قال -تبارك وتعالى- فى سورة الأنعام: }وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآَيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 109] وكما قال تبارك وتعالى فى هذه السورة نفسها: }وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ [الأنعام: 28] لما علم الله منهم ذلك لم يجبهم إلى ما طلبوا؛ إذ لو أجابهم فكذبوا كما فعلت الأمم السابقة لاستأصلهم وأبادهم، وذلك مخالف لمقتضى بقائهم ووراثتهم، وإلى هذا أشارت الآية الكريمة }وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآَيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآَيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا [الإسراء: 59] وقد صرحت به آية الحجر فى قوله تبارك وتعالى: }مَا نُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُّنْظَرِينَ [الحجر: 8] وقد يقال: إن هذه القاعدة قاعدة الاستئصال لا تطبق على الأمة المحمدية فقد أمنها الله برسوله وبالاستغفار، فقال تبارك وتعالى: }وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال: 33] وهو قول محتمل.
3- بيان أن أفضل الإيمان ما كان عن طواعية واختيار، لا عن إلجاء واضطرار وما كان عن نظر سليم وفكر ثاقب حكيم وتدبر لآيات الله وتقديس لقدرته وعظمته المتجلية فى كونه، والبادية فى مخلوقاته والمتجلية فى إبقاء آيات كتابه الكريم. والمعجزة الكبرى، والآية الخالدة لنبينا صلى الله عليه وسلم هى القرآن الكريم وفيه الكفاية كل الكفاية لمن تدبر وتذكر، وقد ورد ذلك صريحًا فى سورة العنكبوت فى قوله تعالى جوابًا لهم على اقتراح الآيات: }أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت: 51] وقد روى الشيخان والترمذي والنسائي من حديث أبى هريرة مرفوعًا: "ما من نبى من الأنبياء إلا أعطى ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذى أوتيته وحيًا أوحاه الله إلىَّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة" وقد سبق فى هذا التفسير فى سورة الأنعام عند قوله تعالى: }وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ [الأنعام: 37] ذكر اعتراض وجوابه قال: "هذا وإن بعض الكفار وبعض الشاكين والمتشككين فى الإسلام يقولون: لو أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أوتى آية بينة ومعجزة واضحة تدل على نبوته ورسالته لما طلب قومه الآية، وأن هذا الجواب بقدرة الله على تنزيل الآية ومعنى العلم عن أكثرهم لا تقوم به الحجة عليهم المبطلة لحق طلبهم". ثم أجاب عن هذا بما خلاصته ما قدمناه من أن القرآن هو المعجزة القطعية الباقية الخالدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الجواب لم يقتصر على ما ذكر؛ بل قد علمت أن الإجابات تعددت؛ تلفت أنظارهم إلى حكمة الامتناع عن الإرسال بالآيات الخارقة. ويقال أيضًا: إنه لما كانت أسئلتهم أسئلة تعنت وإحراج، لا أسئلة تثبت واسترشاد ناسب أن يجابوا بمثل هذه الإجابات }وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُّعْرِضُونَ [الأنفال: 23].
} وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [الرعد: 7] أَكْثَرَ المفسرون فى بيان المعنى المراد بالهادي فى هذه الآية، فذهب بعضهم إلى أن المراد به الله تبارك وتعالى، وذهب آخرون إلى أنه محمد صلى الله عليه وسلم أو النبى أيا كان، أو قائد يقودهم أو داع يدعوهم إلى الخير. كل ذلك مروي بأسانيده، وقال ابن جرير بعد أن أورد كثيرًا من هذا: "وقد بينت معنى الهداية، وأنه الإمام المتبع الذي يقدم القوم، فإذا كان ذلك كذلك فجائز أن يكون ذلك هو الله الذي يهدى خلقه ويتبع خلقه هداه ويأتمون بأمره ونهيه، وجائز أن يكون داعيًا من الدعاة إلى خير أو شر، وإذا كان ذلك كذلك فلا قول أولى فى ذلك بالصواب من أن يقال كما قال -جل ثناؤه- أن محمدًا هو المنذر، من أرسل إليه بالإنذار، وأن لكل قوم هاديًا يهديهم فيتبعونه ويأتمون به".أ هـ.
وذكر الشيعة أن المراد بالهادي على كرم الله وجهه، واستدلوا بذلك على خلافته، وأوردوا فى الاستدلال له ما رواه ابن مردويه والديلمي وابن عساكر عن ابن عباس قال: لما نزلت }إنما أنت منذر الآية، وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره، وقال: أنا المنذر، وأومأ بيده إلى منكب على -كرم الله وجهه- فقال: أنت الهادي يا على؛ بك يهتدى المهتدون من بعدى. وبما أخرج عبد الله بن أحمد فى زوائده وابن أبى حاتم والطبراني والحاكم وصححه عن على -كرم الله وجهه- أنه قال فى الآية: رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر وأنا الهادي. وفى لفظ: والهادي رجل من بنى هاشم؛ يعنى نفسه.، وقد أطال الألوسي فى رد هذا الخبر ومناقشته بما خلاصته أن تصحيح الحاكم لا يعتد به، وأنه على فرض صحة الخبر فكل ما فيه أن عليًّا -كرم الله وجهه- من الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، ولا يخالف فى هذا أحد من أهل الحق.
وقال ابن كثير فى هذا الخبر: فيه نكارة شديدة، ولقد أفسد الناس كثيرًا مما ينتفع به من علم على -كرم الله وجهه- بما دسوه عليه وما نسبوا كذبًا إليه حتى روى مسلم بسنده عن طاووس قال: أتى ابن عباس بكتاب فيه قضاء على رضى الله عنه فمحاه إلا قدر، وأشار سفيان بن عيينة بذراعه. وروى كذلك عن حسن بن على الحلواني بسنده عن أبى إسحاق قال: لما أحدثوا تلك الأشياء بعد على رضى الله عنه قال رجل من أصحاب على: قاتلهم الله، أى علم أفسدوا.
ولا لزوم لأن تحمل الآية الكريمة كل هذه الأقوال، فالله -تبارك وتعالى- يجيب هؤلاء المقترحين بأن مهمة النبى ليست الإتيان بالآيات ولكن الإنذار التى تترتب عليه الهداية، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم وهو المنذر لهم لم يكن بدعًا من الرسل فلكل قوم هاد يهديهم؛ كما قال تبارك وتعالى: }وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر: 24].
وقد ورد الكلام فى هذه البحوث كلها مطولاً فى تفسير المنار فى الأجزاء السابقة؛ السابع والحادي عشر عند الكلام على سورتي الأنعام ويونس، فليرجع إليه؛ ففيه بحوث نفيسة لم نرد التطويل بتلخيصها.
الإسلام والمعجزات والعجائب:
ليست الرسالة بدعًا من النظم؛ بل هى فى حقيقتها ومهمتها نظام طبيعي بحت يستلزمه هذا الوجود الإنساني بما جبل عليه من فطر وأخلاق، وإلى هذه الإشارة يقول الله -تبارك وتعالى-: }أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ [يونس: 2] وبقوله تبارك وتعالى حكاية عن نوح -عليه السلام-: }أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف: 63].
وليس الوحي كذلك بدعًا من النظم فى هذا الكون، فهو لا يعدو أن يكون اتصالاً بين بشر من بنى الإنسان وبين الملأ الأعلى بأسلوب يتناسب مع طبيعة الروحانية الإنسانية التى هى فى حقيقتها فيض من روحانية هذا العالم العلوي، وليس عجيبًا أن يتصل النوع بأصله وأن يعود الماء إلى نبعه متى تعلقت بذلك الإرادة الإلهية.
وقد جاء هؤلاء الرسل الكرام يرشدون الناس إلى الخير ويهدونهم سواء السبيل، وقد قص علينا القرآن الكريم من نبأهم، وذكر أن الله -تبارك وتعالى- أيدهم بنصره وآياته، وأن كثيرًا منهم قد جاء قومه بما أعجزهم من خوارق العادات وعجائب الآيات؛ فسفينة نوح وناقة صالح وعصا موسى وعجائب عيسى كلها ورد ذكرها فى القرآن الكريم بما لا يدع مجالاً للارتياب فيها، ولا للشك فى وقوعها وحدوثها على أيديهم صلوات الله تعالى وسلامه عليهم.
وقد اختلف الناس فى أمر هذه المعجزات، وسنلخص فى هذا البحث نظرة الإسلام الحنيف إليها وما يجب أن يعتقده المسلم بخصوصها.
1- تعريف المعجزة: المعجزة أمر خارق للعادة يقع على يد نبى مقرونًا بدعوى التحدي.
2- الحاجة إليها فى تأييد الرسالة: يخاطب الرسل -عليهم الصلاة والسلام- عقول الناس وأرواحهم، وفى هذه العقول ما هو مشرق مستنير يدرك الحق بأشعته وأضوائه فيؤمن به ويسلم له ويهتدى بهديه، وهؤلاء لا تحتاج الرسالة معهم إلى معجزات أو عجائب، ومن هذه العقول ما هو مظلم متحجر صلب لا تؤثر فيه موعظة ولا ينفع فى إرشاده ضياء، وهؤلاء كذلك ميؤوس من إصلاحهم مهما كانت العجائب والمعجزات، وكلا الصنفين قليل فى الناس وإنما يكون عامة الناس ودهماؤهم فى درجة عادية من الإدراك العقلي تحتاج إلى ما ينبهها من غفلتها ويوقظها من رقدتها، وليس لك إلا المعجزة تقرع آذانهم وتنفتح عليها أبصارهم فتحار فيها مداركهم وعقولهم، ويؤمنون بأن هذا النبى إنما يتحدث عن قوة فوق قوتهم ويتصل بقدرة أعظم من قدرتهم، ويستمد من عالم أسمى من عوالمهم، ومن هذا الشعور يقادون إلى الإيمان وتنفتح بصائرهم لاستيعاب أدلته والنظر فى حججه وبراهينه حتى يترقوا من هذا التسليم إلى غايته وحقيقته، ولهذا كانت المعجزة من لوازم الرسالة، ولا يكابر فى هذا إلا جاهل بطبائع الناس أو ممارى حقائق الأمور.
3- موقف الناس من المعجزات: أنكر كثير من المرتابين المعجزات قليلها وكثيرها ما تقدم منها وما تأخر، بحجة أنها تخالف النواميس الكونية ولا تتفق مع نتائج البحوث العلمية، وقد يحتج بعضهم بقول الله -تبارك وتعالى-: }فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً [فاطر: 43-44]، وقد يلجأ بعضهم إلى تأويل ما ورد من النصوص القرآنية مشيرًا ومصرحًا بهذه المعجزات والخوارق.
وهؤلاء جاحدون جامدون متعسفون متكلفون ولا دليل لهم فيما ذكروا؛ فإن نواميس الكون التى علمها الناس ليست هى كل شىء، ولا زالت هناك نواميس لم تعرف بعد ولعلها أكثر مما عرفوا بل إنها لكذلك. ونتائج العلم الحديث لا تزال تترقى وتتغير وتتبدل بحكم ترقى الفكر الإنساني وتقدمه، والآية الكريمة حجة عليهم لا لهم، فقد علمنا بحكم الواقع أن من نواميس الله خرق النواميس الكونية لتأييد رسله وأنبيائه ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا، وكثير من أمثال هذه العجائب تقع بين ظهرانينا ولا يقال: إنها خرق لنواميس الكون، والآيات الواردة بهذه المعجزات فى صراحتها ووضوحها لا تحتمل التأويل إلا من متلاعب باللفظ صارف له عن مدلوله صرفا تامًا، فضلا عن أن هذا التأويل لا موجب له بعد ما بيناه.
وفريق ثانٍ سلم بالمعجزة من حيث هى وبوقوعها فى الأمم السابقة على يد الأنبياء السابقين -صلوات الله وسلامه عليهم- كما ورد ذكر ذلك فى القرآن، ولكنه نفاها فيما يتعلق بأمة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته نفيًا تاما، واحتج لذلك بأنها لم ترد فى القرآن، وبتصريح القرآن برد الكفار عن مقترحاتهم هذه مع عدم إجابتهم إليها، حتى ورد ذلك صريحًا فى نحو الآية الكريمة: }وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآَيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ [الإسراء: 59] وجرحوا ما جاء فى ذلك من الأخبار الصحيحة، وأوَّلوا ما رأوا أنه يحتمل التأويل منها؛ قالوا: إن المعجزة الكبرى لنبينا صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم، واستدلوا لذلك بما قدمنا من حديث الشيخين والترمذي والنسائي من حديث أبى هريرة مرفوعًا: "ما من نبى من الأنبياء إلا أعطى ما مثله أمين على البشر، وإنما كان الذى أوتيته وحيًا أوحاه الله إلىَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة". قالوا: فهذا الحديث الصحيح والآيات الكريمة تنطق بأن آية النبى صلى الله عليه وسلم هى القرآن الكريم ولا نعدل عن ذلك لآثار مهما صحت؛ فهي لا تنهض لمعارضة هذه الأدلة.
وهؤلاء قوم غالون قد ورطوا أنفسهم فيما لا موجب له من تجريح كثير من الأحاديث والأخبار الصحيحة التى لا مغمز فيها سندًا ولا متنًا، وكلها تنطق بغرائب المعجزات التى وقعت على يد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كما ورد فى حديث تكثير الطعام، وقد رواه الشيخان من طرق عدة، وكما فى الأحاديث الكثيرة التى استجاب الله فيها دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم أو كف عنه الأذى أو أخبر فيها بما سيقع لأمته من بعده، وكلها صحاح لا مطعن عليها، ولا داعي لتأويلها أو إنكارها من عقل أو نقل.
وفريق ثالث سلم بالمعجزة من حيث هى وبوقوعها للأنبياء السابقين -صلوات الله وسلامه عليهم- وبوقوعها فى هذه الأمة على يد رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- متى صح بذلك الخبر، ولكنه نفى أن يكون ذلك لإثبات الرسالة، ولكنه لكشف الأذى أو لإجابة الدعاء أو لتثبيت أهل الإيمان... إلخ. ولم يقع شىء فيها إجابة لمقترحات المشركين أو إقناعًا لهم بصدق الرسول؛ إذ أن دعامة الإيمان فى هذا الدين الإسلامي الحنيف الاستدلال العقلي السليم ولا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغي، وقالوا: إن فى ذلك جمعًا بين الأدلة التى نفت والتي أثبتت، فيكون المراد بالنفي نفى الإقناع والاستدلال، ويكون المراد بالإثبات إثبات الوقوع من حيث هو، وهو مذهب حسن ورأى معقول لا حرج على قائله ولا الأخذ به؛ إذ كل ما هنالك تنزيه الإسلام على أن يستخدم هذه الخوارق كنوع من أنواع الأدلة الإقناعية، وهو كذلك.
وقد أكثر جماعة من إيراد المعجزات وتلمس الخوارق والتسليم بكل ما ورد من ذلك من طريق واهٍ أو ضعيف بل موضوع، يريدون بذلك أن يستدلوا لعظمة هذا الدين وعظمة النبى الذي جاء به صلى الله عليه وسلم فأساءوا من حيث أرادوا الإحسان، ودفعوا غيرهم إلى إنكار الخوارق جملة والقدح فيها. ولا لزوم لشيء من هذا؛ فإن هذا الدين عظيم متين بوضوح حجته واستقامة طريقه، والرسول صلى الله عليه وسلم كريم أمين بما اختصه الله به من عظيم الفضائل وجميل الصفات وعموم البعثة وخلود الأثر، وكان فضل الله عليك عظيمًا.
بقى أن يقال: إن انشقاق القمر معجزة وقعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إجابة لاقتراح مشركي قريش وقد كذبوا به، ومع ذلك فلم يهلكهم الله -تبارك وتعالى- ولم يستأصلهم، وقد أجيب على ذلك بأمور؛ منها: أن هذه المعجزة لم تكن إجابة لاقتراحهم كما ورد فى حديث عبد الله بن مسعود رضى الله عنه فإن لم يذكر فيه أنهم اقترحوا ذلك، ولكن هذا لا ينفى الاقتراح فى روايات أخر؛ ومنها أن قاعدة الاستئصال أغلبية لا كلية، وأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم قد أمنها الله منها وهو جواب حسن لا بأس به، ومنها أن أحاديث انشقاق القمر نفسها فيها كلام طويل وقد أفاض فى ذلك صاحب المنار فى المجلد الثلاثين، وذهب إلى أن هذه الآثار فى أسانيدها ومتونها ما يوجب ضعف الاعتماد عليها، وتلك مسألة فنية، الحكم فيها لقواعد المحدثين، والمهم أن نخرجها من حيز الطعن فى العقيدة؛ فإن الأساس مسلم من كل منصف وهو الإيمان بما صح عن الله ورسوله من المعجزات التى وقعت لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم(6).
المصادر
- مجلة المنار – المجلد الخامس والثلاثون – الجزء الخامس – صـ9 : 18 – غرة جمادى الآخرة 1358هـ / 18يوليو 1939م.
- مجلة المنار – المجلد الخامس والثلاثون – الجزء السادس – صـ1 : 34 – غرة رجب 1358هـ / أغسطس 1939م.
- مجلة المنار – المجلد الخامس والثلاثون – الجزء السابع – صـ1 : 15 – ربيع الأول 1359هـ / أبريل 1940.
- مجلة المنار – المجلد الخامس والثلاثون – الجزء الثامن – صـ1 : 13 – ربيع الآخر 1359هـ / مايو 1940م.
- مجلة المنار – المجلد الخامس والثلاثون – الجزء التاسع – صـ1 : 10 – جمادى الآخرة 1359هـ / أغسطس 1940م.
- مجلة المنار – المجلد الخامس والثلاثون – الجزء العاشر – صـ1 : 12 – شعبان 1359هـ / سبتمبر 1940م.