رؤية الإمام البنا في الاصلاح الاجتماعي من خلال آيات القرآن

إعداد موقع الإمام حسن البنا

سعى الإمام حسن البنا لعلاج نواحى الخلل المختلفة فى المجتمع، حيث أن قضية إصلاح المجتمع هي القضية المحورية والأساسية التي جاءت بها الرسالة الخاتمة.

حيث اعتبر أن التربية الصحيحة تهيئ الفرد للعيشة الكاملة، وتصل بجسمه وروحه إلى الكمال الإنساني، وترشده إلى حقوقه وواجباته، وهي لهذا أكبر مؤثرٍ في حياة الأمم، وعليها يتوقف مستقبلها، وعنها تنتج عظمتها وسقوطها.

 

خواطر مهداة إلى القسم الثاني

} الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج: 41].

كنت أعددت لهذا الحديث موضوعًا كان من شأنه أن أحلق أنا وحضرات القراء الكرام فى سماء من الروحانية الصافية الخالصة، ونطل من شرفات هذا التفكير النفسانى اللذيذ على بعض معانى الجمال فى هذا الملأ الأعلى، وندع وراءنا ظهريًا هذا العالم المادى المضنى المتعب؛ فنستريح ولو يومًا فى الأسبوع أو ساعة من اليوم من هذا الضجيج الصاخب ضجيج السياسة وعجيج الحوادث والأخبار.

لولا أن أخًا من الإخوان كتب إلىَّ، وكان فيما كتب: إن هذه الجريدة صوت من الحق طالما انتظره أهله والغيورون عليه ليصدع بكلمتهم ويبين عن رأيهم، وإن لهم من خطرات النفوس وخلجات الضمائر حول مظاهر الحياة فى هذا الوطن ما يعتبرون السكوت عنه وعدم التبرم به تبعة من التبعات، يُسألون عنها بين يدى الله والناس، وقد مضى على هذه الجريدة أسبوع وهذا أسبوع آخر.. فإلى متى؟! "البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت".

قرأت هذا الخطاب فلم أر بدًا من أن أجعل موضوع هذا الحديث هذه الكلمات، وهى إن تكن تذكرة لكل قارئ فلعل فيها معنى من الخصوص بالسادة الذين مكن الله لهم، وجعلهم أقدر من غيرهم بما أعطاهم من سلطان، على أن تتغير بهم الأوضاع، ويتبدل أمر الناس من حال إلى حال، "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".

ولقد أراد الإسلام أن يكون "حديث الجمعة" على منابر المساجد تذكرة للمسلمين جميعًا، ولكن كثيرًا من هؤلاء السادة من كبار الحكام والوزراء ورؤساء المصالح والدواوين وغيرهم ممن بيدهم مقاليد الأمور، اعتادوا ألا تراهم هذه المساجد إلا فى صلاة رسمية أو تشريفة ملكية؛ فكان لا بد أن ينتقل المنبر إليهم على يد باعة الصحف وموزعى الجرائد إذ لم يريدوا هم أن ينتقلوا إليه، ولا تجد مندوحة من القول وقد أتاح الله لنا هذا المنبر المتنقل؛ فقد أخذ الله الموثق على أهل العلم وورثة الكتاب أن يبينوه للناس ولا يكتموه: والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وإفشاء النصيحة من لب هذا الدين وصميمه، ونادى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا الله فلا يستجاب لكم، وقبل أن تستغفروه فلا يغفر لكم، إن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لا يدفع رزقًا ولا يقرب أجلاً".

وإن أول ما نلفت إليه أنظار هؤلاء السادة أن نطالبهم بأن يكونوا فى مقدمة الناس بكورًا إلى المساجد، ومحافظة على الصلوات؛ فإن من حق الله عليهم -وقد جعلهم أئمة الناس فى أمور دنياهم- أن يكونوا القدوة الصالحة لهم فى شئون آخرتهم، ونحن لا نحاول أن نعظهم بالآيات، أو نورد لهم الأحاديث، أو نسوق بين أيديهم الأدلة والمرجحات؛ فذلك كله مفروغ منه، وهم يعلمونه كما يعلمه أهل الاختصاص به، ولكن الجديد الذى أريد أن أوجه إليه الأنظار أن هناك من ساعات محاسبة النفس وفترات تحرك الشعور والوجدان لحظات لو خلا فيها إنسان بنفسه، وناقشها الحساب فى كثير مما نأخذ أو تدع لأفاد من ذلك خيرًا كثيرًا، ولاهتدى إلى كثير من مناهج الرشد وطرائق السداد والخير؛ فعلى الذين يريدون الخير لأنفسهم أن ينتهزوا هذه الفرص ليجددوا فيها تعرفهم إلى الله }وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ [الشورى: 25-26].

وهؤلاء السادة أنفسهم من الحكام والوزراء والأمراء ورؤساء المصالح والدواوين قد شعروا تمام الشعور بما أنتجه الفقر، وألحت به الفاقة فى هذا المجتمع الذى نزل مستوى المعيشة فيه لأكثر من ثلثى السكان على مستوى دونه معيشة البهائم والعجماوات؛ مما جعلهم يطيلون التفكير، ويعقدون اللجان تلو اللجان، وتعلو الأصوات قوية مدوية فى المجالس النيابية، وفى الأندية الحزبية، وفى الصحف والمجلات بوجوب عمل شىء لعلاج هذه الحال.

وإذا قيل: إن هناك عقبات داخلية أو خارجية تحول دون تنفيذ القوانين وتحقيق الكثير من مشروعات الإصلاح؛ فأية عقبة أمام النفوس والأفراد إذا أرادوا أن يتصرفوا فيما يملكون؟ ولماذا لا يتقدم هؤلاء السادة أمام غيرهم من الناس ويخرجون زكاة أموالهم طيبة بها نفوسهم، ويقيمون بها للمستحقين المشروعات الإصلاحية، ويجعلوها لهم رءوس أموال توجه فى معان إنتاجية تحول بينهم وبين العوز والتشرد والحرمان، ولنتصور أن عبود باشا والبدراوى باشا وصدقى باشا وحافظ عفيفى باشا وعلى الشمسى باشا وأمثالهم من رجال المال والأعمال بمصر أخرجوا زكاة المال وسلموها للمستحقين، ثم اعتبروها لهم أسهمًا فى مشروعات منتجة أو شركات مربحة، أو أرشدوهم إلى كيفية استغلالها كرءوس أموال صغيرة.. كيف تكون الحال فى محاربة البؤس والفاقة من جهة، وفى سريان معنى الخير والثقة والبر فى نفوس غيرهم من الناس؟ وأية عقبة خارجية أو داخلية تحول دون ذلك وفيه الفلاح }وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9]؟.

وفى المجتمع المصرى كثير من مظاهر الضعف والفساد، كانت غمرة الحرب تحول دون التفكير فى مقاومتها والعمل للقضاء عليها؛ فلماذا لا تحاول الحكومة وقد انتهت هذه المعوقات أن تؤدى واجبها، وأن تنقذ الشعب من أضرار هذه المهلكات "الخمر والبغاء والربا والقمار"؟.

إننا أمة تشكو كثيرًا من العلل الاجتماعية والاقتصادية والآفات الخلقية، ولا نشك أن هذه الموبقات الأربع من أصول هذه العلل والآفات ودعائمها؛ فلماذا لا نجرب المحاولة فى التخلص من أضرارها وإنقاذ الناس من شرها.

أعلم أن ذلك يحتاج إلى دراسة وجهد بقدر ما يحتاج إلى إرادة وعزم، وأنه ليس الشأن فى القضاء عليه بمقال يكتب أو بنصيحة تسدى، ولكن بتقدير النتائج وإعداد العلاج لكل أثر من الآثار، أعلم ذلك كله ولكن هذا لا يمنع أبدًا من الإقدام على استئصال الداء؛ فمهما قيل عنه فهو داء، ثم النظر بعد ذلك إلى الوقاية من المضاعفات والآثار.

هذه خطرات من حديث الجمعة أثارها فى النفس خطاب ذلك الأخ الناصح، أما الحديث الذى أشرت إليه فى صدر هذا المقال فموعدنا به الأسبوع القادم إن شاء الله(1).

تناقض

الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية (المادة 149) من الدستور المصرى.

ومصر زعيمة دول العروبة ومقر الجامعة العربية، وقدوة بلاد الإسلام فى الشرق والغرب، وفى مصر الأزهر المعمور رافع لواء الدعوة الإسلامية ألف عام أو تزيد.

ومع هذه القواعد المقررة ترى فى مصر كل شىء فى حياتها العامة يكاد يناقض ما جاء به الإسلام، ويصطدم بما قرره من قواعد وأحكام، هذه حانات الخمر وأندية الميسر والقمار تدار علنًا ليلا ونهارًا ، وسرًا وجهارًا، يغشاها الصغير والكبير والعظيم والحقير كأنها من المباحات أو القربات، وكأن الله -تبارك وتعالى- لم يخاطب فيها الذين قالوا كلمة الإسلام بقوله: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُم مُّنتَهُونَ [المائدة: 90-91].

وهذه مواخير الفجور، ودور العصيان والفسوق، تحتل من العواصم والمدن أفلاذ كبدها، وتستلب شرف أبنائها وبناتها فى حماية القانون، وبين سمع الحكومة وبصرها كأن الله لم يفصل حكم ذلك تفصيلا، ولم يقل: }وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [الإسراء: 32].

ولقد تألفت اللجان يتلو بعضها بعضًا لإلغاء البغاء والقضاء على هذا البلاء، وانتظر الناس طويلا حتى أدت اللجان مهمتها، وأفتت الحكومة بوجوب التخلص من هذا العار وإنقاذ الأمة من البوار.

وتعلل المتعللون بظروف الحرب وضروراتها، وأصدرت بعض الحكومات قرارات رسمية لم تتبعها بخطوات عملية، وهاقد مضى على الهدنة قرابة عامين وكل شىء هادئ مستقر فى ميدان المعصية والإثم، والحكومة منصرفة عن هذا الواجب المحتوم، مشغولة عنه بما لا يسمن ولا يغنى من جوع.

والأحكام فى كل المعاملات تصدر متوجة بتقرير "الفائدة القانونية"، وليست هذه الفائدة القانونية إلا الربا، الذى حرمه الله فى كتابه، وتوعد بالعذاب والحرب من أقدم عليه من عباده، ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكله وموكله وكاتبه وشاهديه وكل من له به صلة من قريب أو من بعيد، وهل أبلغ فى الزجر وأقوى فى الردع من قول القرآن الكريم }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ * وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 278-280].

على أن الأحكام لا تقف فى مخالفة الإسلام عند هذا الحد؛ بل هى من أساسها إنما تقوم على القوانين الأجنبية والشرائع الوضعية التى تسربت إلينا فى فترة من الوهن وغفلة من الزمن، فتقبلناها راضين وطبقناها مسرورين، ونسينا أن بين أيدينا كنوزًا من الفقه الإسلامى لا يبلى جديدها ولا ينتهى عديدها، وما عرفت الدنيا نفوسًا تقية وعقولا ذكية وأذهانًا صافية وأوضاعًا شافية وافية كافية كما عرفت ذلك من أئمتنا ومشترعينا: مالك، والنعمان، والشافعى، وسفيان، وداود، وأحمد، وأبو يوسف، ومحمد، وأصحابهم الذين كانوا غرة مشرقة فى جبين الدهر:

من الرجال المصابيح الذين همو         كأنهم من نجوم حية صنعوا

ونسينا كذلك أن الله قد جعل هذا فى كتابه شرطًا للإيمان، وأقسم عليه بذاته }وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ [الواقعة: 76]، فقال تبارك وتعالى: }فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِى أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء: 65]. وأكد الوصية على نبيه صلى الله عليه وسلم أن يكون بذلك مستمسكًا وعليه محافظًا، فقال: }وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة: 49-50].

ومنابع الثقافة العامة فى هذه الأمة: الجرائد، والمجلات، والمسارح والخيالات، ومحطة الإذاعة، والحفلات الساهرة، والليالى الحمراء الفاجرة.. أين هذه كلها من الإسلام وتعاليم الإسلام؟ ومن الذى يشرف على هذه المنابع الثقافية، ويجيز تقديم برامجها للناس؟ مجموعات من الموظفين، آخر ما يفكرون فيه ويقيسون به الأمور الآداب الإسلامية أو التقاليد القومية، وليس فيهم من يمثل الهيئات الإسلامية أو الجماعات الشعبية، وهى أولى الناس بالاضطلاع بهذا الأمر لصلته الوثيقة بمهمتها، وبما أخذت نفسها به من إصلاح اجتماعى وكفاح شعبى.

وإذا تسممت هذه المنابع بالأفكار الخاطئة والمقاصد التافهة، والألفاظ الجافية والصور النابية؛ فلن تصح بها العقول، ولكن تمرض بها الأذهان والأفهام.

وبعد هذا كله:

فدين الدولة الرسمى الإسـلام.. ومصر زعيمة بلاد العروبة وقدوة العالم الإسـلامى!!

فحدثونى أيها السادة القراء بربكم:

أليس هذا هو التناقض بعينه، والله -تبارك وتعالى- يقول: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ [الصف: 2-3]؟(2).

 

داء

} وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى وَلْيُؤْمِنُوا بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة: 186].

من أراد أن يدخل مستشفى حتى ولو بالأجر احتاج إلى واسطة، وفكَّر فى الواسطة.

ومن أراد أن يُدخل ابنه المدرسة الابتدائية أو الأولية أو الثانوية احتاج إلى واسطة، وفكَّر فى الواسطة.

ومن كانت له ورقة فى مصلحة أو ديوان فلا يمكن أن تتحرك من موضعها أو تتزحزح من مكانها إلا بواسطة.

ومن أراد الانتقال من بلد إلى بلد بحق أو بغير حق احتاج إلى الواسطة، وفكَّر فى الواسطة.

ومن طلب التعيين فى عمل صغير أو كبير أو طالب بترقية أو علاوة مستحقًا أو غير مستحق.. فليس له من تفكير إلا فى الواسطة.

وهكذا لا شىء إلا البحث عن الواسطة والتفكير فيها بل حشد الوسائط لكل عمل كائنًا من كان، داء عياء ورب الكعبة، وإذلال للنفوس، وإراقة لماء الوجوه، وذهاب بالعزة والكرامة التى طبع الله عليها هذا الإنسان، وتعطيل للأعمال، ومضيعة للحقوق، وإرهاق ما بعده إرهاق، وإلى الله المشتكى.

تلك أعراض الداء ونتيجته، ولكن ما سببه وعلته؟.

سببه أمران: 

فقدان الثقة بالقانون وضعف سلطانه على النفوس وعدم احترامه وإنفاذه ومراعاة قدسيته بين الرؤساء الذين فشت بينهم الرشوة والمحاباة والاستثناء حتى أصبح الاستثناء هو القاعدة، وصار السير على القواعد واللوائح والقوانين استثناء فى كل الأعمال.

وحسب الرئيس أن يتخطى القانون مرة واحدة، أو يستثنى، أو يحابى فى الحق مرة واحدة؛ ليضرب بذلك أسوأ المثل لأصحاب الأعمال الذين لا يرون فى القانون بعد ذلك إلا ستارًا للمآرب والشهوات والأهواء.

ورحم الله عمر بن الخطاب ؛ كان إذا أمر أمرًا أو نهى نهيًا جمع أهله أولا ثم أعلمهم بذلك، فقال: "يا آل عمر، إنى أمرت اليوم بكذا، أو نهيت عن كذا؛ فوالله الذى نفس عمر بيده لا أعلم أن أحدًا منكم قصر فيما أمرت به، أو فعل ما نهيت عنه إلا ضاعفت عليه العقوبة؛ فإن الناس ينظرون إليكم كما تنظر الطير إلى اللحم".

والسبب الثانى: تركيز الأعمال تركيزًا معطلا فى يد الرؤساء الكبار، واعتزازهم بهذه السلطة، وحرصهم عليها، وجمعهم كل مظاهرها فى أيديهم، وحرمان مَن هم دونهم من كل تصرف حرمانًا أفقدهم الثقة بأنفسهم، وعودهم الهرب من التبعات، والتخلص من تحمل المسئوليات، وجعلهم أدوات لا رأى لها ولا إرادة؛ فكل شىء مرده إلى المدير.. بل إلى الوزير.. بل إلى رئيس الحكومة.

هذا وضع خاطئ جاءنا به الاستعباد والاحتلال؛ إذ كان المستشار الإنجليزى أو الرئيس البريطانى يحرص كل الحرص على ألا يدع لمرءوسيه من الوطنيين شيئًا مهما قل من السلطة والتصرف المهم إلا إذا أراد أن يحتمى وراءه فى خطأ يرتكبه أو عمل شائن يبغض الناس فيه، ولقد كنا مكرهين على هذا الوضع يوم لم يكن لنا من أمرنا شىء فى الداخل أو فى الخارج، أما وقد وكل إلينا أمرنا ولو فى الداخل على الأقل فلم يعد هذا الوضع مفهومًا بحال من الأحوال.

فالاعتداء على سلطة القانون وقدسيته، وتركيز الأعمال فى أيدى الرؤساء وحرمان المرءوسين من حق التصرف، مع فشو الرشوة، وضعف الخلق.. هما سبب هذا الداء العياء.

أما علته الروحية فى نفوس المؤمنين من الشعوب فليست إلا ضعف الإيمان وتغليب ملاحظة الأسباب على المسبب؛ إذ لو قوى إيمان هؤلاء بالله، ورأوه سبحانه قبل كل شىء وبعد كل شىء ومع كل شىء وبيده ملكوت كل شىء، هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شىء عليم، وفقهوا قوله -تبارك وتعالى-: }للهِ الأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ [الروم: 4]، }أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 54]، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس : "يا غلام احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشىء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك لم يضروك إلا بشىء قد كتبه الله عليك، جفت الأقلام وطويت الصحف".

لو فقه الناس هذا لأخذوا فى الأسباب مجملين، ولتركوا الأمر بعد ذلك لرب العالمين، ولصانوا هذه الوجوه عن الذلة، ولثاروا فى وجوه هؤلاء المعتدين، يطالبونهم بالحق، ويأطرونهم عليه أطرًا، ويرحم الله القائل:

رأيت خيال الظل أعظم عبرة             لمن هو فى علم الحقيقة راقى

شخوص بلا روح تمر وتنتهى            ترى الكل يفنى والمحرك باقى

والله أكبر ولله الحمد(3).

 

ثورة

} وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة: 105].

"اللهم إنى أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال". 

نموذج من أدعية رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم..

ألا تراه ثورة على كل مظاهر الضعف فى الإنسان: على الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وغلبة الدين وقهر الرجال.

يتحدثون عن الثورة الفرنسية بالأمس؛ فيكثرون الحديث عنها، ويقولون: إنها قررت حقوق الإنسان، وأعلنت الحرية والإخاء والمساواة، ويجعلونها مشرق الشمس ومفتاح التاريخ لنهضة الغرب الحديثة.

ويتحدثون فى اليوم عن الثورة الروسية؛ فيكثرون الحديث عنها، ويرى كثير من الذين يعلمون أو لا يعلمون أنها انتصفت للفقراء من الأغنياء، وأشاعت معنى المساواة بين الطبقات، وأعلنت العدالة الاجتماعية فى الناس.

ويذكرون الإسلام الحنيف؛ فلا يرى فيه الكثير من الناس إلا أنه "دين"، ويحملون بعد ذلك هذه الكلمة من الصور والرسوم والخيالات ما تمليه عليهم ثقافتهم المتباينة وتصوراتهم المتخالفة؛ فمنهم من يتصور هذا الدين ضعفًا وتخاذلا، ومنهم من يظنه كسلا وتواكلا.

ومنهم من يذهب إلى أنه رقى وتمائم وشعوذات وعزائم، ومنهم من لا يجاوز به معانى العبادات الروحية، والطقوس الشكلية، وخيرهم من يراه صلة بين العبد وربه وتطهيرًا لروحه ونفسه.

والأقلون عددًا من يدركونه على حقيقته، ويتعمقون فى تصور غايته ووسيلته، ويتعرفونه وحدة فى الإصلاح الاجتماعى كاملة شاملة لم تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتها }وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89].

بل إن من الناس من يذهب به الجهل بالإسلام إلى أغرق المذاهب فى الوهم وأبعدها فى الضلال؛ فيظن الإسلام عقبة فى طريق الإصلاح، وإضعافًا لروح المقاومة والكفاح، وصرفًا للجماهير عن تعرف حقوقها، ومخدرًا إياهم عن المطالبة بها والجهاد فى سبيلها، وهو لذلك يحاربه أشد المحاربة، ويتجنى عليه أعظم التجنى، ويصف أهله والعاملين له والداعين إليه بأنهم دعاة الرجعية والتأخر، وخصوم التقدم والتحرر... إلى غير ذلك من أوصاف ابتدعوها ونعوت اخترعوها، ما أنزل الله بها من سلطان }إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى [النجم: 23].

ونسى الجميع أن الإسلام فى غايته ووسيلته ثورة كبرى، تتضاءل دونها نظريًا وعمليًا وتاريخيًا آثار الثورة الفرنسية أو الثورة الروسية.

ثورة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى يزلزل الأوضاع الفاسدة، ويحطم صروح البغى والعدوان الشامخة، ويحدد معالم الحياة وأوضاعها، ويقيمها على أثبت الدعائم وأكرم القوائم.

ثورة على الجهل، جهل الإنسان بنفسه؛ لأنه عرف الإنسان ما الإنسان، وجهل الإنسان بكونه لأنه ربط ما بينه وبين هذا العالم العجيب بأوثق رباط، وجعل دوام النظر والدأب على التفكير طريق العلم والعرفان، وجهل الإنسان بربه؛ لأنه رسم للناس أقوم السبل فى معاملة الواحد الديان.

وثورة على الظلم بكل معانيه؛ ظلم الحاكم للمحكوم لأنه قرر بينهما التكافل والمساواة والتعاون والمصافاة، وعرف كلا منهما حقوقه وواجباته، وفرض عليه أن يكون لها واعيًا وعليها محافظًا، وقضى على كل معانى التعسف والاستعباد والتحكم والاستبداد، وظلم الغنى للفقير فالغنى مسئول عن أخيه، وله فى ماله حق معلوم لا يستطيع أن يجحده أو يتخلف عن أدائه، والقانون والدولة بعد ذلك من ورائه، والخليفة الأول يقول: "والله لو منعونى عقالا كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم متى استمسك السيف بيدى"، وظلم القوى للضعيف فلا قوة ولا ضعف فى الإسلام إلا بميزان الحق؛ فأقوى الأقوياء صاحب الحق حتى ينتصف له، وأضعف الضعفاء صاحب الباطل حتى ينتصف منه، ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل. 

وثورة على الضعف بكل مظاهره ونواحيه: 

ضعف النفوس بالشح والإثم.

وضعف الرؤوس بالغباء والعقم.

وضعف الأبدان بالشهوات والسقم.

فيا أيها المنصفون، لا تظلموا الحقائق بجهلها أو بتجاهلها، واذكروا دائمًا أنه إذا كانت الثورة الفرنسية قد أقرت حقوق الإنسان، وأعلنت الحرية والمساواة والإخاء، وإذا كانت الثورة الروسية قاربت بين الطبقات، وأعلنت العدالة الاجتماعية فى الناس؛ فإن الثورة الإسلامية الكبرى قد أقرت ذلك كله من قبل ألف وسبعمائة سنة، ولكنها سبقت سبقًا لن تلحق فيه فى أنها جملت ذلك وزينته بالصدق والعمل؛ فلم تقف عند حدود النظريات الفلسفية، ولكن أشاعت هذه المبادئ فى الحياة اليومية العملية، وأضافت إليه بعد ذلك السمو بالإنسان واستكمال فضائله ونزعاته الروحية والنفسانية؛ لينعم فى الحياتين، ويظفر بالسعادتين، وأقامت على ذلك كله حراسًا أشداء أقوياء من يقظة الضمير، ومعرفة الله وصرامة الجزاء وعدالة القانون.

فهل بعد ذلك من زيادة لمستزيد؟ اللهم لا(4).

 

ميزان

} الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ [الرحمن: 5: 7].

الشمس تسير بقدر ونظام، لا تتأخر ساعة ولا تتقدم، والقمر يطلع ويغيب بقدر ونظام لا يتغير لحظة ولا يتبدل، والنبت الصغير والشجر الكبير يخضعان لناموس ثابت ونظام دقيق لا يخرجان عنه ولا يتخلفان، كل شىء فى هذه الحياة لم يخلقه الله عبثًا ولم يتركه سدى، ولكن خلقه بحكمة بالغة وألزمه سنة ماضية، ونواميس واضحة، ولن تجد لسنة الله تحويلا.

والتزام هذا النظام، والسير فى حدوده هو الميزان الذى تقوم عليه السماوات والأرضون، وتتحقق به حكمة الله فى الخلق، حتى إذا اختل النظام واعتل الميزان وأهمل الكتاب، كان ذلك نهاية هذا العالم، وآية قيام الساعة }اللهُ الَّذِى أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشورى: 17].

فى فطرة الإنسان "ميزان" هو "العدالة" بين قوى نفسه المختلفة من عفة وشجاعة وحكمة، حتى لا تنزل العفة إلى الخمول، ولا تزيد إلى الطمع، وحتى لا تنزل الشجاعة فيه إلى الجبن أو تزيد إلى التهور، وحتى لا تنزل الحكمة فيه إلى البله أو تزيد على المكر والخديعة، وحتى تصدر كل أعماله مقدورة بميزان العدالة والخير له وللناس، وهذا هو الميزان وهو فى الحقيقة حقيقة الإنسان ومن فطرة الله التى فطر الناس عليها.

وللأسرة ميزان، هو إعطاء كل ذى حق حقه من أعضائها، وقيامه بواجبه فى سبيلها، فإذا نسى كل إنسان واجبه، وأخذ أكثر من حقه، ولم يرعَ حقوق الآخرين، اختل ميزان الأسرة واعتل، وسادها القلق والاضطراب.

وللدولة ميزان، هو القانون العادل الرحيم الحكيم الذى يحدد حدود الحاكم والمحكوم، ويأخذ من الظالم للمظلوم، ويقيم العدالة بين الأفراد والجماعات والهيئات والطبقات }وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء: 58]، فإذا لم يكن للدولة ميزان، أو سخر ميزانها فى غير ما وضع له عمت الفوضى واضطرب النظام.

وللأمم فى اتصال بعضها ببعض ميزان هو القانون الدولى، متى خلصت فيه النية، وسلمت الطوية، ولوحظت فيه الأخوة الإنسانية والرابطة العالمية، فإذا تحكمت فيه الأهواء والأطماع، وتغلبت عليه المصالح والشهوات، وهو ما وضع إلا لكبح جماحها، والحد من نزعاتها ونزواتها }ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الروم: 41]، وسادت الناس شريعة التغلب والقهر، وفسد النظام، وفقد السلام.

والظاهر الواضح الآن لكل ذى عينين أن الدنيا جميعًا قد اختل ميزانها، فاعتل نظامها وهدد سلامها، وشاع القلق والاضطراب فى كل مكان، وأصبحت هذه الظاهرة الواضحة تنذر العالم بشر مستطير ليس أقل من الحرب الثالثة.

فإن لم يطفها عقلاء القوم                يكون وقودها جثث وهام

الفرد لا يجد السلام مع نفسه، والأسرة قد فقد أعضاؤها معنى الحياة الأسرية السعيدة، ونظم الحكم فى العالم كله يظلم بعضه بعضًا ولا تؤدى مهمتها أداء حسنًا فى أية بقعة من بقاء الأرض، والقانون الدولى، والحق والإنصاف، ومواثيق الهيئات الدولية، وعهود المنظمات العالمية لا وزن لها ولا اعتبار، وقد ساد الهوى كل مكان بما لم تر الدنيا له مثيلا حتى بعد الحرب العالمية الأولى، واعتبر ذلك بما تراه فى كل خلاف دولى بين شعبين يشعر أحدهما بأنه كبير وبأن الآخر أقل منه عددًا أو عدة.

فيا حملة الميزان فى الأرض انتبهوا.. واستيقظوا.. } وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ [الرحمن: 9] (5).

 

على الطور

} وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [القصص: 46].

كانت مصادفة من المصادفات، بدأتُ وردى فى محجر الطور بالربع الخامس من سورة الأعراف، فمررت الآيات الكريمة }وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِى الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِى نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ * قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف: 127-129].

وأذكر أننى وقفت أمام هذه الآيات بالذات وقفة تأمل وتذكر واعتبار، وجالت فى نفسى خطرات من المعانى التى تحيط بما تضمنته، وسبحت فى تفكير قطع علىّ التلاوة بعض الوقت، ثم عدت إلى ما كنت فيه.

وفرغت من التلاوة، وتناولت بعض الصحف المصرية التى وجدتها عرضًا، والتى يتلقفها القادمون من هذا السفر الطويل بلهف وشغف، بعد أن حُجبوا عن الحوادث والأخبار زمنا ليس بالقصير. وما أن قرأت ما اشتملت عليه هذه الصحف من تفاصيل ما وقع فى القاهرة وغيرها من البلدان المصرية حتى ترددت فى نفسى مرة ثانية معانى هذه الآيات السابقة.

وهكذا أهل الحق فى كل زمان ومكان -والتاريخ يعيد نفسه- يُتَهمون بالفساد والإفساد، وتحشد لهم القوى من كل صنف ولون، ويظن أهل البطش والجبروت أنهم عليهم قادرون، ولهم قاهرون، ويأبون إلا أن يصدموا قوة الحق بقوة البطش، متجاهلين أن فى يد أهل الحق سلاحين لن يفلا أبدًا، ولن يضعفا أبدًا، ولن يَهِنا أبدا: الاستعانة بالله وهو القوى العزيز، والصبر على المكروه مهما طال أمده وتعسف جنده، ولن يطول؛ فلا قيام للباطل إلا فى غفلة الحق.

هذه المعانى كلها من سنة الله الخالدة فى الكون؛ حيث يرث الله الأرض وما عليها، وما أشد حاجتنا نحن الذين نقرأ القرآن ونؤمن به ونهتف بتعاليمه أن نضعها نصب أعيننا، وأن نستلهم منها العظة والعبرة القوة، وأن نتذكر دائما ختام هذه المعركة وهو ختام هذه الآيات والعاقبة للمتقين(6).

 

توجيه

وقال عثمان بن كثير بن دينار: "إن عمر بن عبد العزيز كتب إلى بعض عماله: أما بعد فإنه لم يظهر المنكر فى قوم قط ثم لم ينههم أهل الصلاح منهم إلا أصابهم الله بعذاب من عنده أو بأيدى من يشاء من عباده، ولا يزال الناس معصومين من العقوبات والنقمات ما قمع فيهم أهل الباطل واستخفى فيهم بالمحارم؛ فلا يظهر من أحد محرم لا انتقموا ممن فعله، فإذا ظهرت فيهم المحارم فلم ينههم أهل الصلاح نزلت العقوبات من السماء إلى الأرض، ولعل أهل الأدهان أن يهلكوا معهم وإن كانوا مخالفين لهم، فإنى لم أسمع الله -تبارك وتعالى- فيما أنزل من كتابه عند مثلة أهلك بها أحدًا، نجى أحدًا من أولئك إلا أن يكونوا الناهين عن المنكر، ويسلط الله على أهل تلك المحارم إن هو لم يصبهم بعذاب من عنده أو بأيدى من يشاء من عباده من الخوف والذل والنقم؛ فإنه ربما انتقم بالفاجر من الفاجر، وبالظالم من الظالم، ثم صار كلا الفريقين بأعمالهما إلى النار؛ فنعوذ بالله أن يجعلنا ظالمين أو يجعلنا مداهنين للظالمين، ولقد بلغنى أنه قد كثر الفجور فيكم، وأن الفساق فى مدائنكم، وجاهروا من المحارم بأمر لا يحب الله من فعله، ولا يرضى المداهنة عليه، كان لا يظهر مثله فى علانية قوم يرجون لله وقارًا ويخافون منه غيرًا، وهم الأعزون الأكثرون من أهل الجور، وليس بذلك مضى أمر سلفكم، ولا بذلك تمت نعمة الله عليهم بل كانوا }أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29]، }أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة: 54]، ولعمرى إن من الجهاد فى سبيل الله الغلظة على أهل محارم الله بالأيدى والألسن والمجاهرة لهم فيه، وإن كانوا الآباء والأبناء والعشائر، وإنما سبيل الله طاعته.

وقد بلغنى أنه أبطأ بكثير من الناس عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لقاء التلازم أن يقال: فلان حسن الخلق، قليل الكلف، مقبل على نفسه، وما يجعل الله أولئك أحاسنكم أخلاقًا بل أولئك أسوؤكم أخلاقًا، ومن أقبل على نفسه من كان كذلك بل أدبر عنها، ولا سلم من الكلفة لها بل وقع فيها؛ إذ رضى لنفسه من الحال غير ما أمره الله أن يكون عليه من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وقد زلت ألسنة كثير من الناس بآية وضعوها غير موضعها، وتأولوا فيها قول الله عز وجل }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة: 105].

وصدق الله -تبارك وتعالى- ولا يضرنا ضلالة من ضل إذا اهتديا، ولا ينفعنا هدى من هدى إذا ضللنا }وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الإسراء: 15]، وإن مما على أنفسنا وأنفس أولئك مما أمر الله به من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؛ فلا يظهروا لله محرمًا إلا انتقموا مما فعله منهم من كنتم ومن كانوا، وقول من قال: إن لنا فى أنفسنا شغلا، ولسنا من الناس فى شىء، ولو أن أهل طاعة الله رجع رأيهم إلى ذلك ما عمل لله بطاعة، ولا تناهوا له عن معصية، ولظهر المبطلون المحلين فصار الناس كالأنعام أو أضل سبيلا، فتسلطوا على الفساق من كنتم ومن كانوا، فادفعوا بحقكم باطلهم، وببصركم عماهم؛ فإن الله جعل للأبرار على الفجار سلطانًا مبينًا، وإن لم يكونوا ولاة ولا أئمة، من ضعف عن ذلك فليرفعه إلى إمامه؛ فإن ذلك من التعاون على البر والتقوى، قال الله لأهل المعاصى: }أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ [النحل: 45-46]، ولينهين الفجار أو ليلهبنهم الله بما قال }لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلا [الأحزاب: 60].

أيتها الأمة المسلمة هكذا كان يخاطب الحكام شعوبهم، يحثونهم على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ويبصرونهم فى ذلك بأحكام الله؛ فرحم الله امرأ سمع، ففقه، فآمن، فعمل، فأخلص، فأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، وقام فى الناس بأمر الله.

وأنتم أيها الحكام والوزراء وذوو السلطان، إن لكم فى الخليفة الصالح لأسوة حسنة، فكفوا أنفسكم عن محارم الله، وخذوا رعيتكم بأحكامه وشرائعه "وكلكم راع وكل مسئول عن رعيته".

والله أكبر ولله الحمد(7).

 

أصنام

} وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الأصْنَامَ [إبراهيم: 35].

إنما جاء هذا الإسلام ليحطم الأصنام، وليعلن عليها حربًا شعواء لا تبقى منها ولا تذر. وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف أمام الكعبة المشرفة بعد الفتح، وعليها وبجوارها ستون وثلاثمائة صنم تُعبد من دون الله، فينكسها على رؤوسها، ويكبها على وجوهها، ويحطمها، ويشير إليها بيده وهو يتلو قول الله -تبارك وتعالى-: }وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء: 81] .

ويرسل رسله وسراياه ومبعوثيه إلى القبائل المجاورة؛ لتستأصل البقية الباقية من الأصنام؛ فهذا يهدم اللات، وذاك يستأصل العزى، انتصارًا لكلمة الله، وإقرارًا لدينه فى الأرض حتى نزلت الآية الكريمة: }الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة: 3]، وكأنما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه النتيجة، فقال: "إن الشيطان قد يئس أن يُعبد فى أرضكم هذه، ولكنه رضى منكم أن يطاع فيما هو دون ذلك".

ولقد ظن الناس أن الأصنام ليست إلا هذه الأجسام الحجرية، أو التماثيل البلهاء التى لا تسمع ولا تبصر، ولا تغنى عن العاكفين عليها شيئًا، ولكن الإسلام كان أعرف منهم بدقائق الشرك وألوانه صنوفه، فاستوعب طبقات الأصنام، وأعلن الحرب عليها جميعًا، وقام على تحطيمها جميعًا }حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ [الأنفال: 39].

الهوى والرأى الأخرق الباطل الذى يستبد بنفس صاحبه، فيحجب عنه نور الحق ويقيله عن سواء السبيل، إله يعبد من دون الله أعلن الإسلام عليه الحرب، وتوعد أولئك الضالين عن هوى وأثره بالنار والدمار }أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ [الجاثية: 23].

والأغنياء المترفون الذين يستعبدون الناس ويسترقونهم، ويضربون على حرياتهم وجهودهم نطاقًا من الذلة والتحكم والجبروت أصنام ذهبية جاء الإسلام يحرر الفقراء من سلطانها، ويحطم من طغيانها، ويتوعد أهلها بأشد العذاب فى الدنيا والآخرة، وهل سمعت فى ذلك أقسى من قول القرآن الكريم: }وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِى سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة: 34-35]. 

ويصور الحق -تبارك وتعالى- موقف هؤلاء يوم القيامة فيقول: }وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّى مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّى سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ * وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ * لاَ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ [الحاقة: 25-37].

ولقد جعل الله صنم المال الأكبر قارون عبرة لمن اعتبر، وتبصرة لمن تذكر: }فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ [القصص: 81].

وهؤلاء الوجهاء المتكبرون المتعاظمون الذين انتفخت أوداجهم بالغرور، وانطلقت أفواههم بالزور، يفخرون بالآباء والأجداد، ويختلقون المآثر والأمجاد، وليس لهم منها حظ ولا نصيب، وإنما كل حظ أحدهم مظهر كاذب وأثاث ورياش، وطعام ولباس، ورتبة ولقب، وأسرة ونسب.

هؤلاء "أصنام" جاء الإسلام ليذهب بريحها، وليقضى على آثارها، وليحرر الناس من رقها؛ فالناس سواء، وإنما يتفاضلون بالتقوى، وبما يقدم أحدهم للمجتمع من خير أو بر، وقد أعلن القرآن عليها الحرب قاسية عنيفة كذلك }أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر: 60]، }وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِى الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف: 20].

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر فى صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان"، كما يقول فى حديث آخر: "ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ متكبر".

وهؤلاء الحكام المستبدون الذين يسيئون استخدام سلطتهم، ويتخذونها ذريعة إلى إذلال الناس، والتعالى عليهم، وهضم حقوقهم، أصنام جاء الإسلام لتحطيمها، والحد من سلطانها وإخضاعها لقانون العدل والمساواة والنصفة.

فالحاكم والمحكوم سواء فى شريعة الإسلام، ولكل منهما حقوقه وعليه واجباته؛ فعلى الحاكم العدل والإنصاف وحسن الرعاية، وله الطاعة والنصيحة وحسن المعاونة. وحقوق الحاكم واجبات المحكوم، وحقوق المحكوم واجبات الحاكم، ولا فضل لأحدهم على الآخر إلا بالتقوى.

ولقد شنها الإسلام غارة شعواء على هؤلاء الحكام الظالمين من قبل ومن بعد }أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى الْبِلاَدِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِى الْبِلاَدِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر: 6-14].

ويقول النبى صلى الله عليه وسلم: "إن أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل أشركه الله فى ملكه فأدخل عليه الجور فى عدله"، ولقد لقى عمر أبا ذر -رضى الله عنهما- فقال له أبو ذر: "أشهد أنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من ولى شيئًا من أمر المسلمين، أتى به يوم القيامة حتى يوقف على جسر جهنم؛ فإن كان محسنًا نجا، وإن كان مسيئًا انخرق به الجسر فهوى فيه سبعين خريفًا، وهى سوداء مظلمة"، فقال له عمر: "قد أوجع ذلك قلبى؛ فمن يأخذها بما فيها؟"، فقال أبو ذر: "من سلت الله أنفه وألصق خده بالأرض، أما إنا لا نعلم إلا خيرًا، وعسى إن وليتها من لا يعدل فيها ألا تنجو من إثمها". 

فأى تحطيم لأصنام الحكم أعنف من هذا التحطيم الذى لاحقهم به الإسلام فى الدنيا والآخرة؟.

يا أيها الناس، إن مهمة الإسلام الأولى والأخيرة "التحرير" حتى تستقيم الوجوه والغايات لله وحده ولا تعبد شيئا سواه }إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 79]، }قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ [الأنعام: 162-163].

فحطموا أصنام الهوى، وأصنام المال، وأصنام الجاه، وأصنام الحكم، واتجهوا إلى الله الذى نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين؛ فإن عجزتم عن أن تحطموها فلا أقل من ألا تعبدوها ولا ترهبوها. 

والله أكبر ولله الحمد(8).

 

فى التحذير من خداع دعاة غير الإسلام

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن جاهدَ فى نُصرةِ شريعته إلى يوم الدين.

أما بعد.. فيا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أرسل الله إليكم نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالبينات والهدى ليخرجكم من الظلمات إلى النور، ويهديكم إلى صراط العزيز الحميد الله الذى له ما فى السماوات والأرض، وأوحى إليه بكتابه الكريم وقرآنه العظيم؛ ليكون دستور الأمم وشريعة العالم حتى تقوم الساعة، وجعلكم خير أمة أخرجت للناس؛ أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا، وأكمل لكم دينكم، وأتم عليكم نعمته، ورضى لكم الإسلام دينًا، وحرم عليكم وعلى الناس أى دين غيره، وجعله ناسخًا لكل شريعة سواه، فقال تعالى فى محكم كتابه: }وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران: 85]، كما قال تعالى: }إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلاَمُ [آل عمران: 19]؛ فلا شريعة غيره بعده، ولا دين سواه عند الله بعد نزوله.

اعلموا ذلك حقَّ العلم أيها المسلمون، واعلموا أن نبيكم صلى الله عليه وسلم ما ترك من خير إلا أمركم به، وما ترك من شرٍ إلا ونهاكم عنه، ولم يفارق هذه الدنيا حتى أوضح لكم الحلال والحرام، وجعلكم فى غير حاجة إلى سواه، وترككم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، والطريق الواضح المستنير، وأنه لا ينجيكم من عذاب الله إلا اتباع دينه المرضى -دين الإسلام- وتلك سنة الله فى خلقه.

أنتم تعلمون أن الحكومة إذا سنت قانونًا جديدًا نسخ القانون القديم وأبطل عمله، وصار كل من يتأخر عن العمل بالقانون الجديد مخالفًا لأمرها مستحقًا لعقابها، مع أن كلا القانونين من صنعها، وتعلمون كذلك أن النوع الجديد من أنواع حاجيات هذه الحياة الدنيا يفضلُ القديمَ ويُقدم عليه مع أن الصنف واحد، وكذلك كل شىء يسير على هذه القاعدة؛ فالإسلام قانون الله الجديد الذى يريد أن يسير الناس عليه بمجرد صدوره، وما عداه فقد بطل عمله وانتهت مهمته.

ولكن المسلمين -واأسفاه- فى هذه الأيام جهلوا أحكام دينهم، وبعدوا عن نور قرآنهم، وغفلوا عن التمسك بسنة نبيهم، فطمع فيهم أعداؤهم، وانتشر الكافرون من المبشرين وغيرهم فى وسطهم يفسدون عقائدهم، ويزلزلون إيمانهم، ويطعنون على دينهم، ويَذُمون نبيهم وقرآنهم، ويسترون كل هذه الأعمال الفظيعة بمدرسة يفتحونها، أو مستشفى يدَّعون فيه مداواة المرضى، أو صدقة يعطونها للفقراء بحجة الإحسان، أو كتب يوزعونها باسم الوعظ والإرشاد.

فاعلموا أيها المسلمون أن مدارسهم ومستشفياتهم وملاجئهم وكتبهم ومكاتبهم ومجلاتهم ومجتمعاتهم وأنديتهم وجمعياتهم وصحفهم.. كلها ما أنشئت إلا لسرقة عقائدكم، والطعن فى دينكم، وسلب إيمانكم، وتكفير أبنائكم، وهم يصرحون بذلك، والحوادث بين ظهرانيكم تسمعون بها صباحًا مساءً، والله -تبارك وتعالى- يقول: }وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة: 120]، ويقول: }وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُوا [البقرة: 217]، ويقول: }وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة: 109].

فمن ذهب إلى مستشفياتهم وأنديتهم، أو قرأ فى كتبهم وصحفهم، أو أدخل أولاده مدارسهم وملاجئهم فهو مسىء إلى دينه، مسىء إلى نبيه صلى الله عليه وسلم مرتكب لذنب عظيم وإثم كبير، قد يؤديه ويؤدى أبناءه وبناته إلى الكفر والعياذ بالله تعالى: }وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِى الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 217].

يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا نطلب منكم أن تؤذوهم، ولا أن تعتدوا عليهم؛ فتأديبهم من واجب الحكومة، وإن الله -تبارك وتعالى- سيسألها عن قيامها بهذا الواجب؛ فإن أدته فلها الثواب، وإن قصرت فعليها العقاب، ولكن نطلب إليكم أن تبتعدوا عنهم فلا تخالطوهم ولا تذهبوا إليهم ولا تتصلوا بهم، وذلك فى إمكانكم، ولا يستطيع أحد أن يتعرض لكم فيه، ولا عذر لكم إن قصرتم، ومن اتصل بهم فقد عرض نفسه لغضب الله تعالى، وكان ذلك دليلا قاطعًا على ضعف إيمانه ووهن عقيدته؛ لأن الله -تبارك وتعالى- يقول: }لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ [المجادلة: 22].

واعتقدوا أيها المسلمون أنكم بهذا الابتعاد عنهم تُرضون ربكم، وتسرون نبيكم، وتنصرون دينكم، وتضطرونهم أن يرحلوا عن دياركم؛ فإنهم ما أقاموا إلا لإقبالكم عليهم، فإذا أعرضتم عنهم التمسوا الرزق فى مكان آخر.

واحذروا يا عباد الله أن يخدعكم الشيطان؛ فيزين لكم حسن التربية فى مدارسهم، أو حسن العناية فى مستشفياتهم، أو حسن الكتابة والورق فى مجلاتهم، أو الجمال والنظام فى أنديتهم؛ فإن هذه كلها عسل يستر السم الناقع، وطُعْم بعده الهلاك المبين، وإن الجهل خير من عِلْم يفسد الدين والعقيدة، والمرض بل الموت أحب من شفاء يسقم الروح ويميت النفس والإيمان، على أن ذلك كله من أوهام الواهمين وتلبيس الشياطين، وفى مدارس الإسلام وملاجئه ومشافيه ومجلاته ما يسد الفراغ إن وجد تشجيعًا، ويملأ الأسماع إن لقى سميعًا، ألا بلغت ووضّحت وحذرت ونصحت!! فمن عمل فقد انتفع، ومن أعرض فمرده إلى الله، }إِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [الرعد: 40].

رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى يد عمر ورقة من التوراة، فغضب حتى تبين الغضب فى وجهه، ثم قال: "ألم آتكم بها بيضاء نقية، والله لو كان موسى حيًّا ما وسعه إلا اتباعى".

وقال صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتى" رواه مالك(9).

 

المسلم لا يتبع الدجالين

الحمد لله العليم الخبير، القوى القدير، يعلم السر وأخفى، ويحيط بمكنونات الضمائر وخفيات السرائر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، أكمل الناس إيمانًا، وأرجحهم فى الحق ميزانًا، اللهم صلِّ وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الغر الميامين.

أما بعد.. فيا عباد الله "أحاط ربنا بكل شىء علمًا، وأحصى كل شىء عددًا، }لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِى الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [سبأ: 3]، }يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا [الحديد: 4]، وقد استأثر -تبارك وتعالى- بعلم غيبه، وحجب ذلك عن خلقه، وستره عمن سواه كما قال تعالى: }وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ [الأنعام: 59]، وقال تعالى: }قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ [النمل: 65]، وقال تعالى: }عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا [الجن: 26-27].

ولقد كان سيد العارفين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين وأقرب الخلق إلى رب العالمين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يقول كما علمه ربه وأمره مولاه: }وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُّؤْمِنُونَ [الأعراف: 188]، ذلك شأن رسولنا صلى الله عليه وسلم، وله عند الله أسنى المنازل وأشرف المراتب! فما بال أقوام فى بلدكم هذا يحترفون علم الغيب، ويدعون معرفة المستقبل، وكشف نقاب المخبآت، ويتحكمون فى أرزاق الناس وعواطفهم، ويزعمون أنهم قادرون على جلب النفع، ودفع الضر، وشفاء المرضى، وزيادة الرزق، وجلب الزبون، وإيقاع المحبة أو البغضاء فى قلب من يريدون، ويسترون خدعهم هذه بمختلف الوسائل وغريب المظاهر من تمائم وخلوات ومطالب وشعوذات، ويبتزون بذلك أموال الناس، ويثلمون شرفهم، ويضحكون على عقولهم، ويصيبونهم بالشر فى دينهم ودنياهم حتى سالت أنهار الجرائد بمخازيهم، وغصت السجون بمجرميهم؛ فأين كانت قدرتهم على التصرف يدفعون بها ما أصابهم؟ وأين كان علمهم بالغيب يحترزون به مما خبئ لهم؟؟‍‍!

يا عباد الله، إن علم الغيب والتصرف فى شئون الخلق من خصائص رب العالمين التى لا يتعالى إليها أحد من المخلوقين، وكل من ادعى شيئًا من ذلك فقد أغرق فى الكذب، وأعظم على الله الفرية، واجترأ أشد الجرأة، ومن ذا الذى يشارك الله فى علمه أو يتصرف معه فى حكمه، تعالى ربنا عن ذلك علوًّا كبيرًا.

ألا فليعلم هؤلاء القوم أنهم حين يجمعون الأموال من هذه السبيل يجمعون النار، ويورثون العار، ويأكلون الحرام، ويضاعفون الآثام، ويأكلون أموال الناس بالباطل ظلمًا وعدوانًا، ويفهمونهم زورًا وبهتانًا، وسينكشفُ للناس محالهم، ويبدو للمخدوعين ضلالهم، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون، وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون.

إن أمر هؤلاء لعجيب، وإن أعجب منه وأغرب أمر الذين يترددون عليهم، ويفضون بشئونهم إليهم، ويلقون بأنفسهم بين يديهم بعد أن توالت مصائبهم، وانكشفت معايبهم، وعرف الكل أكاذيبهم؛ فاعلموا يا قوم أن الإسلام قضى على ذلك كله، وأن المسلم لن يعول فى كل شأنه إلا على ربه، وأن الذهاب إلى هؤلاء القوم مهما كانت صفاتهم، ومهما اختلفت وسائلهم من أكبر الكبائر فى دين الله، ومن أعظم الجرائم التى تؤدى بصاحبها إلى دركات الجحيم، مع أن هؤلاء لا يعلمون من الغيب شيئًا، ولا يستطيعون نفعًا، ولا يدفعون ضرًا، وإنما هو ظن فاسد وخيال كاذب، وإن الظن لا يغنى من الحق شيئًا.

يا عباد الله، إن المؤمن غنى بالله عمن سواه، متوكل فى كل شأنه على مولاه، يفعل ما أمره الله به من الأخذ فى الأسباب، ويدع نتائج الأمور لرب الأرباب؛ فما كان من نعمة شكر، وما كان غير ذلك صبر، ثم هو بَعْدُ عظيمُ الثقة بربه، يعتقد أنه لا يواجه من عنصر القدرة إلا بما هو خير له، وهو راض كل الرضا، متقبل كل ما يجرى به القضاء }لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد: 23].

فاتقوا الله عباد الله، وقاطعوا هؤلاء القوم، واحذروهم، وحذروا الناس منهم، واضربوا على أيديهم، وتقربوا إلى الله بإزالة منكراتهم أو استئصال شأفتهم }وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ [الحج: 40].

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد برئ مما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أتاه غير مصدق له لم تقبل له صلاة أربعين ليلة" رواه الطبرانى.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق بشىء وكل إليه" رواه النسائى(10).

 

نذير

} وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: 80].

فى سنة 17من الهجرة أراد عمر  أن يزور الشام للمرة الثانية، فخرج إليها ومعه المهاجرون والأنصار، حتى إذا نزل بسرع (موضع بين المغيثة وتبوك) على حدود الحجاز والشام لقيه أمراء الأجناد ورءوس الناس، وأخبروه أن الأرض سقيمة، وأن الوباء قد ظهر بالشام، فجمع الناس واستشارهم فريقًا بعد فريق، فاختلف رأيهم؛ فمن قائل: "خرجت لوجه تريد فيه الله وما عنده، ولا نرى أن يصدك عنه بلاء عرض لك"، ومنهم القائل: "إنه لبلاء وفناء ما نرى أن نقدم عليه"، فلما اختلفوا عليه قال: "قوموا عنى"، واستخار الله، وعزم أمره، وقال: "يا ابن عباس، اصرخ فى الناس، فقل: إن أمير المؤمنين مصبح على ظهر ونية رحيل، وأصبحوا عليه"، فلما اجتمعوا قال: "أيها الناس إنى راجع فارجعوا"، فقال أبو عبيدة: "أفرار من قدر الله؟"، قال: "نعم، فرار من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو أن رجلا هبط واديًا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة.. أليس يرعى من رعى الجدبة بقدر الله، ويرعى من رعى الخصبة بقدر الله؟ لو غيرك يقول هذا يا أبا عبيدة!". 

وجاء عبد الرحمن بن عوف ، وكان متخلفًا عن الناس لم يشهدهم فى اجتماعهم بالأمس، فلما أخبر الخبر قال: "عندى من هذا علم"، قال عمر: "فأنت عندنا الأمين المصدق.. فماذا عندك؟"، قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا سمعتم بهذا الوباء ببلد فلا تقدموا عليه، وإذا وقع وأنتم به فلا تخرجوا فرارًا منه، لا يخرجنكم إلا ذلك" فقال عمر: "لله الحمد، انصرفوا أيها الناس"، فانصرفوا وعاد عمر إلى المدينة.

وهل للحَجر الصحى الحديث من معنى إلا ما صوره هذا الحديث؟!

واشتد الطاعون بالناس وبخاصة فى دمشق وهو طاعون عمواس، وهلك به خلق كثير، منهم أبو عبيدة، ومعاذ بن جبل، ويزيد بن أبى سفيان، وعتبة بن سهيل، وسهيل بن عمرو، وغيرهم من أشراف الناس، وخطبهم عمرو بن العاص حين وليهم بعد أبى عبيدة، فقال: "أيها الناس، إن هذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل باشتعال النار، فتجنبوا منه فى الجبال"، وخرج وخرجوا يرتادون الأماكن العالية الجيدة الهواء، وتفرقوا، وتباعدت بينهم المسافات، ولم تحدث بينهم الاجتماعات الكثيرة التى تساعد على انتشار العدوى، فرفعه الله عنهم، وبلغ عمر ما فعل عمرو بن العاص، فاستحسنه، ولم يكرهه.

وقالوا: إن سبب اشتداد الوباء فى دمشق دون سواها حينذاك أن أهلها كانوا يشربون من نهر بردة، وهو عرضة للتلوث بالجراثيم، والماء أسهل وسيلة لنقلها من المريض إلى السليم.

وفى هذا الوباء عبرة العبر؛ فلا يزال الناس فى غفلتهم سادرون، وقد أنستهم لذائذ هذه الحياة الفانية سطوة الله وشدة عذابه وسريع عقابه فى الدنيا والآخرة، وظنوا -وبعض الظن إثم- أنهم بما وصلوا إليه من علم، وما شعروا به من قوة، وبما سخر لهم من عوالم السماوات والأرض قد أصبحوا بمنجاة من بطش الله وجبروته.

}فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِى الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [فصلت: 15]، حتى إذا فرحوا بما أوتوا وفتحت عليهم أبواب كل شىء ونسوا ما ذكروا به كان هذا الوباء وأمثاله من قوارع آيات الله نذيرًا لهم بين يدى عذاب شديد }وَضَرَبَ اللهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل: 112].

ألا إنها عبرة العبر؛ أن تحشد قوى الناس جميعًا، وأن يسخر كل ما عندهم من علم وجهد ومعرفة ووقت ومال وصناعة لمحاربة هذا المخلوق الضعيف "الميكروب" الذى لا يرونه، ولا يشعرون به، ولا يسمعون صوته، ولا يشمون ريحه، ولا يلمسون جرمه، ولا يتذوقون طعمه، وإنما يشاهدون أثره صاعقًا ماحقًا لا يبقى ولا يذر، ألا إنها قوة الله تتجلى فى أضعف مخلوقاته }وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ [المدثر: 31].

فيا أيها الغافلون هذا نذير من النذر الأولى.

خذوا فى أسباب الوقاية الظاهرية، وتجنبوا العدوى ما استطعتم؛ فهى وصية نبيكم صلى الله عليه وسلم: "فر من المجذوم فرارك من الأسد"، والتمسوا العلاج من أقرب طرقه ووسائله؛ فهو صلى الله عليه وسلم يقول: "يا عباد الله تداووا؛ فإن لكل داء دواء"، ونفذوا وصايا المختصين من الأطباء ورجال الصحة وعلماء هذا الفن التى تملى عليكم صباحًا ومساء فى الصحف أو الإذاعة، واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون، وبلغوا عن كل ما ترون لتعينوهم على أداء واجبهم.

ثم اتعظوا واعتبروا؛ فلا ترهبوا الموت، ولا تخافوا الردى، وما أرخص الحياة إن انتهت على مثل هذا الوضع التافه والموت "الفطيس"، وما أغلاها وأعظمها إن ذهبت جهادًا فى سبيل الله، ودفاعًا عن الوطن والملة والحق والخير.

ثم خذوا بجد وصدق فى أسباب الوقاية الروحية؛ فاتجهوا إلى الله -تبارك وتعالى- بتوبة صادقة نصوح، وابرءوا إليه من المعاصى والآثام، واعزموا عزمًا صادقًا على سلوك طريق الاستقامة والحق والفضيلة، واصطلحوا على الله -تبارك وتعالى- يرفع الله عنكم هذا الوباء الماحق المبين.

}وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ [هود: 52]، واذكروا آية القرآن الكريم حكاية عن إبراهيم الخليل -عليه السلام- تقديسًا لعظمة الله -تبارك وتعالى- وتقديرًا لحق ألوهيته وربوبيته }إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَّغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء: 77-82](11).

 

من كتاب رب العالمين

طلبنا من فضيلة الأستاذ المرشد العام بكتابة حديث الجمعة لهذا الأسبوع بمناسبة تمثل فضيلته للشفاء فأشار بكتابة الآيات الكريمة الآتية، }وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا [النساء: 78]:

}وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ * أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِى حَكَمًا وَهُوَ الَّذِى أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [الأنعام: 111 : 117](12).

العز

} هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ [الزمر: 9].

ولست أقصد العز بمعناه اللغوى المعروف من الوجاهة والغنى والثروة ومظاهر النعيم والامتناع، ولكن أقصد العز بن عبد السلام سلطان العلماء فى وقته، والقائم بأمر الله -تبارك وتعالى- فى الحرص على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والمحافظة على حدود الله؛ حتى أعزه الله بذلك فى الدنيا، وأسعده فى الآخرة إن شاء الله }وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ [الحج: 40].

وإنما حرك فى نفسى هذه الخواطر ما نأمله ونرجوه من نهضة كريمة للأزهر الشريف المعمور ينفض عنه غبار التردد والحيرة، ويرفع فيها علم الهداية والنور، ويرشد الناس بأمر الله إلى سواء السبيل فى هذا الوقت الذى اضطربت فيه مقاييس الحياة، وتلمس الجميع سبل النجاة، ولن تكون فى غير الإسلام، وهو ميراث الأزهر الضخم، وأمانة علمائه وطلابه، ورسالتهم فى هذا الوجود.

لم يثبت عند العز بن عبد السلام أن أمراء المماليك ورؤساء الناس منهم قد ثبت لهم وصف الحرية، وقد اشتُروا بأموال المسلمين، فأفتى بأن حكم الرق لا زال مضروبًا عليهم لبيت المال، وبلغهم ذلك، فعظم الأمر، واشتد عليهم والشيخ مصمم على فتواه، لا يصحح لهم بيعًا ولا شراء ولا زواجًا، وتعطلت مصالحهم بذلك، فأرسلوا إليه يشاورونه فيما يرى لحل هذا المشكل، فقال: "نعقد لكم مجلسًا، وينادى عليكم لبيت مال المسلمين، ويحصل عتقكم بطريق شرعى"، فرفعوا الأمر إلى السلطان فبعث إليه، فقال: "هذا حكم الإسلام، ولا يسعنى أن أرجع عنه"، فأراد هؤلاء الرؤساء أن ينالوا منه، فاعتزم الهجرة، وحمل أهله وحوائجه، وقصد إلى الشام؛ فلم يسر إلا قليلا، وتبعه الناس، وكادت تكون فتنة، وبلغ الخبر السلطان فاستدعاه وأرضاه وجمع بينه وبين الرؤساء والأمراء، وقال لهم: "هذا حكم الدين، ولا يسعنا أن نخالفه؛ فماذا يرى الشيخ؟"، فقال: "أنادى عليهم وأبيعهم وأعتقهم باسم المسلمين"، قالوا: "ففيم تصرف ثمننا؟"، قال: "فى مصالح المسلمين"، قالوا: "من يقبضه؟"، قال: "أنا"، وتم له ما أراد، ونادى عليهم واحدًا واحدًا، وغالى فى ثمنهم، وقبضه، ورده إلى بيت المال، وأعلن عتقهم وحريتهم، وأشرف على إنفاق هذا المال فى مصالح الأمة.

ومرض السلطان موسى بن الملك العادل، فبعث إليه رسولا يقول له: "محبك موسى يسلم عليك، ويسألك أن تعوده، وتدعو له، وتوصيه بما ينتفع به غدًا عند الله تعالى"، فلما وصل الرسول إليه بهذه الرسالة قال: "نعم، إن هذه العيادة من أفضل العبادات"، وتوجه إليه، وسلم عليه فسر برؤيته، وقال له: "يا عز الدين اجعلنى فى حل"، وقد كانت وقعت بينهما جفوة فيما مضى، وادع الله لى، وأوصنى وانصحنى، فقال: "أما محاللتك فإنى فى كل ليلة أحالل الخلق، وأبيت وأنا ليس لى عند أحد مظلمة، وأرى أن يكون أجرى على الله، ولا يكون على الناس؛ عملا بقوله تعالى: }فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ [الشورى: 40]، وأما دعائى للسلطان فإنى أدعو له فى كل الأحيان لما فى صلاحه من صلاح المسلمين والإسلام، والله يبصر السلطان بما يبيض وجهه عنده يوم يلقاه، وأما وصيتى ونصيحتى للسلطان فقد وصيت، وأول ما أوصى به أن أخاك الملك الكامل هو رحمك، وأقرب الناس إليك، وأنت مشهور بالفتوحات والنصر على الأعداء، وهؤلاء التتر قد خاضوا بلاد المسلمين؛ فكيف تدعهم، وتختلف مع أخيك، وتجعل دهليزك (معسكرك) مقابل دهليزه؟ فالسلطان -أيده الله- يأمر بتحويل دهليزه إلى جهة التتار، ولا تقطع رحمك وأنت فى هذه الحالة، وتنوى مع الله نصر دينه وإعزاز كلمته؛ فإن منَّ الله بعافية السلطان رجونا من الله نصره على الكفار، وكانت فى ميزانه هذه الحسنة العظيمة، وإن قضى الله بانتقاله إليه كان السلطان فى خفارة نيته"، فقال السلطان: "جزاك الله خيرًا، وأمر بتحويل المعسكر إلى جهة التتار"، ثم قال: "زدنى من نصيحتك ووصاياك"، فقال: "إن السلطان فى مثل هذا المرض ونوابه يدمنون الخمور، ويبيحون المنكرات، ويتنوعون فى المكوس، ومن أفضل ما تلقى الله به أن تأمر بإبطال هذه القاذورات، ورفع المظالم عن الرعية"، فقال السلطان: "جزاك الله عن دينك وعن نصيحتك وعن المسلمين خيرًا، وجمع بينى وبينك فى الجنة بمنِّه وكرمه"، وأطلق له ألف دينار مصرية، فردها إليه، وقال: "هذه اجتماعة لله تعالى، لا أكدرها بشىء من الدنيا".

أى سلطان للعز بن عبد السلام سلطان العلماء يخوله أن يتحكم فى الرؤساء والأمراء، ويرفع الله به عن الأمة صنوف البلاء، إلا أنه عالم عمل بعلمه، وعبد مخلص لله قام بنصر شريعته وحكمه؛ فأيده الله بروح منه، ورفع منزلته فوق المنازل، ورفعه فى الناس درجات }وَمَن يَّتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَىْءٍ قَدْرًا [الطلاق: 3].

فهل نرى من جديد مُثُلا كثيرة من العز بن عبد السلام؟ نرجو(13).

 

دعوة لا حياد

} وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت: 33].

يقترح بعض الفضلاء على مصر فى هذا المعترك الدولى أن تعلن حيادها بين المعسكرين المتنازعين: معسكر الكتلة الشرقية التى تتزعمها روسيا، ومعسكر الكتلة الغربية التى تتزعمها أمريكا وإنجلترا، ولا شك أن هذا الحياد المقترح سيفيدنا نحن أكبر الفائدة؛ فيميزنا عن هذا الخبث كله، ويجنبنا ويلات الاتصال به والانتساب إليه، ويبعدنا عن مشكلاته وعقابيله وأباطيله وأحابيله، ولكن الأجدر بنا والأجمل بتاريخنا والأليق بحضارتنا ومواريثنا ألا نكتفى بالحياد؛ بل نعلنها دعوة واضحة سافرة صريحة لا لبس فيها ولا غموض:

لسنا عالة على المجتمع الإنسانى، ولسنا زائدة فى جسم المجموعة البشرية النامية، بل نحن بحمد الله فى هذا الكيان قلبه النابض وروحه السارى وسراجه المشرق المضىء، وعنا تلقت الإنسانية العلم والمعرفة، وعرفت البشرية الفلسفات، ومارست الحضارات، وتقلبت فى ألوان المدنيات، ونحن الذين تلقينا رسالات الله -تبارك وتعالى- التى أنزلها على أنبيائه؛ ففتحنا لها مغاليق القلوب، وطوينا عليها حنايا الضلوع، ولا زال بين أيدينا كتاب هذا الإسلام الحنيف فى نقائه وصفائه ونضرته وقوة تأثيره، وعزة سلطانه ووضاءته }وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 41-42] هو برنامج إصلاح اجتماعى كامل فى نظرياته وقواعده، وفى عملياته ووسائله وفى شموله لصلاح النفس والبدن، والفرد والأسرة والمجتمع، والدولة والعالم كله وانتظامه لما به قوام الدنيا والآخرة.. فلماذا نجعله حيادًا قاصرًا ولا نجعلها دعوة عالمية؟.

نعتز بالإسلام الحنيف، ونؤمن به من جديد إيمانًا جديدًا فى قوته وروعته، ثم نقول لهؤلاء جميعًا: لا شرقية ولا غربية ولا شيوعية ولا رأسمالية، ولكن إسلامية قرآنية }وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ [الأحزاب: 4](14).

المصادر

  1. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الأولى – العدد 12 – صـ1، 4 – 16جمادى الآخرة 1365هـ / 17مايو 1946م.
  2. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الأولى – العدد 129 – صـ1 – 8ذو القعدة 1365هـ / 3أكتوبر 1946م.
  3. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الأولى – العدد 123 – صـ1 – 1ذو القعدة 1365هـ / 26سبتمبر 1946م.
  4. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الأولى – العدد 117 – صـ1، 4 – 23شوال 1365هـ / 19سبتمبر 1946م.
  5. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثالثة – العدد 730 – 14ذو القعدة 1367هـ / 17سبتمبر 1948م.
  6. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الأولى – العدد 180 – صـ1 – 11محرم 1366هـ / 5ديسمبر 1946م.
  7. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثانية – العدد 330 – صـ1 – 10رجب 1366هـ / 30مايو 1947م.
  8. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الأولى – العدد 106 – صـ1، 4 – 10شوال 1365هـ / 6سبتمبر 1946م.
  9. مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 3 – صـ7 : 9 – 6ربيع الأول – 1352هـ / 29يونيو 1933م.
  10. مجلة الإخوان المسلمين – السنة الثالثة – العدد 1 – صـ15، 16 – 13محرم 1354هـ / 16أبريل 1935م.
  11. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثانية – العدد 430 – صـ1 – 11ذو القعدة 1366هـ / 26سبتمبر 1947م.
  12. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الأولى – العدد 294 – صـ1 – 26جمادى الأولى 1366هـ / 18أبريل 1947م.
  13. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثانية – العدد 537 – صـ1 – 19ربيع الأول 1367هـ / 30يناير 1948م.
  14. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثانية – العدد 573 – صـ1 – 1جمادى الأولى 1367هـ / 12مارس 1948م.
المقال التالي كتابات الإمام حسن البنا في دعوة الأمة الإسلامية للوحدة
المقال السابق الدستور في فكر الإمام حسن البنا