الإمام حسن البنا يكتب في دعائم النصر والقوة والجهاد

إعداد موقع الإمام حسن البنا

ساهم الإمام البنا من خلال جهوده في تحقيق حضور الإسلام في واقع الأمة، وبين شبابها، وفي كثير من مؤسساتها، فحافظ على مظاهره، وأعد جيلاً من شباب الأمة يحملونه ويبلغونه.

شاءت الأقدار أن يولد الإمام حسن البنا ويعيش في ظل المحتل الغربي للعالم العربي والإسلامي وهو الأمر الذي يتناقض مع تربيته تربية إسلامية حقيقية فهم معاني الإسلام وعزته ومكانته، ولذا دعى لمحاربة المستعمر وإخراجه من كل شبر من أرض الإسلام بكل السبل، وهو ما سعى لتربية أتباعه وبثه في روعهم كي يجد جيلا يستطيع أن يخرج المستعمر الغربي ويحارب أذنابه من بني جلدتنا وبردهم إلى صواب الإسلام.

 

غاية

} وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص: 77].

هل نعيش بغير غاية؟

من الناس من يحلو له ذلك، فيحيا ويموت وهو لم يعرف الغاية من وجوده، ولا المهمة التى ألقيت على كاهله فى حياته، وحسبه أن يستقبل الصباح عاملا أو خاملا، ويلفه الليل عربيدًا أو ساكنا، ولسان حاله يقول: 

إنما الدنيا طعام          وشراب ومنام

فإذا فاتك هذا            فعلى الدنيا السلام

وهل يبعد هذا اللون من حياة الناس قليلا أو كثيرًا عن حياة الحيوان: }أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف: 179].

ولن يرضى بهذه المنزلة لنفسه إنسان كريم، إنما يتميز الإنسان بالشعور الرقيق، والإدراك الصحيح، والحكم الصادق، وبهذه الثلاثة يحدد غايته فى حياته، ثم يندفع مجاهدًا فى سبيلها حتى تتحقق؛ فيسعد بذلك فى دنياه، ويفوز بالأجر فى آخرته. أو يموت دونها فتفوته الأولى، وتتضاعف له الثانية، وهو رابح على كل حال، وما عند الله خير وأبقى.

غايتنا واحدة لا تتعدد.

نحاول أن نحيا بالحق للحق، ونعتقد أننا أمناء على شرائع العدالة والخير والرحمة فى هذه الأرض، وأننا حراس رسالة السماء إلى أهلها الحيارى التائهين، ونقرأ قول الله -تبارك وتعالى-: }وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر: 1-3] فنعلم أن حقيقة إنسانيتنا: "الإيمان والعمل"، وأن لب رسالتنا: "الحق والخير"، وأن مجمل وسيلتنا "الجهاد والصبر"، وهذه خلاصة فلسفة الحياة الكاملة لمن أراد الحياة الكاملة، ووسيلتنا أن نتحرر؛ فلن يسلم مع الذل شعور، ولن يصح إدراك، ولن يستقيم حكم، والحرية هى مظهر الفضائل الإنسانية جميعًا }وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: 8]، وأن نتوحد فبغير الوحدة لن يستوى صف، ولن يقوى ضعف، ولن يرهب عدو }وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103].

وأن نتخلص من شهوات أنفسنا: المادية من حب المال والمظهر والمتعة، والأدبية من حب الحياة والرياسة والسلطة؛ فهذه أول خطوات الحرية الحقيقية، ولا حرية لعبدِ أنانيتِه وأسيرِ شهواتِه.

ولئن كان هذا الكلام فى الماضى لم يزد على أن يكون كتابات صحفية، أو موضوعات إنشائية؛ فهو اليوم أيها العرب والمسلمون حقائق علمية، وفرص ذهبية، تهتف بكم وتناديكم، وتدفعكم دفعًا إلى العمل، وتأخذ بأيديكم؛ فاعملوا: }فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة: 105].

والله أكبر ولله الحمد(1).

 

قوة

} فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِى الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لاَ يُنْصَرُونَ [فصلت: 15-16].

أجمع قوم إبراهيم أمرهم على أن يقذفوا به إلى النار، وقالوا: ابنوا له بنيانًا فألقوه فى الجحيم، وإبراهيم فرد واحد أعزل إلا من الإيمان، مجرد إلا من اليقين، لا حول له ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، وهاهو ذا إبراهيم الخليل -عليه السلام- بين السماء والأرض، وقد قذف به المقلاع إلى هذا المصير يعترضه جبريل الأمين، فيقول لإبراهيم: "ألك حاجة؟"، فيجيب: "أما إليك فلا، وأما إلى الله فلى"، فيقول جبريل مشفقًا وجلا: "سله إذن"، فيجيب الخليل مطمئنًا موقنًا واثقًا: "علمه بحالى يغنى عن سؤالى"؛ فينزل النداء من لدن العلى العظيم }يَا نَارُ كُونِى بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء: 69]، فتكون النار كما أراد ربها بردًا وسلامًا على إبراهيم، وأرادوا به كيدًا فجعلهم الله الأخسرين الأسفلين، وسواء صح سند هذه الرواية أم لم يصح؛ فإن آيات الكتاب الكريم ناطقة بإيمان إبراهيم واعتقاده الكامل المجرد إلى قوة العزيز العليم ونجاته بفضل هذا الإيمان، وبفعل هذه القوة القادرة النافذة من هذا الجحيم.

وهذا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه صديقه وصاحبه أبو بكر  رضى الله عنه، اثنين لا سلاح معهما ولا أنصار حولهما، ولا حيلة تنجيهما، ولا حول ولا قوة لهما إلا بالله العلى العظيم، وقد هبطا إلى الغار والكفار من حولهما بعددهم وعديدهم، وحدِّهم وحديدهم، وقَضِّهم وقضيضهم، ويقول أبو بكر لصاحبه: "والله يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لرآنا"، فيجيبه الرسول صلى الله عليه وسلم فى لهجة الواثق المطمئن المستند إلى ركن ركين: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما }لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِىَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة: 40].

وقد وقف عبد المطلب بن هاشم سيد البطحاء بين يدى أبرهة أمير الجيش وقائد جيشهم لهدم الكعبة يطالبه بمائتى بعير استولى عليها جنده؛ مما دعا أبرهة إلى أن يقول له: "لقد جئت أهدم هذا البيت وهو مقعد عزكم ومظهر شرفكم ومجدكم وفخر بلدكم ووطنكم؛ فلا تحدثنى عنه بشىء، وتسألنى مائتى بعير ضالة!"؛ فكان جواب الرجل الواثق بقدرة الله -عز وجل-: "إن الإبل إبلى، وللبيت رب يحميه"، وانصرف عنه يأخذ بحلقة الباب ويخاطب رب البيت:

لا هم إن العبد يمـ               ـنع رحله فامنع رحالك

وقد استجاب الله له، ومنع رحاله، وحمى بيته، وأهلك عدوه، وذهبت سلفًا ومثلا للآخرين }أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ [الفيل: 1-5]، }وَللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [الفتح: 4]، }وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ [المدثر: 31].

ولقد اعتمد أقوام على عدتهم وعددهم، واستندوا إلى حصونهم وحلفائهم، وحاربوا الله ورسوله والمؤمنين، }وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِى الأبْصَارِ [الحشر: 2]، }وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرًا [الأحزاب: 26-27].

وهكذا شأن المؤمنين فى كل زمان ومكان، يدخلون دائمًا فى حسابهم قوة الله، وهى أقوى القوى، وقدرته وهى أعظم القدر، ونصره وهو أعز النصر؛ فلا يهنون، ولا يضعفون، ولا يستكينون }الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران: 173-174]، }وَكَأَيِّن مِّن نَّبِىٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآَخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 146-148].

فيا أيها العرب والمسلمون حكامًا وشعوبًا إياكم أعنى، لمثل ما أنتم فيه اليوم تقرءون هذه الآيات، وتعرض عليكم هذه العبر والعظات، وليس بينكم وبين النصر إلا الإيمان وحسن العمل والوحدة، واستنفاد الجهد فى الإعداد، وحسن الاعتماد على قوة الله العلى الكبير، فاصدقوا الله يصدقكم }وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ [التوبة: 111].

والله أكبر ولله الحمد(2).

 

قدر

} وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِى الأَرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرونَ [القصص: 5-6].

قالوا: إن قريشًا حين خرجت إلى بدر لقيها فى الطريق بعض حلفائها من قبائل العرب، فعرضوا عليها المساعدة بالمال والرجال، فشكر لهم أبو جهل بن هشام هذا العرض، ثم قال: "لئن كنا نحارب محمدًا كما نزعم فإنه له كفاء، ولئن كنا نحارب الله كما يزعم فلن تغنى عنكم أموالكم ولا أولادكم من الله شيئًا"، وصدق، وهم قد حاربوا الله فلم يغن عنهم ما جمعوا شيئًا، ونصر الله المؤمنين ببدر }وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِىَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة: 40].

وذكروا أن عيون رستم قائد الفرس ظفروا بجندى من جند سعد بن أبى وقاص قبل القادسية، فقبضوا عليه، وقدموه إلى قائدهم الذى نظر إلى سمته وهيئته ولباسه وبزته وضعف سلاحه وشكيمته، ثم أخذ يهدده بعد ذلك، ويتوعده بجيش الفرس العظيم، وبأسه الشديد، وعدده وعدته، والرجل يطرق لا يتكلم، حتى إذا انتهى القائد من قوله رفع رأسه إليه، وقال: أيها الرجل، دع عنك هذا الذى تقول، ولا يغرنك ما ترى من جندك وقوتك، واعلم أنك لست تحارب البشر، ولكنك تحارب الله }وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف: 21].

وزلزلت نفس الفارس الكبير لهول ما سمع، وتحطمت أعصابه، وما زالت القولة الصادقة تفعل فعلها فى نفسه، حتى تمت هزيمته، وانتصر الله لعباده }وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف: 21].

ذكرت هذه المعانى وأمثالها عقيب حديث الثلاثاء الماضى، وقد استعرض فيه المتكلمون قضايا العالم العربى والإسلامى، من إندونيسيا إلى الدار البيضاء؛ فذكروا قضية المغرب الأقصى والجزائر وتونس وليبيا ووادى النيل وفلسطين والباكستان وإندونيسيا، واجتمعت كلمتهم على أن هذه الموجة الجارفة من الوعى القومى الدقيق والشعور الوطنى العميق لن يقف فى طريقها شىء، حتى تبلغ مداها، وأن هذا الاستعمار الذى طلع به القرن الماضى وما قبله على الناس، ومكنت له الغفلة والفرقة والجهالة حينًا من الدهر لم يعد إلا شبحًا متداعيًا وهميًا لا حقيقة له، وأن شجرة الحق والحرية التى رواها البشر بدماء حربين طاحنتين لم تر الدنيا لهما مثيلا قد نمت وغلظت وترعرعت، واستوت على سوقها، وصارت قادرة على الصمود أمام عواصف الوعيد والتهديد والظلم والطغيان والجبروت التى يرسلها أعداء الحق والحرية، ويثيرونها هوجاء على الشعوب الصغيرة؛ فلا تزيد بها هذه الدوحة الوارفة فى أنفسهم ومشاعرهم إلا قوة ونموًا وتمكينًا.

وهذا الكلام حق لا مرية فيه، نسميه نحن المؤمنين بلغتنا الروحية: أمر الله الذى لا يرد وقدره الذى لا يعاند، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا، ولا يستطيع الذين لا يجلون برد هذا الإيمان أن ينكروا حقيقة هذا التطور الجديد فى حياة الأمم والشعوب، وإن قالوا بلغتهم: إنها سنة الطبيعة، ومقتضى التطور الاجتماعى.

وعلى الأمم العربية والإسلامية أن تدرك هذه الحقيقة، وأن تعلم أن عهد الذلة والعبودية قد فات، وعليها أن تعمد لنفسها لتستقبل عهد كفاح مجيد، تصل بعده إلى الحرية والوحدة والمجد، وعلى الدول الاستعمارية التى لا تزال تحلم بالتسلط الفاجر والجبروت الظالم أن تفيق من غفوتها، وأن تنزل على حكم الله وسنة التطور الاجتماعى؛ فتسلم بحقوق غيرها من الأمم، وتعاونها على القوة والنهوض، وعلى الأمم المتحدة وهى المؤسسة الدولية الناشئة أن تدرك هذه الحقيقة؛ فتسير مع عجلة الأمن إلى الأمام، ولا تساير المطامع والأهواء الرجعية؛ فيحق عليها القول، ويقضى عليها بالزوال والفناء.

وقاتل الله السياسة؛ فما لها أفردنا حديث الجمعة، وما هى من شأننا فيه، وإنما أردنا فقط أن نأخذ بمشاعر الإخوة المؤمنين وعواطفهم وأبصارهم وبصائرهم إلى الانتفاع بهذا السنن الإلهى، والاستفادة من إرادة الله الغالبة }فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِى الأبْصَارِ [الحشر: 2](3).

وسائل الجهاد فى سبيل الله

الحمد لله الذي تفضل على عباده بنعمة الإيمان ثم أثابهم عليها، وعلم أن سعادتهم فيما فرضه عليهم من الأحكام فندبهم إليها، وجعل هذه الأمة المحمدية خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، وتكون على الأمم يوم القيامة من الشاهدين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قوله الحق، وله الملك يوم ينفخ فى الصور، عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، سيد الداعين إلى الله، وأفضل المجاهدين فى سبيل الله، اللهم صلِّ وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبع هداهم إلى يوم الدين.

أما بعد.. فيا عباد الله قال تعالى: }إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة: 111]؛ فنفس المؤمن وماله لله -تبارك وتعالى- وله سبحانه بذلك المنة، وقد بين الله تعالى أن مَنْ أحب شيئًا من هذه الحياة على مرضاة الله ورسوله فقد اتبع غير سبيل المؤمنين؛ فقال تعالى: }قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِى سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِىَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة: 24]، وقد أوجب الله الجهاد فى سبيله على عباده، ولم يعذر فى ذلك أحدًا يقدر عليه، فقال تعالى: }انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [التوبة:41].

ولا يصح أن نعتذر بأن ذلك غير ممكن لنا، وأن وسائله ليست متوفرة لدينا؛ فإن أمامنا من وسائله ما يستطيع كل إنسان أن يقوم به، ولن يكلف الله نفسًا إلا وسعها.

أمامنا من الجهاد فى سبيل الله مقاطعة أعداء دين الله الذين يستذلون المسلمين، ويفتنون عباد الله عن الدين، لا نريد أن نعتدى عليهم، ولا أن نوصل الأذى إليهم؛ فقد نهانا الله عن العدوان إلا من اعتدى علينا، ولكنا نريد أن نبتعد عنهم، ولا نتملق إليهم، ولا نجاملهم، ولا نظهر بمظاهر الضعف بين أيديهم، وكفانا مجاملات كاذبة، ومحاولات خائبة جرَّت علينا الضعف والبوار وفساد العقائد وخراب الديار، قال تعالى: }لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ [المجادلة: 22]، وقال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتِّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران: 118].

وأمامنا من الجهاد فى سبيل الله تشجيع إخواننا المسلمين، وألا ينفق أحدنا قرشًا إلا وهو يعلم أنه سيذهب إلى مسلم ينفقه فى مصلحة من مصالح الأمة، ولن يكيد الأعداء شىء مثل قطع الأموال عنهم، ولو امتنعنا عن الخمر وحدها لشعروا بنقص مورد كبير يدر عليهم الرزق ويمتعهم بأموالكم؛ فاتركوها خوفًا من الله ومن نار جهنم، واتركوها خوفًا من ضياع الأموال وذهاب الشرف، واتركوها لأن الأموال التى تنفق فيها تذهب إلى الأجانب فيصنعون بها قيودًا لأعناقكم وسيوفًا لرقابكم.

وأمامنا من طرق الجهاد الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؛ فلا ترى مسلمًا على رذيلة إلا نبهته بالحكمة والموعظة الحسنة، وحثثته على التمسك بأهداب السنة؛ فكان لك بهدايته مثل ثوابه وأفضل من حمر النعم.

وأمامنا من هذه الوسائل تشجيع العاملين فى الدعوة إلى الله من الجمعيات الناهضة الإسلامية، وشد أزرها بالمساعدات المادية والأدبية حتى تشعر بأن الجمهور من ورائها، فتثبت أمام أعداء دينها.

ومن هذه الوسائل الاعتزاز بآداب الدين والتمسك بها أمام غير المسلمين، وتعظيم شعائره فى كل وقت وحين، وملاك ذلك تآلُف القلوب وطهارة النفوس، والأخوة بين عباد الله حتى يكونوا يدًا واحدة على من ناوأهم.

هذه خمس وسائل يا عباد الله يمكننا تحقيقها، ولا يكلفنا ذلك إلا عزيمة صادقة وإرادة قوية هما خير ما يتحلى به المؤمن ويتقرب بهما إلى مولاه }فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح: 16].

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تكفل الله لمن جاهد فى سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد فى سبيله وتصديق بكلماته.. أن يدخله الجنة، أو يرد إلى مسكنه بما نال من أجر أو غنيمة" البخارى ومالك والنسائى(4).

 

فن الموت

} وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ [آل عمران: 157-158].

فى سنة 1937 -فيما أذكر- كتبت كلمة فى مجلة الإخوان المسلمين تحت عنوان "صناعة الموت" بمناسبة ثورة الإخوان العرب الفلسطينيين على الظلم الإنجليزى الصهيونى الذى لم يجد ما يطفئه إلا الدم.

وخطر لى أن أستعيد هذا العنوان اليوم، بمناسبة هذا الظلم نفسه، وقد بدا واضحًا كاشرًا عن نابه لا لفلسطين وحدها ولكن للأمم العربية والإسلامية جميعًا، حتى لم يعد ينقذ منه كذلك إلا الدم.

ولن يخرج ما أكتبه الآن عما كتبته حينذاك، وإن جاءت كلمة "فن" بدلا من كلمة "صناعة"، ولعلها مجاراة أسلوب العصر، والخلاف لفظى، والمؤدى واحد.

والموت فن، وفن جميل أحيانًا على مراراته؛ بل لعله أجمل الفنون إذا تناولته يد الفنان الماهر، وقد عرضه القرآن الكريم على المؤمنين به عرضًا كريمًا جعلهم يحرصون عليه ويحبونه، ويهيمون به حب غيرهم للحياة، وللناس فيما يعشقون مذاهب.

ولن ينجى المسلمين اليوم مما هم فيه إلا أن يعودوا إلى فلسفة القرآن فى الموت، ويتلقونه على أنه فن؛ بل فن جميل حقًا.

عرض القرآن الموت على المؤمنين على أنه نهاية هذه الحياة القصيرة الفانية، المتعبة الكادحة، لاستقبال حياة مطمئنة، هانئة، وادعة، منعمة، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر من صنوف الإنعام والتكريم، وذلك لمن عرف كيف يحسن العمل فى الحياة، ويحسن التخير فى أسلوب الموت كذلك }وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى [النازعات: 40-41].

ثم عرضه على أنه قدر محتوم لا ينجى منه فرار أو حذر، ولا يتخلف عن لقائه أحد؛ فالكل سيموتون الموتة التى كتبها الله لهم، ولكنهم سيختلفون فى الطريقة التى يموتون بها؛ فمنهم من يموت بين يدى غانية فاتنة، يتمثل قول القائل:

يقولون جاهد يا جميل بغزوة              وأى جهاد غيرهن أريد؟

لكل حديث بينهن بشاشة         وكل قتيل عندهن شهيد

ومنهم من يموت فى ساعة الوغى وميدان الجهاد فى سبيل الله، وهو ينشد:

ركضنا إلى الله بغير زاد          إلا التقى وعمل المعاد

والصبر فى الله على الجهاد              وكل زاد عرضة النفاد

        إلا التقى والبر والرشاد   ولا يستويان أبدًا.

وانظر كيف عرض القرآن هذا المعنى، وعاتب المترددين فيه، وأفحمهم بالحجة والبرهان: }أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلاَ أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآَخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً * أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ [النساء: 77-78].

وقد أبى القرآن على المؤمنين به أن يكونوا من الكافرين بهذه الحقائق؛ فقال: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِى الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَّوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِى قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِى وَيُمِيتُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [آل عمران: 156].

وعاب أصنافًا من الناس بحبهم الحياة حبًا أنساهم الواجب، وصرفهم عن الخير، فقال: }وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [البقرة: 96].

وكشف خبيئة النفوس من أقوام كرهوا أن يموتوا فى سبيل الله، فقال: }وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمْرِ مِن شَىْءٍ قُلْ إِنَّ الأمْرَ كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَىْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنْتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِىَ اللهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران: 154].

وقد أدرك المؤمنون الأولون هذه الحقائق، فأحبوا الموت فوهبت لهم الحياة، ولخص ذلك أبو بكر  رضى الله عنه فى كلمته لخالد: "يا خالد احرص على الموت توهب لك الحياة"، كما لخصه على -كرم الله وجهه-:  "والله لابنُ أبى طالب آنسُ بالموت من الطفل بثدى أمه".

وأوضح النبى صلى الله عليه وسلم لأمته نتائج انصرافها عن هذا الفن الجميل، فن الموت فى سبيل الله إلى أهواء الدنيا، والإغراق فى التعلق بها، فقال: "يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، ولينزعن الله من قلوب أعدائكم المهابة منكم، وليقذفن فى قلوبكم الوهن! قال قائل: أومن قلة نحن يا رسول الله يومئذ؟ قال: لا، إنكم حينئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، قال: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهة الموت".

فيأيها المسلمون، أنتم الآن بين يدى عالم جديد، إن استقبلتموه بهذه النفوس التى بين جنوبكم تحبون الحياة، وتكرهون الموت، وتفرون من تبعات الجهاد؛ فلن تصلوا إلى شىء أبدًا.

أما إذا غيرتم هذه النفوس، وبدلتم ما بها من جبن وضعف، وأحببتم الموت فى سبيل الحق، وتفننتم فى وسائله وطرائقه؛ فأنتم -ولا شك- واصلون بإذن الله إلى النصر فى الدنيا والخلود فى الآخرة، وإن فناء فى الحق لهو عين البقاء.

ولعل من جميل الذكرى أن نكتب هذه الكلمات عقب تاريخ غزوة بدر؛ فقد كان أهل بدر -رضوان الله عليهم- أساتذة عباقرة فى فن الموت، فأنتجت عبقريتهم آثارًا باقية خالدة للدنيا جميعًا؛ فهل تبعث هذه الذكريات النفوس إلى العمل والاقتداء؟

نرجو، والذكرى تنفع المؤمنين(5).

 

عدة

} وَلاَ تَهِنُوا فِى ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء: 104].

أردت كتابة حديث اليوم وأنا مشغول الفكر بهذا الموقف الحائر الذى تقفه الحكومات والشعوب الإسلامية فى هذا الوقت، الذى إن فاتها فيه العمل فلن تعمل بعده أبدًا، وبخاصة موقف الحكومة المصرية، وقد وضحت أمامها معالم الطريق؛ فتذكرت الآية الكريمة }وَلاَ تَهِنُوا فِى ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء: 104].

لا شك أننا عزل ضعفاء من حيث قوة المادة والسلاح والمال والرجال والعتاد، ولا شك أيضًا أن خصومنا كذلك قد نهكتهم الحرب، وأكلت منهم الأخضر واليابس، وأثقلتهم بالدين، وألحت عليهم بالجوع والخوف، ودمرت المدن والقرى، وحطمت النفوس والجسوم؛ فهم يألمون كما نألم، بل فوق ما نألم!.

ولكنا أقوياء بحقنا، وهم ضعفاء بباطلهم وعدوانهم، والله -تبارك وتعالى- معنا؛ لأننا أصحاب الحق، وهو سبحانه عليهم؛ لأنه عدو المبطلين، ولا يصلح عمل المفسدين، ولهذا نحن نرجو من الله ما لا يرجون، وكان الله عليمًا حكيمًا.

وفى كل أدوار التاريخ وتطورات الأمم والحوادث ما التقى الحق بالباطل إلا خُذل الباطل وأهله، وانتصر الحق وأصحابه }وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء: 81]، }بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ [الأنبياء: 18]، }كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الأَرْضِ [الرعد: 17].

لقد أمر القرآن المؤمنين به أن يَعْتَدّوا لخصومهم، وأن يجهزوا ما استطاعوا من قوة ومن رباط الخيل يرهبون به عدو الله وعدوهم، وشدد الوصية عليهم أن يأخذوا حذرهم وأسلحتهم }وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنْتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء: 102]، ولقد وعد الله عباده المؤمنين جميل المثوبة على هذا الاستعداد فى كتابه، وعلى لسان رسوله الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: "فالسهم يثاب فيه ثلاثة: صانعه وحامله والرامى به"، "ومن رمى بسهم يتدرب بذلك فهو فى سبيل الله"، "ومن احتبس عدة أو فرسًا فى سبيل الله فهى فى ميزانه كل يوم حسنات"، ومع هذا التشديد البالغ فى أخذ الأهبة وإعداد العدة؛ فقد لفت القرآن الكريم أنظار المؤمنين إلى عدة أشد وأقطع وأقوى وأمنع، وهى تأييد الله ومناصرته، ومعونته ومؤازرته }فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى [الأنفال: 17]، }هُوَ الَّذِى أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِى الأبْصَارِ [الحشر: 2].

فهما عدتان إن عزت علينا إحداهما كاملة فلن تفوتنا الأخرى، ولها الكلمة الفاصلة. 

إننا ننصح للحكومات العربية والإسلامية وبخاصة حكوماتنا المصرية أن تعزم أمرها، وألا تتهيب غيرها، وأن تواجه بالحق الصريح فى غير تردد، وأن تصغى فى شجاعة وإيمان وتصميم إلى توجيه القرآن الكريم }قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ [المائدة: 23](6).

 

دعائم النصر

} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [الأنفال: 45-47].

أيها العرب والمسلمون، اسمعوا وتدبروا واعتبروا، وصدق الله العظيم }وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [القمر: 17]، وإن آيات الكتاب الكريم فى صدقها وأحقيتها لأثبت من المعادلات الرياضية التى لا تختلف نتائجها ولا تضطرب أرقامها، ومن أصدق من الله قيلا، وهذه هى قواعد النصر الست فى هذه الآيات الكريمة:

1-الثبات: فإن المؤمن لا يتزعزع، ولا يتردد، ولا يهن، ولا يضعف أبدًا؛ لأنه لا ينتظر إلا إحدى الحسنيين الشهادة أو النصر، ولا يتوقع إلا ما كتب الله له، ولو أن أهل الأرض جميعًا اجتمعوا على أن ينفعوه لم ينفعوه إلا بشىء قد كتبه الله له، ولو اجتمعوا على أن يضروه لم يضروه إلا بشىء قد كتبه الله عليه، وإنه مأجور على ما يلقى من ذلك لله، وأشد ما يحرص عليه الناس آجالهم وأرزاقهم، وأشد ما يدعوهم إلى التردد والضعف الخوف على هذه الأعمار أن تقصر بالموت، والخشية على هذه الأرزاق أن تنقص بالنفقة، والمؤمن واثق تمام الثقة أن الأجل، والرزق بيد الله وحده لا سلطان عليهما لأحد غيره؛ ففيم التردد والخوف والضعف والوهن؟ إن المؤمن ثابت لا يلين، قوى لا يضعف، وكثيرًا ما كان الفرق بين الهزيمة والنصر ساعة من ثبات }وَكَأَيِّن مِّن نَّبِىٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 146].

2-وذكر الله -تبارك وتعالى- وهو أمان الخائفين وأمل اللاجئين، والمؤمن يعلم تمام العلم، ويوقن أعمق اليقين بأن قدرة الله أعظم القدر وأن قوة الله أجل القوى، وأن الله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، فإذا أحاطت عوامل اليأس، وهتفت به هواتف الهزيمة من كل مكان، وأحدقت به قوى الأعداء من كل جانب ذكر صادقًا أن وراء ذلك كله قوة القوى القدير العلى الكبير، الذى له السماوات والأرض ومن فيهما جميعًا عباده، بيده ملكوت كل شىء وهو على كل شىء قدير، له مقاليد السماوات والأرض، وما يعلم جنود ربك إلا هو، إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون.

فماذا عسى أن ينال من نفسه تهويل المهولين، أو قوة المتكاثرين وعدة المعتدين؟ لا شىء أبدًا }الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران: 173].

3-وطاعة الله ورسوله؛ فلا قتال إلا لغاية، ولا عمل إلا فى حدود، وإذا كانت الغاية مرضاة الله ورسوله، وإذا كانت الحدود حدود الله ورسوله، وما وضع العليم الخبير لعباده من نظم ومناهج وأحكام وقواعد تبصرهم بالخير وتأمرهم به، وتحذرهم من الشر وتنهاهم عنه، كانت تلك -ولا شك- أنبل الغايات وأشرف المقاصد، يهون فى سبيلها البذل، ويطيب من أجلها الكفاح }الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء: 76].

4-الوحدة والإخاء، فى العاطفة والقيادة والجندية والقول والعمل والشعور والروح والمقصد والغاية والوحدة فى كل شىء هى أساس القوة وملاك العزة، وما تفرق قوم إلا ضعفوا، وما اختلف نفر إلا ذلوا، والوحدة صميم الإيمان، والفرقة معنى من معانى الكفر }إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10].

5-الصبر، وهو أصل الثبات؛ فلا ثبات إلا للصابرين، والثبات مظهر وعمل، والصبر عاطفة وخلق، والصابرون يُوفَّوْن أجرهم بغير حساب؛ فى الدنيا بالنصر والظفر، وفى الآخرة بالمثوبة والأجر وبشر الصابرين، واستعينوا بالصبر والصلاة، وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون.

6-تصحيح النية وطهارة المقصد؛ فلا يكون الغرض عدوانًا على أحد، أو إبطالا لحق، أو إحقاقًا لباطل، أو تهجمًا على آمنين، أو اغتصابًا لآخرين؛ بل يكون دفاعًا مشروعًا، أو نجدة لمظلوم، أو حماية للمثل العليا أن تنتهك حرمتها، ولقواعد العدالة والإنصاف أن تتهدم بفعل المطامع والشهوات }وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [الأنفال: 47].

أيها العرب والمسلمون:

فى هذا الوقت العصيب الذي تدفقت فيه عليكم قوى الشر من كل مكان، فتألب الشرك بقضِّه وقضيضه عليكم فى الهند، وتألبت اليهودية العالمية بعَددها وعُددها عليكم فى فلسطين، ووقفت دول الاستعمار الباغية المخادعة ترمق المعركة لتقتسم الأسلاب، وتلقى فى النار بالوقود لتزداد اشتعالا؛ حتى تأتى على الأخضر واليابس، ورأيتم مصداق قول الله تبارك وتعالى: }لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة: 82].

فى هذا الوقت أيها العرب والمسلمون يجب ألا تيأسوا، ولا تهنوا، ولا تحزنوا؛ فقد وعدكم الله النصر، ولا شك فى موعوده متى عرفتم قواعده، وأقمتم دعائمه، وأخذتم فى أسبابه، وعرفتم كيف تحققون هذه الأمور الستة.

•       الثبات.. •       وذكر الله..

•       وطاعة الله ورسوله..     •       والوحدة..

•       والصبر..       •       ونبل المقصد..

والله معكم، ومن كان الله معه فلن يغلب أبدًا.. 

والله أكبر ولله الحمد(7).

 

الجهاد الأكبر

} وَجَاهِدُوا فِى اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ [الحج: 78].

قالوا: الجهاد الأكبر جهاد النفس، وهذا قد يكون صحيحًا أحيانًا، والحديث المروى فى ذلك فيه مقال طويل، وأوضح الأقوال فيه أنه ليس حديثًا، وقال بعضهم: إنه من الضعاف.

وقالوا: إنه الجهاد بالنفس، وبذل الدم والروح فى سبيل الله والحق، وإقرار العدالة فى الأرض، وهذا أيضًا قد يكون صحيحًا فى كثير من الأحيان، ولكن الجهاد الأكبر فى هذا الظرف بالذات لمعظم الشعوب العربية بذل المال والإنفاق فى سبيل الله، وهو اليوم إنقاذ عروبة فلسطين المهددة بالطغيان الصهيونى والمؤامرة الاستعمارية الغادرة.

إن القرآن الكريم قد أفاض فى هذا المعنى أيما إفاضة، وكثرت آياته الكريمة التى تعد المنفقين فى سبيل الله بعظيم الأجر وجميل المثوبة وكريم العوض أضعافًا مضاعفة }مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِى كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَّشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 261].

وتسابق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى البذل والإنفاق؛ فجاء بعضهم بنصف ماله، وجاء أبو بكر بماله كله، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم: "ما هذا يا أبا بكر؟"، فقال: "هذا مالى كله"، قال: "وماذا أبقيت لعيالك؟" فقال: "أبقيت لهم الله ورسوله"، وجهز عثمان جيش العسرة كله؛ فجاء بالمال من النقد فى حجره يصبه فى حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: "علىَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها وحمولتها"، ثم مائة، ثم مائة حتى بلغ تسعمائة وخمسين، ثم قال: "وخمسين فرسًا"، وهكذا كانوا يبذلون.

وإخواننا من أهل فلسطين اليوم يبيعون الدور والضياع والثياب والقوت وكل ما يملكون ليحصلوا على السلاح دفاعًا عن أنفسهم وأعراضهم وأولادهم ومقدسات المسلمين والنصارى ووطن العروبة المبارك حول المسجد الأقصى، وهم بذلك قد أدوا الواجب كل الواجب، ولم يدعوا لأحد مقالا.

فماذا فعلت الشعوب العربية لهم؟ نحن الآن نخاطب الشعوب، ولن نغفل محاسبة الحكومات، ولكلٍ دوره، يقولون: إن سوريا تجدُّ كل الجد، وإن العراق كذلك عامل نشيط، وإن الحجاز على ما به قد سبق سبقًا كريمًا؛ فأين أنتم يا أهل مصر وأبناء وادى النيل؟.

أبطأت هيئة وادى النيل العليا حتى أعدت نفسها، وجهزت طوابعها، ونظمت أمرها، وذلك جميل؛ فليس هناك أحد يكره الدقة والنظام، وهاهى ذى الطوابع والإيصالات قد وزعت وتوزعت، وأصبح على الهيئة واجب، وعلى الشعب واجب، ولا بد أن ينهض كلٌ بواجبه.

يا هيئة وادى النيل، أذيعى وأعلنى وأقيمى الحفلات للدعاية، وصيحى بالناس، وأيقظيهم، وطالبيهم بأداء حق الله والوطن عليهم. ويا أيتها الأمة الكريمة الباذلة، سابقى إلى الخيرات، وابذلى فى سبيل الله }وَمَا أَنْفَقْتُم مِّن شَىْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ: 39](8).

 

أسباب

} قُل لَّوْ كُنْتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِىَ اللهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران: 154].

يرى الرجل الذى لم يتصل بالمدينة مصباح الكهرباء، فيتأمله مليًا، ويطيل النظر فيه، ثم يرتد إليه طرفه معتقدًا تمام الاعتقاد أن مصدر النور والإشعاع، ومنبع الضوء والإشراق هو هذا المصباح وحده.

ولكن إذا رأى المفتاح يتحكم فى المصباح فينيره بحركة ويطفئه بأخرى، انتقل إيمانه بمصدر الضوء من المصباح إلى المفتاح، فإذا وجه نظره إلى "الكبس" اعتقد خطأ نفسِه فيما ذهب إليه من الإيمان بالمصباح والمفتاح معًا، وأصر على أن المصدر هنا، ولا شىء إلا هنا، ولكن (...)، فكذب ظنه مرة ثانية، والدينامو الكبير فى وابور النور يجعله يراجع كل ما اعتقده أولا؛ ليقف عند المصدر الحقيقى، وليقول بكل قلبه }اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [النور: 35].

المصباح والمفتاح والكبس والأم والدينامو كلها وسائل ووسائط وأسباب، ولكن سر الإضاءة وحقيقة الكهرباء من صنع الله وحده، ومن علم الله وحده الذى أعطى كل شىء خلقه ثم هدى، فالقاصرون يقفون عند الأسباب فيخطئون، والمعطلون يتناسونها فيخطئون، والحق أخذ فى الأسباب، واعتراف واستناد إلى مسببها }قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ اللهِ [النساء: 78].

الميكروب سبب العدوى، فيجب أن نتقى السبب، ولكن الميكروب والعدوى لا تميت بنفسها؛ لأن الأجل بيد الله فيجب ألا ننزعج، وتلك حقيقة الإيمان }ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد: 4]، }وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِىَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا [الأنفال: 17].

أيها الناس، إنها محنة من الله، وبلاء عظيم أن يسلط عليكم وباء الكوليرا، بما كسبت أيديكم، ويعفو عن كثير.

والأسباب مادية ومعنوية؛ فهذا الإهمال العجيب فى تعاليم الصحة وفى أوامر الدين من حيث النظافة والوقاية والعلاج وإبادة الحشرات وتهوية المنازل وتطهير الفرش والإبلاغ عن المرضى وعدم الانزعاج من الإجراءات القانونية الصحية.. كلها أسباب مادية.

ومعصية الله -تبارك وتعالى- والجرأة عليه والخروج عن أمره بالعربدة والخمر والفجور والإثم والعبث واللهو والفسوق والعصيان والعكوف على ما حرم الله والبعد عن التعرف إليه والاحتماء به، وصدق التوجه لجلاله وجماله، وإيثار متع الحياة الدنيا الفانية على نعيم الآخرة الخالدة الباقية..

كل أولئك من الأسباب المادية والمعنوية معًا }وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96]، وفى محكم التنزيل آيات بينات ما أولى وأحرى أن نصغى إليها، وأن نستفيد منها، وأن ننتفع بها }أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ * أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ [الأعراف: 97-100].

يا أيها الناس، اتقوا الله، وأجملوا فى الطلب، وجِدُّوا فى الأسباب، ولكن بدون تكالب، احرصوا على أن تطعموا لأن فى هذا وقاية، ولكن لا تزاحموا، ولا تكالبوا؛ لأن الطعم لن يرد عنكم السبب إن أرادها الله لكم، ولا يصح أن يغمرنا مظهر الأنانية والأثرة بهذه الصورة، وننسى بالكلية فضل التضحية والإيثار، وما كان لك سوف يأتيك، ولن يصيبك إلا ما كتب الله لك أو عليك.

وخذوا فى أسباب الوقاية المادية، ولكن لا تهملوا أسباب الوقاية الروحية بالتوبة الصادقة النصوح، والكف عن الآثام والإكثار من الطاعات، والإلحاح على الله فى الدعاء، ومناجاته فى الصلوات، والأمر بيد الله، وهو على كل شىء قدير.

والله أكبر ولله الحمد(9).

 

جهاد

} وَجَاهِدُوا فِى اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ [الحج: 78].

عن أنس  رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لغدوة فى سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها" أخرجه الشيخان والترمذى.

وعن أبى هريرة  رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تضمَّن الله تعالى لمن خرج فى سبيل الله لا يخرجه إلا جهاد فى سبيلى وإيمان بى وتصديق برسلى؛ فهو على ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة، والذى نفس محمد بيده ما من كَلِم يُكْلم فى سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كُلِم، لونه لون دم، وريحه ريح مسك، والذى نفس محمد بيده لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو فى سبيل الله عز وجل أبدا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة فيتبعوننى، ويشق عليهم أن يتخلفوا عنى، والذى نفس محمد بيده لوددت أنى أغزو فى سبيل الله فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل" أخرجه الثلاثة والنسائى.

وعنه  رضى الله عنه قال: "قيل: يا رسول الله ما يعدل الجهاد فى سبيل الله؟ قال: لا تستطيعون، ثم قال: مَثل المجاهد فى سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صيام ولا صلاة، حتى يرجع المجاهد" أخرجه الستة إلا أبا داود.

وعن أبى سعيد الخدرى  رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بخير الناس وشر الناس؟ إن خير الناس رجل عمل فى سبيل الله على ظهر فرسه أو ظهر بعيره أو على قدمه حتى يأتيه الموت، وإن شر الناس رجل يقرأ كتاب الله لا يرعوى بشىء منه" أخرجه النسائى.

وإن كتاب الله -تبارك وتعالى- لينادى المؤمنين: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُّلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [الصف: 10-13].

وقد نص الفقهاء فى كتبهم على أن الجهاد فرض عين إذا ديست أرض الإسلام، قال صاحب المغنى: "فصل: ويتعين الجهاد فى ثلاثة مواضع: أحدها إذا التقى الزحفان، وتقابل الصفان حرم على من حضر الانصراف، وتعين عليه المقام لقول الله تعالى }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا [الأنفال: 45]، وقوله: }وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا، وقوله: }وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال: 46]، وقوله تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ [الأنفال: 15-16]. والثانى إذا نزل الكفار بلدًا تعين على أهله قتالهم ودفعهم. والثالث إذا استنفر الإمام قومًا لزمهم النفير معه لقول الله تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِى سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ [التوبة: 38] الآية والتى بعدها، وقال النبى صلى الله عليه وسلم: إذا استُنفرتم فانفروا".

وفى كل كتب الفقه الإسلامى على اختلاف مذاهبها مثل ذلك.

ولقد أدرك المسلمون الأولون هذه الحقائق؛ فكانوا عابدين أو كاسبين أو مجاهدين، وقد قال تعالى: }إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَلَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا [المزمل: 20].

ألا وإن أرض الإسلام اليوم وأوطانه وبلاده على الحال التى يعلمها المسلمون ويدركونها تمام الإدراك: نهب مقسم فى أيد الغاصبين ومطامع الطامعين؛ فالجهاد عليهم الآن فريضة محكمة وضرورة لازمة، وعلى حكامهم ورؤسائهم أن يقودوهم فى ذلك ويستنفروهم إليه، ولهم بذلك النصر والعزة والتأييد فى الدنيا، والمثوبة والأجر والجنة فى الآخرة }فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 181]. الله أكبر ولله الحمد (10).

 

هبي ريح الجنة

} وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [آل عمران: 169-170].

قال أنس  رضى الله عنه: "غاب عمى أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله، غبت عن أول قتال قاتلت المشركين ليرينَّ الله ما أصنع؛ فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون، فقال: اللهم أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعنى أصحابه- وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء -يعنى المشركين- ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إنى لأجد ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع.. ثم تقدم"، قال أنس  رضى الله عنه: "فوجدنا به بضعًا وثمانين ما بين ضربة بالسيف وطعنة بالرمح ورمية بسهم، ووجدناه وقد مثل به المشركون فما عرفه إلا أخته بشامة ببنانه"، قال أنس: "كنا نرى أن هذه الآية نزلت فيه وفى أشباهه }مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب: 23]" أخرجه الشيخان والترمذى.

وعن جابر  رضى الله عنه قال: "قال رجل يوم أحد للنبى صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن قتلت أين أنا يا رسول؟ قال: فى الجنة، فألقى تمرات كن فى يده ثم قاتل حتى قتل" أخرجه الشيخان والنسائى.

وعن أبى بكر بن أبى موسى الأشعرى قال كان أبى وهو بحضرة العدو يقول: "قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف، فقام رجل رث الهيئة فقال: يا أبا موسى، أنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا؟، قال: نعم، قال: فرجع إلى أصحابه فقال: أقرأ عليكم السلام، ثم كسر جفن سيفه فألقاه، ثم مشى بسيفه إلى العدو فضرب به حتى قتل".

وعن أنس  رضى الله عنه قال: "انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر، وجاء المشركون، فقال رسول صلى الله عليه وسلم: لا يتقدمن أحد منكم إلى شىء حتى أكون أنا دونه، فدنا المشركون.. فقال رسول صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فقال عمير بن الحمام: يا رسول الله أجنة عرضها السماوات؟ قال: نعم، قال: بخ، بخ.. فقال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: ما يحملك على قول بخ، بخ؟ قال: لا والله يا رسول إلا أن أكون من أهلها، قال: فإنك من أهلها، فأخرج تمرات، فجعل يأكل منهن، ثم قال: إن أنا حييت حتى آكل تمرًا من هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل".

وعن ابن عباس  رضى الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما أصيب إخوانكم جعل الله أرواحهم فى جوف طير خضر ترد أنهار الجنة، فتأكل من ثمارها، وتأوى إلى قناديل من ذهب معلقة فى ظل العرش.. فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا: من يبلغ إخواننا عنا أنا أحياء فى الجنة نرزق؛ لئلا يزهدوا فى الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب؟.. فقال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله عز وجل }وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران: 169] الآية" أخرجه أبو داود.

أيها المسلمون، لقد كانت هذه الأبواب من أبواب الجنة مغلقة أمام المجاهدين الذين يتحرقون شوقًا إلى ما عند الله، ويتنسمون متلهفين ريح الجنة؛ حتى أراد الله أن تمهد السبيل، وتستبين الطريق، وتُدعون إلى الشهادة فى أكرم بقعة ولأسمى غاية دفاعًا عن المسجد الأقصى الذى بارك الله حوله، وتذودوا عن فلسطين المقدسة مهد الأنبياء والمرسلين، ومثوى الصحابة والتابعين.. فماذا أنتم فاعلون؟ تهيئوا أيها المجاهدون وأقدموا، وسجِّلْ أيها التاريخ واشهد، هبى رياح الجنة.

والله أكبر ولله الحمد(11).

 

صور

كان عمرو بن الجموح وهو شيخ من الأنصار أعرج، فلما خرج النبى صلى الله عليه وسلم إلى بدر قال عمرو لبنيه: "أخرجونى"، فقالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: "عرجه يا رسول الله، فأذن له فى المقام".

فلما كان يوم أحد خرج الناس، فقال لبنيه: "أخرجونى"، فقالوا: "قد رخص لك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذن"، قال: "هيهات، منعتمونى الجنة ببدر وتمنعونها بأحد"، فخرج، فلما التقى الناس، قال: "يا رسول الله، أرأيت إن قتلت اليوم أطأ بعرجتى هذه الجنة؟"، قال: "نعم"،. قال: "فوالذى بعثك بالحق لأطأن بها فى الجنة اليوم إن شاء الله تعالى".

ثم قال لغلام له كان معه: "ارجع إلى أهلك"، قال: "وما عليك أن أصيب اليوم خيرًا معك"، قال: "فتقدم إذن"، فتقدم الغلام فقاتل حتى قتل، ثم تقدم عمرو وأخذ سلاحه وأقبل على القبلة، وقال: "اللهم ارزقنى الشهادة، ولا تردنى إلى أهلى خائبًا"، وقاتل حتى قتل، وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر فقال: "والذى نفسى بيده، إن منكم من لو أقسم على الله لأبره، منهم: عمرو بن الجموح؛ فلقد رأيته يطأ فى الجنة بعرجته".

وعن أبى المنذر  رضى الله عنه أن رجلا جاء للنبى صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله، إن فلانًا هلك فصل عليه"، فقال عمر: "إنه فاجر فلا تصل عليه"، فقال الرجل: "يا رسول الله ألم تر الليلة التى صبحت فيها الحرس، فإنه كان فيهم"، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى عليه، ثم تبعه حتى جاء قبره فقعد، حتى إذا فرغ منه حثا عليه ثلاث حثيات، ثم قال: "يثنى عليك الناس شرًا، وأثنى عليك خيرًا"، فقال عمر: "وما ذاك يا رسول الله؟"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعنا منك يا ابن الخطاب، من جاهد فى سبيل الله وجبت له الجنة".

وعن سليمان بن أبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى بدر، أراد سعد بن خيثمة وأبوه أن يخرجا جميعًا، فذكرا ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فأمرهما أن يخرج أحدهما، فاستهما فخرج سهم سعد، فقال أبوه: "آثرنى بها يا بنى"، فقال: "يا أبت إنها الجنة، لو كان غيرها آثرتك به"، فخرج سعد مع النبى صلى الله عليه وسلم فقتل يوم بدر، ثم قتل أبوه خيثمة من العام المقبل يوم أحد.

وعن مقرى قال: بينما نحن نسير بأرض الروم فى طائفة عليها مالك بن عبد الله الخيثمى، إذ مر مالك بجابر بن عبد الله الأنصارى -رضى الله عنهما- وهو يمشى على قدميه ويقود بغلا له، فقال له مالك: "يا أبا عبد الله لم لا تركب وقد حملك الله؟!"، فقال جابر: "أصلح دابتى، وأستغنى عن قومى، وسمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يقول: من اغبرت قدماه فى سبيل الله تعالى حرمه الله على النار"، فسار مالك حتى إذا ابتعد عنه وكان بحيث يبلغه صوته، نادى بأعلى صوته: "يا أبا عبد الله اركب فقد حملك الله"، فعرف جابر الذى يريد، فصاح يجيبه: "أصلح دابتى، وأستغنى عن قومى، وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من اغبرت قدماه فى سبيل الله حرمه الله على النار"، فتواثب الناس عن دوابهم، فما وجدت يومًا أكثر ماشيًا منه.

قال عبد الله بن محمد قاضى قضاة نصيبين: "حدثنى محمد بن إبراهيم بن أبى سكينة قال: أملى علىَّ عبد الله بن المبارك هذه الأبيات، وأرسلها معى إلى الفضيل بن عياض بمكة سنة 177هجرية:

يا عابدَ الحرمين لو أبصرتَنَا             لعلمتَ أنك فى العبادة تلعبُ

من كان يخضُبُ خدَّه بدموعِه            فنحورُنا بدمائنا تتخضبُ

أو كان يُتعبُ خيلَه فى باطل             فخيولُنا يوم الصبيحة تتعبُ

ريحُ العبيرِ لكم ونحن عبيرُنا             رهج السنابِكِ والغبارُ الأطيبُ

ولقد أتانا من مقال نبينا                  قولٌ صحيحٌ صادقٌ لا يكذبُ

لا يستوى غبار خيل الله فى              أنف امرئ ودخان نار تلهبُ

هذا كتاب الله ينطق بيننا                ليس الشهيد بميت لا يكذب

فلقيت الفضيل بكتابه، فلما قرأه ذرفت عيناه، فقال: صدق عبد الرحمن ونصحنى".

أيها المسلمون، أرأيتم هذه الصور، وسمعتم هذه الأنغام؟ هكذا فقولوا، وهكذا فاعملوا، والله معكم(12).

 

لقد عرفنا الطريق

} وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69].

فى هذا الأسبوع توافدت جموع الإخوان للتطوع بالدم فى سبيل فلسطين العربية المقدسة فشاهدنا حوادث عجبًا.

وردت علىّ برقية من المنوفية نصها: "المجاهدون المنسيون يحتجون على المحسوبية فى السفر إلى فلسطين، ويطلبون التحقيق"، وبعث إلىّ أحد الإخوان يحتج احتجاجًا شديدًا على رئيس شعبته؛ لأنه منعه من التطوع بحجة أنه مدين، وأن الجهاد لا يجب عليه حتى يقضى دينه، وأن هذا حكم الإسلام ولا خروج على حكمه، ثم يقول: "اشتروا دمى بدينى فسددوه عنى، ودعونى أمت شهيدًا فى سبيل الله"، وجاءنى صديقنا فضيلة الأستاذ الشيخ أحمد عبد الكريم الإمام والخطيب بالأوقاف يقدم بيده ولده، ويقول: "إنكم رفضتم قبوله بالأمس، فجاءنى يتوسل بصداقتنا لتقبلوه فاقبلوه متطوعًا، وأنا على ذلك راض وبه سعيد"، وقدم صديقنا فضيلة الأستاذ الشيخ بسيونى خطاب الإمام والخطيب بالأوقاف كذلك إلى إدارة التطوع ولده، وحمله إليها رسالة يقول فيها: "أرجو أن تتقبلوا هذا كدفعة أولى، والنجل الثانى فى الطريق إليكم".. وتسابق أخوان فى التطوع فلما اعترضت الإدارة على ذلك وقالت: "لا يُقبل إلا واحد فقط ويبقى الثانى"، لم يُحل الإشكال إلا بقرعة بينهما، ومع هذا لا زال الثانى حزينًا ينتظر دوره فى الجهاد.

رأينا الكثير من هذه الصور الرائعة الجليلة العجيبة، فتذكرنا "الخنساء" أم الأبناء الأربعة الذين تقدمت بهم إلى الموت تدفعهم إليه دفعًا فى سبيل الله، وحمدت الله بعد ذلك على أن رزقهم الشهادة جميعًا. وتذكرنا "أنس بن النضر" وفيه نزلت }مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب: 23]، وتذكرنا كثيرًا من أسلافنا المجاهدين الذين ساروا على الدرب فوصلوا، ثم قلت: لقد عرفنا الطريق.

أيها العرب المسلمون:

أسبانيا تظلم وتقسو، وتتعنت وترهب، وتعتقل وتسجن وتضطهد فى المغرب الأقصى. 

فرنسا تفعل نحو ذلك فى إفريقيا الشمالية.

وإنجلترا وأمريكا تعبثان بمصير ليبيا. 

وحق وادى النيل فى الحرية والوحدة ضائع مهضوم تسخر منه مطامع الدول الظالمة، وتغالط فيه بريطانيا المحطمة. 

وفلسطين تطيف بها أحلام اليهود وخيالاتهم، وقد أعدوا أنفسهم لتحقيق هذه الأحلام، واستعانوا بالوقت والعلم والمال والشهوات وجور الحكام، وغفلة أهل الحق على ما يريدون أكثر من ربع قرن، وهم الآن يبكون ويتظاهرون بالضعف والمسكنة؛ ليستدروا عطف هيئة الأمم الغافلة بعد أن هيأوا لأنفسهم كل وسائل القوة المادية الزائلة الباطلة، وكأنهم جهنم تقول دائمًا: هل من مزيد. وفى الباكستان، وفى إندونيسيا، وفى كل قطر من أقطار العروبة والإسلام حدث جديد، والقضية واحدة فى وسائلها وغايتها.

لنا غاية واحدة؛ أن نتحرر وأن نتوحد، وأن نساهم فى بناء السلام العالمى على أساس حقيقى من العدالة والإنصاف والحق والنور.

وليست هناك إلا وسيلة واحدة لذلك هى: الإخلاص، والوحدة، والجهاد. فإذا استقمنا على ذلك فقد عرفنا الطريق.

لا شك أننا آمنا كل الإيمان بأنه لا سبيل إلا الجهاد.

وهانحن أولاء نقتحم ميادينه؛ فعلينا أن نحقق فى أنفسنا الإخلاص، وفى عملنا التناسق والوحدة، وعلى الله قصد السبيل.

والله أكبر ولله الحمد(13).

 

قوة

} يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِى الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم: 27].

كان معى قبل دقائق من كتابة هذا الحديث أخ من الإخوان عاد من ميدان الجهاد المقدس فى فلسطين، وأخذ يصافحنى فى دعة وابتسام، ويتحدث إلىَّ فى بساطة وهدوء، وأنا أظن أنه قد عاد عودة طبيعية، ولم أدرِ إلا بعد فترة من الحديث أنه فارٌّ من أَسْر اليهود بعد إصابته بالملاريا فى بئر سبع، ولكنه أبى إلا أن يؤدى واجبه وهو مريض، وتعتريه نوبات الحمى؛ فكان عن ذلك أن ضعف فى إحدى المواقع عن الكر والفر، فوقع فى الأسر، ونقل من مستعمرة راشيل إلى مستعمرة رحبوب، وبقى أربعة أيام بدون طعام، وفى اليوم الخامس جاءه عربى يقدم إليه نصف رغيف فرفض قبوله فى إباء ظنًا منه أن الرجل يعمل مع اليهود، وأخذ يعنفه على خيانته لوطنه وأمته، ولكن الرجل بكى وأقسم له إنه أسير عند هؤلاء "الكلاب" منذ أربعة شهور، وإن وجبته رغيف فى اليوم، وإنه يقدم له نصفه من باب الإيثار، فلما استوثق من قوله قبله منه، وبعد قليل حمل ومعه أربعة وعشرون من أسرى العرب إلى ميناء حيفا؛ حيث أرغمهم اليهود على أن يعملوا ليلا ونهارًا فى تفريغ البواخر التى تحمل البضائع والذخائر، ونقل ما فيها إلى البلد، وحين أحس هذا الأخ أنه يحمل صندوقًا من القنابل اليدوية واردة من أمريكا صاحبة اقتراح الهدنة، والتى قدمت أكبر عدد من المراقبين الفضلاء لم يطق صبرًا، وألقى به إلى البحر غير آبه ولا مكترث بفوهة "بندقية التومى" التى تصوبها إليه يد الحارسة اليهودية، وأخيرًا أراد الله له النجاة، فوصل إلى بورسعيد، ورأى أرض الوطن الحبيب بعد الإياس، وذهب إلى بلده حيث زار أهله ووالديه فى بضعة أيام، وعاد إلى المركز العام ليقابلنى فيقص علىّ قصته، ويستأذن فى العودة من جديد إلى ساحة المجد والشرف والخلود والجهاد.

وكان يتحدث وكأنه لا شىء هناك، كأنه لم يمرض، ولم يؤسر، ولم يصافح الموت مرات؛ فهل بعد هذه القوة فى النفوس المؤمنة من قوة؟.

أسر خبيب  رضى الله عنه، وقُدم إلى القتل؛ فما زاد على أن طلب من القوم أن يدعوه يصلى ركعتين، فصلاهما كأحسن ما تكون الصلاة، ثم أنشأ بعد الفراغ يقول قصيدته الخالدة التى منها:

ولستُ أبالى حين أُقتَلُ مسلمًا             على أى جنب كان فى الله مصرعى

وذلك فى ذات الإله وإن يشأْ             يبارك على أوصال شلو ممزع

وقالوا له يسخرون منه: يا خبيب أتحب أن محمدًا مكانك نقتله وأنت فى أهلك؟ فكان أشد بهم سخرية إذ قال: "والله لو خيرتمونى بين أن أكون بين أهلى وعشيرتى ورسول الله صلى الله عليه وسلم حيث هو تصيبه شوكة لفضلت أن أقتل ولا تصيبه هذه الشوكة".

ويهدد فرعون السحرة بأقسى العذاب }لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِى فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ [طه: 71-72](14).

 

قدوة

} مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِى كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَّشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 261].

عن جرير بن عبد الله  رضى الله عنه قال: "كنا فى صدر النهار عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجاءه قوم عراة، مجتابى النمار والعباء، متقلدى السيوف عامتهم مضر بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى ما بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج فأمر بلالا فأذن، وأقام فصلى، ثم خطب فقال: }يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِى تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1]، والآية التى فى الحشر: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18] تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُرِّه، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة، قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سن فى الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شىء، ومن سَنَّ سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شىء".

ونحن الآن أمام صورة كهذه الصورة التى يصفها جرير بن عبد الله  رضى الله عنه، ولكنها أوضح وأكبر وأعمق أثرًا فى النفس، وأوجع لقلوب المؤمنين الذين اكتمل فى مشاعرهم معنى الإنسانية، فأصبحوا يشعرون ببؤس البائسين، وألم المحرومين؛ فقد اقتضت ظروف الحرب الدائرة فى فلسطين، وأنتج العدوان الصهيونى الوحشى على أهلها الآمنين المطمئنين أن شُرد منهم ربع مليون من النساء والأطفال والشيوخ، فى مدن فلسطين المختلفة، وصحاريها القاحلة، ومثلهم فى البلدان العربية المجاورة لاجئين لا يجدون من ينفقون إلا بشق الأنفس.

إن تعداد السكان الأصليين فى بلدة أريحا القريبة من القدس هو أربعة آلاف نفس، ونصيبها من مشردى اللد والرملة وغيرهما عشرة أضعاف هذا العدد؛ أى أربعون ألف نفس، وإن تعداد النفوس فى نابلس عشرون ألفًا، وكان نصيبها من المشردين ثلاثة أضعاف هذا العدد؛ أى ستين ألف نفس، وإن فى صحراء النقب فى العراء وبجوار معسكر الإخوان المسلمين بقرب غزة ما لا يقل عن عشرة آلاف نفس ومثل ذلك فى الخليل، ورام الله، وغزة، وخان يونس، وغيرها من المدن الجنوبية.

هذه الآلاف من البشر من الأطفال والصغار، والشيوخ الكبار، والنسوة الضعيفات لا يجدون المأوى ولا الفرش ولا الكساء ولا الطعام الكافى ولا الغذاء الذى يسد الرمق، ويمسك على البدن قوته وجلده، رغيف واحد فى اليوم لكل لاجئ، والثوب الذى أخرج به من بلده وبيته أبلاه طول الزمن وهو لا يجد غيره؛ فقد أبت وحشية اليهود إلا أن تُخرج هؤلاء الآمنين من ديارهم لا يملكون شيئًا.

وشتاء فلسطين قارس، وبردها شديد، والمؤمنون كما مثلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وثواب الله -تبارك وتعالى- خير وأبقى، وما عندكم ينفد وما عند الله باق.

وإن واجب الإيمان والجوار والإنسانية ليفرض علينا أن نفعل شيئًا لنخفف عن هؤلاء المنكوبين آلامهم، ونشعرهم معنى الرابطة القوية التى تربطنا بهم؛ رابطة العروبة والإسلام والجوار.

فيا أيها المواطنون الأعزاء:

نحن لا نسألكم كثيرًا، ولا نكلفكم شططًا عسيرًا.. ولكننا ندعوكم إلى أن تبذلوا مما فضل عن حاجتكم من غذاء أو كساء، أو فراش أو غطاء، فتقدموه إلى هؤلاء المتطوعين الذين بدءوا بأنفسهم، فجادوا بما عندهم ثم أبوا إلا أن يقصدوكم فى بيوتكم، ويمرون عليكم فى أماكنكم، ويسهلون عليكم السبيل، ويمهدون لكم الطريق، لا يريدون من وراء ذلك جزاء ولا شكورًا، إلا ثواب الله وحسن جزائه، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.

وسيوزع ما يجمع على هؤلاء المشردين فى أرض فلسطين المباركة؛ فيعم به النفع، ويدفع به الضر، ويستجلب به الخير إن شاء الله.

أيها المواطنون الأعزاء:

ستنكشف عما قريب المحنة، وتنجلى الغمة بإذن الله، وستكون العاقبة للمتقين، والهزيمة للظالمين المعتدين، وسيديل الله لنا من خصومنا، ويمكننا من أعدائنا، ويذهب غيظ قلوبنا، ويَشفى صدورنا إن شاء الله }وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا [الإسراء: 51]، وعلينا ألا نيأس ولا نقنط }إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف: 87].

والله أكبر ولله الحمد(15).

 

من وحي الشهداء .. "وجهًا لوجه"

} أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 142].

أمام حقائق الدعاية.. وجهًا لوجه.. لا بد من امتحان لحقيقة إيمان المؤمنين.

ودعوى الإيمان وحدها لا تكفى فى كثير ولا قليل }وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآَخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ [البقرة: 8]، وهذا ناموس الله الذى لا يتغير، وسنته التى لا تتخلف: }وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد: 31].

وكلنا مؤمنون بحكم الوراثة؛ فقد ولدنا على هذا الدين القيم، والحمد لله على نعمة الإيمان.. وكثير هم المؤمنون بالتعلم والخطابة الذين يستطيعون أن يتمثلوا معنى الإيمان، ويحسنوا التعبير عنه لأنفسهم وللناس. ومن هؤلاء من يصدق فيه معنى الإيمان حتى يتذوق حلاوته، ويجد طعمه، ويستشعر برده على فؤاده، كما يحس بحرارته ودفئه ونوره وإشراقه..

ولكن هذا كله لا يكفى، حتى يقف المرء وجهًا لوجه أمام حقائق الإيمان العملية، وأوضح هذه الحقائق: ما اتصل بالجهاد والشهادة والموت فى سبيل الله، والعزوف عن متع الحياة الدنيا، إيثارًا لما عند الله.

وهؤلاء الشهداء الاثنا عشر، ومن قبلهم الشهيد العزيز السعيد الأخ حسين الحلوس الذى اختاره الله لجواره فى حادث انقلاب سيارة المؤن للشهداء بسينا.. قد أوقفونا نحن الإخوان، وأوقفوا أسرهم الكريمة، وأوقفوا الأمة المصرية كلها أمام حقائق الإيمان وجهًا لوجه.

إن من حقائق الإيمان الأولى أن الموت حق، وأن الأجل محدود، وأن العمر واحد، لا ينقص ولا يزيد }فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف: 34]، وأن الجبن لن يؤخر الوفاة، وأن الشجاعة لن تدنى الموت، وأن قدر الله من وراء ذلك كله، ولا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه }أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ [النساء: 78]، }الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران: 168].

ولن يستطيعوا أن يدرؤوا طبعًا، ومن لم يمت بالسيف مات بغيره.

وإن من حقائق الإيمان الأولى أن الله -تبارك وتعالى- كتب على المؤمنين كتابًا لازمًا، وفريضة محكمة: أن يقاتلوا فى سبيل الحق، وأن يدافعوا عن صورة الدين، وأن يجاهدوا فى سبيل الله تعالى؛ حتى تعلو كلمته، وترفع رايته، وأن من نكص عن ذلك فله عذاب أليم؛ فى الدنيا بالصغار، وفى الآخرة بالجحيم والنار }كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة: 216].

} إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِى التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 111].

وإن من حقائق الإيمان الأولى أن من مات فى سبيل الله أو قتل مجاهدًا.. فهو شهيد، حى يرزق عند الله تبارك وتعالى، وأنه لا يجد من مسِّ الموت إلا كما يجد الإنسان الحى الحساس من قرصة نملة، وأنه لا يُفتن فى موته ولا فى قبره، وكفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة، وأنه يبعث يوم القيامة بكلومه وجروحه ودمائه الطاهرة الزكية.. اللون لون الدم، والريح ريح المسك، وأن له عند الله -تبارك وتعالى- من المثوبة والأجر، وأفضل مما عند الله لسائر الذين ماتوا بغير شهادة }لاَ يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِى الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * َرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [النساء: 95-96].

} الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِى سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التوبة: 20-22].

ومن يؤمن بهذه الحقائق إيمانًا صحيحًا لا شك ولا ريب فى أنه يفرح ويُسَر، ويسارع ويبادر، ويختار لأحبابه وذويه هذه الموتة السعيدة الكريمة، التى لن تأتى قبل أوانها، ولكنها تظهر فى أروع صورها، وأجمل ألوانها، وبقدر رسوخ العقيدة فى هذه الحقائق، بقدر الرضاء والتسليم بقضاء الله وقدره فى شهادة الشهداء، وموت الأعزاء.

فيا أيها الإخوان المسلمون، أنتم وأسركم والمتصلون بكم، لقد عاهدتم الله على الإيمان الكامل بكل حقائقه ومقتضياته، ولقد عرف الناس عنكم ذلك فى كل مكان، وسجلوا عليكم هتافكم المدوى: "الجهاد سبيلنا، والموت فى سبيل الله أسمى أمانينا". وأنتم بهذا الهتاف كنتم تعلنون حقائق الإيمان نظريًا، وهاأنتم أولاء وقد وقفتم أمامها عمليا.. فماذا أنتم فاعلون؟.

أغلب الظن أنكم ستنجحون فى هذا الامتحان نجاحًا منقطع النظير بإذن الله، وبشائر ذلك واضحة، ودلائله لائحة }وَإِنَّ الدَّارَ الآَخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت: 64](16).

 

واعمراه .. وامعتصماه..

} وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِى الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال: 72-73].

فى عهد مضى أعاد الله علينا دولته قال الراوى: "دخلت القسطنطينية تاجرًا فى عهد عمر بن عبد العزيز، فأخذت أطوف فى بعض سككها حتى انتهى بى المطاف إلى فناء واسع، رأيت فيه رجلا أعمى يدير الرحى وهو يقرأ القرآن، فعجبت فى نفسى: فى القسطنطينية رجل أعمى، يتكلم العربية، ويدير الرحى ويقرأ القرآن، إنه لنبأ! فدنوت منه وسلمت عليه بالعربية فرد السلام، فقلت: من أنت يرحمك الله؟ وما نبؤك؟ فقال: أسير من المسلمين أسرنى هذا الرومى، وعاد بى إلى بلده، ففقأ عينى، وجعلنى هكذا أدير الرحى، حتى يأتى أمر الله، فسألته عن اسمه وبلده وقبيلته ونسبه، وما كان لى من عمل حين عدت قبل أن طرقت باب أمير المؤمنين وأخبرته الخبر، فاحتقن وجهه، واحتدم غضبًا، ودعا بدواة وكتب لملك الروم: قد بلغنى من الآن كذا وكذا، وإنكم بذلك قد نقضتم ما بيننا وبينكم من عهد: أن تسلموا كل أسير من المسلمين؛ فوالله الذى لا إله إلا هو لئن لم ترسل إلى بهذا الأسير لأبعثنَّ إليك بجنود يكون أولها عندك وآخرها عندى، ودعا برسول فسلمه الكتاب وأمره ألا يضيع وقتًا فى غير ضرورة حتى يصل، ودخل الرسول على ملك الروم، وسلمه الكتاب، فاصفر وجهه، وأقسم إنه ما علم من أمر هذا الأسير شيئًا، وقال: لا نكلف الرجل الصالح عناء الحرب، ولكنا نبعث له بأسيره معززًا مكرمًا وقد كان".

ويتذكر تلامذتنا وطلبة المكاتب من أبنائنا قصة أسيرة عمورية التى هتفت باسم المعتصم أمير المؤمنين، فأجابها من فوره، وأقسم أن يدكها حجرًا حجرًا، وسار على رأس جيشه، فبر بقسمه وانتصر على عدوه، وسوى عمورية بالأرض، ومحا اسمها ورسمها من صحائف الوجود، وانتقم لعزة الإسلام، واستخلص الأسيرة من بين ذراعى وجبهة الأسد، وعاد مظفرًا كريمًا.

وقرأت.. وابتسمت.. وبكيت.. وفى كتبنا الفقهية مسألة: امرأة سبيت بالمشرق وجب على أهل المغرب استنقاذها مهما كلفهم ذلك، وينفق الإمام ما فى بيت المال؛ فإن فنى أنفق ماله هو كله، فإن لم يف استدان من الرعية على بيت المال حتى يستنقذ هذه السبية".

أيها العرب والمسلمون:

لم تعد المسألة مسألة أسير ولا أسيرة، ولكنها أصبحت أكبر وأضخم، وأجلَّ وأعظمَ، إنها قضية الحياة والشرف والكرامة والوجود لشعب بأسره، احتضنته الأمة العربية كلها، وتظاهرت على نصرته جهود العالم الإسلامى فى أقطار الأرض، ثم هى قضية مستقبل الأرض المباركة، والمسجد الأقصى: ثالث الحرمين، وأولى القبلتين؛ فاذكروا فظائع اليهود الوحشية فى: قرية دير ياسين.. وقرية ناصر الدين.. وقرية أبو زريق.. وقرية ساريس.. ثم اذكروا "حيفا" إحدى عواصم فلسطين الثلاث، واذكروا ما بعدها إن ظللتم قاعدين.. ثم انظروا ماذا أنتم فاعلون؟ ولا يكن حظكم من الانتصار لهذه المواطن الذبيحة أن تصيحوا: "واعمراه.. وامعتصماه".(17).

 

الله أكبر.. خربت خيبر

"إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين".

}وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ * أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ * وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ * سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات: 171-182].

وفى الطريق إلى خيبر اليهودية المعتدية الكافرة ارتفع صوت عامر بن الأكوع يترنم:

واللهِ لولا اللهُ ما اهتدينا           ولا تصدَّقْنا ولا صلَّينا

إنا إذا قوم بغوا علينا            وإن أرادوا فتنة أبينا

فأنزلن سكينة علينا              وثبت الأقدام إن لاقينا

وعلى باب خيبر وأمام حصونها المتعالية المعتزة بمتانة البناء ووفرة المؤن والعتاد وجودة العدة والسلاح وكثرة المحاربين الأنداد.. وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر الناس، فوقفوا، ورفع يديه إلى السماء يستنزل النصر، ويستمطر التأييد، ويسأل ربه الفوز والفتح، ويقول: "اللهم رب السماوات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن؛ فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شر هذه القرية وشر أهلها وشر ما فيها".

ثم قال: "اقدموا باسم الله الرحمن الرحيم".

ونزل خيبر ليلا، وانتظر حتى أصبح الصباح، وبرق الفجر، وبدت أشعة الشمس على ذوائب الحصون الشماء النافحة، فصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين".

وشعر اليهود بالجيش المحارب، وهزءوا بالقوة الغازية، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله، وماذا يخشون والجدران تحميهم، والقوت موفور لديهم، وفيهم أمثال مرحب بن منبه البطل المجرب فى الحروب المعدود بألف فارس أو تزيد؟ فليفعل محمد ما يشاء، وليبتغ نفقًا فى الأرض أو سلمًا فى السماء؛ فهم على كل حال فى أمن وطمأنينة ودعة وسكينة.

وتقدمت الطلائع المحمدية الإسلامية إلى بعض الحصون، فهاجمته، فلم تجد إليه سبيلا عامة نهارها، ورجعت وقد بلغ منها الجهد، وفقدت أحد رجالها الأبطال المجاهدين محمود بن مسلمة رضى الله عنه، وعاودت الكَرة فى اليوم الثانى، فلم تكن أحسن حظًا من اليوم الأول، وهنا أخذ القائد العام الأمر بالحزم، ولم ير أن يضيع كبير وقت، فقال: "لأعطين الراية غدًا رجلا يحبه الله ورسوله، لن يرجع حتى يفتح له"، وتطاول الأبطال من الغد لتسلم الراية؛ فكانت من حظ على بن أبى طالب -كرم الله وجهه- فنهض بها، وعليه جبة أرجوان حمراء قد أخرج خملها، فأتى مدينة خيبر وقد اعتزم أن لا يرجع دون الفتح.

ونزل فارس القوم مرحب بن منبه يتلقى الطارق الجديد فى كامل عدته وهو يرتجز:

قد علمت خيبر أنى مرحب              شاكى السلاح بطل مجرب

        إذا الحروب أقبلت تلهب 

وأجابه على كرم الله وجهه:

أنا الذى سمتنى أمى حيدرة               كليث غابات شديد القسورة

        أكيلكم بالصاع كيل السندرة      

ونشب القتال، فما هى إلا جولة أو جولتان حتى علاه على بسيفه، فقدَّ البيضة والمغفر، وشق رأسه، وقضى الأمر، وبقتل حامية القوم قذف فى قلوبهم الرعب، واضطرب نظامهم، واختل أمرهم، وكان الفتح }كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى إِنَّ اللهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21].

أيها العرب والمسلمون:

ألا إنه يوم كيوم خيبر والعاقبة فيه للمتقين، وأن هذه الصهيونية الباغية العادية التى انهالت ذئابها على الأرض المقدسة من كل صوب تنتزع أوطانكم، وتهتك مقدساتكم، وتشرد أخواتكم، وترتكب من الفظائع ما لم يرَ التاريخ له مثيلا.. مغرورة بقوة زائفة، مخدوعة بأوهام باطلة، قد جمعت لكم اليوم كل ما تملك من حول وطول وعدة وعدد، ووقفت تتحداكم فى عقر داركم، وتهزأ بجهادكم وأعمالكم، وتعلن أنها -إن شاءت- فلن تستطيع قوة تردها دون الخليج الفارسى، وقد قبلتم التحدى، وأعلنتم أنكم لها بالمرصاد، وأنكم على سنة أسلافكم وهدى فضائلكم وأخلاقكم، ترون المنية ولا الدنية، والنار ولا العار، ووقف العالم الغربى الذى غرر بكم، وبالغ فى خداعكم ينظر ماذا تصنعون، ويرقب ما تعملون، وإنه ليوم له ما بعده، ولن ينفعكم الآن إلا الجد والصبر والوحدة والأخلاق والدأب والعزم.

وإنكم بهذا اليوم -يوم الجمعة الرابع عشر من شهر مايو سنة 1948م- تطوون صفحة عهد قديم، وتستقبلون عهدًا جديدًا عليكم كل الجدة؛ هو عهد القتال والنضال والدماء والعرق والدموع، وهذا هو أول الخبر؛ فلن نغسل أدران الذلة والمهانة، ولن تصل الشعوب إلى العزة والكرامة إلا إذا بذلت من دمائها، وقاتلت فى سبيل حقوقها؛ فاجتهدوا أن تكونوا جادين لا عابثين، وأن تستفيدوا من هذه الفرصة التى غابت عنكم مئات السنين.

وإن من أجمل الاقتراحات وأفضلها ما يراه أحد الإخوان من أن يقنت الأئمة والمصلون فى كل المساجد قنوت التوفيق والنصر عقب الركوع وقبل السجود من الركعة الأخيرة من مغرب الجمعة وعشائها وفجر السبت استنزالا للنصر، واستمطارًا للتأييد والفوز، ولا شك أبدًا فى أن النتيجة ستكون هزيمة أعدائكم وانتصار حقكم }وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف: 21].

وسترى الصهيونية الظالمة واليهودية العالمية الباغية مصداق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديثه "إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين(18)".

 

على سنة أسلافهم

} إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ [الزخرف: 22].

إنه رسول الله بعد أن فتحت خيبر يقول: "اجمعوا لى من كان هاهنا من يهود"، فجمعوا له فقال النبى صلى الله عليه وسلم: "إنى أسائلكم عن شىء فهل أنتم صادقىّ عنه؟"، قالوا: "نعم يا أبا القاسم"، فقال لهم رسول الله: "من أبوكم؟"، قالوا: "فلان"، فقال: "كذبتم:؛بل أبوكم فلان"، قالوا: "صدقت وبررت"، فقال: "هل أنتم صادقى عن شىء إذا سألتكم عنه؟"، قالوا: "نعم يا أبا القاسم، وإن كذبنا عرفت كذبنا كما عرفته من قبل"، فقال: "من أهل النار؟"، فقالوا: "نكون فيهم يسيرًا ثم تخلفوننا فيها"، فقال لهم رسول الله: "والله لا نخلفكم فيها أبدًا"، ثم قال لهم: "هل أنتم صادقى عن شىء إذا سألتكم؟" فقالوا: "نعم يا أبا القاسم"، فقال: "هل جعلتم فى هذه الشاة سمَّا؟"، فقالوا: "نعم"، قال: "ما حملكم على ذلك؟"، قالوا: "أردنا إن كنت كاذبًا أن نستريح منك، وإن كنت نبيًا لم يضرك".

وذلك أن رسول الله حين اطمأن به المقام بعد الفتح أهدت له زينب بنت الحارث اليهودية امرأة سلام بن مشكم اليهودى شاة مشوية، وقد سألت أى عضو أحب إلى رسول الله؟ فقيل لها الذراع فأكثرت فيها السم، ثم سمت سائر الشاة، وجاءت بها، فلما وضعتها بين يديه تناول الذراع فلاك منها مضغة، فلم يسغها ومعه بشر بن البراء بن معرور قد أخذ منها كما أخذ رسول الله، فلفظها بعد أن مضغها، ثم دعا بها فاعترفت فقال: "ما حملك على ذلك؟"، قالت: "بلغت من قومى ما لم يخف عليك؛ فقلت: إن كان كذابًا استرحنا منه، وإن كان نبيًا فسيخبر"، قالوا: "فتجاوز عنها النبى صلى الله عليه وسلم، ومات بشر من أكلته التى أكل"، وقيل: عفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا، فلما مات بشر قتلها قصاصًا، وقال بشر بن البراء لرسول اللهصلى الله عليه وسلم: "والذى أكرمك لقد وجدت ذلك فى أكلتى التى أكلت؛ فما منعنى أن ألفظها إلا أنى أعظمتك أن أبغض طعامك، فلما أسغت ما فى فيك لم أرغب بنفسى عن نفسك"، قالوا: "فلم يقم بشر من مكانه حتى عاد لونه كالطيلسان، وماطله وجعه حتى كان لا يستطيع الانتقال".

واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقى بعدها ثلاث سنين حتى كان وجعه الذى توفى فيه، فقال: "ما زلت أجد فى الأكلة التى أكلت من الشاة يوم خيبر عدادًا، حتى كان هذا أوان انقطاع أبهرى".

ودخلت عليه أم بشر بنت البراء بن معرور فى مرضه الذى توفى فيه فقال لها: "يا أم بشر إن هذا الأوان وجدت انقطاع أبهرى من الأكلة التى أكلت مع أخيك بخيبر" قال ابن هشام: "الأبهر: العرق المعلق بالقلب، قال: فإن كان المسلمون ليرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات شهيدًا مع ما أكرمه الله به من النبوة".

فالذين حاولوا تسميم آبار المياه فى غزة، والذين دبروا حرب الميكروبات فى تل أبيب، والذين حقنوا غادات اليهود الحسان بجراثيم الأمراض السرية المعدية، وأطلقوهن فى صفوف المقاتلين من العصابات الآثمين ليقعن فى الأسر فتفشو بهن هذه الأمراض، وتنتشر فى شباب المجاهدين، والذين لا زالوا وسيظلون يفكرون بهذه العقلية المجرمة التى لا تتقن إلا الكذب والغدر والغيلة والسفك إنما يسيرون على سنة أسلافهم من قبل "ومن يشابه أباه فما ظلم".

فيا أبناء القتلة والسفاكين، ومغتالى الأنبياء، ومحرفى الكتب، ومغيرى شرائع الله الذين عصوا موسى، وخالفوا هارون، وصلبوا المسيح كما يزعمون، ودسوا لمحمد السم فى الطعام، وفروا من مواقف الشجاعة والبطولة إلى مهاوى الغدر والغيلة.. هل تريدون أن تقوم لكم على الأرض دولة، ويعلن لكم فيها ملك، ويستقر لكم سلطان؟ لن يكون ذلك أبدًا بإذن الله، ولن يخلف الله وعده }لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [الأعراف: 167](19).

 

قنوت

عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: "كان النبى -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- يدعو فى الصلاة حين يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم يقول وهو قائم قبل أن يسجد: اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبى ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين. اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم كسنى يوسف"، ثم يقول: "الله أكبر" فيسجد أخرجه أحمد والنسائى والشيخان وأبو داود، وزاد: قال أبو هريرة: "وأصبح رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- فلم يدع لهم، فذكرت ذلك له، فقال: أما تراهم قد قدموا؟".

وعن ابن عباس  رضى الله عنه قال: قنت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- شهرًا متتابعًا فى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح فى دبر كل صلاة إذا قال: "سمع الله لمن حمده" من الركعة الأخيرة يدعو على أحياء من بنى سليم: على رعل وذكوان وعصية. ويؤمّن مَن خلفه، أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم.

وعن أبى سعيد  رضى الله عنه: "قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا يدعو على عصية وذكوان، ولما ظهر عليهم ترك القنوت.

ولهذه الأحاديث وغيرها من أمثالها قال جمهور المحدثين: يسن للإمام القنوت للنوازل فى كل الصلوات بعد الركوع جهرًا، ويؤمن من خلفه، وبه قال الخلفاء الأربعة، والشافعى وأحمد، وبعض الحنيفية وابن حبيب المالكى. وقال أبو داود: "سئل أحمد عن القنوت، فقال: يعجبنا أن يقنت الإمام ويؤمن من خلفه". وحكى الحافظ فى "الفتح" الاتفاق على الجهر فى قنوت النازلة، كما يسن أن يقنت المنفرد أيضًا.

وأية نازلة أفدح وأعظم وأكبر وأضخم من أن يضرب على الأمة الذل والاستعباد، ويجحد غاصبوها حقها فى الحرية والاستقلال، وتقضى سبعة أشهر من تاريخها فى هذا الوقت الذى تتقرر فيه مصاير الأمم والشعوب بالدقائق والساعات فى مفاوضات فاشلة، ومحادثات باطلة، لا تسمن ولا تغنى من جوع.

وإذا كان ذلك كذلك؛ فقد أصبح مطلوبًا من أئمة المسلمين وعامتهم فى شعب وادى النيل أن يلجئوا إلى الله ليرفع عنهم هذا البلاء، وأن يقنتوا فى كل الصلوات بعد الركوع فى الركعة الأخيرة، ويلحوا على الله فى الدعاء بهذا القنوت أو نحوه:

"اللهم رب العالمين، وأمان الخائفين، ومذل المتكبرين، وقاصم الجبارين تقبل دعاءنا، وأجب نداءنا، وأنلنا حقنا، ورد علينا حريتنا واستقلالنا، اللهم إن هؤلاء الغاصبين من البريطانيين قد احتلوا أرضنا، وجحدوا حقنا، وطغوا فى البلاد فأكثروا فيها الفساد، اللهم فرد عنا كيدهم، وفل حدهم، وفرق جمعهم، وخذهم ومن ناصرهم أو أعانهم، أو هادنهم أو وادّهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم واجعل الدائرة عليهم، وسق الوبال إليهم، وأذل دولتهم وأذهب عن أرضك سلطانهم، ولا تدع لهم سبيلا على أحد من المؤمنين آمين. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا".

أيها الإخوان المسلمون، قد يرى الكثير من الذين لم يتذوقوا حلاوة الدعاء فى السحر، ولم تكشف لهم أضواء الإيمان ما لسهام القدر من أثر.. أن هذا الذى تلجئون إليه وتعتمدون عليه معنى من معانى الضعف لا يليق بالمجاهدين، ولا يجمل بالمتحمسين ولا يدخل فى أساليب السياسيين.

فقولوا لهؤلاء: على رسلكم أيها اللائمون؛ فإنا نرى ما لا ترون، وقلوب العارفين لها عيون، ونحن نعتقد أن ذلك أقوى القوة وأمنع العدة، وما يعلم جنود ربك إلا هو، ولله جنود السماوات والأرض، وكفى بالله وليًا وكفى بالله نصيرًا. 

صدق الله العظيم }إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِىَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِىَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة: 40](20).

 

نعمة

} وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم: 34].

نحن المسلمين نملك كثيرًا من نعم الله التى أنعم بها علينا، والتى نحن أحوج ما نكون اليوم إلى تذكرها وتعرفها، والقيام بحق شكره -تبارك وتعالى- عليها بالعمل.

نملك نعمة هذا الدين القيم الذى أوضح مناهج الخير، وكشف للناس سبل الرشاد، ونظم المجتمع الإنسانى على أكرم القواعد، وأدق الأصول العمرانية التى تجمع بين العدل والرحمة والعلم والحكمة، وطمأنينة النفوس، وتعزيز الأخوة، وإعلان السلام العام، وتنظم العلائق بين الإنسان ونفسه، وبين الإنسان وبيته، وبين الفرد وقومه، وبين الطبقات مهما اختلفت، وبين الأمم مهما تباينت؛ ليعيش الجميع فى ظل وارف من الهناءة والإسعاد.

ونملك نعمة هذا الأثر العجيب الذى انطبعت به نفوسنا التى أشربت عقائد الإسلام القوية النفاذة المهيمنة من حب الجهاد، وتمنى الاستشهاد، واحتقار الدنيا بمتعها الزائلة، ومظاهرها الفانية، وزخرفها الزائف، وخداعها الباطل، وفتنها التى لا تبقى ولا تدوم، وإيثار الآخرة بثوابها الجميل، وظلها الظليل، وبقائها الطويل }مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ [النحل: 96]، ولن يكمل لمؤمن إيمانه حتى تكون هذه المشاعر جزءًا من نفسه، يتمثلها فى صبحه ومسائه، ويحلم بها فى يقظته ومنامه، ويرى أنه لها خلق وبها يعيش، وأنه ليس له من نفسه وماله نصيب إلا بقدر ما يقدم من ذلك فى سبيل الله العلى الكبير: }إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِى التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 111].

ونملك نعمة هذه الأوطان التى تمتد من المحيط إلى المحيط، أعدل ما تكون البلدان جوًا وهواء، وأعذبها شرابًا وماء، وأكثرها خيرًا وبرًا، وأغناها ثروة ومالا؛ ففى بطنها الثروات المذخورة، وعلى ظهرها الثمرات المنشورة، وفى كل مكان منها أثر من آثار رحمة الله وبره، ونعمته وخيره؛ فنحن فى غنى عن الدنيا وهى فى حاجة إلينا، ولا ينقصنا من المواد الأولية والخامات الطبيعية شىء، وإنما ينقصنا الرأس المفكر، والعقل المدبر، واليد الصناع، والدربة والانطباع، ثم نحن بعد ذلك أسبق الناس فى كل ميدان من هذه الميادين الجديدة، وأولاهم بالحياة الرضية السعيدة.

ونملك هذه الوحدة العجيبة، والعقيدة الحبيبة، التى ربط الله بها بين هذه القلوب مهما شط مزارها وتناءت ديارها رباطًا محكمًا عجيبًا، دونها كل رباط، فى القوة والثبات؛ فهذا المغربى على شط الأطلسى يشعر تمامًا بمشاعر هذا الأخ الإندونيسى، فإذا تأوه مَن فى أقصى الشرق رد عليه مَن فى أقصى المغرب آهته، وإذا دعا مَن فى أقصى المغرب استجاب هذا الذى فى أقصى المشرق دعوته، وصدق الله العظيم: }إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10]، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم "ترى المؤمنين فى توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد".

أيها المسلمون فى أقطار الأرض، لقد نسينا نعمة الله علينا فلم نتميز، وخدعنا خصومنا عن كل هذه الثروة الضخمة التى فى أيدينا فلم نتحفظ، وأصغينا إلى دعايتهم الباطلة فتردينا فى الحفرة التى حفرت لنا، والتى حذرنا الله منها من قبل؛ فلم نصغِ إلى تحذيره }لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتِّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران: 118]، وسرنا على الطريق التى رسموها لنا فلم تؤدّ بنا إلى دمار وخسارة }يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ [آل عمران: 149].

أهملنا مناهج الإسلام، واستبدلنا بها هذه المناهج الاجتماعية الغربية؛ فتحلل مجتمعنا، وضعف أثر الإسلام فى أنفسنا، فقمنا عن الجهاد فى سبيل حقوقنا وحريتنا، وانخدعنا بالدعوة العصبية؛ فتمزقت وحدتنا، فذهبت ريحنا، وضعفت قوتنا، وآثرنا الراحة والدعة، على الكد والتعب، فى سبيل العلم والعمل، وتواكلنا واتكلنا على ما يرد إلينا منهم، فاستبدوا بخيرات بلادنا، واستأثروا بمنتجات أرضنا، وصرنا نستورد كل شىء حتى الدقيق.

والآن وقد برح الخفاء، وانكشف الغطاء بعد حربين طاحنتين وكربتين قاسيتين، ورأيتم بأعينكم أن معسكر الغرب معسكر واحد إذا انقسم على نفسه أحيانًا فى سبيل المطامع والمغانم؛ فهو أمامكم معسكر واحد، لا يهمه إلا أن يستولى على أرضكم، وينقص من حقوقكم، ويمزق وحدتكم، ويحول ما استطاع دون إخوتكم.. فماذا أنتم فاعلون؟

يا قوم، إنى لكم ناصح أمين، حسبكم ما فات من وقت، وما ضاع من مجهود، وما خاب من أمل، واعتمدوا -بعد الله- على أنفسكم، ونظموا صفكم، ووحدوا رأيكم وعملكم، واذكروا نعمة الله عليكم، واشكروه عليها بالعمل بها، ولكم بعد ذلك النصر، والعاقبة للمتقين }وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران: 139].

والله أكبر ولله الحمد(21).

 

ولو...!

} حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّىَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف: 110].

اليهود فى حيفا..

وهم يحاصرون عكا الآن، ويتحرشون بالقدس المبارك.. وقد رفعوا علم الصهيونية على مئذنة مسجد حسن بك بيافا، ووقفوا يرمقونه ويحيونه من تل أبيب.

والمهاجرون من إخوتنا وأخواتنا وأبنائنا وأطفالنا يتدفقون على أوطانهم الثانية: سوريا ولبنان وشرق الأردن ومصر.. وغيرها من بلاد العروبة ومواطن الإسلام.

واليهود فى مصر يرقصون، ويطربون ويمرحون فى شوارع القاهرة والإسكندرية وغيرهما، ويرتلون الأناشيد بالعبرية لغة دولتهم المزعومة، ويرمقون هذا الشعب المصرى الحزين بعين السخرية والاستهزاء، ويرمونه بنظرات الشماتة والاستهتار، وقد كشفوا عن صهيونيتهم الأصيلة، وألقوا عن مصريتهم الزائفة ثوبة التستر والرياء.

والإنجليز يضحكون من غفلتنا، ويعبثون بألباب رجالنا وقادتنا، ويجرونهم بخيوط الوعود الزائفة، ومقاود الأوهام الباطلة؛ حتى يقفوا بهم على حافة هاوية ما لها من قرار، وينتهوا معهم إلى هذا المصير الذى يجمع بين النار والعار..!

والشعوب تتحرق غيظًا، وتتمزق ألمًا، وتتلفت ذات اليمين وذات اليسار؛ فلا ترى إلا هؤلاء الرجال الرسميين الذين انطلت عليهم الحيلة، وجازت عليهم الخديعة، وأفلتت من يدهم الفرصة، وتسرب بتقصيرهم وخطأ تقديرهم الوقت بدون جدوى أو فائدة؛ فلا تدرى ماذا تفعل بهم؟ وكيف تأخذ حقها منهم؟ وماذا يفيد ذلك الآن، والعدو على الأبواب وليست هذه ساعة الحساب؟.

كل ذلك واقع، وهو واقع مؤلم محزن مؤسف، يكاد يغمر باليأس القلوب، ولكننا مع هذا الواقع كله نؤمن كل الإيمان بالفوز والنصر، ولن يتزعزع الأمل فى نفوسنا مثقال ذرة، أو قيد شعرة، وما هى بأولى المرات، وصدق الله العظيم }حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّىَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف: 110]، وفى هذا بشرى النصر لليائسين، وبشرى الهلاك كذلك للمجرمين؛ فهى بشريان فى الأولى والآخرة إن شاء الله رب العالمين، ولتعلمُنَّ نبأه بعد حين.

أجل.. ما هى بأول المرات، هذا أبو بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المدينة والدنيا من حوله ثائرة كافرة فاجرة ما بين مرتد، ومانع للزكاة، ومتربص، ومتحفز، ومتقلب، ومتلوِّن؛ حتى زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وقال بطل من الأبطال وعظيم من الرجال قرن الحديد.. عمر بن الخطاب: "وماذا نفعل يا خليفة رسول الله؟ ادخل بيتك، وأغلق بابك، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين"، ولكن إيمان الرجل المؤمن انتصر فى النهاية، فهدأت الثائرة، وأطفئت الفتنة، وغُزيت فارس والروم.

وهذا "هولاكو" عظيم التتار يجلب على بغداد بخيله ورَجله، فيمزق جيشها، ويحتل أرضها، ويفرق جمعها، ويأسر أهلها، ويركل هو وشيعته الخليفة المستعصم بالأقدام حتى يقضى، ويقول المرجفون: لقد ذهب عن الأرض الإسلام، فلن يعود إليها أبدًا، وتمزقت دولته، فلن تقوم لها قائمة.

وكذبوا.. فها هم التتار يرحلون عن الديار، ويسلم منهم من يسلم، ويجلو منهم من يجلو، ويأبى الله إلا أن ترتفع من جديد راية الإسلام.

وأوروبا المتحفزة المتجمعة والتى تنادى بإبادة العرب، والاستيلاء على فلسطين المقدسة؛ فتجمع الجموع، وتجيش الجيوش، وتقذف بكل قوتها إلى الأرض المقدسة، وتستولى على الساحل والداخل، وتقتحم شواطئ دمياط، وتدق أبواب المنصورة، وتهدد الصعيد والقاهرة، ثم ماذا؟ ثم تعود أدراجها خاسئة خاسرة وتظل:

دار ابن لقمان على حالها                والقيد باق والطواشى صبيح

واللورد اللّنبى الذي يزيح الستار عن الجندى المجهول معلنًا انتهاء الحروب الصليبية يأبى الله إلا أن يشهد خلفاؤه الأقربون مصرع الإمبراطورية البريطانية فى آسيا، وانسحابها من الهند، ومن بورما، ومن فلسطين، ومن وادي النيل بإذن الله، وسيرى البريطانيون أن حلم الإمبراطورية الإفريقية سيتبدد كما تبدد حلم الإمبراطورية الآسيوية }وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف: 21].

ولكن واأسفاه.. لقد انتهت الحروب الصليبية يا لورد؛ لتوقد أمتك نار حرب صهيونية سيطفئها الله، وسينتقم من الذين أشعلوها أشد الانتقام، ولن يخلف الله وعده وهو القائل }كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأَرْضِ فَسَادًا وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [المائدة: 64].

ليست هى بأول المرات إذن.. وسيكون مصير اللاحقين كمصير السابقين، وستتحرر فلسطين وتظل عربية لأهلها، ويأبى الله إلا ذلك والمؤمنون }وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف: 21].

وبعد.. فهيا أيها القادة المخدوعون المتباطئون من رجالنا الرسميين، إن مما يضاعف الألم فى أنفسنا أننا لم نؤت من جهالة، ولم نؤخذ على غرة، بل كان أمامنا الوقت، وفى يدنا الوسيلة، وعندنا العلم.. وإلا فكيف ننذر البريطانيين بهذا المصير فى نوفمبر 1947م، ثم نقعد عن الاستعداد الكامل إلى أبريل سنة 1948م؟.

ولقد نبهناكم إلى ذلك مرات، ووضعنا أمامكم هذه الافتراضات والاحتمالات، واستعدت الشعوب لبذل كل شىء فى سبيل حماية هذه المقدسات، ولم نشأ أن نذهب إلى أبعد من ذلك؛ احترامًا للأوضاع العسكرية، والسياسات العليا، ثم كانت النتيجة ما نرى وترون.. فماذا أنتم فاعلون اليوم؟.

أيها الرجال الرسميون، لقد بلغ السيل الزبى، وبلغت الروح الحلقوم، ولم يبق فى قوس الصبر منزع، وليس أمامكم إلا أحد أمرين: إما أن تؤدوا الأمانة كاملة خلال هذه الساعة الفاصلة، وإما أن تعتزلوا وتردوها إلى الشعوب، ولها الله(22).

 

أيها العرب.. اثبتوا مع المحنة فإن النصر مع الصبر

} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [الأنفال: 45-47].

أيها العرب ماذا تخشون؟

أتخشون أن تتألب عليكم الشعوب الطامعة، وتهضم حقكم الحكومات الجائرة، وتجتمع كلمة الأمم المختلفة على مناوأتكم، ويقول أعضاء مجلس الأمن كلمتهم فى غير صفكم، ويفرضون عليكم العقوبات الاقتصادية أو يسوقون إليكم القوات العسكرية! أتخشون هذا ولكم فى سلفكم أحسن الأسوة وأكرم القدوة }الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران: 173-175]، وهذا نفير الحق يدعوكم، وكتاب الله يناديكم }أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة: 13-15]، وليس بعد قول الله تعالى قول لقائل، وليس وراء الله للمرء مذهب؛ فاثبتوا للمحنة، واصبروا للشدة، وصابروا، ورابطوا، واتقوا الله لعلكم تفلحون }وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران: 139].

إن بين الهزيمة والنصر صبر ساعة لن تتقدم فيها آجال أراد الله أن تتأخر، ولن تتأخر فيها أعمار شاء الله لها أن تنقضى }قُل لَّوْ كُنْتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران: 154]، وإنما مواقف الكرامة ومعالم البطولة والشهامة يمتحن الله بها عباده الصادقين }وَلِيَبْتَلِىَ اللهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران: 154].

قال معاوية: لقد هممت أن أنهزم يوم صفين لولا أنى ذكرت قول القائل:

أقول لها وقد طارت شعاعًا               من الأبطال: ويحك لن تُراعى

فإنك لو سألتِ بقاءَ يوم          على الأجل الذى لك لم تُطاعى

فصبرًا فى مجال الموت صبرًا            فما نيل الخلود بمستطاع

فثبت، فدفع الله عنى عار الهزيمة وخزيها.

فصبرًا فى مجال الموت صبرًا أيها الأبطال من أبناء يعرب، حتى يفتح الله بينكم وبين الناس بالحق وهو خير الفاتحين }وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف: 21].

والله الذى لا إله إلا هو لن تغلبوا من قلة؛ فأنتم كثير كعديد الطير، ولن تغلبوا من فقدان عدة؛ فإن معكم قوة الله التى لا تُغلب، وجنده الذى لا يُهزم }وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ [المدثر: 31]، }وَللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [الفتح: 7]، ولكنكم تُغلبون من أمرين اثنين: أن تختلفوا وتتنازعوا؛ فتفشلوا، وتذهب ريحكم، أو أن تفسد النيات، وتلتوى المقاصد، وتحل الدنيا فى قلوبكم محل الآخرة؛ فيتأخر عنكم النصر، ويتخلف المدد الإلهى، والتأييد الربانى، ولا ينفعكم بعد ذلك شىء }إِن يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِى يَنْصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران: 160].

ولا نستطيع أن نتصور رجلا واحدًا يؤمن بالله ورسوله -حاكمًا كان أو محكومًا- تختلج نفسه فى هذه الساعات الحاسمة من تاريخنا بغير الفناء فى الجماعة، والنزول على أمر الله، والعمل للنصر بأى ثمن، وليكن بعد ذلك ما يكون، ولقد عرض الله علينا من سيرة أسلافنا ما يرد الأبصار الطامحة، ويلجم النفوس الجامحة }وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِى الأمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران: 152].

فيا أيها العرب، اثبتوا للمحنة؛ فإن النصر مع الصبر، وأجمعوا كلمتكم، وأخلصوا نيتكم، وطهروا قلوبكم، واستقيموا على أمر الله، ولا ترهبوا بعد ذلك أحدًا، ولا تنزلوا على حكم الكافرين كائنين من كانوا، ولا تعبئوا بتهديد أو وعيد، وكونوا مع الله يكن الله معكم، }وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ [الحج: 40].

والله أكبر ولله الحمد(23).

المصادر

  1. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثانية – العدد 567 – صـ1 – 24ربيع الآخر 1367هـ / 5مارس 1948م.
  2. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثالثة – العدد 712 – صـ1 – 2شوال 1367هـ / 27أغسطس 1948م.
  3. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثانية – العدد 366 – صـ3 – 22شعبان 1366هـ / 11يوليو 1947م.
  4. مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 11 – صـ15، 16 – 3جمادى الأولى 1352هـ / 24أغسطس 1933م.
  5. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الأولى – العدد 90 – صـ1، 4 – 19رمضان 1365هـ / 16أغسطس 1946م.
  6. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الأولى – العدد 216 – صـ1 – 23صفر 1366هـ / 16يناير 1947م.
  7. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – العدد 700 – السنة الثالثة – صـ1 – 8شوال 1367هـ / 13أغسطس 1948م.
  8. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثانية – العدد 543 – صـ2 – 26ربيع الأول 1367هـ / 6فبراير 1948م.
  9. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثانية – العدد 442 – صـ1 – 25ذو القعدة 1366هـ / 10أكتوبر 1947م
  10. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الأولى – العدد 141 – صـ1 – 22ذو القعدة 1365هـ / 17أكتوبر 1946م.
  11. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثانية – العدد 495 – 29محرم 1367هـ / 12ديسمبر 1947م.
  12. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثانية – العدد 507 – 13صفر 1367هـ / 26ديسمبر 1947م.
  13. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثانية – العدد 555 – صـ1 – 10ربيع الآخر 1367هـ / 20فبراير 1948م.
  14. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثالثة – العدد 718 – صـ1 – 29شوال 1367هـ / 3سبتمبر 1948م.
  15. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثالثة – العدد 724 – صـ1 – 7ذو القعدة 1367هـ / 10سبتمبر 1948م.
  16. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثانية – العدد 603 – صـ1، 5 – 7جمادى الآخرة 1367هـ / 16أبريل 1948م.
  17. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثانية – العدد 609 – صـ1 – 14جمادى الآخرة 1367هـ / 23أبريل 1948م.
  18. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثالثة – العدد 626 – صـ1، 5 – 5رجب 1367هـ / 14مايو 1948م.
  19. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثالثة – العدد 656 – صـ10 – 10شعبان 1367هـ / 18يونيو 1948م.
  20. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الأولى – العدد 135 – صـ1 – 15ذو القعدة 1365هـ / 10أكتوبر 1946م.
  21. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثانية – العدد 448 – صـ1 – 3ذو الحجة 1366هـ / 17أكتوبر 1947م.
  22. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثانية – العدد 615 – صـ1، 5 – 21جمادى الآخرة 1367هـ / 30أبريل 1948م.
  23. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثالثة – العدد 677 – صـ1 – 9رمضان 1367هـ / 16يوليو 1948م.
المقال التالي الإمام حسن البنا والأمة الناهضة
المقال السابق الدستور في فكر الإمام حسن البنا