رسالة مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي

الخلفية التاريخية لصدور الرسالة

(الإسلام نظام شامل، يتناول مظاهر الحياة جميعا فهو مادة وثروة أو كسب وغنى) بهذا المعنى أوضح الإمام البنا منهجية الإخوان المسلمين، أنها تنظر لكل شئون الحياة أنها جزء من تعاليم الإسلام.

ومع بعد المسلمين عن تعاليم الإسلام ومحاولة المستعمر تثبيت عقيدة أن الإسلام بتعاليمه شيء وأمور الحياة شيء أخر، أصدر الإمام البنا هذه الرسالة لتوضح عمليا أن الإسلام يدخل في كل شيء بما فيها الأمور الاقتصادية، وأمور الحكم وغيرها. فكان أول صدور لهذه الرسالة على هيئة مقالات نشرتها مجلة الإخوان المسلمين اليومية والشهاب بداية من نوفمبر 1947م قبل أن تجمع في كتيب صغير ونشرت في حياة الإمام البنا، والتي أثبت الإمام البنا فيها أن في الإسلام حلول عملية وواقعية لمشكلات الحياة.

وإلى نص الرسالة كاملة..

نظرات ثلاث

﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ في الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِى عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم: 41].

إلى رئيس الحكومة باعتباره المسئول الأول.

وإلى أعضاء الهيئات الإسلامية -على اختلافها- باعتبارهم الدعاة الرسميين لنظام الإسلام.

وإلى رؤساء الهيئات الشعبية السياسية والوطنية باعتبارهم قادة الفكر وموجهي الجماهير.

وإلى كل غيور على مصلحة هذا الوطن محب لخير العالم وسيادة بنى الإنسان.

أوجه هذه الكلمات، أداء للأمانة، وقياما بحق الدعوة.

ألا قد بلغت... اللهم فاشهد.

فأما النظرة الأولى، فإلى ما وصلت إليه الحال في وطننا العزيز مصر من فساد تغلغل في كل المرافق وشمل كل مظاهر الحياة:

مطالبنا الوطنية لم نصل فيها إلى شيء.

وروح الشعب المعنوية محطمة أشد تحطيم بسبب هذا الركود، والشقاق والخلاف يملك نفوس القادة والزعماء حاكمين ومحكومين على السواء.

والجهاز الإداري أفسدته المطامع الشخصية، والغايات الحزبية، وسوء التصرفات، وضعف الأخلاق، والمركزية القاتلة، والإجراءات المعقدة، والهرب من تحمل التبعات. 

والقانون قد ضعف سلطانه على النفوس والأوضاع لكثرة ما أقحم عليه من تحايل واستثناءات. 

والضيق الاقتصادي وشدة الغلاء، وكثرة المتعطلين لقلة الأعمال، وانخفاض مستوى المعيشة إلى حد لا يكاد يتصوره إنسان بين الأغلبية العظمى من السكان، مع نضوب معين الرحمة من القلوب، واستيلاء القسوة وروح الجبروت والظلم على النفوس، كل ذلك أخذ يتحول إلى حال من السخط يتمثل في كثرة الإضرابات ويتجلى في كثير من المظاهر والعبارات.

والأخلاق قد انتهى أمرها -أو كاد- وعصف بها الجهل والفقر والحاجة والفاقة، وانتشرت الرذائل ومظاهر الانحلال الخلقي في كل مكان.

والأفكار مبلبلة والنفوس قلقة لا تكاد تستقر في شيء على حال. 

وكل هذه المعاني تزداد بمرور الأيام، وتتضاعف ساعة بعد ساعة، وتنذر ببلاء محيط وشر مستطير، إن لم يتداركها العقلاء قبل فوات الأوان. 

وأما النظرة الثانية، فإلى ما وصلت إليه الحال في أوطاننا الغالية العزيزة من بلاد العروبة وأمم الإسلام:

فلسطين: مهددة بهذا الاجتياح الذي انتهت إليه هذه المؤامرة الدولية من الأمريكان والروس والإنجليز على السواء، بفعل الصهيونية العالمية التي سخرت الحكومات والشعوب الغربية بالمال، مع استعدادها السابق لكل تعصب ذميم على العرب والمسلمين أينما كانوا.

والباكستان الناشئة: تقاسى الأمرين من هذا العدوان الوثني المسلح، المؤيد بدسائس الاستعمار وأسلحة الاستعمار على اختلاف دوله، حتى روسيا -التي تتظاهر باحترام إرادة وأمم الشعوب- تتآمر هي الأخرى على الدولة الناشئة إن صح ما وافتنا به اليوم البرقيات والأخبار.

وإندونيسيا: التي تبلغ سبعين مليونا أكثرهم من المسلمين، تضغط عليها هولندا التي لم تكسر قيد الاحتلال الألماني إلا بيد غيرها من جنود الحلفاء، وتريد أن تحول بين الشعب المسلم الباسل وبين ما هو حق طبيعي له من حرية واستقلال.

وطرابلس الغرب وبرقة: تجهز لها حبائل الاستفتاء ولا يدرى عواقب هذه اللعنة السياسية إلا الله. وإن غدًا لناظره قريب.

وشمال إفريقيا بأقسامه: تونس والجزائر ومراكش، يستغيث ولا مغيث، ويجاهد ما استطاع ليكسر القيود والأغلال التي ضربتها من حوله فرنسا، وحرمته بها حقه في العيش الحر الكريم، وفى الاستقلال التام.

وقل مثل ذلك في كل شعب عربي إسلامي، فإنك لن تجد واحدا منها قد سلم من مناورات الغصب ودسائس الاستعمار. هذا في أوضاعه السياسية، وكلها من حيث الأوضاع الاجتماعية ليست أحسن حالا مما تقدم ذكره في وادي النيل. "وكلنا في الهم شرق". 

وأما النظرة الثالثة، فإلى ما انحدر إليه التفكير بين زعماء العالم وساسة الشعوب، والذين أتاحت لهم المقادير أن يكونوا قادة الدنيا في هذه الأيام بعد الحرب العالمية الثانية. 

لقد اختفت المثل العليا تمام الاختفاء، وغابت عن الأنظار والقلوب تلك الأهداف الجميلة التي نادى بها هؤلاء الناس ساعة العسرة، وجندوا باسمها قوى الأمم ضد الظلم والطغيان، فالعدالة الاجتماعية، والحريات الأربع، ومبادئ ميثاق الأمم.. إلخ هذه القائمة الطويلة العريضة من المبادئ السامية والأهداف المغرية أصبحت في خبر كان، ولم تعد لهؤلاء الساسة والزعماء "فلسفة راقية" يقودون بتوجيهها العالم إلا فلسفة المصالح المادية والمطامع الاستعمارية ومناطق النفوذ والاستيلاء على المواد الخام! وكل ذلك على صورة من الجشع والنهم لم تر الدنيا لها مثيلا ولا بعد الحرب العالمية الأولى. وأصبحت هذه المعاني وحدها محور التنافس بيت الدول المنتصرة (روسيا من جانب وأمريكا وإنجلترا من جانب آخر) وإن حاولت كل منها أن تستر جشعها ومناورتها بستار من دعوى المبادئ الاجتماعية الصالحة والنظم الإنسانية الفاضلة، باسم الشيوعية أو الديمقراطية، وليس وراء هاتين اللفظتين إلا المطامع الاستعمارية والمصالح المادية في كل مكان. 

ونتيجة هذا الانحراف -الذي هو في حقيقة أمره مسخ لإنسانية بنى الإنسان- ليست إلا "الحرب الثالثة " المسلحة بالقنابل الذرية، والغازات الخانقة، والأسلحة المهلكة، وما سمعنا -وما لم نسمع عنه بعد- من معدات الهلاك والدمار التي تمثل ما جاءت به الكتب السماوية من وصف القارعة وهول القيامة: ﴿يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ، وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ﴾ [القارعة: 4-5]. 

هذه هي صورة الحال في وطننا الخاص، وفى وطننا العربي والإسلامي، وفى وطننا الإنساني العام، وإذا لم تقم في الدنيا أمة " الدعوة الجديدة " تحمل رسالة الحق والسلام، فعلى الدنيا العفاء، وعلى الإنسانية السلام.

وإن من واجبنا -وفى يدنا شعلة النور وقارورة الدواء- أن نتقدم لنصلح أنفسنا وندعو غيرنا، فإن نجحنا فذاك، وإلا فحسبنا أن نكون قد بلغنا الرسالة وأدينا الأمانة وأردنا الخير للناس، ولا يصح أبدا أن نحتقر أنفسنا، فحسب الذين يحملون الرسالات ويقومون بالدعوات من عوامل النجاح أن يكونوا بها مؤمنين، ولها مخلصين، وفى سبيلها مجاهدين، وأن يكون الزمن ينتظرها والعالم يترقبها... فهل من مجيب؟

 ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾[سبأ: 46].

أي لون تختار؟

﴿صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ [البقرة: 138]. 

تسود مجتمعنا اليوم حيرة، وإذا دامت هذه الحيرة فليس وراءها إلا الثورة، والثورة الهوجاء التي لا غاية لها، ولا ضابط ولا نظام ولا حدود، ولا تعقيب إلا الهلاك والدمار والخسارة البالغة، وبخاصة في هذا العصر الذي لا يرحم، والذي تتجارى بأهله الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، وفى وطن كمصر تتطلع إليه الأنظار وتقاذفه المطامع في الداخل والخارج. 

هذا الكلام متفق عليه بين كل من يعنيهم أمر هذا الوطن، وإنك لتسمعه من الزعماء والمفكرين كما تسمعه من العامة في مجالسهم، والمجتمعين في أنديتهم، وذوي الأعمال في أماكن عملهم، ومن سائق العربة إذا ركبت معه، ومن بائع الخضر إذا تحدثت إليه.. وإذا أنكرنا ذلك أو تغافلنا عن أثره، أو استصغرنا نتائجه، كنا كالنعامة التي تدفن رأسها في الرمل وتظن أنها بذلك تخدع الصياد.

وفى مثل هذه الحال لا يجدي في الإنقاذ الترقيع الإداري ولا الروتين الحكومي، ولا تسعف الحائرين الدراسات البطيئة في اللجان المتواكلة، ولا يزداد المتبرمون بمثل هذا العلاج الجزئي المادي إلا تبرما وألما. ومهما حاولت الحكومة بالإنصاف أو التنسيق أو الوعود أو الخطب أن تسكت الأفواه الصارخة أو البطون الجائعة أو الأجساد العارية، فلن تستطيع ذلك ولن تصل إليه. والبرهان ماثل والدليل قائم؛ لأن الحيرة والقلق والاضطراب قدمت النفوس والقلوب والأذهان قبل أن تمس المظاهر والأوضاع. وحينئذ لن تقنع هذه النفوس ولن تطمئن إلا إلى "رسالة جديدة" ولون من ألوان الحياة جديد ترى فيه رمزا لأمانيها، وسبيلاً إلى تحقيق مطالبها. ومتى آمنت النفوس "بالرسالة الجديدة" كفكرة ونظام اطمأنت إليها وسكنت، وحاولت أن تطبقها عمليا على أوضاع الحياة. وكل تاريخ النهضات والإصلاحات الشاملة يعطينا الدليل على صحة هذا الكلام: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾[الرعد: 11].

ومن هذه الثغرة وتطبيقا لهذا القانون الاجتماعي الذي لا يتخلف، تأمل المبادئ الجديدة والدعوات الجديدة أن تنفذ إلى مصر، وتكافح في سبيل استيلائها على النفوس المصرية والقلوب المصرية أشد الكفاح، وتسلك إلى ذلك كل سبيل مستطاع وغير مستطاع. ومن هنا سمعنا كثيرا من هذه الأصوات يتردد في الصحف السيارة وفى المجالس والمنتديات، فالشيوعية جادة في فرض تعاليمها على أبناء هذا المجتمع، والديمقراطية الاستعمارية الهزيلة تحاول من جانبها أن تقاوم هذا التيار، وتوسطهم قوم داعون للاشتراكية، ويقف الإسلام العتيد المستقر في هذه القلوب أربعة عشر قرنا ,المستولى عليها، المؤثر فيها بجماله وجلاله وسموه وروعته، يأبى على الجميع أن ينزل عن مرتبته، أو يتخلى عن هذه القلوب التي أمنت به وجاهدت أكرم الجهاد في سبيل إعلائه وبقائه ورفعته، وردت عنه بهذا الجهاد غارات الصليبيين وهجمات التتار ومكايد الصهيونية: ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾[يوسف: 21]. 

ولكن إلى متى هذا التطاحن بين هذه الآراء والأوضاع، وهو إن كان اليوم صغيرا فهو لن يظل كذلك؟!‍

وإلى متى ينظر أهل الرأي في مصر إلى هذا الصراع في غفلة وبله وانصراف كأن الأمر لا يعنيهم، وكأنه يتناول بلدا غير بلدهم وأشخاصا غير أشخاصهم؟! لا مناص لنا من أن نختار. 

وإذا لم نختر اليوم ونحن راضون، فسنرغم غدا -بل غدًا القريب جدًّا- ونحن مرغمون، وإني لأرى الوميض خلال الرماد ويوشك أن يكون له ضرام. 

لابد من أن نختار لون الحياة الجديدة التي نحياها. لم تعد أوضاع الحياة الاجتماعية بكل نواحيها في مصر صالحة أمام التطور الجديد في الأخلاق والأفكار وحاجات الناس، والعاقل من تدبر الأمر قبل وقوعه وأعد له عدته. 

وأمامنا الشيوعية والاشتراكية، وهما معتبرتان في منطق التحالف الدولي اليوم من معاني الديمقراطية، ولا يستطيع الديمقراطيون أن يقدموا غير هذا. وأمامنا كذلك نظام الإسلام وتوجيه الإسلام، وتعاليم الإسلام، وأحكام الإسلام. 

ونحن في الحقيقة لسنا مخيرين ولسنا أحرارا في الاختيار، فإننا جميعا آمنا بهذا الإسلام الحنيف دينا ودولة، واعتبرنا مصر دولة إسلامية -بل هي زعيمة دول الإسلام- وقال دستورنا في صراحة في مادته التاسعة والأربعين بعد المائة: "دين الدولة الرسمي الإسلام ولغتها اللغة العربية".

وهذا الشعب -شعب وادي النيل كله في الشمال والجنوب- يدين بهذا الدين الحنيف، والأقلية غير المسلمة من أبناء هذا الوطن تعلم تمام العلم كيف تجد الطمأنينة والأمن والعدالة والمساواة التامة في كل تعاليمه وأحكامه، وهذا الذي يقول كتابه: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ في الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8]. 

والكلام في هذا المعنى مفروغ منه، وهذا التاريخ الطويل العريض للصلة الطيبة الكريمة بين أبناء هذا الوطن جميعا -مسلمين وغير مسلمين- يكفينا مؤونة الإفاضة والإسراف، فإن من الجميل حقا أن نسجل لهؤلاء المواطنين الكرام أنهم يقدرون هذه المعاني في كل المناسبات، ويعتبرون الإسلام معنى من معاني قوميتهم وإن لم تكن أحكامه أو تعاليمه من عقيدتهم. 

وإذًا لا مناص للحكومة المصرية والهيئات المصرية والأحزاب المصرية من أن تفي بعهدها الشرعي لله ولرسوله يوم نطقت بالشهادتين فالتزمت الإسلام، وبعهدها المدني الوطني لهذا الشعب يوم أصدرت الدستور ونصت فيه على أن الدين الرسمي هو الإسلام، وبغير ذلك تكون قد غدرت بعهدها، وخانت أمانة الله والناس عندها، وعليها أن تصارح الشعب ليحدد موقفه منها وموقفها منه، ولا محل اليوم للمداورة والخداع.

وهذا الوفاء سيحمى الوطن مما يهدده من أخطار اجتماعية داهمة، ويعيد الطمأنينة والسكينة إلى النفوس والقلوب، لكنه يستلزم حالا تغيير الاتجاهات والأوضاع كلها والمجاهرة بأن وادي النيل هو حامل رسالة الإسلام ومنفذها ومبلغها في غير مواربة ولا وهن، ولا يغنى عن العمل الكلام. 

فهل تصيخ الآذان المغلقة إلى هذا النذير، فتعود إلى حجر الإسلام قولا وعملا وتطبيقا؟؟ ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65]. 

يا دولة رئيس الحكومة. 

ويا رجال الأزهر الشريف. 

ويا رؤساء الهيئات والجماعات والأحزاب. 

ويا أيها الغيِّر على مصلحة هذا الوطن العزيز. 

ويا أبناء هذا الوطن جميعا.

إليكم أوجه النداء، فإلى تعاليم الإسلام: ﴿صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾[البقرة: 138]. 

اعتراضات

﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ۚ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾ [المائدة: 52].

دعوت قومي إلى أن يختاروا، أو بعبارة أصح وأوضح، إلى أن يبروا بعهدهم مع الله ومع أنفسهم فيقيموا دعائم حياتنا الاجتماعية في كل مظاهرها على قواعد الإسلام الحنيف، وبذلك يسلم مجتمعنا من هذا القلق والاضطراب والبلبلة التي شملت كل شيء، والتي وقفت بنا عن كل تقدم، والتي حالت بيننا وبين أن نتعرف الطريق السوي إلى علاج أية قضية من قضايانا الكثيرة المعلقة في الداخل والخارج، وقلت إنه لا سبيل إلى النجاة إلا هذا الاتجاه عقيدة وعملا بكل ما نستطيع من حزم وسرعة. 

وقد يقال: كيف ذلك والحياة العصرية في العالم كله لا تقوم على أساس الدين في أية ناحية من نواحيها، وقد اصطلحت أمم العالم، التي بيدها اليوم مقاليد الأمور وتوجيه مقدرات الأمم والشعوب، على فصل الحياة الاجتماعية عن العقائد الدينية، وإقصاء الدين عن كل مرافق الحياة وحصره بين الضمير والمعبد، وهي وحدها نافذة المؤمن التي يتصل منها بالله؟

والذين يقولون هذا القول لم يعرفوا "الإسلام"، ولم يدرسوا تعاليمه وأحكامه، ولم يفقهوه بعد على طبيعته الصحيحة ووضعه السليم.. من أنه دين ومجتمع، ومسجد ودولة، ودنيا وآخرة، وأنه تعرض لشئون الحياة الدنيوية العلمية بأكثر مما تعرض به للأعمال التعبدية، وإن كان قد أقام الشطرين معا على دعامة من سلامة القلب، وحياة الوجدان، ومراقبة الله، وطهر النفس. فالدين على هذا جزء من نظام الإسلام، والإسلام ينظمه كما ينظم الدنيا تماما. ونحن كمسلمين مطالبون بأن يقوم ديننا ودنيانا على أساس القواعد الإسلامية: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾[المائدة: 50]. 

ومن هنا فرق الفقهاء في النظرة التشريعية بين ما هو من قواعد أحكام المعاملات وشئون الحياة الاجتماعية، فأفسح للنظر والاجتهاد في الثانية ما ليس في الأولى حتى لا يكون على الناس في ذلك حرج ولا مشقة: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، وتحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور.

وقد يقال: إن هذا جمود ورجوع بالعالم إلى الوراء ألف عام أو تزيد، فكيف يعقل أننا نطبق اليوم نظما جاءت لأمة عاشت قبلنا بأربعة عشر جيلا في أرض غير أرضنا وعلى لون من الحياة غير ألوان حياتنا؟! وأين سنة التطور وقوانين التقدم والارتقاء؟

ونقول لهؤلاء كذلك: إنكم أيضا لم تفهموا طبيعة الإسلام الحنيف، الذي جاء للناس فكرة سامية تحدد الأهداف العليا، وتضع القواعد الأساسية، وتتناول المسائل الكلية، ولا تتورط في الجزئيات، وتدع بعد ذلك للحوادث الاجتماعية والتطورات الحيوية أن تفعل فعلها وتتسع لها جميعا ولا تصطدم بشيء منها. 

وإذا كان تاريخ التشريع الإسلامي يحدثنا أن ابن عمر رضى الله عنه كان يفتي في الموسم في القضية من القضايا برأي، ثم تعرض عليه في الموسم التالي من العام القابل فيفتي برأي آخر، فيقال له في ذلك، فيقول: ذاك على ما علمنا وهذا على ما نعلم أو كلام هذا نحوه. 

كما يحدثنا أن الشافعي رضى الله عنه وضع بالعراق مذهبه القديم، فلما تمصر وضع مذهبه الجديد نزولا على حكم البيئة، وتمشيا مع مظاهر الحياة الجديدة، من غير أن يخل ذلك بسلامة التطبيق على مقتضى القواعد الأساسية الكلية الأولى. وأصبحنا نسمع: "قال الشافعي في القديم". "وقال الشافعي في الجديد"، وترى تغير رأى الرجل الواحد في القضية بحسب الزمان تارة -كما فعل ابن عمر- وبحسب المكان تارة أخرى -كما فعل الشافعي- أو بحسبهما معا كما سمعنا أن عمر رضى الله عنه أمر بعدم القطع في السرقة عام المجاعة، وجاءه رجل يشكو سرقة خدمه فأحضرهم فأقروا، وذكروا أن سبب ذلك أنه لا يقوم بكفايتهم من طعام وملبس... إلخ. فتركهم عمر قائلا: "إذا سرق خدمك مرة ثانية قطعت يدك أنت" واعتبرها شبهة تدرأ الحد، ولاحظ الظروف والملابسات.

فهل يقال بعد هذا: إن في الرجوع إلى النظام الإسلامي رجعية وجمودا! وليست في الدنيا شريعة تقبل التطور، وتساير مقتضيات التقدم، وتتمتع بمعاني المرونة والسلاسة والسعة كشريعة الإسلام الحنيف: ﴿مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: 6]. 

وقد يقال: إن الجهر بالعودة إلى نظام الإسلام مما يخيف الدول الأجنبية والأمم الغربية، فتتألب علينا وتتجمع ضدنا، ولا طاقة لنا بهم ولا قدرة لنا عليهم! وهذا منتهى الوهن وغاية الفساد في التقدير وقصر النظر. وها نحن -أولاء- نرى هذه الدول وقد سايرناها في نظمها، وأخذنا بألوان حياتها، واتبعناها في تقاليدها، فهل أغنى ذلك عنا شيئا؟! وهل دفع عنا من كيدها؟ وهل منعها من أن تحتل أرضنا وتسلب استقلالنا وتستأثر بخيرات بلادنا، ثم تتجمع في كل مؤتمر أو مجتمع دولي ضد حقوقنا وتثير المشكلات والصعاب والعقبات في وجوهنا، ولا تتأثر إلا بشيء واحد هو ظروفها ومصالحها فقط، ولا يعنيها بعد ذلك نصرانية، فقد رأيناها في الحرب الماضية يحطم بعضها بعضا -وكلها مسيحية- وتتملق مع هذا دول الإسلام وأممه وشعوبه، وتتزلف إليه بمعسول القول وحلو الحديث، وهاهم أولاء جميعا يناصرون الصهيونية اليهودية، وهي أبغض ما تكون إليهم لارتباط مصالحهم المادية وأغراضهم الاستعمارية بهذه المناصرة. وقد أصبح هذا المعنى معلوما في تصرفات كل الساسة الغربيين.

وإذن فلن يجدينا شيئا عندهم أن نتنصل من الإسلام، ولن يزيدهم فينا بغضا أن نعلن التمسك به والاهتداء بهديه، وبخاصة وهم الآن معسكران مختلفان متنافسان على المصالح المادية وحدها.

ولكن خطر التنصل من الإسلام والتنكر له عظيم على كياننا نحن، فما دمنا بعيدين عن تشرب روحه وتحقيق تعاليمه، فسنظل حائرين فتتحطم معنويتنا، متفرقين فتضعف قوتنا، ولو أخذنا بالحزم وأعلناها صريحة واضحة: أننا معشر أمم الإسلام لا شيوعيون ولا ديمقراطيون ولا شيء من هذا الذي يزعمون، ولكننا بحمد الله مسلمون، لارتسمت أمامنا توا طريق الهداية والنور، ولجمعتنا كلمة الإسلام، ووحدت بيننا وبين إخواننا جميعا في أقطار الأرض. وفى ذلك وحده -ولا شيء غيره- القوة والمنقذ أمام هذا العدوان الغربي الاستعماري الجارف الذي يهددنا في كل مكان. 

وخلاصة هذا الكلام في إيجاز: أننا إذا لاحظنا غضب الغربيين ورضاهم في تمسكنا بالإسلام أو بعدنا عنه، فليس لهذا من معنى إلا أننا إن لم نتمسك بالإسلام فلن نكسب رضاهم وسنخسر أنفسنا، في حين أننا إذا تمسكنا به وتجمعنا من حوله واهتدينا بهديه كسبنا أنفسنا ولا شك. وكان هناك احتمال قوى أن نكسبهم أيضا بتأثير قوة الوحدة. فأي الرأيين أولى بالاتباع يا أولى الألباب؟!

أما اعتراض الأقليات غير المسلمة فقد أشرنا إليه من قبل ولا نريد أن نطيل فيه القول اليوم، فالأمر أوضح من أن يكون موضع مراء.

إنه ليس أمام الأمم الإسلامية اليوم إلا هذه الفرصة، وإن الدول الغربية تدرك هذا تماما، فهي تشغلنا بأنفسنا وتزيدنا حيرة على حيرة. وليس في الوقت متسع للتردد، وإن تبعة من لا يعلم في عنق من يعلم، ولا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم. 

فيا رئيس الحكومة. ويا رجال الأزهر الشريف.

ويا أعضاء الجماعات والأحزاب. ويا ذوى الغيرة على هذا الوطن. 

ويا أبناءه جميعا. إليكم أقول: 

عودوا إلى الإسلام تغنموا وتسلموا: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾[النور: 51]. 

ألا قد بلغت اللهم فاشهد

قضيتنا الوطنية وكيف تحل

في ضوء التوجيه الإسلامي

حقوقنا الوطنية معروفة، أعلنتها الأمة بكل وضوح وجلاء على لسان أحزابها وهيئاتها وجماعاتها وأفرادها في كل المناسبات، وهي: تحقيق وحدة وادي النيل جنوبه وشماله، وجلاء القوات الأجنبية عنه جميعا، لتتم بذلك حقيقة حريته واستقلاله. 

والإسلام الحنيف يعلن الحرية ويزكيها، ويقررها للأفراد والأمم والجماعات بأفضل معانيها، ويدعوهم إلى الاعتزاز بها والمحافظة عليها، ويقول نبيه صلى الله عليه وسلم: "من أعطى الذلة من نفسه طائعا غير مكره فليس منى". وهو يحارب هذه اللصوصية الدولية التي يسمونها بالاستعمار بكل ما فيه من قوة، ولا ترضى تعاليمه أبدًا بأن تسود أمة أو يرهق شعب شعبًا آخر، ولا تزال كلمة عمر الفاروق رضى الله عنه ترن في الأذن حين قال لعامله عمرو بن العاص: "متى تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا".

ويوم حمل الفاتح المسلم سيفه على عاتقه، وانطلق غازيًا في أرض الله لم يكن يرجو من وراء ذلك مغانم دنيوية، ولم يكن يتطلع إلى خيرات الأمم والشعوب ليستأثر بها دونها، وإن امتلأت يداه منها بغير قصد منه، ولكن كان يؤمن بدعوة ويحمل رسالة، ويحمى في العالم مبادئ الحق والعدل والسلام. وتاريخ الصدر الأول من أئمة المسلمين الراشدين المهديين -وهم الحجة للإسلام- يعطيك هذه الصورة بينة المعالم، واضحة الحدود.

والإسلام مع هذا يعتبر الأمة الإسلامية أمينة على رسالة الله في أرضه، ولها في العالم مرتبة الأستاذية -ولا نقول مرتبة السيادة- بحكم هذه الأمانة، فلا يسمح لها أن تذل لأحد، أو تستعبد لأحد، أو تلين قناتها لغامز، أو تخضع لغاصب معتد أثيم: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾ [النساء: 141]. 

ويوم قرر الإسلام هذا، قرر الطريق العملي لحماية هذه الحرية، فافترض الجهاد بالنفس والمال، وجعله فرض كفاية لتأمين الدعوة، وفرض عين على كل أبناء الأمة لرد العدوان على الوطن، إذا واجهته قوات الغزاة من غير المسلمين، وجعل الشهادة أعلى مراتب الإيمان، ووعد المجاهدين النصر والتأييد في الدنيا, والخلود والبقاء والنعيم المقيم في الآخرة، وأعلن أن الجهاد أفضل الأعمال بعد الإيمان: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا في سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ، يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ، خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾[التوبة: 20-22].

ومع هذا فقد رحب الإسلام بالوسائل السلمية لحسم الخلاف وإنهاء الخصومة متى أدت هذه الوسائل إلى الاعتراف بالحق الكامل لأصحابه: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾[الأنفال: 61]. وما خير النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن محرمًا. ومن السلم المفاوضة إذا أوصلت إلى الحق الكامل، وقد فاوض رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديبية، ومن السلم التحاكم إذا أدى إلى هذا الحق أيضًا، وإن كنا لا نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحد من الخلفاء الراشدين المهديين رضى بتحكيم كافر، ولكنه مقتضى عموم الآية، ولازم الاتفاق على الخير، الذي لا يمنعه الإسلام بين المسلمين وغيرهم متى كان فيه مصلحة لهم وليس فيه ضرر عليهم. 

فإذا فشلت هذه الجهود السلمية فإن رأى الإسلام صريح في "النبذ" الذي يتضمن إعلان الخصومة، ثم الأخذ توًّا بكل وسيلة من وسائل الجهاد: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ، وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ، وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الأنفال: 58-60]. 

وقد وعد الله المجاهدين للحق أن يدافع عنهم وينصرهم لا محالة على أعدائهم، مهما يكن عدوهم كامل الأهبة، عظيم العدد، موفور العدة، قوى الوسائل، وعليهم ألا يعبأوا بذلك، وأن يعتمدوا على الله وحده، ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: 47]. هذه الأحكام جميعًا مقررة في الإسلام، يعرفها بتفصيل أوسع، واستدلال أقوى وأدق وأحكم كل من نهل من معينه، وأخذ بحظ من الفقه فيه، وعلى ضوئها نستطيع أن نحل قضيتنا الوطنية التي وصلت إلى حد من الارتباك تبلبلت معه الخواطر واضطربت الأذهان، وإليك بيان ذلك: 

لقد فاوضنا فلم نصل إلى شيء لتعنت الإنجليز وتصلبهم ومناورتهم، واحتكمنا فلم نصل إلى شيء، كذلك أمام تغلب المصالح الدولية والمطامع الاستعمارية. ولقد قال كاتب فاضل: إننا وصلنا إلى كسب أدبي عظيم بالدعاية الواسعة لقضيتنا بطرحها أمام أنظار العالم كله، وإخراجها من حيث التفاهم الثنائي الضيق إلى حيز التحاكم الدولي الواسع، وذلك صحيح، ولكن هذا الكسب الأدبي لن يغنى عن الحقيقة الواقعة شيئا، وهي أننا ما زلنا مع الإنجليز حيث كنا لم نتقدم خطوة، بل إن هذا الركود كان مدعاة إلى التساؤل والبلبلة. 

لم يبق -إذًا- إلا "النبذ على سواء" بأن نعلنهم بالخصومة الصريحة السافرة، ونقرر في صراحة إلغاء ما بيننا وبينهم من معاهدات واتفاقات، ونعلن اعتبار أمة وادي النيل معهم في حالة حرب -ولو سلبية- وننظم حياتنا على هذا الاعتبار. 

اقتصاديًّا: بالاكتفاء والاقتصار على ما عندنا وعند إخواننا من العرب والمسلمين والدول الصديقة إن كانت.

واجتماعيًّا: بتشجيع روح العزة والكرامة وحب الحرية. 

وعلميًّا: بتدريب الشعب كله تدريبًّا عسكريًّا حتى يأتي أمر الله.

وتهيأ نفوس الشعب لذلك بدعاية واسعة تامة كاملة، كما تفعل الأمم إذا واجهت حالة الحرب الحقيقية، وتتغير كل الأوضاع الاجتماعية على هذا الأساس. 

وهذا العمل لا يتسنى للأفراد ولا للهيئات ابتداء، ولكن الحكومة هي المسئولة عنه أولاً وآخرًا. والعجيب أن رئيس الحكومة المصرية أعلن هذا صراحة في مجلس الأمن ثم عاد فلم يعمل شيئا ولم يتقدم في هذه السبيل خطوة. هذا واجب الحكومة قطعا. وأما الشعب فنحن نقولها له في صراحة ووضوح وثقة: إنه على أتم استعداد لبذل كل شيء لو سلكت الحكومة هذا السبيل، إنه مستعد ليجوع وليعرى لو سلكت الحكومة به هذه السبيل وليموت ويناضل، ويكافح بأشد النضال والكفاح، ولكن على شريطة أن يكون ذلك في سبيل حريته واستقلاله لا في سبيل ارتباك اللجان الحكومية، وضعف الوسائل الإدارية، والتخبط في السياسة الاقتصادية، والوقوف أمام مكايد الإنجليز وضغطهم موقف المستسلمين العاجزين. 

لقد سمعت عاملا فقيرا يقول حين صدرت الأوامر بخلط الخبز، وهو فرق ليس من السهل على متمدن أن يصيبه قبل عام: إنني مستعد أنا وأولادي أن نأكل كل يوم مرة واحدة، إذا وثقنا من أن هذا في سبيل الحرية والتخلص من الإنجليز، ولكنى ساخط كل السخط لأني لا أفهم لماذا نلجأ إلى هذا الخلط ونحن بلد زراعي أعظم محصوله المواد الغذائية؟!

فالشعب على أتم استعداد للبذل، ولكن في طريق واضحة مرسومة تؤديه إلى الحرية أو الشهادة، بقيادة حكومة حازمة ترسم له -في قوة وإخلاص- مراحل هذا الطريق، أما إذا استمرت الحكومة في ترددها وتراخيها واضطرابها، فلن يؤدى ذلك بالشعب إلا إلى أحد أمرين: إما أن "يثور"، وإما أن "يموت"، وكلاهما جريمة وطنية لا يغتفرها أبدًا التاريخ. 

فيا دولة رئيس الحكومة.

 ويا رجال الأزهر الشريف.

ويا زعماء الهيئات والأحزاب. 

ويا ذوى الغيرة على هذا الوطن.

ويا أبناء الأمة جميعا: 

هذه هي الطريق فأسلكوها في ضوء الإسلام والله معكم. 

ألا قد بلغت.. اللهم فاشهد.

 

وحدتنا في ضوء التوجيه الإسلامي؟

﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾[المؤمنون: 52].

بالأمس وضعت بين يدي قومي -في قضيتنا الوطنية الخاصة- توجيه الإسلام الذي هو أخصر الطرق كلها حلاًّ حاسمًا كريمًا، والذي لا يعدو النبذ بالخصومة، وإعداد وسائل الجهاد، ومتى فعلنا ذلك، فقد خرجنا ولا شك من هذه الحيرة، ووجدنا الجواب الصحيح لهذا السؤال الذي يتحرك به كل لسان، ويتردد في خاطر كل مواطن: ماذا نعمل الآن؟ 

والحق أننا نحار لأننا لا نريد أن نفعل شيئا، ونهرب من تبعات العمل، ونفر من ثقل التضحيات وتكاليف الكفاح، ونتلمس اللين والسهولة دائمًا، ولا نفكر في سواهما، ونتصور أن الحرية والاستقلال يهبطان من السماء بغير عمل. والسماء لا تمطر ذهبا ولا فضة، ولا تفيض بحرية أو استقلال، ولو كنا جادين حقيقة في الطلب، لسرنا في الطريق بعد أن عرفناه في كلمتين اثنين: "ننبذ"، و"نجاهد"، والنصر بعد ذلك من عند الله. 

واليوم أعرض لموضوع آخر يتصل بقضيتنا الوطنية العامة التي تنظم قضايا الأمة العربية بمختلف شعوبها والعالم الإسلامي كله، لنرى كيف تحل هي الأخرى في ضوء توجيه الإسلام الحنيف. 

معلوم أن الإسلام رسالة عالمية جاءت لخير الأمم والشعوب جميعًا، لا فرق بين عربي أو عجمي أو شرقي أو غربي: ﴿تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: 1]. ولهذا دعا إلى القضاء على الفوارق الجنسية والعنصرية، وأعلن الأخوة الإنسانية، ورفع لواء العالمية بين الناس لأول مرة في تاريخ البشرية: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِى تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1]. 

ومعلوم أن الإسلام كذلك قد قرر من باب الأولى أقوى معاني الأخوة بين المؤمنين به والمنتسبين إليه والمعتقدين لرسالته، حتى جعل الأخوة معنى من معاني الإيمان، بل هي أكمل معانيه: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]، "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه"، "ومثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"، و"المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضهم بعضا".

ويوم واجه المسلمون العالم كله صفًّا واحدًا وقلبًا واحدًا في ظل هذه الأخوة الصادقة الحقة، لم تلبث أمامهم ممالك الروابط الإدارية أو السياسية المجردة ساعة من نهار، وانهزم أمامهم -بغير نظام- الروم والفرس على السواء. وكونوا إمبراطورية ضخمة تمتد من المحيط إلى المحيط ذات علم وحضارة وقوة وإشراق. 

ويوم غفلوا عن سر قوتهم، ولم يأخذوا بهدى كتابهم: ﴿وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾[الأنفال: 46]، ودب إليهم داء الأمم من قبلهم من تغليب المصالح المادية الزائلة على الأخوة الإيمانية الباقية تمزقت هذه الإمبراطورية أيدى سبأ، ولعبت بها المطامع الخارجية والداخلية، وانتهى أمرها أخيرا جدا بعد الحرب العالمية الأولى إلى الانهيار والوقوع في أسر خصومها من غير المسلمين، الذين احتلوا أرضها، وملكوا أمرها، وتقاسموها فيما بينهم، وظنوا أنه قد انتهى أمر الإسلام وختمت الحرب الصليبية أفضل ختام. 

وكانت الدسيسة الكبرى التي اقتحمت على المسلمين عقولهم وقلوبهم أولاً، ثم أرضهم وبلادهم ثانيًا، هي تأثرهم بالعنصرية والشعوبية، واعتداد كل أمة منهم بجنسها، وتناسى ما جاء به الإسلام من القضاء على عصبية الجاهلية والتفاخر بالأجناس والألوان والأنساب. 

وقد انتهت الحرب العالمية الثانية التي قضت على العنصريات الحديثة في أوروبا، عنصرية النازية والفاشية، فرأينا بعدها الدول الأوربية الكبرى تسعى سعيًا حثيثًا إلى التجمع والتكتل، باسم العنصريات تارة، والمصالح تارة أخرى.. فروسيا تحاول أن تجمع العنصر الصقلبي بكل شعوبه تحت لواء الاتحاد السوفيتي، وإنجلترا وأمريكا تتجمعان باسم الجنس واللغة، ثم تتقاسمان بعد ذلك أمم العالم ومناطق النفوذ في الأرض باسم المصالح والضروريات الحيوية، وتستر هذا التنافس بينها بتكوين هيئة الأمم المتحدة لتوهم الناس أنها تزكى العالمية وتعمل لخير بنى الإنسان، كما رأينا هذه الدول نفسها تتجمع ضد حقوقنا الوطنية، وتخذلنا في كل قضية من قضايانا الجوهرية، سواء أعرضت على مجلس الأمن أم في هيئة الأمم المتحدة، كما حدث في قضية مصر وفى قضية فلسطين وفى قضية إندونيسيا. 

نحن أمام كل هذه الأوضاع العالمية الجديدة، وأمام تشابه قضايانا وتشابكها فهي كلها قضية واحدة معناها استكمال الحرية والاستقلال وتكسير قيود الاستغلال والاستعمار، لابد أن نلجأ من جديد إلى ما فرضه الإسلام على أبنائه منذ أول يوم حين جعل الوحدة معنى من معاني الإيمان. يجب أن نتكتل ونتوحد. وقد بدأنا بالجامعة العربية، وهى وإن كانت لم تستقر بعد الاستقرار الكامل، إلا أنها نواة طيبة مباركة على كل حال، فعلينا أن ندعمها ونقويها ونخلصها من كل ما يحيط بها من عوامل الضعف والتخلخل. وعلينا أن نوسع الدائرة حتى تتحقق رابطة أمم الإسلام (عربية وغير عربية) فتكون نواة "لهيئة الأمم الإسلامية" بإذن الله. وبهذه الطريقة التي ستضيف إلى وسائلنا الخاصة بكل أمة من النبذ والجهاد معنى آخر من معاني القوة هو الوحدة والتجمع، نستطيع أن نتخلص، وأن نحفظ التوازن العالمي بين الأمم الطامعة والدول المتنافسة على المغانم والحطام. 

والمسئول عن تحقيق هذه الخطوات الحكومات العربية والإسلامية جميعًا، وكل دعاة الإصلاح في هذه الشعوب من رسميين وأهليين. واليوم أوجه النداء: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا﴾[آل عمران: 103]. 

ألا قد بلغت اللهم فاشهد. 

نظام الحكم

 

1-نظام الحكم

﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ﴾ [المائدة: 49].

يفترض الإسلام الحنيف "الحكومة" قاعدة من قواعد النظام الاجتماعي الذي جاء به للناس، فهو لا يقر الفوضى، ولا يدع الجماعة المسلمة بغير إمام، ولقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه: "إذا نزلت ببلد وليس فيه سلطان فارحل عنه", كما قال في حديث آخر لبعض أصحابه كذلك: "إذا كنتم ثلاثة فأمروا عليكم رجلاً". 

فمن ظن أن الدين -أو بعبارة أدق: الإسلام- لا يعرض للسياسة، أو أن السياسة ليست من مباحثه، فقد ظلم نفسه، وظلم علمه بهذا الإسلام، ولا أقول ظلم الإسلام فإن الإسلام شريعة الله لا يأتيه الباطل من بين يده ولا من خلفه. وجميل قول الإمام الغزالي رضى الله عنه: "اعلم أن الشريعة أصل، والملك حارس، وما لا أصل له فمهدوم وما لا حارس له فضائع" فلا تقوم الدولة في الإسلام إلا على أساس الدعوة، حتى تكون دولة رسالة لا تشكيل إدارة، ولا حكومة مادة جامدة صماء لا روح فيها، كما لا تقوم الدعوة إلا في حماية دولة تحفظها وتنشرها وتبلغها وتقويها. 

وأول خطئنا أننا نسينا هذا الأصل ففصلنا الدين عن السياسة عمليًّا، وإن كنا لن نستطيع أن نتنكر له نظريًا، فنصصنا في دستورنا على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام، ولكن هذا النص لم يمنع رجال السياسة وزعماء الهيئات السياسية أن يفسدوا الذوق الإسلامي في الرؤوس، والفطرة الإسلامية في النفوس، والجمال الإسلامي في الأوضاع، باعتقادهم وإعلانهم وعملهم على أن يباعدوا دائما بين توجيه الدين ومقتضيات السياسة، وهذا أول الوهن وأصل الفساد وبلاء التقليد الأعمى الذي لا خير فيه.

دعائم الحكم الإسلامي:

والحكومة في الإسلام تقوم على قواعد معروفة مقررة، هي الهيكل الأساسي لنظام الحكم الإسلامي، فهي تقوم على مسئولية الحاكم ووحدة الأمة واحترام إرادتها ولا عبرة بعد ذلك بالأسماء والأشكال. 

مسئولية الحاكم: 

فالحاكم مسئول بين يدي الله وبين الناس، وهو أجير لهم وعامل لديهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"، وأبو بكر رضى الله عنه يقول عندما ولى الأمر وصعد المنبر: "أيها الناس، كنت أحترف لعيالي فأكتسب قوتهم، فأنا الآن أحترف لكم، فافرضوا لي من بيت مالكم". وهو بهذا قد فسر نظرية العقد الاجتماعي أفضل وأعدل تفسير، بل هو قد وضع أساسه، فما هو إلا تعاقد بين الأمة والحاكم على رعاية المصالح العامة، فإن أحسن فله أجره، وإن أساء فعليه عقابه. 

وحدة الأمة: 

والأمة الإسلامية أمة واحدة؛ لأن الأخوة التي جمع الإسلام عليها القلوب أصل من أصول الإيمان لا يتم إلا بها ولا يتحقق إلا بوجودها، ولا يمنع ذلك حرية الرأي وبذل النصح من الصغير والكبير للصغير والكبير كذلك، وهو المعبر عنه في عرف الإسلام ببذل النصيحة والأمر المعروف والنهى عن المنكر، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة". قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم"، وقال: "إذا رأيت أمتى تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم، فقد تودع منها"، وفى رواية: "وبطن الأرض خير لهم من ظهرها"، وقال: "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله".

ولا تتصور الفرقة في الشئون الجوهرية في الأمة الإسلامية، لأن نظام الحياة الاجتماعية الذي يضمها نظام واحد هو" الإسلام"، معترف به من أبنائها جميعًا، والخلاف في الفروع لا يضر، ولا يوجب بغضا ولا خصومة ولا حزبية خاصة يدور معها الحكم كما تدور.. ولكنه يستلزم البحث والتمحيص والتشاور وبذل النصيحة، فما كان من المنصوص عليه فلا اجتهاد فيه، وما لا نص فيه فقرار ولى الأمر يجمع الأمة عليه ولا شيء بعد هذا. 

احترام إرادة الأمة: 

ومن حق الأمة الإسلامية أن تراقب الحاكم أدق المراقبة، وأن تشير عليه بما ترى فيه الخير، وعليه أن يشاورها وأن يحترم إرادتها، وأن يأخذ بالصالح من آرائها، وقد أمر الله الحاكمين بذلك فقال: ﴿وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ﴾ [آل عمران: 159]. وأثنى به على المؤمنين خيرا فقال: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾[الشورى: 38].

ومضت على ذاك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين المهدين من بعدهم، إذا جاءهم أمر جمعوا أهل الرأي من المسلمين فاستشاروهم ونزلوا عند الصواب من آرائهم، بل إنهم ليندبونهم إلى ذلك ويحثونهم عليه، فيقول أبو بكر رضى الله عنه: "فإن رأيتموني على حق فأعينوني وإن رأيتموني على باطل فسددوني أو قوموني"، ويقول عمر بن الخطاب: "من رأى في اعوجاجًا فليقومه". 

والنظام الإسلامي بعد هذا لا يعنيه الأشكال ولا الأسماء متى تحققت هذه القواعد الأساسية التي لا يكون الحكم صالحًا بدونها، ومتى طبقت تطبيقًا يحفظ التوازن بينها ولا يجعل بعضها يطغى على بعض. ولا يمكن أن يحفظ هذا التوازن بغير الوجدان الحي والشعور الحقيقي بقدسية هذه التعاليم، وإن في المحافظة عليها وصيانتها الفوز في الدنيا والنجاة في الآخرة، وهو ما يعبرون عنه في الاصطلاح الحديث "بالوعي القومي" أو "النضج السياسي" أو "التربية الوطنية" أو نحو هذه الألفاظ. ومردها جميعًا إلى حقيقة واحدة هي اعتقاد صلاحية النظام، والشعور بفائدة المحافظة عليه، إذ أن النصوص وحدها لا تنهض بأمة كما لا ينفع القانون إذا لم يطبقه قاضٍ عادل نزيه. 

ونحن في حياتنا العصرية قد نقلنا عن أوربا هذا النظام النيابي الذي تعيش في ظله حكوماتنا الآن، ووضعنا دستورنا على أساسه، وتغير هذا الدستور مرة باسمه كذلك، وجربنا الكثير من آثاره. فإلى أي مدى ينطبق هذا النظام على الإسلام؟ وإلى أي مدى كانت فائدتنا منه طوال هذه المدة؟

ذلك ما سنعرض له في الكلمة التالية إن شاء الله. 

مشاكلنا الداخلية في ضوء نظام الإسلام

 

2- نظام الحكم

 ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: 50].

قدمت في الكلمة السابقة أن الدعائم التي يقوم عليها نظام الحكم الإسلامي ثلاث: 

(أ) مسئولية الحاكم. 

(ب) ووحدة الأمة. 

(ﺟ) واحترام إرادتها. 

ولقد تحقق هذا النظام بأكمل صورة في عهد الخلفاء الراشدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يشعرون أتم الشعور بالتبعات الملقاة على كواهلهم كحكام مسئولين عن رعاياهم، ويظهر ذلك في كل أقوالهم وتصرفاتهم الكثيرة، وحسبك أن تقرأ ما قاله عمر بن الخطاب رضى الله عنه حين ولى الخلافة، وعمر بن عبد العزيز حين وليها كذلك، وجاءت سيرتهم مطابقة لقولهم لتعلم صدق ما نقول: "أيها الناس قد وليت عليكم، ولولا رجاء أن أكون خيركم لكم، وأقواكم عليكم، وأشدكم استضلاعا بما ينوب من مهم أموركم، ما توليت ذلك منكم، وكفى عمر مُهِمًا محزنًا انتظار موافقة الحساب بأخذ حقوقكم، كيف أخذها ووضعها أين أضعها؟ وبالسير فيكم كيف أسير؟ فربى المستعان". فإن عمر أصبح لا يثق بقوة ولا حيلة إن لم يتداركه الله عز وجل برحمته وعونه وتأييده، وكان يقول: "لو أن جملاً هلك ضياعًا بشط الفرات لخشيت أن يسأل الله عنه آل الخطاب". 

وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته: "أما بعد، فإنه ليس بعد نبيكم صلى الله عليه وسلم نبي، ولا بعد الكتاب الذي أنزل عليه كتاب. ألا ما أحل الله عز وجل حلال إلى يوم القيامة، وما حرم الله حرام إلى يوم القيامة ألا لست بقاض ولكنى منفذ. ألا وإني لست بمبتدع ولكنى متبع. ألا إنه ليس لأحد أن يطاع في معصية الله عز وجل. ألا إني لست بخيركم ولكنى رجل منكم غير أن الله جعلني أثقلكم حملاً". وقدمت إليه مراكب الخلافة بعد دفن سليمان بن عبد الملك فأمر بتأخيرها، وركب بغلته وعاد إلى منزله، فدخل عليه مولاه مزاحم فقال: يا أمير المؤمنين لعلك مهتم؟ ‍ فقال: "بمثل هذا الأمر الذى نزل بي اهتممت. إنه ليس من أمة محمد في مشرق ولا مغرب أحد إلا له قبلي حق يحق على أداؤه إليه، غير كاتب إلى فيه ولا طالبه منى".

وكانت الأمة مجتمعة الكلمة باستمساكها بأهداب الدين واعتقادها فضل ما جاء به من أحكام، ورعايتها لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشديده في الوحدة، حتى أمر بقتل من فارق الجماعة أو خرج على الطاعة فقال: "من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يشق عصاكم فاضربوه بالسيف كائنًا من كان". كما قال: "من خرج من الطاعة وخالف الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عميّة، يغضب لعصبة، أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبة فقتل، فقتلة جاهلية. ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس منى ولست منه". 

كما كانت إرادتها محترمة مقدورة، فما كان أبو بكر يمضي في الناس أمرًا إلا بعد أن يستشيرهم وخصوصًا فيما لا نص فيه، وكذلك كان عمر رضى الله عنه، فقد جعل الخلافة من بعده شورى في الستة الذين توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض. 

وقلت في الكلمة السابقة أيضا إننا نقلنا هذا النظام النيابي، الذي تعيش حكوماتنا في ظله عن أوربا، فإلى أي مدى ينطبق على الإسلام؟ وما الذي أفدناه منه منذ طبق في عهده الأخير في بلادنا إلا الآن، وهي مدة تبلغ ربع قرن من الزمان تقريبا؟

موقف الإسلام من النظام النيابي والدستور المصري

يقول علماء الفقه الدستوري: إن النظام النيابي يقوم على مسئولية الحاكم وسلطة الأمة واحترام إرادتها، وإنه لا مانع فيه يمنع وحدة الأمة واجتماع كلمتها، وليست التفرقة والخلاف شرطًا فيه، وإن كان بعضهم يقول: إن من دعائم النظام النيابي البرلماني "الحزبية". ولكن هذا إذا كان عرفا فليس أصلا في قيام هذا النظام أنه يمكن تطبيقه بدون هذه الحزبية وبدون إخلال بقواعده الأصلية. 

وعلى هذا فليس في قواعد هذا النظام النيابي الأساسية ما يتنافى مع القواعد التي وضعها الإسلام لنظام الحكم، وهو بهذا الاعتبار ليس بعيدًا عن النظام الإسلامي ولا غريبا عنه, وبهذا الاعتبار يمكن أيضًا أن نقول في اطمئنان: إن القواعد الأساسية التي قام عليها الدستور المصري لا تتنافى مع قواعد الإسلام، وليست بعيدة من النظام الإسلامي ولا غريبة عنه، بل إن واضعي الدستور المصري -رغم أنهم وضعوه على أحدث المبادئ والآراء الدستورية وأرقاها- فقد توخوا فيه ألا يصطدم أي نص من نصوصه بالقواعد الإسلامية، فهي إما متمشية معها صراحة كالنص الذى يقول: "دين الدولة الرسمي الإسلام" أو قابلة للتفسير الذى يجعلها لا تتنافى معها كالنص الذى يقول: "حرية الاعتقاد مكفولة".

وأحب أن أنبه هنا إلى الفرق بين الدستور وبين القوانين التي تسير عليها المحاكم، إذ إن كثيرًا من مواد هذه القوانين فيه ما يتنافى صراحة مع ما جاء به الإسلام أو يعطل صراحة ما جاء به الإسلام وذلك بحث آخر سنعرض له في موضعه إن شاء الله. 

ومع أن النظام النيابي والدستور المصري في قواعدهما الأساسية لا يتنافيان مع ما وضعه الإسلام في نظام الحكم، فإننا نصرح بأن هناك قصورا في عبارات الدستور، وسوءًا في التطبيق، وتقصيرا في حماية القواعد الإنسانية التي جاء بها الإسلام وقام عليها الدستور، أدت جميعًا إلى ما نشكو منه من فساد، ما وقعنا فيه من اضطراب في كل هذه الحياة النيابية. 

وسنتناول هذا الإيجاز بشيء من البيان:

الوزارة

فأما عن مسئولية الحاكم فإن الأصل فيها في النظام الإسلامي أن المسئول هو رئيس الدولة كائنا من كان، له أن يتصرف، وعليه أن يقدم حساب تصرفه للأمة، فإن أحسن أعانته، وإن أساء قومته، ولا مانع في الإسلام في أن يفوض رئيس الدولة غيره في مباشرة هذه السلطة وتحمل هذه المسئولية، كما عرف ذلك في "وزارات التفويض" في كثير من العهود الإسلامية، ورخص الفقهاء المسلمون في ذلك وأجازوه ما دام فيه مصلحة، والقاعدة في مثل هذه الأمور رعاية المصلحة العامة، قال الماوردي في كتاب الأحكام السلطانية: "والوزارة على ضربين: وزارة تفويض، ووزارة تنفيذ. فأما وزارة التفويض فهو أن يستوزر الإمام من يفوض إليه تدبير الأمور برأيه، وإمضاءها على مقتضى اجتهاده، وليس يمتنع جواز هذه الوزارة، قال تعالى حكاية عن نبيه عليه الصلاة والسلام: ﴿وَاجْعَلْ لي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِى، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِى﴾ [طه: 29-32]. فإذا جاز ذلك في النبوة كان في الإمامة أجوز ولأن ما وكل إلى الإمام من تدبير الأمة لا يقدر على مباشرة جميعه إلا باستنابة ونيابة الوزير المشارك له في التدبير أصح في تنفيذ الأمور من تفرده بها ليستظهر بها على نفسه، وبها يكون أبعد من الزلل وأمنع من الخلل". 

والأصل في هذه المسئولية في النظام النيابي، أن المسئول هو الوزارة ولا مسئولية على رئيس الدولة. وقد جرى على هذا الوضع الدستور الإنجليزي والدستور المصري، فصرح كل منهما بمسئولية الوزارة، وإخلاء رئيس الدولة من كل مسئولية واعتباره لا يخطئ، واعتبار ذاته مصونة لا تمس. 

على أنه لا مانع في النظام النيابي من تحميل رئيس الدولة المسئولية واعتبار الوزارة تابعة له في ذلك، كما يقرر ذلك دستور الولايات المتحدة. والغريب أن تشير كتب الفقه الإسلامي إلى هذا الوضع أيضًا، وتسمى هذه الوزارة "وزارة التنفيذ" فيقول الماوردي في كتابه "الأحكام السلطانية" أيضا: "وأما وزارة التنفيذ فحكمها أضعف وشروطها أقل؛ لأن النظر فيها مقصور على رأى الإمام وتدبيره، وهذا الوزير وسط بينه وبين الرعايا والولاة، يؤدى عنه ما أمر، وينفذ عنه ما ذكر ويُمضى ما حكم..." ولا شك أن هذا من سعة مادة الفقه الإسلامي ومرونته وصلاحيته لكل زمان ومكان. 

غموض الدستور المصري

هذه هي قواعد النظام الإسلامي والنيابي معًا في "مسئولية الحاكم", فماذا فعلنا نحن في مصر؟ وقفنا في منتصف الطريق نصًّا وتطبيقًا، وجاء دستورنا في هذا المعنى غامضًا مقتضبًا غير واضح ولا مفصل، مع أنها أهم نقطة في تحديد لون الحياة النيابية والإسلامية التي نحياها.. وشرحا لذلك سأسوق ما كتبه الأستاذان الدكتور "إبراهيم مدكور" عضو مجلس الشيوخ المصري، والأستاذ "مريت غالى" في مذكرتهما "نظام جديد" قالا تحت عنوان "الدستور وغموضه":

"فأما العامل الأول فملخصه أن دستورنا على الرغم من دقته وضبط عبارته، قد وقع في نفس الغموض الذي وقعت فيه دساتير أسبق منه، وترك أهم نقطة في الحكم النيابي دون أن يحددها التحديد الكافي، ونعنى بها سلطة الوزراء وصلتهم بالشعب ممثلا في نوابه من جهة، وإشرافهم على ما يؤدى إليه من خدمات عن طريق المصالح والإدارات من جهة أخرى. كما أجمل إجمالاً مخلاًّ في بيان موقفهم من رئيس الدولة ومليك البلاد، واكتفى بأن يصوغ هذا في عبارات تصلح لكل ما يراد منها. وواضح أن الوزارة هي العمود الفقري لهيكل النظام النيابي الجديد، وحلقة الاتصال بين التشريع والتنفيذ، ومبعث الحياة والحركة في نظام يراد به احترام سلطة الشعب مع تصريف شئون الدولة تصريفًا محكما وسريعًا. وإذا ما رجعنا إلى الدستور وجدنا أن ما جاء به متصلا بهذه النقطة الحساسة لا يكاد يتجاوز ثلاثة أسطر كلها غموض وعموم، فيقرر في المادة 29: "أن السلطة التنفيذية يتولاها الملك في حدود هذا الدستور". وفى المادة (48): "الملك يتولى سلطته بواسطة وزرائه". وفى المادة (49): "الملك يعين وزراءه ويقيلهم". وفى المادة (57): "مجلس وزرائه هو المهيمن على مصالح الدولة". وفى المادة (61): "الوزراء مسئولون متضامنون لدى مجلس النواب عن السياسة العامة للدولة، وكل منهم مسئول عن أعمال الوزراء"، وفى المادة (63): "أوامر الملك -شفهية أو كتابية- لا تخلى الوزراء من المسئولية على أية حال".

تلك تقريبا جملة النصوص المتصلة بهذا الموضوع، ولا نظن أن فيها ما يكفي مطلقا لحل أي مشكل من المشاكل التي أشرنا إليها إلخ.

وقد أفاضا بعد ذلك في الشرح والتمثيل بما يفصل ما تقدم من هذه المعاني. والمهم أن هذه النقطة -وهي لب الأمر- تحتاج على إيضاح واستقرار، وهي القاعدة الأولى من قواعد "النظام الإسلامي" أو النيابي على السواء، وبغير ذلك لا يمكن أن تستقيم الأمور وتسلم. وفى الكلمة التالية نتناول القاعدتين الباقيتين إن شاء الله.

 

3- نظام الحكم

﴿فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [المائدة: 48]. 

وأما عن وحدة الأمة فقد أبنت أن الإسلام الحنيف يفترضها افتراضًا، ويعتبرها جزءًا أساسيًّا في حياة المجتمع الإسلامي لا يتساهل فيه بحال، إذ إنه يعتبر الوحدة قرين الإيمان: ﴿إنما المؤمنون إخوةً﴾. كما يعتبر الخلاف والفرقة قرين الكفر كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 100] أي: بعد وحدتكم متفرقين. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدى كفارًا يضرب بعضكم وجوه بعض"، فعبر بكلمة الكفر على الفرقة والخلاف وأن يضرب بعضهم وجوه بعض. 

وأعتقد أن الحكم النيابي -برلمانيًّا وغير برلماني- لا يأبى هذه الوحدة، وبخاصة إن كان لون الحياة الاجتماعية في الأمة واحدًا في أصوله واتجاهاته العامة، كما هو شأن الأمة الإسلامية جميعًا في هذه الأيام، وإنما لازمت الحزبية والفرقة والخلاف هذا النظام النيابي في أوربا وغيرها؛ لأنها نشأت على أنقاضها، وكانت الخلافات المتكررة الدامية بين الشعوب وحكامها هي السبب في نشأته فعلاً، مع تباين المشارب واختلاف الآراء. أما الأمم الإسلامية فقد حماها الله من ذلك كله وعصمها بوحدة الإسلام وسماحته من هذا التبلبل والاضطراب. 

ومع هذا فإن الحكم النيابي في أعرق مواطنه لم يقم على هذه الحزبية المسرفة، فليس في إنجلترا إلا حزبان هما اللذان يتداولان فيها الأمر، وتكاد تكون حزبيتهما داخلية بحتة، وتجمعهما دائما المسائل القومية المهمة، فلا تجد لهذه الحزبية أثرا البتة. كما أن أمريكا ليس فيها إلا حزبان كذلك، لا نسمع عنهما شيئا إلا في مواسم الانتخابات، أما فيما عدا هذا فلا حزبية ولا أحزاب. والبلاد التي تطورت في الحزبية وأسرفت في تكوين الأحزاب ذاقت وبال أمرها في الحرب والسلم على السواء، وفرنسا أوضح مثال في ذلك.

وإذا كان الأمر كذلك، وكانت وحدة الأمة أساسا في النظام الاجتماعي الإسلامي ولا يأباها النظام النيابي، فإن من الواجب أن نتحول سريعا إلى الوحدة بعد أن أهلكت الحزبية في مصر الحرث والنسل. 

الأحزاب المصرية

لقد انعقد الإجماع على أن الأحزاب المصرية هي سيئة هذا الوطن الكبرى، وهى أساس الفساد الاجتماعي الذي نصطلي بناره الآن، وأنها ليست أحزابا حقيقية بالمعنى الذى تعرف به الأحزاب في أي بلد من بلاد الدنيا، فهي ليست أكثر من سلسلة انشقاقات أحدثتها خلافات شخصية بين نفر من أبناء هذه الأمة، اقتضت الظروف والحوادث في يوم ما أن يتحدثوا باسمها وأن يطالبوا بحقوقها القومية، كما انعقد الإجماع على أن هذه الأحزاب لا برامج لها ولا مناهج، ولا خلاف بينها في شيء أبدا إلا في الشخصيات، وآية ذلك واضحة فيما تعلن من بيانات خارج الحكم وفيما تطلع به من خطب العرش داخل الحكم، وبما أن الأحزاب هي التي تقدم الشيوخ والنواب، وهى التي تسيّر دفة الحكم في الحياة النيابية، فإن من البديهي ألا يستقيم أمر الحكم وهذا حال من يسيّرون دفته. 

وهذا الكلام الذي انعقد إجماع الأمة عليه، أعلنه شيوخ ونواب وفقهاء دستوريون في صراحة ووضوح. ومن قرأ ما كتبه "علوبة باشا" في كتابه "مبادئ وطنية"، أو الأستاذ "حسن الجداوي" في كتابه "عيوب الحكم في مصر" أو غيرهما من الكتاب، رأى صدق ما نقول، وحسبنا هنا أن ننقل فقرة من كتاب الفقيه الدستوري الأستاذ "سيد صبري" "مبادئ القانون الدستوري" عن الأحزاب المصرية قال فيه: "والواقع أنه لم يعد لأغلب الأحزاب السياسية في مصر برنامج يدافع عنه أنصاره، بل أصبح كل حزب عبارة عن وزير سابق له أنصار ومريدون، ولهذه النتيجة أهميتها، فإن الانتخاب لن يقوم على المفاضلة بين البرامج، فقد أصبحت واحدة للجميع، بل سيقوم على الثقة بالأشخاص أو المفاضلة بينهم، وستكون الانتخابات شخصية لا حزبية بالمعنى المفهوم لدى الشعوب الغربية، وبديهي أن بقاء الأحزاب على هذا المنوال يقسم البلاد شيعا وأحزابا ويثير الشقاق، والمنازعات بين الأفراد والأسر بلا سبب مفهوم ولا أساس معقول". وإذا أضيف إلى هذا أن مصر بلدا محتلا إلى الآن، وأن الذي يستفيد من هذه الفرقة هم المحتلون الغاصبون فقط، وأنه إذا أستسيغ الخلاف -وهو غير مستساغ بحال- في أمة من الأمم، فإن أمة وادي النيل هي أحوج ما تكون إلى أكمل معاني الوحدة لتتجمع قواها في نضال الاستقلال وفى عمل الإصلاح الداخلي- كان الأمر أخطر من أن يهمل أو يستهان به. 

حل الأحزاب المصرية

وإذا كان الأمر كذلك، فلا أدرى ما الذي يفرض على هذا الشعب الطيب المجاهد المناضل الكريم هذه الشيع والطوائف من الناس التي تسمى نفسها الأحزاب السياسية؟

إن الأمر جد خطير. ولقد حاول المصلحون أن يصلوا إلى وحدة -ولو مؤقتة- لمواجهة هذه الظروف العصيبة التي تجتازها البلاد، فيئسوا وأخفقوا، ولم يعد الأمر يحتمل أنصاف الحلول، ولا مناص بعد الآن من أن تحل هذه الأحزاب جميعا، وتجمع قوى الأمة في حزب واحد يعمل لاستكمال استقلالها وحريتها، ويضع أصول الإصلاح الداخلي العامة، ثم ترسم الحوادث بعد ذلك للناس طرائق في التنظيم في ظل الوحدة التي يفرضها الإسلام.

4 - نظام الحكم

﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ [النور: 51] نظام الانتخابات:

وأما عن احترام رأى الأمة ووجوب تمثيلها واشتراكها في الحكم إشراكًا صحيحًا، فإن الإسلام لم يشترط استبانة رأى أفرادها جميعًا في كل نازلة، وهو المعبر عنه في الاصطلاح الحديث "بالاستفتاء العام"، ولكنه اكتفى في الأحوال العادية "بأهل الحل والعقد" ولم يعينهم بأسمائهم، ولا بأشخاصهم، والظاهر من أقوال الفقهاء ووصفهم إياهم أن هذا الوصف ينطبق على ثلاث فئات هم: 

1 - الفقهاء المجتهدون الذين يعتمد على أقوالهم في الفتيا واستنباط الأحكام. 

2 - وأهل الخبرة في الشئون العامة. 

3- ومن لهم نوع قيادة أو رياسة في الناس كزعماء البيوت والأسر وشيوخ القبائل ورؤساء الجماعات. 

فهؤلاء جميعًا يصح أن تشملهم عبارة "أهل الحل والعقد". 

ولقد رتب النظام النيابي الحديث طريق الوصول إلى "أهل الحل والعقد" بما وضع الفقهاء الدستوريون من نظام الانتخاب وطرائقه المختلفة، والإسلام لا يأبى هذا التنظيم ما دام يؤدى إلى اختيار أهل الحل والعقد، وذلك ميسور إذا لوحظ في أي نظام من نظم الانتخاب تحديد صفات أهل الحل والعقد، وعدم السماح لغيرهم بالتقدم للنيابة عن الأمة. 

عيوب نظم الانتخابات في مصر

ونحن في مصر قد أخذنا بنظام الانتخاب المباشر تارة في قانون سنة 1923، وبنظام الانتخاب على درجتين في قانون سنة 1930، وكلاهما في الواقع لم يحقق الغرض المقصود منه، وظهرت له حين التطبيق عيوب يجب أن نعمل على إصلاحها بتعديل شامل، وليس الخطأ عيبا في ذاته، ولكن الرضا به والاستمرار عليه والدفاع عنه هو الخطأ كل الخطأ. 

ولقد شعر الجميع بقصور قانون الانتخابات الحالي عن الوفاء بالغرض الذي وضع من أجله، وهو الوصول إلى اختيار الصالحين للنيابة عن الأمة، ووجهت إليه انتقادات مرة كشفت عن كثير من عيوبه التي من أهمها ما ذكره الدكتور "سيد صبري" في كتابه مبادئ القانون الدستوري: "أنه أوجد هيئة ناخبة لا يمكنها تحقيق الغرض من الانتخابات على الوجه المطلوب، وأنه لم يحقق فكرة تمثيل الأمة تمثيلاً صحيحًا، وأنه لم يوصل إلى إيجاد هيئة تعمل للصالح العام مجردة من كل قيد... ". وقد أورد بعد ذلك إحصائية دقيقة خلص منها بالأرقام إلى أن قرارات البرلمان المصري في أدواره المختلفة لا تعبر عن رأى الأمة ولا عن رأى أكثريتها ولا عن رأى أقلية محترمة من أبنائها، وإنما تعبر عن رأى نسبة ضئيلة من مجموع من له حق الانتخاب لم تصل يوما إلى 12٪ وبيان ذلك: 

أن مجلس نواب سنة 1926 لا تمثل قراراته -مع أنها صحيحة ونافذة بحكم القانون- إلا 10.75٪ من هيئة الناخبين. 

ومجلس سنة 1929 نسبة التمثيل فيه 9.75٪. 

ومجلس سنة 1936 النسبة فيه 9.25٪. 

ومجلس سنة 1938 النسبة فيه 11.75٪. 

ومجلس سنة 1942 النسبة فيه 9.75٪. 

والمجلس الحالي ليس أفضل مما تقدمه.

فكيف يقال بعد هذا أن ذلك تعبير عن رأى الأمة وتمثيل لها تمثيلا صحيحا؟!

تعديل وإصلاح:

لابد من تعديل وإصلاح لقانون الانتخاب، ومن وجوه هذا الإصلاح الضرورية: 

1 - وضع صفات خاصة للمرشحين أنفسهم، فإذا كانوا ممثلين لهيئات فلا بد أن يكون لهذه الهيئات برامج واضحة وأغراض مفصلة يتقدم على أساسها هذا المرشح، وإذا لم يكونوا ممثلين لهيئات فلا بد أن يكون لهم من الصفات والمناهج الإصلاحية ما يؤهلهم للتقدم للنيابة عن الأمة، وهذا المعنى مرتبط إلى حد كبير بإصلاح الأحزاب في مصر، وما يجب أن يكون عليه أمر الهيئات السياسية فيها. 

2 - وضع حدود للدعاية الانتخابية وفرض عقوبات على من يخالف هذه الحدود، بحيث لا تتناول الأسر ولا البيوت ولا المعاني الشخصية البحتة التي لا دخل لها في أهلية المرشح وإنما تدور حول المناهج والخطط الإصلاحية.

3 - إصلاح جداول الانتخابات وتعميم نظام تحقيق الشخصية، فقد أصبح أمر جداول الانتخابات أمرًا عجبًا بعد أن لعبت بها الأهواء الحزبية والأغراض الحكومية طول هذه الفترات المتعاقبة، وفرض التصويت إجباريًّا. 

4 - وضع عقوبة قاسية للتزوير من أي نوع كان، وللرشوة الانتخابية كذلك.

5 - وإذا عدل إلى الانتخابات بالقائمة لا الانتخاب الفردي كان ذلك أولى وأفضل، حتى يتحرر النواب من ضغط ناخبيهم، وتحل المصالح العامة محل المصالح الشخصية في تقدير النواب والاتصال بهم. 

وعلى كل حال فأبواب الإصلاح والتعديل كثيرة، هذه نماذج منها، وإذا صدق العزم وضح السبيل، والخطأ كل الخطأ في البقاء على هذا الحال والرضا به، والانصراف عن محاولة الإصلاح.

5- نظام الحكم

﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ [النساء: 105]. 

عرضت في الكلمات السابقة لدعائم الحكم الصالح الثلاث في النظام الإسلامي أو النيابي على السواء، وهي: 

1- مسئولية الحاكم

2- ووحدة الأمة

3- واحترام إرادتها

وأشرت -في إيجاز بالغ- إلى نواحي الغموض في التشريع، والقصور والفساد في التطبيق في أسلوب الحكم الذي جربناه منذ صدور الدستور المصري إلى الآن، وقد كانت نتيجة هذا الغموض والقصور والفساد ما نحن عليه الآن من حيرة قلق وارتباك، وما وصلنا إليه من فرقة وتمزق وشتات. 

ضعف الحكومات:

لا يجادل أحد في أن الحكومات المتعاقبة قد ضعفت عن أداء واجبها، وفقدت معظم هيبتها في النفوس كحكومة، بسبب هذا التجريح بالحق وبالباطل الذي تمليه الروح الحزبية البحتة، وبسبب هذا العجز الناتج عن عدم تحديد المسئولية والاضطلاع بها كاملة غير منقوصة، ولولا أن النفوس في مصر مطبوعة بطابع الطاعة والاستسلام والأعمال تسير بطريق روتيني لا تجديد فيه ولا ابتكار -لتعطل كل شيء، ولعجز الدولاب الإداري المضطرب عن أن ينهض بحاجات الشعب أو أن يؤدى للناس عملاً.

هيبة القانون:

ولا شك أن سلطان القانون قد تزعزع وفقد معظم احترامه كذلك، بسبب هذه الاستثناءات والمحسوبيات والحيل المتكررة، والاعتداء أحيانًا بنسخ القانون لغرض شخصي، ولو أن هذا النسخ بقانون في ظاهر الأمر، ولكن الدوافع تكون معروفة دائمًا ولا تخفى على أحد، فيعمل ذلك عمله في النفوس وينال من هيبة القانون واحترام النظام. 

حزبية عمياء:

ولا شك أن نار الخصومة والحقد قد اضطرمت في نفوس الحاكمين والمحكومين على السواء، بفعل هذه الحزبية الخاطئة التي لم نفهمها -نحن في مصر- في يوم من الأيام على أنها خلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، بل فهمناها عداوة وبغضاء تتعدى النظر في المصالح العامة إلى المقاطعة في كل الشئون عامة وخاصة، وإلى أن نرى الحق في جانب خصومنا الحزبيين باطلا، والباطل في جانب أنصارنا الحزبيين حقا, ونصدر عن هذا الشعور في كل تصرفاتنا وصلاتنا، ويستفحل الداء ويستشرى حتى في أحرج المواقف، فلا نستطيع أن نوحد صفوفنا في أي موقف قومي مهما كان يتوقف عليه صلاح أمرنا ومستقبل بلدنا. 

وهذا الشعور البغيض والفهم الخاطئ للحزبية الذي تحول إلى عداوة متأصلة قد كان من نتائجه: أن انصرف معظم الجهود الفكرية والعملية إلى أمرين استغرقا كل اهتمام رجالنا، وهما: الإيقاع بالخصوم الحزبيين أو اتقاء مكائدهم، فالحاكم يصرف جل همه في هاتين الناحيتين، والمعارضة لا تقل عن الحاكم اهتماما بها، وفى سبيل ذلك تضيع الحقوق، وتتعطل المصالح، ويرثى الأصدقاء، ويشمت الأعداء، ويستفيد الخصم الجاثم على صدر البلاد. 

هذه الحال قد أنتجت التحطم في المعنويات، والفساد والاضطراب في الماديات، وقد بلغ الأمر منتهاه ولم يعد في قوس الصبر منزع، ولا بد من تغيير حازم حاسم سريع.. فإما أن يفقه أولو الأمر هذه الحقيقة ويقدروها فيبادروا في سرعة إلى إجراء التغيير الصالح برأيهم وعلى أيديهم، وفى ذلك السلامة والاستقرار، ومازال في الوقت متسع للإصلاح. وإما أن يظلوا في هذا الانصراف فتسبقهم الحوادث، ويفلت من يدهم الزمام، ولا يدري عاقبة ذلك إلا الله. 

يا أولى الأمر في هذا البلد.

ويا دولة رئيس الحكومة.

ويا رجال الأزهر.

ويا زعماء الأحزاب والهيئات والجماعات.

ويا ذوى الغيرة على هذا الوطن الأسيف: 

تداركوا الأمر قبل الفوات.. وأمامكم سفينة النجاة من نظام الإسلام.. ولله عاقبة الأمور. 

ألا قد بلغت... اللهم فاشهد. 

 

أصول الإسلام كنظام اجتماعي

اتجاه النهضة الجديدة في العالم الإسلامي

إلى الإسلام:

يرى المراقبون الاجتماعيون والسياسيون والمعنيون بتطورات الحياة في الأمم والشعوب أن العالم الإسلامي-وفى مقدمته العالم العربي طبعًا- يتجه بنهضته الحديثة اتجاهًا إسلاميًا، وأن هذا الاتجاه يقوى تياره بالتدريج.

وبعد أن كان الكتاب والمفكرون والعلماء والزعماء يتغنون بأصول الحضارة الأوروبية ووجوب الاصطباغ بصبغتها والأخذ الكامل بأساليبها ومناهجها، تبدلت هذه النغمة وحل محلها التحفظ والحذر، وارتفعت الأصوات المنادية بوجوب العودة إلى أصول الإسلام وتعاليمه ومناهجه، وتقريب الحياة العصرية في هذه الشعوب إليها -بقدر الإمكان- تمهيدًا للاصطباغ الكامل بصبغة الإسلام.

أسباب:

ويزعج هذا الاتجاه كثيرًا من الحكومات والدول الغربية التي عاشت طوال القرون الماضية في عقلية الذي لا يعرف عن الإسلام إلا التعصب والجمود، ولا يرى في المسلمين إلا شعوبًا مستضعفة للتسخير، وأوطانًا خصبة للاستعمار، وأخذوا يتحسبون من هذه الحركة، ويذهبون في تفسيرها وتأويلها كل مذهب، فمن قائل: إنها نتيجة قيام الهيئات المتطرفة والجماعات المتعصبة. ومن قائل: إنها رد فعل للضغط السياسي والاقتصادي الذي شعرت به هذه الأمم الإسلامية في هذه الأعصار. ومن قائل: إنها وسيلة يتوصل بها بعض طلاب الحكم والجاه إلى الظهور والمنصب. وكل هذه الأسباب -فيما نعتقد- بعيدة عن الحقيقة كل البعد، وهذا الاتجاه ليس إلا نتيجة لعوامل ثلاثة فيما نرى:

إفلاس الغرب:

أولها: إفلاس الأصول الاجتماعية التي قامت عليها حضارة الأمم الغربية، فحياة الغرب التي قامت على العلم المادي والمعرفة الآلية والكشف والاختراع وإغراق أسواق العالم بمنتجات العقول والآلات، لم تستطع أن تقدم للنفس الإنسانية خيطًا من النور أو بصيصًا من الأمل أو شعاعًا من الإيمان، ولم ترسم للأرواح القلقة أي سبيل للراحة والاطمئنان، وليس الإنسان آلة من الآلات؛ ولهذا كان طبيعيًا أن يتبرم بهذه الأوضاع المادية البحتة، وأن يحاول الترفيه عن نفسه.

 ولم تجد الحياة الغربية المادية ما ترفه به عنه إلا الماديات أيضًا من الآثام والشهوات، والخمور والنساء والأحفال الصاخبة، والمظاهر المغرية التي تلهى بها حينًا، ثم ازداد بها بعد ذلك جوعًا على جوع، وأحس بصرخات روحه تنطلق عالية تحاول تحطيم هذا السجن المادي والانطلاق في الفضاء، واسترواح نسمات الإيمان والعزاء.

كمال الإسلام:

وثانيها -وهو العامل الإيجابي في الموضوع- اكتشاف المفكرين من رجال الإسلام ما في أصوله وقواعده من سمو ورقى وصلاحية واكتمال، وأنها أكمل وأدق وأفضل وأجمع وأشمل من كل ما كشفت عنه الفلسفات الاجتماعية والعقول المصلحة إلى الآن.

وقد كان المسلمون غفلوا عن ذلك حينًا من الدهر، فلما كشف الله عن بصائر مفكريهم، وقارنوا ما عندهم من قواعد دينهم الاجتماعية بما يتحدث عنه كبار الاجتماعيين وأساطين المصلحين وجهابذة المفكرين، ووجدوا البون شاسعًا والفرق بعيدًا بين كنوز هذا الميراث الضخم وبين ما يلهو به هؤلاء، لم يملكوا أنفسهم من أن ينصفوا عقولهم وتاريخهم وشعوبهم، وأن ينادوا بنفاسة هذا الميراث، وأن يُهيبوا بهذه الأمم الغافلة -إسلامية وغير إسلامية- أن تستفيد من هذا الإرشاد الرباني الكريم، وأن تنهج نهج هذا الصراط السوي المستقيم.

طبيعة التطور:

وثالثها: طبيعة التطور الاجتماعي بعد حربين طاحنتين اشتركت فيهما دول العالم جميعًا، وتناولتا النفوس والأوضاع والشعوب والأفراد، ونبتت بعدهما طائفة من المبادئ الإصلاحية والنظم الاجتماعية، قامت على أساسها دول، ونهضت بتطبيقها أمم، ثم لم يمض كبير وقت حتى تناولتها يد التبديل والتغيير، أو الهدم والتدمير، والمفكرون من المسلمين ينظرون ويرقبون ويوازنون ويقارنون، ويرجعون إلى ما بين أيديهم من كتاب ربهم -وهو مشرق- ومن سنة نبيهم- وهى بينة- ومن تاريخهم -وهو مجيد- فلا يرون لنظام من هذه النظم حسنة من الحسنات إلا وجدوا أنها مقررة في نظامهم الإسلامي الاجتماعي، وأنهم سبقوا إليها فتحدثوا عنها أو عملوا بها، ولا يرون لنظام من هذه النظم سيئة من السيئات إلا وجدوا أن نظامهم الإسلامي الاجتماعي قد حذر منها واحتاط لها ووصف طريق الوقاية من نتائجها وآثارها.

سادت العالم -حينًا من الدهر- هذه النظم الديمقراطية، وانطلقت الحناجر في كل مكان تسبح وتقدس بما جاء به هذا النظام الديمقراطي من حرية للأفراد وللشعوب على السواء، ومن إنصاف للعقل الإنساني بحرية التفكير، وللنفس الإنسانية بحرية العمل والإرادة، وللشعوب بأن تكون مصدر السلطات، وجاء النصر في الحرب العالمية الأولى معززًا لهذه الأفكار متوجًا إياها بأكاليل الغار.

 ثم لم يلبث الناس أن تبينوا أن حريتها الاجتماعية لم تسلم من الفوضى، وأن حريتها الفردية لم تأخذ الحيطة من الإباحية، وأن سلطة الشعوب لم تبرئ المجتمع من كثير من الديكتاتوريات المستورة التي تضيع معها التبعات، ولا تحدد فيها الاختصاصات، إلى غير ذلك من المثالب والعيوب التي أدت إلى تفكك الأمم والشعوب، وتخلخل نظام الجماعات والبيوت، ومهدت لقيام النظم الديكتاتورية.

فقامت النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا، وأخذ كل من موسوليني وهتلر بيد شعبه إلى الوحدة والنظام والنهوض والقوة والمجد، وسرعان ما خطا هذا النظام بهاتين الأمتين في مدارج الصلاح في الداخل، والقوة والهيبة في الخارج، وبعث في النفوس الآمال الخالدة، وأحيا الهمم والعزائم الراكدة، وجمع كلمة المختلفين المتفرقين على نظام وإمام، وأصبح "الفوهرر" أو "الدوتشي" إذا تكلم أحدهما أو خطب تفزعت الأفلاك والتفت الدهر.

ثم ماذا؟ ثم تكشف الأمر عن أن هذا الجهاز القوى المتماسك، الذي فنيت فيه إرادات الأفراد في إرادات الزعماء أخطأ حين أخطأوا، فطغى بطغيانهم، وانحرف بانحرافهم، وهوى بسقوطهم، وانتهى كل شيء، وأصبح حصيدًا كأن لم يغن بالأمس بعد أن بذل العالم في حربه الثانية الملايين من زهرة الشباب، والقناطير المقنطرة من الأموال والعتاد.

ولمع نجم الاشتراكية والشيوعية بعد ذلك، وزاد في هذا البريق واللمعان معنى الفوز والانتصار، وتقدمت روسيا السوفيتية إلى الميدان الاجتماعي تبشر بدعوتها، وتدل على الدنيا بنظامها الذي تبدل في ثلاثين عامًا عدة مرات، وأخذت دول الديمقراطيات، أو بعبارة أدق: دول الاستعمار القديمة البالية أو الجديدة الطامعة تعد العدة لتوقف هذا التيار، والصراع يقوى ويشتد تارة في العلانية وأخرى في الخفاء، والدول والأمم والشعوب الحائرة على مفترق الطريق لا تدري أين السبيل. ومنها أمم الإسلام وشعوب القرآن، والمستقبل في ذلك كله بيد الله، والحكم للتاريخ، والبقاء للأصلح على كل حال.

هذا التطور الاجتماعي وهذا الصراع العنيف القوى أيقظ همم المفكرين من المسلمين، فأخذوا يوازنون ويقارنون، وانتهوا بعد الموازنة إلى نتيجة صحيحة سليمة، هي: التخلص من كل هذه الأوضاع، ووجوب عودة شعوبهم وأممهم إلى الإسلام.

النظم الثلاثة في الصلاة:

قلت ذات مرة مداعبًا للسامعين في إحدى المحاضرات- وكانت خطرة موفقة كل التوفيق والحمد لله: إن هذه الصلاة الإسلامية التي نؤديها في اليوم خمس مرات ليست إلا تدريبًا يوميًّا على نظام اجتماعي عملي، امتزجت فيه محاسن النظام الشيوعي بمحاسن النظام الديمقراطي بمحاسن النظام الديكتاتوري، فعجبوا وقالوا: كيف كان ذلك؟ فقلت: إن أفضل ما في النظام الشيوعي من حسنات تدعيم معنى المساواة والقضاء على الفوارق والطبقات، ومحاربة الاعتزاز بالملكية التي يكون عنه هذا التفاوت، وهذه المعاني كلها يستحضرها المسلم ويشعر بها تمامًا، وتتركز في نفسه إذا دخل المسجد؛ لأنه يستشعر لأول دخوله أن هذا المسجد لله لا لأحد من خلقه، وأنه سواء العاكف فيه والباد، لا صغير فيه ولا كبير، ولا أمير ولا حقير، ولا فوارق ولا طبقات، فإذا صاح المؤذن: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، استوى هذا الجمع خلف إمامه كالبنيان المرصوص، فلا يركع أحد حتى يركع الإمام، ولا يسجد حتى يسجد، ولا يأتي بحركة أو سكون إلا تابعًا له ومقتديًا به ومقلدًا إياه، وهذا هو أفضل ما في النظام الديكتاتوري: الوحدة والنظام في الإرادة والمظهر على السواء، ولكن هذا الإمام مقيد هو نفسه بتعاليم الصلاة ودستورها، فإذا انحرف أو أخطأ في تلاوة أو عمل كان للصبى الصغير وللرجل الكبير وللمرأة المصلية خلفه، كان لكل واحد من هؤلاء الحق كل الحق أن ينبهه إلى خطئه، وأن يرده إلى الصواب في أثناء الصلاة، وكان على الإمام كائنًا من كان أن ينزل على هذا الإرشاد، وأن يعدل عن خطئه إلى الحق والصواب، وليس في الديمقراطية أروع من هذه الحسنات. فماذا بقى بعد ذلك لهذه النظم من فضل على الإسلام، وقد جمع محاسنها جميعًا، واتقى بهذا المزج البديع كل ما فيها من سيئات ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾[النساء: 82].

لا مبرر للانزعاج:

والغربيون كما قلت -ومعهم الذين لا يعلمون- ينزعجون أشد الانزعاج لهذا الاتجاه، ويرونه من الخطورة بحيث تجب عليهم محاربته بكل سبيل؛ لأنه ليس أكثر في عرفهم من انتصار للمبادئ الرجعية، وتجميع للأمم الهمجية حولها ضد مبادئ الحضارة والمدنية وشعوب العلم والعرفان والنظام، وهذا وهم عريق في الخطأ، وظلم صارخ للحقائق الواضحة وضوح الشمس في وضح النهار.

ومهمتنا في هذه الكلمات أن نصل معهم إلى أمرين:

أولهما: إثبات سمو أصول النظام الاجتماعي الإسلامي، وفضلها على كل ما عرف الناس، تلك الأصول التي منها:

الإخاء الإنساني، والقضاء على روح الكراهية والتعصب.

السلام، وخطأ الذين لا يعلمون في فهم مشروعية الجهاد.

الحرية، وخطأ الذين يتهمون الإسلام بإباحة الرق، ومصادرة الحريات.

العدل الاجتماعي، وفيه بيان رأى الإسلام في نظام الحكم والطبقات.

الحياة الطيبة، وفيه بيان الخطأ في فهم حقيقة الزهد.

الأسرة، وفيه الكلام على حقوق المرأة والتعدد والطلاق.

العمل والكسب، وفيه الكلام على أنواع الكسب والخطأ في فهم التوكل.

العلم، وفيه خطأ من يتهمون النظام الإسلامي بتشجيع الجهالة والخمول.

النظام، وتقدير الواجب، وفيه خطأ من يظنون في طبيعة الإسلام النقص والإهمال.

التدين، وفيه حقيقة الإيمان بالله والفضيلة والجزاء.

وبقى بعد ذلك الكثير يأتي في أثناء هذه البحوث، أو يلحق بها، والله المستعان.

وثانيهما: إثبات أن الخير للإنسانية كلها أن يتجه المسلمون إلى العودة لدينهم، وأن ذلك سيكون أكبر دعائم السلام على الأرض، وأن الدافع إلى ذلك ليس التعصب الأعمى، ولكن الاقتناع التام بفضل ما جاء به الإسلام، وانطباقه تمام الانطباق على أرقى ما كشف عنه التفكير العصري السليم من قواعد الاجتماع الصالحة، ودعائم نظمه القوية الثابتة. والله يقول الحق، وهو يهدى السبيل.

إعلان الأخوة الإنسانية والتبشير بفكرة العالمية

 

جاء الإسلام الحنيف يعلن الأخوة الإنسانية، ويبشر بالدعوة إلى العالمية، ويبطل كل عصبية، ويسلك إلى تحقيق هذه الدعوة الكريمة السامية كل السبل النظرية والعملية.

تقرير وحدة الجنس والنسب:

فقد قرر وحدة الجنس والنسب للبشر جميعًا "فالناس لآدم ولا فضل لعربي على عجمي، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى"، وحكمة التقسيم إلى شعوب وقبائل إنما هي التعارف لا التخالف، والتعاون لا التخاذل، والتفاضل بالتقوى والأعمال الصالحة التي تعود بالخير على المجموع والأفراد، والله رب الجميع يرقب هذه الأخوة ويرعاها، ويطالب عباده جميعًا بتقريرها ورعايتها، والشعور بحقوقها والسير في حدودها.

ويعلن القرآن الكريم هذه المعاني جميعًا في بيان ووضوح، فيقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِى تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء: 1]، ويقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾[الحجرات: 13]، ويقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم في أشهر خطبة في حجة الوداع: "إن الله قد أذهب عنكم عُبّيّة الجاهلية وتعظمها بالآباء والأجداد، الناس لآدم، وآدم من تراب"، "لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى"، ويقول: "ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية" رواه أبو داود.

وبهذا التقرير قضى الإسلام تمامًا على التعصب للأجناس أو الألوان في الوقت الذي لا تزال فيه الأمم المتحضرة من أوروبا وأمريكا تقيم كل وزن لذلك، وتخصص أماكن يغشاها البيض، ويحرم منها السود حتى في معابد الله، وتضع القوائم الطويلة للتفريق بين الأجناس الآرية والسامية، وتدعى كل أمة أن جنسها فوق الجميع.

تقرير وحدة الدين

وقرر الإسلام وحدة الدين في أصوله العامة، وأن شريعة الله تبارك وتعالى للناس تقوم على قواعد ثابتة من الإيمان والعمل الصالح والإخاء، وأن الأنبياء جميعًا مبلغون عن الله تبارك وتعالى، وأن الكتب السماوية جميعًا من وحيه، وأن المؤمنين جميعًا -في أية أمة كانوا- هم عباده الصادقون الفائزون في الدنيا والآخرة، وأن الفرقة في الدين والخصومة باسمه إثم يتنافى مع أصوله وقواعده، وأن واجب البشرية جميعًا أن تتدين وأن تتوحد بالدين، وأن ذلك هو الدين القيم وفطرة الله التي فطر الناس عليها، وفى ذلك يقول القرآن الكريم: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾[الشورى: 13]، ويقول القرآن الكريم مخاطبًا النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم: ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾[الشورى: 15]، ويقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم مصورًا هذا المعنى أبدع تصوير: "مثلى ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة فأنا تلك اللبنة وأنا خاتم النبيين" أخرجه الشيخان

وسلك الإسلام إلى هذه الوحدة مسلكًا عجيبًا، فالمسلم يجب عليه أن يؤمن بكل نبي سبق، ويصدق بكل كتاب نزل، ويحترم كل شريعة مضت، ويثنى بالخير على كل أمة من المؤمنين خلت، والقرآن يفترض ذلك ويعلنه ويأمر به النبي وأصحابه ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِىَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾[البقرة: 136] ثم يقفى على ذلك بأن هذه هي سبيل الوحدة، وأن أهل الأديان الأخرى إذا آمنوا كهذا الإيمان فقد اهتدوا إليها، وإن لم يؤمنوا به فسيظلون في شقاق وخلاف، وأن أمرهم بعد ذلك إلى الله فيقول: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ في شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[البقرة: 137].

ويدعم هذه الوحدة بين المتدينين والمؤمنين على أساسين واضحين مسلمين لا يجادل فيهما إلا مكابر: 

أولهما: اعتبار ملة إبراهيم عليه السلام أساسًا للدين، وإبراهيم هو مرجع الأنبياء الثلاثة الذين عرفت رسالاتهم وهم: موسى، وعيسى، ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم جميعًا.

 وثانيهما: تجريد الدين من أغراض البشر وأهوائهم، والارتفاع بنسبته إلى الله وحده؛ فنقرأ في سورة البقرة قول الله تعالى: ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ في الدُّنْيَا وَإِنَّهُ في الآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾[البقرة: 130] إلى قوله تعالى: ﴿صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ * قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا في اللهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ﴾[البقرة: 138-139]، ثم إلى قوله تعالى: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[البقرة: 141].

إن القرآن يثنى على الأنبياء جميعًا، فموسى نبي كريم ﴿وَكَانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهًا﴾ [الأحزاب: 69]، وعيسى عليه السلام ﴿رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ﴾[النساء: 171] ﴿وَجِيهًا في الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ في الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [آل عمران: 45-46]، ﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾[المائدة: 75] أكرمتها الملائكة ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 42].

والتوراة كتاب كريم ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ﴾[المائدة: 44]، والإنجيل كذلك كتاب كريم، فيه هدى ونور وموعظة ﴿وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ﴾[المائدة: 46] وهما والقرآن معهما مصابيح الهداية للناس ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ﴾[آل عمران: 3-4] وبنو إسرائيل أمة موسى أمة كريمة مفضلة ما استقامت وآمنت ﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾[البقرة: 47]، وأمة عيسى -عليه السلام- أمة فاضلة طيبة ما أخلصت وعملت ﴿وَجَعَلْنَا في قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً﴾ [الحديد: 27].

والتعامل بين المسلمين وبين غيرهم من أهل العقائد والأديان إنما يقوم على أساس المصلحة الاجتماعية والخير الإنساني ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ في الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ في الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾[الممتحنة: 8-9].

والجدال يكون بالتي هي أحسن إلا للذين ظلموا، وأساسه التذكير بروابط الرسالة السماوية ووحدة العقيدة الإيمانية ﴿وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بالتي هي أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [العنكبوت: 46].

وبذلك قضى الإسلام على كل مواد الفرقة والخلاف والحقد والبغضاء والخصومة بين المؤمنين من أي دين كانوا، ولفتهم جميعًا إلى وجوب التجمع حول "شريعة الإسلام" ونبذ كل ما من شأنه العداوة والخصام بين بنى الإنسان.

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[البقرة: 62].

فإن أبى الناس إلا أن يفترقوا ويختلفوا ويحتكموا إلى أهوائهم باسم الدين، فإن الإسلام ونبي الإسلام وشريعة الإسلام الإنسانية العامة منهم براء ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ في شيء إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ * قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: 159-163].

تقرير وحدة الرسالة

ولهذا جاء النبي "محمد" عليه الصلاة والسلام رسولاً عالميًّا لا رسولاً إقليميًا، وأعلن القرآن الكريم هذه العالمية في آيات كثيرة، فقال: ﴿تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾[الفرقان: 1]، وقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾[سبأ: 28]، وقال: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِى وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النبي الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: 158]، ومن هنا كانت رسالته أيضًا ختام الرسالات، فلا رسالة تعقبها أو تنسخها، ولا نبي بعده ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رَّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ [الأحزاب: 40]، ومن هنا كذلك كانت معجزته الخالدة الباقية هذا القرآن الكريم ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: 41-42].

ولقد كان الناس يتساءلون من قبل هذا العصر: وكيف يكون فرد واحد من أمة واحدة رسولاً للبشر جميعًا؟! فجاء هذا العصر الذى انمحت فيه المسافات، وتجمعت فيه أطراف الأرض بهذه المواصلات، وتشابكت فيه مصالح الأمم والدول والشعوب حتى لكأنها بلد واحد كبير، لا ينفك جانب منه عن الجانب الآخر في قليل ولا في كثير، وانطلقت في أجواز الفضاء أنباء الشرق يعلمها ساعة حدوثها الغرب، وأنباء الغرب يستمع إليها لحظة وقوعها الشرق، وتركزت آمال المصلحين اليوم في العالم الواحد والنظام الواحد والضمان الاجتماعي والسلام العالمي فكان ذلك آية كبرى، ومعجزة أخرى لنبي الإسلام وشريعة الإسلام، وصدق الله العظيم ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا في الآَفَاقِ وَفِى أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شيء شَهِيدٌ﴾[الشورى: 53].

وحدة الشعائر

وقد كان الإسلام "عمليًا" كعادته، فلم يقف عند حد تقرير الأصول النظرية لهذه الوحدة الإنسانية، ولكنه رسم وسائل التطبيق، وقرر الشعائر والشرائع التي يتأكد بها هذا المعنى في النفوس، وتثبت دعائمه في المجتمعات، وهذا هو الفرق بين الرسالات الفلسفية والرسالات الإصلاحية، أو بين الفيلسوف والمصلح، فالفيلسوف يقرر النظريات، والمصلح يرسم قواعد التطبيق ويشرف بنفسه على تمامه، ومن هنا كان الإسلام نظريًا وعمليًا معًا؛ لأنه رسالة الإصلاح الشامل الخالد، وعلى هذا الأساس قرر الشعائر والشرائع التي يتحقق بالعمل بها، ما دعا إليه من إنسانية عالمية وأخوة حقيقية بين البشر على اختلاف أوطانهم وأجناسهم وألوانهم. ومن ذلك:

القبلة

فعلى المؤمنين أن يصرفوا وجوههم وقلوبهم وأفئدتهم كل يوم خمس مرات على الأقل إلى "الكعبة" التي بناها إبراهيم أبو الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وأن يشعر كل منهم بما يحيط بهذا "الرمز الكريم" من معانى الأخوة والوحدة بين الناس جميعًا، كما أن طواف الطائفين بهذه الكعبة المشرفة إن هو إلا توكيد لهذا الشعور عمليًا كذلك، وينتهز بعض الذين لا يعلمون الحكمة البالغة والنظرة السامية في هذا التشريع الحكيم هذه الفرصة، فيغمزون الإسلام بأنه لا زال متأثرًا ببقية من وثنية العرب، وأن الكعبة والطواف من حولها، والحجر الأسود واستلامه، وما يحيط بذلك من معانى التقديس والتكريم إن هو إلا مظهر من مظاهر هذا التأثر.

 وهذا القول بعيد عن الصحة عار عن الصواب، فالمسلم الذى يطوف بالكعبة أو يستلم الحجر يعتقد اعتقادًا جازمًا أنها جميعًا أحجار لا تضر ولا تنفع، ولكنه إنما يقدس فيها هذا المعنى الرمزي البديع: معنى الأخوة الإنسانية الشاملة، والوحدة العالمية الجامعة، ويذكر في ذلك قول الله العلى الكبير ﴿جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ﴾[المائدة: 97]، والرمزية: هي اللغة الوحيدة لتمثيل المعاني الدقيقة، والمشاعر النبيلة التي لا يمكن أن تصورها الألفاظ أو تجلوها العبارات، والذى يعظم عَلَمَ وطنه، يعلم أنه في ذاته قطعة نسيج لا قيمة لها ماديًا، ولكنه يشعر كذلك أنها ترمز إلى كل معانى المجد والسمو التي يعتز بها وطنه، وأنها تصور أدق المشاعر في وطنيته، فهو يحيى هذا العلَمَ ويعظمه ويحترمه ويكرمه لهذه المعاني التي تجمعت جميعًا وتمثلت فيه. والكعبة المشرفة عَلَمَ الله المركوز في أرضه ليمثل به للناس أوضح معاني أخوتهم، وليرمز به إلى أقدس مظاهر وحدتهم، وإنما كانت بناء ليكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا، ومن أجمل الجميل أن يقوم على رفع قواعد هذا البناء إبراهيم الخليل أبو الأنبياء ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [البقرة: 127].

وما الحجر الأسود إلا موضع الابتداء، ونقطة التميز في هذا البناء، وعنده تكون البيعة لرب الأرض والسماء على الإيمان والتصديق والعمل والوفاء: اللهم إيمانًا بك -لا بالحجر- وتصديقًا بكتابك لا بالخرافة، ووفاءً بعهدك -وهو التوحيد الخالص- لا الشرك، واتباعًا لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم محطم الأصنام.

فأين هذه المعاني الرمزية العلوية من تلك المظاهر الوثنية الخرافية؟ إن الكعبة المشرفة رمز قائم خالد، ركز الإسلام من حوله أخلد وأقدس وأسمى معاني الإنسانية العالمية، والأخوة بين بنى البشر جميعًا ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [البقرة: 125].

واللغة

وكما وحد الإسلام القبلة فقد وحد اللغة، وأعلن أن العربية هي لسان القرآن ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾[الزخرف: 3]، وأن القرآن هو لسان المؤمنين، وأن دعوة الإيمان دعوة موجهة إلى العالمين، ويقرر علماء الاجتماع أن اللغة أقوى الروابط بين الأمم والشعوب، وأقرب وسائل التقريب والتوحيد بينها، وهى نسب من لا نسب له، وقد أدرك الإسلام هذه الحقيقة، ففرض العربية فرضًا على المؤمنين في صلواتهم وعباداتهم، ومنح الجنسية العربية لكل من نطق بلغة العرب وجرى لسانه بها، واعتبر أن العربية هي اللسان. روى الحافظ ابن عساكر، قال جاء قيس بن مطاطية إلى حلقة فيها سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي فقال: هؤلاء الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذا الرجل -يعنى النبي صلى الله عليه وسلم- فما بال هذا وهذا؟ "مشيرًا إلى غير العرب من الجالسين". فقام إليه معاذ بن جبل رضي الله عنه فأخذ بتلابيبه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بمقاله، فقام النبي صلى الله عليه وسلم مغضبًا يجر رداءه حتى أتى المسجد، ثم نودى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فخطبهم قائلاً: "يا أيها الناس إن الرب واحد، وإن الدين واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي اللسان، فمن تكلم العربية فهو عربي".

وأي تشجيع أعظم من هذا على تعلم لغة العرب، وتعميمها بين الناس لتكون هي "الاسبرانتو" العالمي الذي يربط البشرية بأقوى روابطها وهي: اللسان. وقد يقال: إن ذلك خيال لا يتحقق، والجواب أنه خيال حققته قوة أصحابه الروحية والحسية من قبل وتحققه من بعد، ولا خيال في الحقيقة إلا مع الضعف، وحقائق اليوم أحلام الأمس، وأحلام اليوم حقائق الغد، ولا تعاب الطريقة المثلى إذا هجرها الناس، وهذه هي الطريقة للوحدة "وكل من سار على الدرب وصل".

الأذان:

وتستمع إلى الأذان، وهو الصوت العالي الذى تنطلق به حناجر المؤذنين في الصباح والمساء وعشيًا وعند الظهيرة ومع الغروب: "الله أكبر الله أكبر، أشهد ألا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله"، يكررها المؤذن أعدادها المعروفة، أو هو يقول: حي على خير العمل كما في بعض الروايات، فهل ترى في هذا النداء دعوة إلى عصبية جنسية، أو هتافًا بنصرة طائفية، لا شيء إلا تمجيد الله، والحث على الخير والفلاح والطاعة والصلاة، والإرشاد إلى الأسوة الحسنة في محمد رسول الله.

الحقوق والواجبات ومظاهر العبادات

والمساواة التامة هي شعار الإسلام في الحقوق والواجبات ومظاهر العبادات. فالجنس الإنساني مكرم كله، مفضل على كثير من المخلوقات ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ في الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ [الإسراء: 70].

والناس جميعًا مخاطبون بهذه الدعوة الإسلامية، وكثيرًا ما يستفتح الخطاب في القرآن الكريم بيا أيها الناس إشارة إلى عموم هذه الرسالة وتسويتها بين الناس في الحقوق والواجبات.

 والحقوق الروحية -فضلاً عن الحقوق المدنية والسياسية والفردية والاجتماعية والاقتصادية- مقررة للجميع على السواء، فما من شعب إلا بعث إليه رسول ﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ﴾[فاطر: 24].

 ومظاهر العبادات وطرق أدائها مشتركة بين الجميع، يؤدونها على قدم المساواة، فهم في الصلاة كالبنيان المرصوص، وهم في الحج قلب واحد يفدون من كل فج عميق، وهم في الجهاد صف لا يتخلف عنه إلا أعرج، أو مريض، أو أعمى، أو معذور، وهم في كل معنى من هذه المعاني كأسنان المشط، لا سيد ولا مسود ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]، وقل مثل ذلك في جميع الحقوق والواجبات والفرائض والعبادات التي جاء بها هذا الإسلام.

تقرير معاني الرحمة والحب والإيثار والإحسان

ولقد دعم الإسلام هذه المعاني النظرية والمراسم العملية ببث أفضل المشاعر الإنسانية في النفوس من حب الخير للناس جميعًا، والترغيب في الإيثار ولو مع الحاجة ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 9]. والإحسان في كل شيء حتى في القتل، ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 195] ﴿إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً﴾ [الكهف: 30] ﴿إن اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ﴾ [النحل: 90].

وتقرير عواطف الرحمة حتى مع الحيوان، فأبواب الجنة تفتح لرجل سقى كلبًا، وتبتلع الجحيم امرأة لأنها حبست هرة بغير طعام، كما جاء ذلك وغيره من كثير من مثله في أحاديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم حتى استغرب أصحابه، وقالوا: وإن لنا في البهائم لأجرًا يا رسول الله؟ قال: نعم في كل ذات كبد رطبة أجر. رواه البخاري، ولا شك أن هذه المشاعر هي التي تفيض على صاحبها أفضل معاني الإنسانية، وتوجهه إلى تقدير قيمة الأخوة العالمية.

شيوع هذه الإنسانية عمليًا في المجتمع الإسلامي

وإن التاريخ ليحدثنا أن المجتمع الإسلامي سعد بتحقيق هذه المعاني في كل عصر من العصور التي ازدهرت فيها دعوة الإسلام، وطبقها المؤمنون فيها تطبيقًا صحيحًا، ففي عهد النبوة كان سلمان الفارسي إلى جانب صهيب الرومي، إلى جوار بلال الحبشي، ومعهم في نسق واحد أبو بكر القرشي، تضمهم جميعًا أخوة الإسلام ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾[آل عمران: 103]، ولم تعرف التعصبات الجنسية إلا يوم ضعف شعور المسلمين بسلطان التوجيه الإسلامي الصحيح، واجتالتهم شياطين التقليد، فانحرفوا عن هذا الصراط المستقيم.

عالم اليوم

ولقد بشر زعماء العالم -إبان محنتهم في الحرب الماضية- بهذه الإنسانية العالمية، وهتفوا بالعالم الواحد السعيد الذي تسوده الطمأنينة والعدالة والحرية والوئام، فهل وصلوا إلى شيء من ذلك؟ أو حاولوا أن يصلوا إليه فيما قرروا من مؤتمرات وعقدوا من اجتماعات؟ وهل استطاعت هيئة الأمم المتحدة أن تسوى في الحقوق بين أبناء الوطن الواحد في إفريقيا الجنوبية؟ أو أن تحمل الأمريكان على ترك التفاضل بالألوان؟ لا شيء من هذا، ولن يكون إلا إذا تطهرت النفوس بماء الوحي العذب الطهور، وسقيت من معين الإيمان، وأخلصت للإسلام دين الأخوة والوحدة والإنسانية والسلام ﴿إِنَّ في هَذَا لَبَلاَغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 106-107].

السلام وحكمة مشروعية القتال في الإسلام

 

الإسلام شريعة السلام ودين المرحمة، ما في ذلك شك، لا يخالف في هذا إلا جاهل بأحكامه، أو حاقد على نظامه، أو مكابر لا يقتنع بدليل، ولا يسلم ببرهان.

اسم الإسلام نفسه مشتق من صميم هذه المادة مادة السلام.

والمؤمنون بهذا الدين لم يجدوا لأنفسهم اسمًا أفضل من أن يكونوا المسلمين ﴿مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾[الحج: 78].

وحقيقة هذا الدين ولبه: الإسلام لرب العالمين ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[البقرة: 112] ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[البقرة: 131] ﴿وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[الأنعام: 71].

وتحية أهل الإسلام فيما بينهم "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، وختام الصلاة عندهم: سلام على اليمين، وسلام على اليسار، وسلام في الأمام إن كانوا يصلون خلف إمام؛ كأنهم يبدؤون أهل الدنيا من كل نواحيها بالسلام، بعد أن فارقوها بخواطرهم لحظات انصرفوا فيها لمناجاة الله الملك العلام.

وقد نزل القرآن الكريم في ليلة كلها سلام، تحف به ملائكة السلام ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ * فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلاَمٌ هي حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ [القدر: 1-5].

وأفضل ما يلقى الله به عباده: "تحية السلام" ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا﴾[الأحزاب: 44].

وخير ما يستقبل الملائكة به الصالحين من عباد الله في الجنة "السلام" ﴿وَالْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد: 23-24]، والجنة نفسها اسمها: دار السلام ﴿لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 127]، ﴿وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِى مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [يونس: 25].

والله تبارك وتعالى اسمه: "السلام" ﴿هُوَ اللهُ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ﴾[الحشر: 23].

ولن يتأخر المسلم عن الاستجابة لدعوة السلام ولن يردها أبدًا ﴿وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِن يُّرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾[الأنفال: 61-62]، ﴿وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾[النساء: 94].

وليست في الدنيا شريعة دينية، ولا نظام اجتماعي فرض السلام تدريبًا عمليًا، واعتبره شعيرة من شعائره، وركنًا من أركانه كما فرض الإسلام رياضة النفس على السلام بالإحرام في الحج، فمتى أهل المسلم به، فقد حرم عليه منذ تلك اللحظة أن يقص ظفرًا، أو يحلق شعرًا، أو يقطع نباتًا، أو يعضد شجرًا، أو يقتل حيوانًا، أو يرمى صيدًا، أو يؤذى أحدًا بيد أو لسان حتى لو وجد قاتل أبيه وجهًا لوجهه لما استطاع أن يمسه بشيء ﴿فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ في الْحَجِّ﴾[البقرة: 197] فهو بهذا الإحرام قد أصبح سلمًا لنفسه، سلمًا لغيره من إنسان أو حيوان أو نبات.

والإسلام دين الرحمة. فهي قرين السلام في تحية المسلمين.

ونبي الإسلام إنما أرسله الله رحمة للعالمين.

وشعار المسلم الذى يردده قبل كل قول أو عمل "بسم الله الرحمن الرحيم".

والوصية بين المؤمنين الصبر والمرحمة ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾[البلد: 17-18].

وآيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وأعماله وتصرفاته، كلها تدل على سمو منزلة الرحمة بين الأخلاق التي يأمر بها هذا الدين.

لقد فتحت أبواب الجنة، وشملت مغفرة الله تعالى ومنته رجلاً سقى كلبًا يلهث الثرى من العطش، روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بينما رجل يمشى بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرًا فنزل فيها فشرب ثم خرج وإذا كلب يلهث الثرى من العطش فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ منى، فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب فشكر الله تعالى له فغفر له. قالوا يا رسول الله: وإن لنا في البهائم أجرًا؟ قال: في كل كبد رطبة أجر.

وفتحت أبواب النار لامرأة حبست هرة، وقست عليها، روى البخاري ومسلم أن ابن عمر قال: قال رسول الله: صلى الله عليه وسلم "دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض".

ومن قبل أن تنشأ جمعيات الرفق بالحيوان في أوروبا أو غيرها، كان الرفق بالحيوان شعار الدين الإسلامي، ووصية النبي صلى الله عليه وسلم لكل مسلم. عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا ظهور دوابكم منابر؛ إنما سخرها الله لكم لتبلغوا إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، وجعل لكم الأرض فعليها فاقضوا حاجتكم" رواه أبو داود.

وعن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه رضى الله عنه قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فرأينا حمرة، معها فرخان لها فأخذناهما، فجاءت الحمرة تفرِّش، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها، ورأى قرية نمل قد أحرقناها فقال من أحرق هذه؟ قلنا: نحن، قال: إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار" أخرجه أبو داود أيضًا.

وروى ابن عبد الحكم في سيرة عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه أنه نهى عن ركض الفرس إلا لحاجة، وأنه كتب إلى صاحب السكك: ألا يحملوا أحدًا بلجام ثقيل، ولا ينخس بمقرعة في أسفلها حديدة، وكتب إلى حيان بمصر: إنه بلغني أن بمصر إبلاً نقالات، يحمل على البعير منها ألف رطل فإذا أتاك كتابي هذا، فلا أعرفن أنه يحمل على البعير أكثر من ستمائة رطل. 

وإنما سمى الفسطاط "مصر القديمة" بذلك؛ لأن فساط عمرو بن العاص حين الفتح، اتخذت من أعلاه حمامة عشا لها، فلم يشأ عمرو أن يهيجها بتقويضه، فتركه، وتتابع العمران من حوله فكانت مدينة الفسطاط.

وما ذلك كله إلا أثرًا من آثار الرحمة التي يشيعها الإسلام في نفوس المؤمنين، فهو ولا شك دين المرحمة، وهو ولا شك دين السلام.

وإذا كان الإسلام دين السلام ودين المرحمة، فما موقفه من فكرة الحرب والقتال والجهاد؟ وهل انتشر بالسيف كما يقول عنه كثير من خصومه الذين لم يعرفوه أو تعمدوا أن يتجاهلوه؟ وهل انفرد دون غيره من الأديان بمشروعية القتال؟ هذه هي رءوس الموضوعات التي سنعالجها مختصرة في هذه الكلمات التالية:

الإسلام والحرب

أ-الحرب ضرورة اجتماعية: القاعدة الأساسية التي وضعها الإسلام للحياة، هي -ولا شك- الطمأنينة والسلام والاستقرار، ولكن الإسلام مع هذا دين يواجه الواقع ولا يفر منه، وما دامت في الدنيا نفوس لها نوازع وأهواء ومطامع، وما دام هناك هذا الناموس الذى يطبق على الأفراد والجماعات على السواء، ناموس تنازع البقاء، فلابد إذن من الاشتباك والحرب، وحين تكون الحرب لردع المعتدى، وكف الظالم، ونصرة الحق، والانتصاف للمظلوم تكون فضيلة من الفضائل، وتنتج الخير والبركة والسمو للناس، وحين تكون تحيزًا وفسادًا في الأرض، واعتداء على الضعفاء تكون رذيلة، وتنتج السوء والشر والفساد في الناس.

 ومن هنا جاء الإسلام يقرر هذا الواقع ويصوره، فيقول القرآن الكريم: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾[البقرة: 251] كما يقول في آية أخرى: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ في الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾[الحج: 40-41]، وبذلك كانت أولى نظرات الإسلام إلى الحرب أنها ضرورة اجتماعية، أو شر لابد منه، إلا لما يرجى من ورائه من خير، على حد قول الشاعر العربي:

ذرعًا وإن تلقه بالشر ينحسم                         والشر إن تلقه بالخير ضقت به

فالحرب أجدى على الدنيا من السلم                 والناس إذا ظلموا البرهان واعتسفوا

ب-أغراض الحرب في الإسلام. وفى الوقت الذى يقرر الإسلام فيه هذا الواقع، يحرم الحرب ويسمو بها ولا يدعو إليها أو يشجع عليها إلا لهذه الأغراض الأساسية السامية العالية الحقة:

1-رد العدوان والدفاع عن النفس والأهل والمال والوطن والدين. وفى ذلك يقول القرآن الكريم: ﴿وَقَاتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾[البقرة: 190]، وكانت أول آية من آيات القتال نزلت وفيها الإذن به قول الله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ﴾[الحج: 39-40]، وفى الآية الثالثة ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ اللهِ﴾[النساء: 75] إلخ. وروى مسلم والنسائي عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: أرأيت إن عدي على مالي؟ قال: فانْشُدْ بالله. قال: فإن أبوا علىَّ؟ قال: فانْشُدْ بالله. قال: فإن أبوا علىَّ؟ قال: فانشد بالله. قال: فإن أبوا علىّ؟ قال: فقاتل فإن قُتلتَ ففي الجنة، وإن قتلت ففي النار".

وروى أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن سعد بن زيد رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد".

وروى البخاري والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل فهو شهيد".

2-تأمين حرية الدين والاعتقاد للمؤمنين، الذين يحاول الكافرون أن يفتنوهم عن دينهم، وفى ذلك يقول القرآن الكريم: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾[البقرة: 217]، ويقول في آية أخرى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ فَإِنِ انْتَهَوا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾[البقرة: 193].

3-حماية الدعوة حتى تبلغ إلى الناس جميعًا ويتحدد موقفهم منها تحديدًا واضحًا؛ وذلك أن الإسلام رسالة اجتماعية إصلاحية شاملة تنطوي على أفضل مبادئ الحق والخير والعدل، وتتوجه إلى الناس جميعًا، كما قال الله تبارك وتعالى لنبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾[سبأ: 28] فلابد أن تزول من طريقها كل عقبة تمنع من إبلاغها، ولابد أن يعرف موقف كل فرد وكل أمة بعد هذا البلاغ، وعلى ضوء هذا التحديد تكون معاملة الإسلام وأهله للناس، فالمؤمنون إخوانهم والمعاهدون لهم عهدهم، وأهل الذمة يوفى لهم بذمتهم، والأعداء المحاربون ومن تخشى خيانتهم ينبذ إليهم، فإن عدلوا عن خصومتهم فبها، وإلا حوربوا جزاء اعتدائهم حتى لا يكونوا عقبة في طريق دعوة الحق، أو مصدر تهديد وخيانة لأهلها، لا إكراهًا لهم على قبول الدعوة، ولا محاولة لكسب إيمانهم بالقوة ﴿لاَ إِكْرَاهَ في الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَىِّ﴾[البقرة: 256]، والآيات والأحاديث ناطقة بذلك، مفصلة إياه في مثل قول الله تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ﴾[الأنفال: 58]، ﴿فَلْيُقَاتِلْ في سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ في سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾[النساء: 74]، وقوله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآَخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾[التوبة: 29]، وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾[النساء: 76]، وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله".

4-تأديب ناكثي العهد من المعاهدين أو الفئة الباغية على جماعة المؤمنين التي تتمرد على أمر الله، وتأبى حكم العدل والإصلاح، وفى ذلك يقول القرآن الكريم: ﴿وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا في دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ * أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾[التوبة: 12-13]، ويقول: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا التي تبغى حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[الحجرات: 9].

5-إغاثة المظلومين من المؤمنين أينما كانوا، والانتصار لهم من الظالمين، وفى ذلك يقول القرآن الكريم: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شيء حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ في الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [الأنفال: 72].

ج-تحريم الحرب لغير ذلك من الأغراض، فكل ما سوى هذه الأغراض الإنسانية الإصلاحية الحقة من المقاصد المادية، أو الشخصية، أو النفعية فإن الإسلام لا يجيز الحرب من أجلها بحال من الأحوال، وذلك واضح كل الوضوح من إضافة الإسلام القتال أو الجهاد دائمًا إلى سبيل الله، فلا ترد واحدة من هاتين الكلمتين في بحث من البحوث الإسلامية إلا مقرونة بهذا السبيل، على أن القرآن الكريم قد صرح بتحريم كل قتال لغير هذه الأغراض المشروعة، وأكدت هذا التحريم أحاديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وسجل التاريخ ذلك لأصحابه الذين لم يريدوا بقتالهم شيئًا أبدًا إلا وجه الله، وتحقيق المقاصد المتقدمة كلها أو بعضها، وفى ذلك يقول القرآن الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ في سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾[النساء: 94]، ويقول: ﴿مَا كَانَ لنبي أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ في الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآَخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾[الأنفال: 67-68].

وأخرج الخمسة عن أبى موسى رضى الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله".

وأخرج أبو داود عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، رجل يريد الجهاد في سبيل الله، وهو يبتغى عرضًا من الدنيا. فقال: "لا أجر له". فأعاد عليه ثلاثًا كل ذلك يقول: "لا أجر له".

ولقد تأثر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -حتى الأعراب منهم- بهذا السمو في الغرض من القتال، حتى روى النسائي عن شداد بن الهاد رضى الله عنه أن رجلاً من الأعراب جاء فآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: أهاجر معك؟ فأوصى النبي صلى الله عليه وسلم به بعض أصحابه، فكانت غزاة غنم النبي صلى الله عليه وسلم فيها شيئًا فقسم وقسم له، فقال: ما هذا؟! فقال: قسمته لك، قال: ما على هذا اتبعتك، ولكنى اتبعتك على أن أرمى إلى هاهنا -وأشار بيده إلى حلقه بسهم- فأموت فأدخل الجنة، فقال: إن تصدق الله يصدقك، فلبثوا قليلاً، ثم نهضوا في قتال العدو، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم محمولاً قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أهو هو، قالوا: نعم، قال: صدق الله فصدقه، ثم كفن في جبة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قدمه فصلى عليه، فكان مما ظهر من صلاته: اللهم إن هذا عبدك خرج مهاجرًا في سبيلك فقتل شهيدًا، وأنا شهيد على ذلك.

وصحف التاريخ فياضة بمثل هذه الزهادة منهم في عرض الدنيا وغنائم الفتح، وأن غرضهم من الجهاد لم يكن شيئًا إلا إعلاء كلمة الله، وحماية دعوته في الناس.

د-إيثار السلم كلما أمكن ذلك والتشجيع عليها. فالمسلم لا يحارب إلا مكرهًا على القتال، بعد استنفاد وسائل المسالمة جميعًا، وحين تلوح بارقة أمل في السلم يوجب عليه الإسلام أن ينتهزها، وألا يدع الفرصة تفلت من يده، وعليه أن يعمل على إطفاء نار الحرب ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وفى ذلك يقول القرآن الكريم: ﴿وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[الأنفال: 61]، وروى أبو داود عن الحارث بن مسلم عن أبيه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فلما بلغنا المغار -أي: مكان الغارة- استحثثت فرسى فسبقت أصحابي فتلقاني أهل الحى بالرنين، فقلت لهم: قولوا لا إله إلا الله تحرزوا، فقالوها، فلامني أصحابي وقالوا حرمتنا الغنيمة، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبروه بالذي صنعت، فدعاني فحسن لي ما صنعت، ثم قال لي: "أما إن الله قد كتب لك من كل إنسان منهم كذا وكذا من الأجر، وقال: أما إني سأكتب لك بالوصاة بعدى ففعل وختم عليه ودفعه إليه.

ﻫ-الرحمة في الحرب ومراعاة أعلى آدابها الإنسانية. فإذا كانت الحرب ولابد، فإن المسلم يضرب فيها أروع المثل على الرحمة والتفضل ومراعاة أعلى آدابها الإنسانية، فإذا رجحت كفة المسلمين على أعدائهم، وظهرت الغلبة لهم، فإن عليهم بحكم القرآن الكريم أن يكفوا عن القتل، ويكتفوا بالأسر ليمنوا على الأسير بعد ذلك بحريته، أو يفتدوا به مثله من أساراهم، فيحسنوا إلى إنسانين من عباد الله، وفى ذلك يقول القرآن الكريم: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾[محمد: 4]. وأما الرق فسيأتي تفصيلاً الكلام عنه في بحث آخر، وحسبنا الآن أن نقول: إنه معنى من معانى الرحمة التي شرعها الإسلام في الحرب، فأبدل حكم الإعدام، وهو القتل بحكم السجن المؤبد، وهو الرق بعد الأسر، ثم جعل لهذا السجن بعد ذلك عدة منافذ، يستطيع الأسير فيها أن يسترد حريته بكل سهولة، ولا يبيح الإسلام الرق بحال من الأحوال إلا في هذا الموقف الذى تتجسم فيه معانى الرحمة والإحسان، والمسلم في قتاله لا يغدر، ولا يفجر، ولا يفسد، ولا يتلف، ولا ينهب مالاً، ولا يقتل امرأة ولا طفلاً ولا شيخًا كبيرًا، ولا يتبع مدبرًا، ولا يجهز على جريح، ولا يمثل بقتيل، ولا يسيء إلى أسير، ولا يتعرض لمسالم أو رجل دين، ولا يقصد أن يضرب وجهًا، أو يقتل صبيًا.

أخرج أبو داود عن ابن مسعود رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أعف الناس قِتلةً أهل الإيمان. وأخرج البخاري عن عبد الله بن يزيد الأنصاري قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النهبى والمثلة. 

وأخرج الشيخان عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه".

وأخرج أبو داود عن أبى يعلى قال: غزونا مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فأتى بأربعة أعلاج من العدو، فأمر بهم فقتلوا صبرًا بالنبل، فبلغ ذلك أبا أيوب الأنصاري رضى الله عنه فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن قتل الصبر، فو الذي نفسي بيده لو كانت دجاجة ما صبرتها فبلغ ذلك عبد الرحمن فأعتق أربع رقاب.

وأخرج الستة إلا النسائي عن ابن عمر قال: وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان.

وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي عن بريدة رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر الأمير على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا.

وكانت هذه الوصية شعار الخلفاء والأمراء، يوصون بها دائمًا قواد الجيوش حين يبعثون بهم إلى القتال. أوصى أبو بكر أسامة رضى الله عنه فقال: "لا تخونوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً، ولا شيخًا كبيرًا، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً، ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا للأكل، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم قد فحصوا أوساط رءوسهم وتركوا حولها مثل العصائب فاخفقوهم بالسيف خفقًا" ثم قال: اندفعوا باسم الله.

فهل رأت الساحات والميادين أرق من هذه الأفئدة، وألين من هذه القلوب؟!

و-الوفاء بالعهود والمواثيق والشروط. فإذا كانت هدنة وموثق وعهد وصلح وشرط، فالإسلام يشدد في ملاحظة ذلك، والمحافظة على صورته ومعناه أدق المحافظة، ويتوعد المخالفين من أبنائه إن غدروا ولم يفوا بأشد الوعيد، والآيات والأحاديث في ذلك واضحة محكمة، لا تدع مجالاً لإباحة نقض العهد بالخيانة في وقت القوة، وعده قصاصة ورق عند إمكان الخروج عليه بالحيلة، وفى ذلك يقول القرآن الكريم: 

﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هي أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾[النحل: 91-92]، ﴿إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾[التوبة: 4]، ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً﴾[الإسراء: 34].

وأخرج أبو داود عن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء الصحابة عن آبائهم رضى الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ظلم معاهدًا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفسه فأنا حجيجه يوم القيامة".

قال أهل سمرقند لعاملهم سليمان بن أبى السرى: إن قتيبة غدر بنا وظلمنا، وأخذ بلادنا، وقد أظهر الله العدل والإنصاف، فأذن لنا فليفد منا وفد إلى أمير المؤمنين -وهو يومئذ عمر بن عبد العزيز- يشكون ظلامتنا، فإن كان لنا حق أعطيناه، فإن بنا إلى ذلك حاجة، فأذن لهم، فوجهوا منهم قومًا إلى عمر فلما علم عمر ظلامتهم، كتب إلى سليمان يقول له: إن أهل سمرقند قد شكوا إلى ظلمًا أصابهم، وتحاملاً من قتيبة عليهم حتى أخرجهم من أرضهم، فإذا أتاك كتابي هذا، فأجلس لهم القاضي، فلينظر في أمرهم، فإن قضى لهم فأخرجهم إلى معسكرهم كما كانوا وكنتم من قبل أن يظهر عليهم قتيبة، فأجلس لهم سليمان "جميع بن حاضر" القاضي، فقضى أن يخرج عرب سمرقند إلى معسكرهم وينابذوهم على سواء، فيكون صلحًا جديدًا، أو ظفرًا عنوة، فقال أهل السغد: بل نرضى بما كان، ولا نجدد حربًا؛ لأن أهل الرأي منهم قالوا: قد خالطنا هؤلاء القوم وأقمنا معهم وأمنونا وأمناهم، فإن حكموا لنا عدنا إلى الحرب ولا ندرى لمن يكون الظفر. وإن لم يكن لنا نكون قد اجتلبنا عداوة في المنازعة، فتركوا الأمر على ما كان عليه، ورضوا ولم ينازعوا.

 وهذا منتهى المبالغة في تقصى العدل والوفاء بالعهد.

ز-الجزية: ولسنا نحب أن تمر هذه الكلمات عن موقف الإسلام من الحرب، قبل أن نتناول أمر الجزية بكلمة توضح معناها والمقصود منها، وتكشف عن حكمتها، وكيف أنها أبلغ معاني الإنصاف والمرحمة التي جاء بها الإسلام؟ فنقول:

الجزية: ضريبة كالخراج تجبى على الأشخاص لا على الأرض، والكلمة عربية مشتقة من الجزاء؛ لأنها تدفع نظير شيء هو: الحماية والمنعة، أو الإعفاء من ضريبة الدم والجندية، وذهب بعض العلماء إلى أنها فارسية معربة وأصلها "كزيت" ومعناها: الخراج الذي يستعان به على الحرب، وقال: إن كسرى هو أول من وضع الجزية، وعلى هذا فهي: نظام في الضريبة نقله الإسلام عن الفارسية ولم يبتكره.

ولقد قرر الإسلام ضريبة الجزية على غير المسلمين في البلاد التي يفتحها نظير قيام الجند الإسلامي بحمايتهم وحراسة أوطانهم والدفاع عنها، في الوقت الذى قرر فيه إعفاءهم من الجندية، فهي "بدل نقدى" لضريبة الدم، وإنما سلك الإسلام هذه السبيل ولجأ إليها مع غير المسلمين، من باب التخفيف عليهم، والرحمة بهم، وعدم الإحراج لهم، حتى لا يلزمهم أن يقاتلوا في صفوف المسلمين، فيتهم بأنه إنما يريد لهم الموت والاستئصال والفناء، والتعريض لمخاطر الحرب والقتال، فهي في الحقيقة "امتياز في صورة ضريبة"، وفى الوقت نفسه احتياط لتنقية صفوف المجاهدين من غير ذوى العقيدة الصحيحة، والحماسة المؤمنة البصيرة، ومقتضى هذا: أن غير المسلمين -من أبناء البلاد التي تدخل تحت حكم الإسلام- إذا دخلوا في الجند، أو تكفلوا أمر الدفاع أسقط الإمام عنهم الجزية، وقد جرى العمل على هذا فعلاً في كثير من البلاد التي فتحها خلفاء الإسلام، وسجل ذلك قواد الجيوش الإسلامية في كتب ومعاهدات، لا زالت مقروءة في كتب التاريخ الإسلامي ومنها:

كتاب خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا حين دخل الفرات، وأوغل فيه وهذا نصه: "هذا كتاب من خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا وقومه: إني عاهدتكم على الجزية والمنعة فلك الذمة والمنعة وإن منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا". كتب سنة اثنتي عشرة في صفر.

وفى حمص، رد الأمراء بأمر أبى عبيدة ما كانوا أخذوه من الجزية من أهلها وما إليها، حين جلوا عنها ليتجمعوا لقتال الروم، وقالوا لأهل البلاد: إنما رددنا عليكم أموالكم؛ لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك الآن، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط وما كان بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم، فكان جواب أهل هذه البلاد: ردكم الله علينا ونصركم عليهم، فلو كانوا هم لم يردوا علينا شيئًا وأخذوا كل شيء. لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم، وكذلك فعل أبو عبيدة مع دمشق، وذلك حين كان يتجهز لليرموك.

كتاب العهد الذي كتبه سويد بن مقرن أحد قواد عمر رضى الله عنهما لرزبان وأهل دهستان وسائر أهل جرجان ونصه: "هذا كتاب سويد بن مقرن لرزبان صول بن رزبان وأهل دهستان وسائر أهل جرجان، إن لكم الذمة وعلينا المنعة، على أن عليكم من الجزاء في كل سنة على قدر طاقتكم على كل حالم، ومن استعنا به منكم فله جزاؤه (أي جزيته) في معونته عوضًا من جزائه، ولهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم، ولا يغير شيء من ذلك". شهد سواد بن قطبة وهند بن عمر وسماك بن مخرمة وعتيبة بن النهاس وكتب في سنة 18 ﻫ- الطبري.

كتاب عتبة بن فرقد أحد عمال عمر بن الخطاب وهذا نصه "هذا ما أعطى عتبة بن فرقد عامل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين أهل أذربيجان سهلها وجبلها وحواشيها وشفارها وأهل مللها كلهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم على أن يؤدوا الجزية على قدر طاقتهم، ومن حشر منهم في سنة -أي جند منهم في سنة- وضع عنه جزاء تلك السنة، ومن أقام فله مثل ما لمن أقام من ذلك- الطبري.

العهد الذى كان بين سراقة عامل عمر وبين شهريراز، وقد كتب به سراقة إلى عمر فأجازه واستحسنه وهذا نصه: هذا ما أعطى سراقة بن عمرو عامل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب شهريراز وسكان أرمينية والأرمن من الأمان، أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم وملتهم ألا يضاروا ولا ينتقصوا، وعلى أرمينية والأبواب الطراء منهم -أي: الغرباء- والتناء -أي: المقيمين- ومن حولهم فدخل معهم أن ينفروا لكل غارة وينفذوا لكل أمر ناب أو لم ينب رآه الوالي صلاحًا، على أن يوضع الجزاء -أي: الجزية- عمن أجاب إلى ذلك، ومن استغنى عنه منهم وقعد، فعليه مثل ما على أهل أذربيجان من الجزاء، فإن حشروا -أي: جندوا- وضع ذلك عنهم. شهد عبد الرحمن بن ربيعة وسلمان بن ربيعة وبكير بن عبد الله، وكتب مرضى بن مقرن وشهد- الطبري.

وأخيرًا أمر الجراجمة فيما ذكره البلاذري، فقال: حدثني مشايخ من أهل أنطاكية أن الجراجمة من مدينة على جبل اللكام عند معدن الزاج فيما بين بياس وبوقا يقال لها الجرجومة، وأن أمرهم كان في استيلاء الروم على الشام وأنطاكية إلى بطريق أنطاكية وواليها، فلما قدم أبو عبيدة إلى أنطاكية وفتحها لزموا مدينتهم وهموا باللحاق بالروم، إذ خافوا على أنفسهم فلم ينتبه المسلمون لهم ولم ينبهوا عليهم، ثم إن أهل أنطاكية نقضوا وغدروا فوجه إليهم أبو عبيدة من فتحها ثانية، وولاها بعد فتحها حبيب بن مسلمة الفهري، فغزا الجرجومة فلم يقاتله أهلها، ولكنهم بدروا بطلب الأمان والصلح، فصالحوه على أن يكونوا أعوانًا للمسلمين وعيونًا ومسالح في جبل اللكام، وألا يؤخذوا بالجزية، ودخل من كان في مدينتهم من تاجر وأجير وتابع من الأنباط وغيرهم وأهل القرى في هذا الصلح، ولم يؤخذ الجراجمة بالجزية قط، حتى إن بعض العمال في عهد الواثق العباسي ألزمهم جزية رءوسهم فرفعوا ذلك إليه فأمر بإسقاطها عنهم.

وبهذا البيان يندفع كل ما يوجه إلى "ضريبة الجزية" من نقد أو اتهام، وتظهر حكمة الإسلام ورحمة الله بعباده في تشريعاته واضحة لا غموض فيها ولا إبهام.

ح-الحث على دوام الاستعداد، وكمال الشجاعة إذا تحتم الجهاد:

فإذا كان ولابد من الحرب لغرض من الأغراض الإنسانية المشروعة التي سبقت الإشارة إليها، فإن الإسلام يصرح بأن الجهاد والقتال فريضة على كل مسلم ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216].

وهو حينئذ أفضل القربات إلى الله تبارك وتعالى، والموت في ساحاته "شهادة" توجب الإكبار في الدنيا والجنة في الآخرة، ولا يعفى منه إلا العاجزون عنه، وعليهم أن يجهزوا غيرهم إن كانوا قادرين على ذلك، وأن يخلفوهم في أهليهم بخير ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا في التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾[التوبة: 111].

وأحاديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك أكثر من أن تحصر، وقد باشر هو بنفسه القتال في أكثر من خمس وعشرين معركة كان فيها مثال الشجاعة والنجدة والبأس، حتى قال فارس الصحابة على-كرم الله وجه: "كنا إذا اشتد البأس، وحمى الوطيس، واحمرت الحدق اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون أدنانا إلى العدو". 

وكذلك كان أصحابه رضوان الله عليهم يفعلون. ولا يستطيع أحد أن يرى في هذه الأحكام والأخلاق لمثل ما شرعت له من مقاصد وأغراض إلا أكرم معاني الفضيلة الإنسانية، والجود بالنفس أقصى غاية الجود، وأجمل ما يكون الحق إذا استعان بالقوة، وأفضل ما تكون القوة إذا استخدمت للحق بالحق.

ب-هل انتشرت دعوة الإسلام بالسيف؟ 

أولع خصوم الإسلام في كل عصر -وبخاصة في هذا العصر- بتوجيه هذه التهمة إلى الإسلام، والإسلام منها براء، فهو لم يكره الناس على الإيمان بالسيف، ولم يضعه على رقابهم ليشهدوا بشهادته، أو يدينوا بعقيدته، فهذه التهمة باطلة من وجوه عدة: 

1-باطلة: بشهادة التاريخ الذى يحدثنا بأن النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم مكث بمكة المكرمة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى دينه، كان فيها مضطهدًا أشد الاضطهاد حتى من أهله وعشيرته وأقرب الناس إليه، ومع ذلك فقد احتمل وصبر وصابر، وكان يمر على النفر من أصحابه، والأسرة من المسلمين به يعذبون أشد العذاب، فلا يزيد على أن يقول لهم: "اصبروا آل ياسر إن موعدكم الجنة"، ومع هذا فقد آمن بالإسلام السابقون الأولون الثابتون من أبنائه وأبرهم به في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته أعمق الإيمان، وآمن به الأنصار - وهم أهل المدينة – بالنبي صلى الله عليه وسلم بمجرد أن تحدث معهم في الموسم، وتوافدوا إليه يبايعونه في كل عام حتى كانت بيعة العقبة، وعلى أثرها كانت الهجرة، وكل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقابل أهل العدوان بسيف ولا عصا، ولكن يصبر ويحتسب، ويقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"، وما جاء الإذن بالقتال إلا في السنة الثانية من الهجرة بعد أن كثر خصوم الإسلام من المشركين واليهود وتألبوا عليه وأخذوا يتحرشون به ويكيدون له، فأنزل الله هذه الآيات المحكمة، وفيها أروع صور الإذن بالقتال لأنبل المقاصد والأغراض ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ في الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾[الحج: 39-41]، والتاريخ يحدثنا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم فتحوا البلاد بأخلاقهم وحسن معاملتهم قبل أن يفتحوها بسيوفهم وعدتهم وعددهم، فلا يتصور أن عددًا قليلاً من هؤلاء العرب يثل عرش كسرى، ويدك ملك قيصر، ويرث هذه الإمبراطوريات الضخمة في هذا العدد من السنين بمجرد القوة، ولا يعقل أن ثمانية آلاف جندي يفتحون إقليمًا شاسعًا كمصر وينشرون فيها دينهم ولغتهم وأدبهم وثقافتهم وعقيدتهم بالإكراه والجبروت، ولكن بحسن الأحدوثة، وجميل العمل. وها نحن قد رأينا فيما تقدم كيف أن كثيرًا من أهل هذه البلاد كانوا يتمنون عودة العرب إليهم بعد جلائهم عنهم، فكيف يقال بعد هذا: إن الإسلام قام على السيف وانتشر بالسيف؟!!

وباطلة: بآيات القرآن الكريم، التي تقرر حرية العقيدة، وتقول في وضوح وصراحة: ﴿لاَ إِكْرَاهَ في الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَىِّ﴾[البقرة: 256]، كما تقول: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا﴾[الكهف: 29]، كما تقول: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ﴾[التوبة: 6]، فهو يلزم المؤمنين إن استجار بهم أحد المشركين أن يبلغوه الدعوة، ويوضحوا له مقاصد الإسلام، ثم يحرسوه حتى يصل إلى مأمنه، ويتركوه ليسلم عن رغبة واقتناع، لا عن خوف ورهبة وإكراه.

وباطلة: لأن قواعد الإسلام وما جرى عليه العمل به منها تأباها كل الإباء، فأساس الإيمان في الإسلام الفكر والنظر، والاطمئنان القلبي ﴿قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ في قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: 14] وأساس المؤاخذة في الإسلام بلوغ الدعوة على وجه يدعو إلى النظر، والتقليد في الإيمان ليس أساسًا صحيحًا له فضلاً عن الإكراه عليه، حتى قال بعض العلماء المتأخرين في منظومة فنية:

إيمانه لم يخل من ترديد           إذ كل من قلد في التوحيد

وقول المكره في الإسلام مردود عليه، ولا يؤاخذ على عمله، فالدين الذي يعتبر العقل والحرية أساسًا للاعتقاد والمسئولية لا يمكن أن يقال فيه: إنه يقوم على السيف وينتشر به، وإن كان قد شرع الحرب والقتال لما تقدم من الأغراض التي لا يعترض عليها إلا واهم أو مكابر، وعلامة الإيمان الحق الاطمئنان إليه ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ﴾ [الرعد: 28-29].

هل الإسلام وحده هو الذى أوصى بالسيف لحماية الحق؟

وليس الإسلام وحده هو الذى أشار إلى القتال والحرب والجهاد كوسيلة لحماية الحق، بل إن الشرائع السابقة واللاحقة كلها جاءت بذلك.

فأسفار التوراة التي يتداولها اليهود اليوم طافحة بأنباء القتال والجهاد والحرب والتخريب والتدمير والهلاك والسبي، وهى تقرر شريعة القتال والحرب ولكن في أبشع صورها، فقد جاء في سفر التثنية في الإصحاح العشرين منه عدد 10 وما بعده ما يأتي نصه "حين تقرب من مدينة لكى تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد ذلك، وإن لم تسالمك، بل عملت معك حربًا فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة فتغنمها لنفسك وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك، هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدًا التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا، وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا فلا تبق منها نسمة ما، بل تحرمها تحريمًا الحيثيين والأموريين والكنعانيين والفيرزيين والحويين واليبوسيين كما أمرك الرب إلهك".

وفى إنجيل متى المتداول بأيدي المسيحيين في الإصحاح العاشر عدد 25 وما بعده يقول: "لا تظنوا أنى جئت لألقى سلامًا على الأرض، بل سيفًا فإنني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه، والابنة ضد أمها، والكنة ضد حماتها...... وأعداء الإنسان أهل بيته، من أحب أبا أو أما أكثر منى فلا يستحقني، ومن أحب ابنا أو ابنة أكثر منى فلا يستحقني، ومن لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني، من وجد حياته يضيعها، ومن أضاع حياته من أجلى يجدها".

والقانون الدولي العصري قد اعترف بالظروف والأحوال التي تشرع فيها الحروب ووضع لها قواعدها ونظمها.

وما جاء به الإسلام في هذا الباب أفضل وأدق وأرحم وأبر بالسلام من كل هذا، فلماذا تتوجه إليه الشبهات؟! وليس غيره سبيلاً إلى السلام ﴿قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِى بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾[المائدة: 15-16].

خطوات الإسلام وما وضع من ضمانات لإقرار السلام:

وفى وسعنا بعد هذه النظرات أن نقول: إن الإسلام كان أول وأكمل تشريع خطا في سبيل إقرار السلام العالمي أوسع الخطوات، ورسم لاستقراره أوفى الضمانات التي لو أخذت الأمم بها، وسلك الحكام والزعماء والساسة نهج سبيلها لأراحوا واستراحوا، ومن ذلك:

1-تقديس معنى الإخاء بين الناس، والقضاء على روح التعصب، وقد تقدم موقف الإسلام من ذلك في الفصل السابق.

2-الإشادة بفضل السلام، وطبع النفوس بروح التسامح الكريم، وقد تقدم في أول هذا الفصل موقف الإسلام في ذلك، مع افتراض الوفاء، وتحريم الغدر ونقض العهود والمواثيق.

3-حصر فكرة الحروب في أضيق الحدود، وتحريم العدوان بكل صوره، وإشاعة العدل والرحمة، واحترام النظام والقانون حتى في الحرب نفسها، وللإسلام في ذلك القدح المعلى، ويقول القرآن الكريم تأكيدًا لهذا المعنى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: 8].

4-التأمين المسلح، وقد سبق الإسلام كل الخطوات العصرية إليه في قول القرآن الكريم: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا التي تَبْغِى حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[الحجرات: 9]، ولقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان في الجاهلية من هذا المعنى -وهو حلف الفضول بكل خير- وقال عنه: "لقد شهدت في بيت عبد الله بن جدعان حلفًا ما أحب أن لي به حمر النعم" ثم قال: "ولو سئلت به في الإسلام لأجبت".

أين خطوات زعماء هذا العصر من هذه الخطوات:

وبعد: فأين خطوات زعماء هذا العصر وساسته وعلمائه ومشرعيه وفلاسفته من هذه النظرات؟! وماذا صنعوا لإقرار السلام على الأرض؟! وقد شهدت الدنيا في ربع قرن حربين عالميتين طاحنتين أكلتا الأخضر واليابس، وقامت بعد الحرب الأولى "عصبة الأمم" لإقرار السلام فكتب لها أن تموت قبل أن تولد، ووأدها الذين شهدوا مولدها بالأهواء السياسية والأطماع الاستعمارية، فلم تستطع أن تعالج قضية واحدة من قضايا الخلاف بين الأمم التي اشتركت فيها ووقعت ميثاقها، ولم تلبث إلا ريثما تهيأت الأمم والشعوب للحرب من جديد، وقيل: إن سبب فشلها خلو ميثاقها من النص على العقوبة العسكرية للمخالفين.

وعقب الحرب العالمية الثانية قامت هيئة الأمم المتحدة، وأنشئ مجلس الأمن واستكمل النقص التشريعي في بناء عصبة الأمم الموءودة، ومضى على ذلك وقت طويل، ولا زال الخلاف يشتد أثره ويقوى مظهره، ولم تنجح الهيئة ولا المجلس إلى الآن في علاج قضية أو تسوية خلاف، وليس وراء ذلك إلا الحرب الثالثة، وليس معنى الحرب الثالثة شيئًا إلا فناء الأرض ومن عليها؛ فنحن في عصر القنبلة الذرية.

فهل تفيء الإنسانية الحيرى إلى الله وتتلقى دروس السلام قلبيًا ونظريًا وعمليًا عن الإسلام دين المرحمة والسلام؟ ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [النمل: 59].

النظام الاقتصادي

كتبت تحت عنوان "مشكلاتنا الداخلية في ضوء النظام الإسلامي" عدة كلمات سالفة بينت فيها أن نظام الحكم الإسلامي يعتمد على قواعد ثلاث: 

أ- مسئولية الحاكم.

ب- احترام إرادة الأمة.

ﺟ- والمحافظة على وحدتها.

وإن من حسن الحظ أن هذه هي أيضا دعائم النظام النيابي الحديث الذي اخترناه لأنفسنا، كما بينت أننا لم نطبق هذا النظام ولا ذاك تطبيقا صحيحا، وبذلك اضطربت الأمور تبعا لذلك، فإن هذا الأمر أصل وما عداه تابع له "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".

والحكومة -ولا شك- قلب الإصلاح الاجتماعي كله، فإذا فسدت أوضاعها فسد الأمر كله، وإذا صلحت صلح الأمر كله... وقد أهبت بالقائمين أن يبادروا بالإصلاح، وأن يعودوا إلى الإسلام الحنيف جماع الخير؛ ليهتدوا بهديه ويسيروا على ضوئه، وبغير ذلك لا يمكن أن نظفر بالإصلاح الحقيقي المنشود.

وهنا أتناول "وضعنا الاقتصادي" بمثل هذا البيان، رجاء أن تجد هذه الكلمات المخلصة آذانًا مصغية، وقلوبًا واعية، تستشعر الخطر وتعمل على تلافيه، من قبل أن يستشرى الداء، ويعز الدواء، ويتسع الخرق على الراقع. ولا يحرك النفوس ويثير الخواطر ويؤلم المشاعر شيء كالضائقة المالية، تأخذ بخناق الجماهير، فتحول بينهم وبين الحصول على ضروريات الحياة فضلاً عن كمالياتها. ولا أزمة أعنف من أزمة الرغيف، ولا عضة أقوى من عضة الجوع والمسغبة. ولا حاجة أشد من حاجة القوت، وطالب القوت ما تعدى. دخلت الجارية على محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبى حنيفة، فقالت: يا سيدي. فنى الدقيق. فقال: قاتلك الله! أذهبت من رأسي أربعين مسألة.

واقعنا الاقتصادي

وهناك حقائق لا يستطيع أحد أن ينكرها أو يتجاهلها منها: 

غنى طبيعي

إن هذا البلد ليس فقيرًا بطبيعته، بل لعله أغنى بلاد الله تبارك وتعالى بخيراته الطبيعية وثرواته المختلفة، من زراعية ومائية وحيوانية ومعدنية، ونيله العجيب، وواديه الخصيب، وما شئت من فضل الله تبارك وتعالى على مصر وأهل مصر منذ القدم: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ﴾ [البقرة: 61]. 

استغلال أجنبي:

ومنها أن الأجانب الذين احتلوا هذا الوطن بغفلة من أهله، وتساهل من حكامه، وظلم من غاصبيه، أسعد حالا من أهله وبنيه، وأنهم قد وضعوا أيديهم على أفضل منابع الثروات فيه؛ شركات أو أفرادا، فالصناعة والتجارة، والمنافع العامة، والمرافق الرئيسية، كلها بيد هؤلاء الأجانب حقيقة، أو الأجانب الذين اتخذوا من الجنسية المصرية شعارا ولا زالوا يحنون بعد إلى أوطانهم ويؤثرونها بأكبر أرباحهم، وإن كثيرا من هؤلاء الأجانب لما يزال ينظر إلى المواطن المصري، والعامل المصري، والحاكم المصري، نظرة لا تقدير فيها ولا إنصاف.

ثراء فاحش وفقر مدقع:

ومنها أن التفاوت عظيم، والبون شاسع، والفرق كبير بين الطبقات المختلفة في هذا الشعب، فثراء فاحش وفقر مدقع، والطبقة المتوسطة تكاد تكون معدومة، والذي نسميه نحن الطبقة المتوسطة ليس إلا من الفقراء المعوزين، وإن كنا نسميهم متوسطين على قاعدة "بعض الشر أهون من بعض". ورحم الله فقهاءنا الذين حبَّروا البحوث الطويلة في الفرق بين الفقراء والمساكين، وإن كان كلاهما من المحتاجين البائسين. 

تخبط اقتصادي:

ومنها -وهو الأهم- أننا في وسط هذا المعترك الحاد الصاخب العنيف بين المبادئ الاقتصادية من رأسمالية أو اشتراكية أو شيوعية، لم نحدد لونًا نصبغ به حياتنا الاقتصادية، في وقت تحتم فيه التحديد، وتعقدت فيه الأمور، بحيث لم تعد تنفع فيه أنصاف الحلول، ولم يعد يجدي إلا الوضوح الكامل، وتحديد الأهداف تحديدًا دقيقًا، والسير إليها في قوة وعزيمة. 

وهذه الأوضاع -وإن امتزجت بها المعاني السياسية- إلا أنها في أغلب صورها ودوافعها ونتائجها تعاليم وأوضاع اقتصادية. ولهذا لا بد لنا من أن نختار لونًا من هذه الألوان -أو من غيرها إن استطعنا- لنعيش في حدود وضع معلوم له خصائصه ومميزاته، يحدد أهدافنا الرئيسية، ويرسم لنا طريق العمل للوصول إلى هذه الأهداف. 

إلى الإسلام:

وأعتقد أنه لا خير لنا في واحد من هذه النظم جميعًا، فلكل منها عيوبه الفاحشة، كما له حسناته البادية، وهى نظم نبتت في غير أرضنا لأوضاع غير أوضاعنا، ومجتمعات فيها غير ما في مجتمعنا... فضلاً عن أن بين أيدينا النظام الكامل الذى يؤدى إلى الإصلاح الشامل في توجيهات الإسلام الحنيف، وما وضع للاقتصاد القومي من قواعد كلية أساسية، لو علمناها وطبقناها تطبيقًا سليمًا، لانحلت مشكلاتنا، ولظفرنا بكل ما في هذه النظم من حسنات، وتجنبنا كل ما فيها من سيئات، وعرفنا كيف يرتفع مستوى المعيشة وتستريح كل الطبقات، ووجدنا أقرب الطرق إلى الحياة الطيبة. 

قدمت في الكلمة السابقة أن مصر تتقاذفها الألوان الاقتصادية وتتضارب فيها النظم والآراء العصرية، من رأسمالية أو اشتراكية أو شيوعية، وأن من الخير كل الخير أن تبرأ من هذه الألوان كلها، وأن تركز حياتها الاقتصادية على قواعد الإسلام وتوجيهاته العليا، وتستمد منه وتعتمد عليه، وذلك تسلم من كل ما يصحب هذه الآراء من أخطاء وما يلصق بها من عيوب، وتنحل مشاكلنا الاقتصادية من أقصر طريق.

قواعد النظام الاقتصادي في الإسلام

ويتلخص نظام الإسلام الاقتصادي في قواعد أهمها: 

1 - اعتبار المال الصالح قوام الحياة، ووجوب الحرص عليه، وحسن تدبيره وتثميره.

2 - إيجاب العمل والكسب على كل قادر.

3 - الكشف عن منابع الثروات الطبيعية، ووجوب الاستفادة من كل ما في الوجود من قوى ومواد.

4 - تحريم موارد الكسب الخبيث.

5 - تقريب الشقة بين مختلف الطبقات، تقريبًا يقضى على الثراء الفاحش والفقر المدقع. 

6- الضمان الاجتماعي لكل مواطن، وتأمين حياته، والعمل على راحته وإسعاده.

7 - الحث على الإنفاق في وجوه الخير، وافتراض التكافل بين المواطنين، ووجوب التعاون على البر والتقوى. 

8 - تقرير حرمة المال، واحترام الملكية الخاصة ما لم تتعارض مع المصلحة العامة.

9 - تنظيم المعاملات المالية بتشريع عادل رحيم، والتدقيق في شئون النقد.

10 - تقرير مسئولية الدولة في حماية هذا النظام. 

والذي ينظر في تعاليم الإسلام، يجد فيه هذه القواعد مبينة في القرآن الكريم والسنة المطهرة وكتب الفقه الإسلامي بأوسع بيان. 

المال الصالح قوام الحياة:

فقد امتدح الإسلام المال الصالح، وأوجب الحرص عليه وحسن تدبيره وتثميره، وأشاد بمنزلة الغنى الشاكر الذي يستخدم ماله في نفع الناس ومرضاة الله، وليس في الإسلام هذا المعنى الذي يدفع الناس إلى الفقر والفاقة من فهم الزهد على غير معناه. 

وما ورد في ذم الدنيا والمال والغنى والثروة إنما يراد به ما يدعو إلى الطغيان والفتنة والإسراف، ويستعان به على الإثم والمعصية والجور وكفران نعمة الله، وفى الحديث "نعم المال الصالح للرجل الصالح"، وفى الآية الكريمة: ﴿وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ التي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ [النساء: 5]. 

وفى ذلك الإشارة إلى أن الأموال قوام الأعمال، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال في غير وجهه، فقال: "إن الله ينهاكم عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال"، كما أن من مات مدافعا عن ماله فهو شهيد كما جاء في الحديث: "من مات دون عرضه فهو شهيد، ومن مات دون ماله فهو شهيد..." الحديث.

العمل على كل قادر

وفى الإسلام الحث على العمل والكسب، واعتبار الكسب واجبًا على كل قادر عليه، والثناء كل الثناء على العمال المحترفين، وتحريم السؤال، وإعلان أن من أفضل العبادة العمل، وأن العمل من سنة الأنبياء، وأن أفضل الكسب ما كان من عمل اليد، والزراية على أهل البطالة، والذين هم عالة على المجتمع مهما كان سبب تبطلهم -ولو كان الانقطاع لعبادة الله- فإن الإسلام لا يعرف هذا الضرب من التبطل. والتوكل على الله إنما هو الأخذ بالأسباب وأيضًا بالنتائج، فمن فقد أحدهما فليس بمتوكل.. والرزق المقدور مقرون بالسعي الدائب، والله تبارك وتعالى يقول: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [التوبة: 105]. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده"، ويقول عمر: "لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق وهو يقول اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة"، وفي الحديث: "ولا يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم".

الكشف عن منابع الثروات

كما أن فيه لفت النظر إلى ما في الوجود من منابع الثروة ومصادر الخير، والحث على العناية بها ووجوب استغلالها، وأن كل ما في هذا الكون العجيب مسخر للإنسان ليستفيد منه وينتفع به: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا في السَّمَوَاتِ وَمَا في الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ [لقمان: 20]، ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا في السَّمَوَاتِ وَمَا في الأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [الجاثية: 13]. ومن قرأ آيات القرآن الكريم علم تفصيل ذلك بأوسع بيان وأوفاه. 

تحريم الكسب الخبيث

ومن تعاليمه: تحريم موارد الكسب الخبيثة، وتحديد الخبث في الكسب بأنه ما كان بغير مقابل من عمل: كالربا والقمار واليانصيب ونحوها. أو كان بغير حق: كالنصب والسرقة والغش ونحوها. أو كان عوضًا لما يضر: كثمن الخمر والخنزير والمخدر ونحوها. فكل هذه موارد للكسب لا يبيحها الإسلام ولا يعترف بها. 

التقريب بين الطبقات

وقد عمل الإسلام على التقريب بين الطبقات بتحريم الكنز ومظاهر الترف على الأغنياء، والحث على رفع مستوى المعيشة بين الفقراء، وتقرير حقهم في مال الدولة ومال الأغنياء، ووصف الطريق العملي لذلك. 

وأكثر من الحث على الإنفاق في وجوه الخير والترغيب في ذلك، وذم البخل والرياء والمنّ والأذى، وتقرير طريق التعاون والقرض الحسن ابتغاء مرضاة الله تبارك وتعالى ورجاء ما عنده: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2]. 

حرمة المال واحترام الملكيات

وقرر حرمة المال، واحترام الملكية الخاصة ما دامت لا تتعارض مع المصلحة العامة: "كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله".. و"لا ضرر ولا ضرار". 

تنظيم المعاملات المالية

وشرع تنظيم المعاملات المالية في حدود مصلحة الأفراد والمجتمع، واحترام العقود والالتزامات، والدقة في شئون النقد والتعامل به، حتى أفردت له أبواب في الفقه الإسلامي تحرم التلاعب فيه كالصرف ونحوه، ولعل هنا موضعًا من مواضع الحكمة في تحريم استخدام الذهب والفضة باعتبارهما الرصيد العالمي للنقد.

الضمان الاجتماعي

وقرر الضمان الاجتماعي لكل مواطن، وتأمين راحته ومعيشته -كائنًا من كان- مادام مؤديًا لواجبه، أو عاجزًا عن هذا الأداء بسبب قهري لا يستطيع أن يتغلب عليه. ولقد مر عمر على يهودي يتكفف الناس، فزجره واستفسر عما حمله على السؤال، فلما تحقق من عجزه رجع على نفسه باللائمة وقال له: "ما أنصفناك يا هذا، أخذنا منك الجزية قويًّا، وأهملناك ضعيفًا، افرضوا له من بيت المال ما يكفيه".

وهذا مع إشاعة روح الحب والتعاطف بين الناس جميعًا. 

مسئولية الدولة

وأعلن مسئولية الدولة عن حماية هذا النظام، وعن حسن التصرف في المال العام، تأخذه بحقه وتصرفه بحقه، وتعدل في جبايته، ولقد قال عمر ما معناه: "إن هذا المال مال الله، وأنتم عباده، وليصلن الراعي بأقصى الأرض قسمه من هذا المال، وإنه ليرعى في غنمه، ومن غَلّ غلّ في النار".

استغلال النفوذ.. من أين لك هذا؟

كما حظر الإسلام استخدام السلطة والنفوذ، ولعن الراشي والمرتشي والرائش، وحرم الهدية على الحكام والأمراء، وكان عمر يقاسم عمّاله ما يزيد عن ثرواتهم، ويقول لأحدهم: "من أين لك هذا؟ إنكم تجمعون النار وتورثون العار". وليس للوالي من مال الأمة إلا ما يكفيه، وقد قال أبو بكر لجماعة المسلمين حين ولى عليهم: "كنت أحترف لعيالي فأكتسب قوتهم، وأنا الآن أحترف لكم، فافرضوا لي من بيت مالكم"، ففرض له أبو عبيدة قوت رجل من المسلمين ليس بأعلاهم ولا بأوكسهم، وكسوة الشتاء، وكسوة الصيف، وراحلة يركبها ويحج عليها، وقُوُّمت هذه الفريضة بألفي درهم.. ولما قال أبو بكر: لا يكفيني، زادها له خمسمائة.. وقُضى الأمر. 

تلك هي روح النظام الاقتصادي في الإسلام، وخلاصة قواعده أوجزناها منتهى الإيجاز، ولكل واحدة منها تفصيل يستغرق مجلدات ضخامًا، ولو اهتدينا بهديها وسرنا على ضوئها لوجدنا في ذلك الخير الكثير. 

 

استقلال النقد

ذكرنا بعض الأصول التي يقوم عليها النظام الاقتصادي الإسلامي، والروح التي تمليها علينا تلك الأصول، التي تنتج مع التطبيق الصحيح وضعا اقتصاديا سليما ليس أفضل منه، فهي توجب استقلال نقدنا، واعتماده على رصيد ثابت من مواردنا ومن ذهبنا، لا على أذونات الخزانة البريطانية ودار الضرب البريطانية والبنك الأهلي البريطاني -وإن كان مقره مصر- وتأمل الآية الكريمة: ﴿وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ التي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ [النساء: 5]. 

ومن أفظع التغرير بهذا الشعب، أن يسلم جهوده ومنتجاته نظير أوراق لا قيمة لها إلا بالضمان الإنجليزي، وإن مصر إذا حزمت أمرها، وأحكمت تصرفاتها، ستصل ولا شك إلى هذا الاستقلال... 

ولقد انفصلنا عن الكتلة الإسترلينية، وفكرنا في تأميم البنك الأهلي، وطالبنا بالديون الكثيرة التي لنا على الإنجليز، وكل هذه ونحوها مشروعات تؤمن النقد المصري... فماذا فعل الله بها؟ وماذا أعددنا العدة لإنفاذها؟

ولعل من المفارقات أن أكتب هذه الكلمات في الوقت الذي يذاع فيه أن المفاوضات بين مصر وإنجلترا حول الأرصدة الإسترلينية باءت أو قاربت أن تبوء بالفشل، لتعنت الإنجليز وتمسكهم بألا يدفعوا لمصر عن سنة 1948 أكثر من 12 مليونا، في الوقت الذي تطلب فيه مصر طلبا متواضعا هو 18 مليونا.

ولقد أنتج ضعف الرقابة على النقد، والاستهانة بأمره استهانة بلغت حد الاستهتار، هذه المآسي التي نصطلى بنارها من التضخم الذي استتبع غلاء المعيشة، وصعوبة الاستيراد والتصدير.

ولم يحدث في تاريخ الدول الراقية -فيما نعلم- أن بنكا يستغل قرارا من وزير هذا الاستغلال الشائن، كما فعل ذلك البنك الأهلي بقرار وزارة المالية غير الموقع عليه من أحد في يونيو سنة 1916، فيصدر بمقتضاه من الأوراق ما يشاء. 

تمصير الشركات

كما توجب هذه الأصول الاهتمام الكامل بتمصير الشركات، وإحلال رءوس الأموال الوطنية محل رءوس الأموال الأجنبية كلما أمكن ذلك، وتخليص المرافق العامة -وهي أهم شيء للأمة- من يد غير أبنائها، فلا يصح بحال أن تكون الأرض والبناء والنقل والماء والنور والمواصلات الداخلية والنقل الخارجي -حتى الملح والصودا- في يد شركات أجنبية تبلغ رءوس أموالها وأرباحها الملايين من الجنيهات، لا يصيب الجمهور الوطني ولا العامل الوطني منها إلا البؤس والشقاء والحرمان. 

استغلال منابع الثروة

واستغلال منابع الثروة الطبيعية استغلالاً سريعًا منتجًا، أمر يوجبه الإسلام، الذي لفت أنظارنا كتابه إلى آثار رحمة الله في الوجود، وما أودع في الكون من خيرات في الأرض وفى السماء، وأفاض في أحكام الركاز، وحث على طلب الخير أينما كان. في الماء عندنا ثروات، وفى الصحارى ثروات، وفى كل مكان ثروات، لا ينقصها إلا فكر يتجه، وعزيمة تدفع، ويد تعمل، وخذ بعد ذلك من الخير ما تشاء: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾[فاطر: 27-28]، والعلماء هنا -فيما أظن- الذين يعلمون علم الكائنات وما فيها للناس من خير، وما يتجلى في دقيق صنعها من واسع علم الله خالق الأرض والسموات. 

والعناية بالمشروعات الوطنية الكبرى المهملة التي طال عليها الأمد، وقعد بها التراخي والكسل، أو أحبطتها الخصومة الحزبية أو طمرتها المنافع الشخصية، أو قضت عليها الألاعيب السياسية والرشوة الحرام، كل هذه يجب أن تتوجه إليها الهمم من جديد: "إن الله يحب من أحدكم إذا عملَ عملاً أن يتقنه".

كم كنا نربح لو أن مشروع خزان أسوان تحقق فعلا منذ سنة 1937، وكم كنا نحتاج ونعرى لو لم يلهم الله طلعت حرب -عليه الرضوان- أن يتقدم بمشروعات (المحلة). 

هناك مشروعات كثيرة درست وبحثت، ثم وضعت على الرف وطال عليها الأمد قبل الحرب، ولا موجب لهذا الإهمال، والضرورة قاسية والحاجة ملحة، والأمر لا يحتمل التأخير. 

انفضوا الغبار عن ملفات هذه المشروعات واستذكروها من جديد ونفذوا: ﴿فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾[التوبة:105]. 

الصناعة

والتحول إلى الصناعة فورًا من روح الإسلام الذي يقول نبيه صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب المؤمن المحترف", "من أمسى كالاً من عمل يده أمسى مغفورًا له". والذي أثنى كتابه على داود وسليمان بهذا التقدم الصناعي، وذكر لنا من دقائق الرقى فيه ما أعجز البشر، واستغل قوى الجن والشياطين..

حرام على الأمة التي تقرأ في كتابها من الثناء على داود عليه السلام: ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ، أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ في السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [سبأ: 10-11]، وتقرأ: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ﴾ [الأنبياء: 80]، ثم لا يكون فيها مصنع للسلاح. 

ثم تقرأ في كتابها: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ، يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا﴾ [سبأ: 12-13].. ثم لا يكون فيها مسبك عظيم، ولا مصنع كامل للأدوات المعدنية. 

ثم تقرأ: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾[الحديد: 25].. ثم تهمل ما عندها من هذا المعدن هذا الإهمال، وهو من أجود الأنواع ويكفي العالم مائتي عام كما قدر الخبراء...

حرام هذا كله!!! 

نظام الملكيات في مصر

توجب علينا روح الإسلام الحنيف، وقواعده الأساسية في الاقتصاد القومي، أن نعيد النظر في نظام الملكيات في مصر، فنختصر الملكيات الكبيرة، ونعوض أصحابها عن حقهم بما هو أجدى عليهم وعلى المجتمع، ونشجع الملكيات الصغيرة، حتى يشعر الفقراء المعدمون بأن قد أصبح لهم في هذا الوطن ما يعنيهم أمره، ويهمهم شأنه.. وأن نوزع أملاك الحكومة حالاً على هؤلاء الصغار كذلك حتى يكبروا. 

تنظيم الضرائب

وتوجب علينا روح الإسلام في تشريعه الاقتصادي، أن نبادر بتنظيم الضرائب الاجتماعية، وأولها ضريبة الزكاة"، وليس في الدنيا تشريع فرض الضريبة على رأس المال لا على الربح وحده كالإسلام، وذلك لحكم جليلة منها: محاربة الكنز وحبس الأموال عن التداول، وما جعلت الأموال إلا وسيلة لهذا التداول الذي يستفيد من ورائه كل الذين يقع في أيديهم هذا المال المتداول..

وإنما جعل الإسلام مصارف الزكاة اجتماعية بحتة لتكون سببًا في جبر النقص والقصور الذي لا تستطيع المشاعر الإنسانية والعواطف الطيبة أن تجبره، فيطهر بذلك المجتمع ويزكو، وتصفو النفوس وتسمو: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ [التوبة: 103]. 

فلا بد من العناية بفرض ضرائب اجتماعية على النظام التصاعدي -بحسب المال لا بحسب الربح- يعفى منها الفقراء طبعًا، وتجبى من الأغنياء الموسرين، وتنفق في رفع مستوى المعيشة بكل الوسائل المستطاعة.. ومن لطائف عُمر رضى الله عنه، أنه كان يفرض الضرائب الثقيلة على العنب لأنه فاكهة الأغنياء، والضريبة التي لا تذكر على التمر لأنه طعام الفقراء، فكان أول من لاحظ هذا المعنى الاجتماعي في الحكام والأمراء رضى الله عنه. 

محاربة الربا

ويوجب علينا روح الإسلام أن نحارب الربا حالاً، ونحرمه ونقضى على كل تعامل على أساسه: "ألا وإن الربا موضوع، وأول ربا أبدأ به ربا عمى العباس بن عبد المطلب" وصدق رسول الله. 

ولقد كان المصلحون يتجنبون أن يقولوا في الماضي هذا الكلام حتى لا يقال لهم إن هذا مستحيل، وعليه دولاب الاقتصاد العالمي كله، أما اليوم.. فقد أصبحت هذه الحجة واهية ساقطة لا قيمة لها بعد أن حرمّت روسيا الربا وجعلته أفظع المنكرات في دارها، وحرام أن تسبقنا روسيا الشيوعية إلى هذه المنقبة الإسلامية، فالربا حرام... حرام... حرام وأولى الناس بتحريمه أمم الإسلام ودول الإسلام. 

تشجيع الصناعات المنزلية

وتوجب علينا روح الإسلام تشجيع الصناعات اليدوية المنزلية، وهذا هو باب الإسعاف السريع لهذه العائلات المنكوبة، وباب التحول إلى الروح الصناعي والوضع الصناعي.. وأول ما تفعله هذه الأيدي العاطلة، الغزل والنسيج بالأنوال الصغيرة، وصناعة الصابون، وصناعة العطور والمربيات، وأنواع كثيرة من صنوف كبيرة تستطيع النساء والبنات والأولاد أن يشغلوا الوقت فيها، فتعود بالربح الوفير، وتمنعهم بؤس الحاجة وذل السؤال..

وقد رأينا هذا بأعيننا منذ زمن في "فوه" غربية، و"بنى عدى" منفلوط، وغيرها من بلدان القطر المصري، ورأينا في هذه البلاد الثروة والغنى ويسر الحال. ولقد كانت وزارة الشئون قد فكرت في هذا المشروع الحيوي، واستحضرت أصنافا من المغازل، ولا ندرى ماذا فعل الله بها... ويوم الحكومة بسنة كما يقولون، ولكن الأمر لم يعد يحتمل الانتظار.

تقليل الكماليات والاكتفاء بالضروريات

وإرشاد الشعب إلى التقليل من الكماليات والاكتفاء بالضروريات، وأن يكون الكبار في ذلك قدوة للصغار، فتبطل هذه الحفلات الماجنة، ويحرم هذا الترف والإسراف الفاسد، وظهور الجد بخشونته وعبوسته ووقاره وهيبته على الدور والقصور والوجوه والمنتديات.. أمر يحتمه الإسلام الحنيف، وكل ذلك يحتاج إلى إعداد. 

هذه كلها واجبات لابد أن ننهض بأعبائها حالاً.. فإلى العمل. 

خاتمة

وبعد... فهنا نحن قد رأينا مما تقدم كيف أننا لم نسر على نظام اقتصادي معروف لا نظريًّا ولا عمليًّا، وأن هذا الغموض والارتجال قد أدَّيا بنا إلى ضائقة أخذت بمخانق الناس جميعًا. 

وليس الشأن أن نرتجل الحلول، ونواجه الظروف بالمخدرات والمسكنات التي يكون لها من رد الفعل ما ينذر بأخطر العواقب، ولكن المهم في أن ننظر إلى الأمور نظرة شاملة محيطة، وأن نردها إلى أصل ثابت تستند إليه، وترتكز عليه. وليس ذلك إلا "النظام الإسلامي" الشامل الدقيق، وفيه خير السداد. 

لقد أتاح الله لنا من أسباب اليسر الاقتصادي والنجاح المادي ما لم يتحه لغيرنا من الأمم والشعوب، فهذه الرابطة الوثيقة من اللغة والعقيدة والمصلحة والتاريخ بيننا وبين أمم العروبة والإسلام، وهي بحمد الله أغنى بلاد الله في أرضه: أخصبها تربة، وأعدلها جوًّا، وأكثرها خيرات، وأثراها بالمواد الأولية وبالخامات من كل شيء..

هذه الرابطة تمهد لنا -لو أحسنا الانتفاع بها- سبيل الاكتفاء الذاتي والاستقلال الاقتصادي، وتنقذنا من هذا التحكم الغربي في التصدير والاستيراد وما إليهما. 

ولا يكلفنا الأمر أكثر من أن نعزم ونتقدم، ونقوى الصلة، ونحكم الرابطة، ونوالى البعثات والدراسات، ونحاول بكل سبيل إنشاء أسطول تجارى، ونشيع روح الوحدة والتعاون بيننا وبين أمم العروبة وشعوب الإسلام. 

لقد صبر الشعب المصري صبرًا طويلاً على هذه الحياة الجافة القاسية، وهذا الحرمان العجيب الذي لا يصبر عليه آدمي إلا بمعجزة من معجزات الإيمان، ومن نظر إلى العامل المصري والفلاح المصري ومن إليهما من عامة الشعب المصري، أخذه العجب مما يشاهد من فاقة وصبر. 

لقد أخجلني أحد الإخوان الهنود -وقد قدم من إنجلترا- حين عاد من جولة قصيرة في القاهرة، يقول لي: لقد كنا نظن أن ما تنشره الصحف في إنجلترا من سوء حالة الشعب المصري، وانخفاض مستوى معيشته، مجرد دعاية يراد بها الحطّ من كرامته، ولكنى قضيت هذه الفترة القصيرة في القاهرة وزرت بعض أحياء عامتها فأسفت لما رأيت، فخجلت لقوله هذا، ولكنني رددت عن نفسي وعن الشعب بقولي له: سل هذه الجرائد التي تنشر، أليس هذا البؤس من مظالم الاحتلال؟

وتألمت مرة ثانية حين وجه إلىّ مدير شركة أجنبي قوله: أأنت راضٍ عن حال هؤلاء العمال المساكين؟! ولكنني رددت عليه أيضًا: أولست تعلم أن السبب في هذه المسكنة استئثار هذه الشركات وبخلها على هؤلاء العمال بما يوازى ضروريات الحياة؟!

إن الأمر جدٌ لا هزل فيه، وقد بلغ غايته، ووصل إلى مداه، ولا بد من علاج حاسم وسريع، ولن نجده كما قلت إلا في طب الإسلام الحنيف وعلاجه.

فيا رئيس الحكومة.

ويا رؤساء الهيئات والجماعات.

 ويا من يعنيهم أمر الطمأنينة والسلام في هذا الوطن..

تداركوا الأمر بحزم... وعودوا إلى نظام الإسلام

ألا هل بلغت .. اللهم فاشهد

المقال التالي رسالة هل نحن قوم عمليون
المقال السابق الدستور في فكر الإمام حسن البنا