إعداد موقع الإمام حسن البنا
في فترة عصيبة من تاريخ أمتنا، وفى ظل معترك صاخب بالأفكار والتيارات يبرز الإمام حسن البنا، ويقف على رأس الداعين إلى الإسلام عقيدة وشريعة وفكرًا وثقافة وقانونًا ومنهج حياة، وينضم إلى قافلة المجددين، ويقدم مشروعًا نهضويًّا جديدًا يرتكز على الإسلام، ويراعى المصلحة ثم الواقع، ويجمع بين المرونة والثبات أو الثوابت والمتغيرات.
إلى الأمة الناهضة
ليس فى الدنيا نظام يمد الأمة الناهضة بما تحتاج إليه من نظم وقواعد وعواطف ومشاعر كما يمد لإسلام بذلك كله أممه الناهضة، ولقد امتلأ القرآن الكريم بتصوير هذه الناحية خاصة، وضرب الأمثال فيها بالإجمال تارة وبالتفصيل تارة أخرى، وعالج هذه النواحى علاجًا دقيقًا واضحًا لا تأخذ به أمة حتى تصل إلى ما تريد، إن الإسلام صور قصة بنى إسرائيل وأدوار حياة أممهم تصويرًا اجتماعيًا رائعًا يصح أن يكون أجمع النماذج فى باب نهضات الأمم، وما يعرض لها من حوادث جسام، كما صور حياة كثير من الأمم هذا التصوير، فلم يدع حاجة فى نفس أمة تريد أن تنهض. ونتناول بعض ذلك بالتفصيل الموجز.
الإسلام والأمل:
تحتاج الأمة الناهضة إلى الأمل الواسع الفسيح، وقد أمد القرآن أممه بهذا الشعور بأسلوب يخلق من الأمة الميتة أمة كلها حياة وهمة وأمل وعزم، وحسبك أنه يجعل اليأس سبيلاً إلى الكفر، والقنوط من مظاهر الضلال، وإن أضعف الأمم إذا سمعت قوله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِى الأَرْضِ﴾[القصص: 5-6]، وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾[آل عمران: 139-140]، وقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِى أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِى الأبْصَارِ﴾[الحشر: 2]، وقوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾[البقرة: 214].
إن أضعف الأمم إذا سمعت هذا التبشير كله وقرأت ما إليه من قصص تطبيقية واقعية لابد أن تخرج بعد ذلك أقوى الأمم إيمانًا وروحًا، ولابد أن ترى فى هذا الأمل ما يدفعها إلى اقتحام المصاعب مهما اشتدت، ومقارعة الحوادث مهما عظمت، حتى تظفر بما تصبو إليه من كمال.
الإسلام والعزة القومية والوطنية:
[وإن حاجة] الأمم الناهضة إلى الاعتزاز بقوميتها كاملة فاضلة مجيدة لها مزاياها وتاريخها؛ حتى تنطبع تلك الصورة فى نفوس الأبناء، فيفدون ذلك المجد والشرف بدمائهم وأرواحهم، ويعملون لخير هذا الوطن وإعزازه وإسعاده. هذا المعنى لن تراه واضحًا فى نظام من النظم عادلاً فاضلاً رحيمًا كما هو فى الإسلام الحنيف، فإن الأمة التى تعلم أن كرامتها وشرفها قد قدسه الله فى سابق علمه، وسجله فى محكم كتابه فقال تبارك وتعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾[آل عمران: 110]، وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾[البقرة: 143]، [وقال تعالى:] ﴿وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾[المنافقون: 8] لهى أجدر الأمم بافتداء عزتها الربانية بالدنيا وما فيها.
ولقد عملت الأمم الحديثة على ترسيخ هذا المعنى فى نفوس شبابها ورجالها وأبنائها جميعًا، ومن هذا سمعنا: "ألمانيا فوق الجميع" و"إيطاليا فوق الجميع" و"سودى يا بريطانيا واحكمى"، ولكن الفارق بين الشعور الذى يمليه المبدأ الإسلامى وبين الشعور الذى أملته هذه الكلمات والمبادئ، أن شعور المسلم يتسامى حتى يتصل بالله على حين ينقطع شعور غيره عند حد القول فقط، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الإسلام حدد الغاية من خلق هذا الشعور وشدد فى التزامها، وبين أنها ليست العصبية الجنسية والفخر الكاذب، بل قيادة العالم إلى الخير، ولهذا قال تبارك وتعالى: ﴿تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾[آل عمران: 110]، ومعنى ذلك: مناصرة الفضيلة ومقارعة الرذيلة واحترام المثل الأعلى وملاحظته عند كل عمل، ولهذا أنتج الشعور بهذه السيادة فى السلف المسلم منتهى ما أثر عن الأمم من عدالة ورحمة، أما مبدأ السيادة فى نفس الأمم الغربية فلم يحدد غايته بغير العصبية الخاطئة، ولهذا أنتج التناحر والعدوان على الأمم الضعيفة، فكأن المبدأ الإسلامى أخذ خير ما فى هذه الناحية وأراد أن ينطبع بذلك أبناؤه، وجنبهم ما فيها من شر وطغيان، ولقد وسع الإسلام حدود الوطن الإسلامى، وأوصى بالعمل لخيره، والتضحية فى سبيل حريته وعزته، فالوطن فى عرف الإسلام يشمل:
1- القطر الخاص أولاً.
2- ثم يمتد إلى الأقطار الإسلامية الأخرى فكلها للمسلم وطن ودار.
3- ثم يرقى إلى الإمبراطورية الإسلامية الأولى التى شادها الأسلاف بدمائهم الغالية العزيزة، فرفعوا عليها راية الله، ولا تزال آثارهم فيها تنطق بما كان لهم من فضل ومجد، فكل هذه الأقاليم يسأل المسلم بين يدى الله تبارك وتعالى لماذا لم يعمل على استعادتها؟
4- ثم يسمو وطن المسلم بعد ذلك كله حتى يشمل الدنيا جميعًا.
ألست تسمع قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ﴾[الأنفال: 39]؟ وبذلك يكون الإسلام قد وفق بين شعور الوطنية الخاصة وشعور الوطنية العامة بما فيه الخير كل الخير للإنسانية جمعاء(1).
إلى الأمة الناهضة
الصحة العامة:
لما كانت الأمم الناهضة فى حاجة إلى الجندية الفاضلة وكان قوام الجندية صحة الأبدان وقوة الأجسام، أشار القرآن إلى هذا المعنى فى سياق قصة أمة مجاهدة تحفزت للنهوض بعبء النضال فى سبيل حريتها واستقلالها وتكوين نفسها، فاختار الله لها زعيمًا قوى الفكر، قوى البدن، قوى الخلق، وجعل من أركان نهوضه بعبئه قوة بدنه، فذلك ما حكاه القرآن الكريم عن بنى إسرائيل فى تزكية الزعيم طالوت قال: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِى الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾[البقرة: 247]، ولقد شرح الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المعنى فى كثير من أحاديثه وحث المؤمنين على المحافظة على قوة أبدانهم، كما حثهم على قوة أرواحهم، فالحديث الصحيح يقول: "المؤمن القوى خير من المؤمن الضعيف"، ويقول: "إن لبدنك عليك حقًّا"، ولقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته كثيرًا من قواعد الصحة العامة، وبخاصة فى علم الوقاية وهو أفضل شطرى الطب، فقوله صلى الله عليه وسلم: "نحن قوم لا نأكل إلا إذا جعنا وإذا أكلنا لا نشبع"، وتحريه صلى الله عليه وسلم فيما يشرب من ماء فقد جاء فى الحديث: "كان صلى الله عليه وسلم يستعذب له الماء"، ونهيه عن البول والتبرز فى المياه الراكدة، وإعلانه الحجر الصحى على البلد المطعون أهله فلا يتركونه ولا ينزله غيرهم، وتحذيره من العدوى وطلب الفرار من المجذوم، وأخيرًا عنايته صلى الله عليه وسلم بكثير من فروع رياضة البدن كالرمى والسباحة والفروسية والعدو، وحثه أمته عليها وعلى العناية بها حتى جاء فى الحديث: "من علم الرمى ثم نسيه فليس منى"، ونهيه صلى الله عليه وسلم نهيًا مشددًا عن التبتل والترهب وتعذيب الجسوم وإضوائها تقربًا إلى الله تبارك وتعالى وإرشاده الأمة إلى جانب الاعتدال فى ذلك كله، كل هذا ينطق بعناية الإسلام البالغة بصحة الأمة العامة، وتشديده فى المحافظة عليها، وإفساح صدره لكل ما فيه خيرها وسعادتها من هذا الجانب الهام.
العلم:
وكما تحتاج الأمم إلى القوة كذلك تحتاج إلى العلم الذى يؤازر هذه القوة ويوجهها أفضل توجيه، ويمدها بما تحتاج إليه من مخترعات ومكتشفات، والإسلام لا يأبى العلم بل يجعله فريضة من فرائضه كالقوة تمامًا ويقدسه ويناصره، وحسبك أن أول آية نزلت من كتاب الله: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾[العلق: 1-5]، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعل من فداء المشركين فى بدر من الأسر أن يعلم أحدهم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة عملاً على محو الأمية عن الأمة، ولم يسو الله بين العلماء والجاهلين فقال تبارك وتعالى: ﴿هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ﴾[الزمر: 9].
وقد وزن الإسلام مداد العلماء بدم الشهداء ولازم القرآن بين العلم والقوة فى الآيتين الكريمتين: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾[التوبة: 122-123].
ولم يفرق القرآن بين علم الدنيا وعلم الدين، بل أوصى بهما جميعًا، وجمع علوم الكون فى آية واحدة وحث عليها وجعل العلم بها سبيل خشيته وطريق معرفته، فذلك قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾[فاطر: 27]، وفى ذلك إشارة إلى الهيئة والفلك وارتباط السماء بالأرض. ﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا﴾[فاطر: 27]، وفى ذلك الإشارة إلى علم النبات وغرائبه وعجائبه وكيميائه. ﴿وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾[فاطر: 27]، وفى ذلك الإشارة إلى علم الجيولوجيا وطبقات الأرض وأدوارها وأطوارها. ﴿وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ﴾[فاطر: 28]، وفيها الإشارة إلى علم البيولوجيا والحيوان بأقسامه من إنسان وحشرات وبهائم. فهل ترى هذه الآية غادرت شيئًا من علوم الكون؟ ثم يردف ذلك كله بقوله: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾[فاطر: 28]، أفلست ترى من هذا التركيب العجيب أن الله يأمر الناس بدراسة الكون ويحضهم على ذلك، ويجعل العارفين منهم بدقائقه وأسراره هم أهل معرفته وخشيته؟ اللهم فقه المسلمين فى دينهم.
الخلق:
والأمة الناهضة أحوج ما تكون إلى الخلق الفاضل القوى المتين والنفس الكبيرة العالية الطموح؛ إذ إنها ستواجه من مطالب العصر الجديد ما لا تستطيع الوصول إليه إلا بالأخلاق القوية الصادقة من: الإيمان العميق، والثبات الراسخ، والتضحية الكثيرة، والاحتمال البالغ، وإنما يخلق هذا النفس الكاملة الإسلام وحده، فهو الذي جعل صلاح النفس وتزكيتها أساس الفلاح فقال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾[الشمس: 9-10].
وجعل تغير شئون الأمم وقفًا على تغير أخلاقها وصلاح نفوسها فقال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾[الرعد: 11].
وإنك لتسمع الآيات البالغة فى مفردات الأخلاق الكريمة فتراها القوة التى تغالب فى إصلاح النفوس وإعدادها وتزكيتها وتصفيتها مثل قوله تعالى فى الوفاء: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً * لِيَجْزِىَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ﴾[الأحزاب: 23-24].
وفى البذل والتضحية والصبر والاحتمال ومغالبة الشدائد ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِى سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلاَ يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[التوبة: 120-121].
وليس كالإسلام عاملاً على إيقاظ الضمير وإحياء الشعور وإقامة رقيب النفس، وذلك خير الرقباء وبغيره لا ينتظم عمل ولا ينفذ قانون ما إلى أعماق السرائر وخفيات الأمور.
الاقتصاد:
والأمة الناهضة أحوج ما تكون إلى تنظيم شئونها الاقتصادية، وهي أهم الشئون فى هذه العصور، ولم يغفل الإسلام هذه الناحية بل وضع كلياتها ولم يقف أمام استكمال أمرها، وها أنت تسمع قول الله تبارك وتعالى فى المحافظة على المال وبيان قيمته ووجوب الاهتمام به: ﴿وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾[النساء: 5]، ويقول فى موازنة الإنفاق والبخل: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾[الإسراء: 29].
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما عال من اقتصد"، وهو كما يصدق فى الفرد يصدق فى الأمة، مع قوله صلى الله عليه وسلم: "نعم المال الصالح للرجل الصالح"، وأى نظام اقتصادى فاضل يرحب به الإسلام ويدعو الأمة إلى تشجيعه ولا يقف أبدًا فى سبيله.
وبعد، فإن الأمة إذا توفرت لها هذه الدعائم من الأمل والوطنية والعلم والقوة والصحة والاقتصاد فهى بلا شك أقوى الأمم والمستقبل لها، ولاسيما إذا أضيف إلى ذلك أنها قد طهرت من الأثرة والعدوان والأنانية والطغيان، وأصبحت تتمنى الخير للعالم كله، وأن الإسلام قد كفل ذلك فلا حجة لأمة تريد النهوض فى النكول عنه والعدول عن طريقه(2).
إلى الأمة الناهضة
حينما ارتفع الصوت بتوجيه نهضة الأمة المصرية الكريمة إلى اتجاه إسلامى يرتكز على تعاليم الإسلام ومبادئ القرآن، سمعنا من كثير من الغيورين العطف على هذه الدعوة ومناصرتها والاستعداد للعمل لها، وفى أثناء ذلك كان يبدو من كلامهم التخوف من أن تثير هذه الدعوة قضية الأقلية فى الدين والجنسية، ولكننا نسوق إليهم هذه الكلمات العليلة ليعلموا أن الإسلام قد عالج هذه الناحية علاجًا شافيًا يشيد بالقومية ويحمى الأقلية.
الإسلام والأقليات:
إن الإسلام الذي وضعه الحكيم الخبير الذي يعلم ماضي الأمم وحاضرها ومستقبلها قد احتاط لتلك العقبة وذللها من قبل، فلم يصدر دستوره المقدس الحكيم إلا وقد اشتمل على النص الصريح الواضح الذي لا يحتمل لبسًا ولا غموضًا فى حماية الأقليات، وهل يريد الناس أصرح من هذا النص: ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[الممتحنة: 8]؟
فهذا نص لم يشتمل على الحماية فقط، بل أوصى بالبر والإحسان إليهم، وأن الإسلام الذى قدس الوحدة الإنسانية العامة فى قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾[الحجرات: 13].
ثم قدس الوحدة الدينية العامة كذلك فقضى على التعصب وفرض على أبنائه الإيمان بالأديان السماوية جميعًا فى قوله تعالى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِىَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً﴾[البقرة: 136-138].
ثم قدس بعد ذلك الوحدة الدينية الخاصة فى غير صلف ولا عدوان فقال تبارك وتعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾[الحجرات: 10] هذا الإسلام الذى بنى على هذا المزاج المعتدل والإنصاف البالغ لا يمكن أن يكون أتباعه سببًا فى تمزيق وحدة متصلة، بل بالعكس إنه أكسب هذه الوحدة صفة القداسة الدينية بعد أن كانت تستمد قوتها من نص مدنى فقط.
ولقد حدد الإسلام تحديدًا دقيقًا من يحق لنا أن نناوئهم ونقاطعهم ولا نتصل بهم فقال تعالى بعد الآية السابقة: ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾[الممتحنة: 9].
وليس فى الدنيا منصف واحد يكره أمة من الأمم على أن ترضى بهذا الصنف دخيلاً فيها، وفسادًا كبيرًا بين أبنائها، ونقضًا لنظام شئونها.
ذلك موقف الإسلام من الأقليات بين واضح لا غموض فيه ولا ظلم معه، وموقفه من الأجانب موقف سلم ورفق ما استقاموا وأخلصوا، فإن فسدت ضمائرهم وكثرت جرائمهم فقد حدد القرآن موقفنا منهم بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتِّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ﴾[آل عمران: 118-119]. وبذلك يكون الإسلام قد عالج هذه النواحى جميعًا أدق علاج وأنجعه وأشفاه.
وقد يظن الناس كذلك أن نظم الإسلام فى حياتنا الجديدة تباعد بيننا وبين الدول الغربية، وتعكر صفو العلائق السياسية بيننا وبينها بعد أن كادت تستقر، وهو أيضًا ظن عريق فى الوهم فإن هذه الدول إن كانت تسىء بنا الظنون فهى لا ترضى عنا سواء اتبعنا الإسلام أم غيره، وإن كانت قد صادقتنا بإخلاص وتبودلت الثقة بينها وبيننا، فقد صرح خطباؤها وساستها بأن كل دولة حرة فى النظام الذى تسلكه فى داخل أرضها ما دام لا يمس حقوق الآخرين، فعلى ساسة هذه الدول جميعًا أن يفهموا أن شرف الإسلام هو أقدس شرف عرفه التاريخ، وأن القواعد التى وضعها الإسلام لصيانة هذا الشرف وحفظه أرسخ القواعد وأثبتها.
فالإسلام هو الذى يقول فى المحافظة على التعهدات وأداء الالتزامات: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً﴾[الإسراء: 34]، ويقول: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾[التوبة: 4]، ويقول: ﴿فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾[التوبة: 7]، ويقول فى إكرام اللاجئين وحسن جوار المستجيرين: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾[التوبة: 6]، وهذا فى المشركين فكيف بالكتابيين؟!
فالإسلام الذى يضع هذه القواعد ويسلك بأتباعه هذه الأساليب يجب أن يعتبره الغربيون ضمانة أخرى تضمن لهم الوفاء بمعاهداتهم وأداء التزامات الدول الإسلامية لهم، بل نقول: إنه من خير أوروبا نفسها أن تسودها هذه النظريات السديدة فى معاملات دولها بعضها لبعض، فذلك خير لهم وأبقى(3).
فى عهد الانتقال
أخطر العهود فى حياة الأمم وأولاها بتدقيق النظر عهد الانتقال من حال إلى حال؛ إذ توضع مناهج العهد الجديد وترسم خططه وقواعده التى يراد تنشئة الأمة عليها والتزامها إياها، فإذا كانت هذه الخطط والقواعد والمناهج واضحة صالحة قويمة، فبشر هذه الأمة بحياة طويلة مديدة وأعمال جليلة مجيدة، وبشر قادتها إلى هذا الفوز وأدلتها فى هذا الخير بعظيم الأجر وخلود الذكر وإنصاف التاريخ وحسن الأحدوثة.
ولقد كانت مهمة قادة الشعوب الشرقية ذات شطرين: "أولهما": تخليص الأمة من قيودها السياسية حتى تنال حريتها ويرجع إليها ما فقدت من استقلالها وسيادتها. "وثانيهما": بناؤها من جديد لتسلك طريقها بين الأمم وتنافس غيرها فى درجات الكمال الاجتماعى.
والآن وقد وضع النضال السياسى أوزاره إلى حين، فقد أصبح هؤلاء القادة يستقبلون بالأمة عهدًا جديدًا، فإنكم سترون أمامكم طريقين كل منهما يهيب بكم أن توجهوا الأمة وجهته وتسلكوا بها سبيله، ولكل منهما خواصه ومميزاته وآثاره ونتائجه ودعاته ومروجوه، فأما الأول فطريق "الإسلام" وأصوله وقواعده وحضارته ومدنيته. وأما الثانى فطريق "الغرب" ومظاهر حياته ونظمها ومناهجها. وعقيدتنا أن الطريق الأول طريق "الإسلام" وقواعده وأصوله هو الطريق الوحيد الذى يجب أن يسلك، وأن توجه إليه الأمة فى كل شئونها، وأن الطريق الثانى أخطر شىء على حياة الأمة الحاضرة والمستقبلة.
وأننا إذا سلكنا بالأمة هذا المسلك استطعنا أن نحصل على فوائد كثيرة منها:
أن المنهاج الإسلامى واضح محدود فلا نضيع وقتًا فى ابتكار التجارب، واختراع النظم.
وهو كذلك قد جرب من قبل وشهد التاريخ بصلاحيته، وأخرج للناس أمة من أقوى الأمم وأفضلها وأرحمها وأبرها وأبركها على الإنسانية جميعًا.
وله من قدسيته واستقراره فى نفوس الناس ما يسهل على الجميع تناوله وفقهه والاستجابة له والسير عليه متى وجهوا إليه.
وفيه الاعتزاز بالقومية والإشادة بالوطنية الخالصة؛ إذ إننا نبنى حياتنا على قواعدنا وأصولنا، ولا نأخذ عن غيرنا. وفى ذلك أفضل معانى الاستقلال الاجتماعى والحيوى بعد الاستقلال السياسى.
وهذا المنهاج هو أقرب المناهج إلى أرواحنا وألصقها بنفوسنا، فقد صحبناه أربعة عشر قرنًا تأصل فيها فى النفوس وافتدى بالدماء والأرواح.
وفى السير عليه تقوية للوحدة العربية أولاً ثم للوحدة الإسلامية ثانيًا، فيمدنا العالم الإسلامى كله بروحه وشعوره وعطفه وتأييده، ويرى فينا أخوة ينجدهم وينجدونه ويمدهم ويمدونه، وفى ذلك ربح أدبى كبير لا يزهد فيه غافل.
وفضلاً عن أنه تام شامل كفيل بتقرير أفضل النظم للحياة العامة فى الأمة عملية وروحية، وهذه هى الميزة التى يمتاز بها الإسلام، فهو يضع نظم الحياة للأمم على أساسين مهمين: أخذ الصالح وتجنب الضار.
فإذا سلكنا هذا السبيل استطعنا أن نتجنب المشاكل الحيوية التى وقعت فيها الدول الأخرى التى لم تعرف هذا الطريق ولم تسلكه، بل استطعنا أن نحل كثيرًا من المشاكل المعقدة التى عجزت عن حلها النظم الحالية، وإنا نذكر هنا كلمة برنارد شو: "ما أشد حاجة العالم فى عصره الحديث إلى رجل "كمحمد" يحل مشاكله القائمة المعقدة بينما يتناول فنجانًا من القهوة".
والعالم كله الآن فى تخبط وفى أشد الحاجة إلى "الدولة الفاضلة" التى تكون أمة نموذجية فى حياة صحيحة سعيدة، ولا يخلق هذه الأمة إلا الإسلام، فلنكن نحن هذه الأمة التى تتقدم إلى عجلة القيادة فتقود الدنيا بالإسلام إلى الخير والسلام(4).
من قواعد الإصلاح
يجب أن يكون الهدف الذي يرمى إليه المصلحون فى العالم الإسلامى الآن واضحًا محدودًا مرتكزًا على أصول وقواعد ذات خطوات ومراحل، وأن الأصول الأساسية فى نجاح الغاية وإنتاج الإصلاح أن نرمى إلى:
"تجديد حياة الأمم الإسلامية، وتدعيم نهضتها الحديثة على أصول إسلامية خالصة، وإنقاذ العالم كله بإرشاده إلى تعاليم الإسلام".
(1) فأما تجديد حياة الأمم الإسلامية: فمن المعلوم أن هذه الأمم قد مرت عليها من الأحداث والظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية وغيرها ما أفقدها حريتها ومجدها ومظاهر رقيها، وقضى على دولتها وسلطانها، وجعلها آخر الأمم فى كل شىء، وتفصيل ذلك يطول، والداء مشترك والشعور متحد. كل ذلك جرى على هذه الأمم وهى مهد الحضارة، وأم المدنيات، ومنبع العلوم والمعارف، ومهبط النبوات والشرائع. على أنها مع شدة الضغط وقوة القهر لا تزداد على المحنة إلا صلابة، وكأنما تزيد الحوادث حيويتها الخالدة ظهورًا وقوة. هذه الأمم المجيدة لابد أن تعود إليها حريتها ولابد أن يبعث مجدها من جديد، وتتبوأ مركزها بين الأمم، ولابد أن تساهم بنصيب فى رقى الإنسانية حديثًا، كما وضعت لها أصول الرقى قديمًا، ولابد أن يسعد العالم بروحانيتها من بعد كما سعد بها من قبل ﴿وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُّتِمَّ نُورَهُ﴾[التوبة: 32].
(2) وأما تدعيم النهضة على أصول إسلامية خالصة: فمن المعلوم كذلك أن الأمم الإسلامية بعد الحرب العالمية وقفت على مفترق طريقين: طريق المدنية الأوروبية بزخارفها ومظاهرها ومباهجها ومفاتنها ومتعها ونسائها وفضتها وذهبها، وطريق الحياة الروحية التى نبتت فى الشرق وأورقت فى الشرق وغذتها الفلسفات وباركتها النبوات، وكان ختام ذلك كله الإسلام الذى جعله الله رحمته الكبرى للعالمين. فأما بعض الأمم الإسلامية فقد خفى عليها جمال دينها، وأحاطت بها ظروف أبعدتها عن أصوله وفضائله، فتنكرت لعقائدها، ولبست أرواحًا غير أرواحها، واندفعت فى تيار التقليد الأوروبى لا تلوى على شىء، حتى صارت شبه أوروبية فى كل شىء، قوم تم لهم ذلك، وقوم على إثرهم يسيرون، والموجة تطغى والسيل ينهمر.
ومن وراء هؤلاء أمم محيرة لا تدرى فى أى الطريقين تسير؟!
على أن الدعاية الأوروبية قد نجحت تمامًا فى غزو الفكرة الإسلامية، وإحلال غيرها من الفكر المدنية محلها فى مظاهر الحياة العامة، ولم تبق بين المسلمين إلا قشورًا لا تنفع، ففى السياسة وفى القانون وفى الخلق وفى الاجتماع زاحمت الفكرة الإسلامية أفكارًا أخرى أضعفت قوتها وأذهبت ريحها وصرفت الأبصار عنها.
ومهمة الإخوان المسلمين أن يردوا الأمة إلى أصول الإسلام، وأن يحرروا العقول والأفكار من هذا التعبد المخجل للأفكار الأوروبية البحتة. إن مدنية أوروبا ليست فيها من ناحية جمال إلا ناحيتها العلمية، وهذه لا يأباها الإسلام بل يحض عليها ويأمر بها، وما عدا ذلك فنحن فى غنى عنه وفى الإسلام خير منه لو كشف المسلمون عن أسراره وفهموه فهمًا صحيحًا، ذلك ما ننادى به و﴿للهِ الأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾[الروم: 4-5].
(3) وأما إنقاذ العالم بإرشاده إلى تعاليم الإسلام: فمن المعلوم كذلك أن الإسلام يوم كانت له الدولة، ويوم سعدت بقبوله الإنسانية، ويوم تولى أبناؤه الغر الميامين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعه بإحسان قيادة العالم باسمه وعلى حكمه ورسمه، استفاض فى الناس الخير وانتشر بينهم الإنصاف والعدل، وتحققت أحلام الفلاسفة، وتساوت طبقات الأمم أمام القانون العادل الرحيم، وتذوقت الدنيا طعم الفضيلة عملية شائعة لا كلامية مسطورة فى بطون الكتب، وكان استعمار الإسلام للدنيا أبرك استعمار عليها، حتى شاد بذلك المنصفون من الأوروبيين أنفسهم.
كذلك كانت الدنيا يوم حكمها الإسلام فى فترة من الدهر يريد الله أن تكون آيته فى كونه وحجته على خلقه إلى يوم القيامة، فلما دالت تلك الدولة وألقيت إلى الغرب مقاليد القيادة فغمر الدنيا بماديته تبدلت الحال غير الحال.
وها أنت ترى آثار هذه المدنية الميكانيكية المادية أتلفت على الناس أرواحهم، وأضوت أجسامهم، وأفسدت أخلاقهم، وأقضَّت مضاجعهم، وأسالت مدامعهم، وأبعدت الهوة بين نفوسهم ومنازلهم ودرجاتهم، فاستفاضت الأحقاد والأضغان، وكثرت المشاكل والإحن، واستعرت الخصومات والفتن، ولم يبق قلب واحد ينعم بالهدوء والسكينة فى أمة من الأمم التى أرسل عليها شواظ هذه المدنية النارى، بل اشتعلت هذه القلوب بنيران الشكوك والأوهام والمطامع والآلام، ولا يزال الناس يكرعون من هذه الكأس، ويتغنون بجمال هذه المدنية رغم انهيار أصولها وتهدم أسسها فى أعز مواطنها، وهذه أصولها السياسية تنهار بالدكتاتوريات، وأصولها الاجتماعية بفشو الآراء والمذاهب المتطرفة، والاقتصادية بهذه الأزمات التى أخذت بالخناق، والفكرية بتسخير العقل البشرى واستغلال نتائج العلم والعرفان -وهما أجمل ما فى هذه المدينة- فى القضاء على المستضعفين والعدوان على الآمنين، وما قيمة علم لا فضيلة معه.
والعلاج الوحيد لإنقاذ الإنسانية وحل مشاكلها "الإسلام" ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾[البقرة: 143](5).
إلى الإســـــــلام
إلى الإسلام أيها الحائرون فى بيداء الحياة... التائهون فى ظلام الليل البهيم.
إلى الإسلام أيها الراغبون فى علاج المجتمع من أمراضه وآلامه وإنقاذه من بؤسه وشقائه.
إلى الإسلام أيها الواقفون على باب الإصلاح لا تدرون أى طرقه تسلكون ولا فى أى سبله تسيرون.
إلى الإسلام يا من اختلطت عليهم الوسائل واضطربت فى قلوبهم الغايات فلم يجدوا الهدف ولم يتخيروا الوسيلة.
إلى الإسلام أيها المحترقون بنيران التجارب الفاشلة التى أرشدكم إليها فكر حائر وعقل صغير قاصر.
إلى الإسلام الهادى المشرق المستنير الذى يحمل رحمة السماء إلى الأرض. إلى الإسلام أيها العاملون المخلصون. لست أدعو إلى الإسلام نفعيا فإنه تضحية وكفاح، ولا جبانا فهو جرأة وشجاعة، ولا كذابا مخادعا فهو صراحة ووضوح وصدق، ولكنى أدعو المخلصين من العاملين، أدعو الذين جعلوا آلامهم وشقاءهم ثمنا لسعادة الناس وراحة المجتمع واندفعوا فى هذا الكفاح شجعانا أقوياء واضحين صرحاء.
إلى هؤلاء أوجه النداء:
﴿قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِى بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾[المائدة: 15-16].
أكتب هذه الكلمات وقد قضيت ست ساعات كاملة فى مطالعة محاضر جلسات مجلس النواب المصرى التى ناقش فيها حضرات الأعضاء ميزانية الحكومة وتقدموا إليها بما عندهم من مقترحات، ثم فى مطالعة بعض الصحف والمجلات التى يدعو فيها كاتبوها إلى إصلاح اجتماعى عاجل، ويتلمسوا فى كلماتهم سبل الإصلاح للمجتمع المصرى المريض الذى أنهكه البؤس والجوع والفقر والجهل والضعف والمرض والذلة والاستكانة.
لم أشك فى غيرة من تكلم من النواب المصريين، ولم أشك كذلك فى غيرة من يكتب فى الإصلاح الاجتماعى من هؤلاء الكاتبين. ولكن أين هؤلاء جميعا من الإسلام؟
أيها الراغبون فى الإصلاح: ألستم تريدون أقصر الطرق الموصلة إلى الغاية؟
ألستم تريدون أنجع الوسائل وأقلها كلفة؟
لن تجدوا ذلك فى غير تعاليم الإسلام ونظم الإسلام ومبادئ الإسلام فماذا تريدون؟ تريدون محاربة الفقر وتقولون إن منطق العدالة لا يعرف الإحسان ولكن عمل وأجر! أجل. إذا كنتم صادقين فاهتفوا معنا باسم الإسلام، وطالبوا بتطبيق نظام الزكاة، وخذوا هذا "الحق المعلوم" من مال الغنى الميسور ووزعوه على السائل والمحروم، واقرءوا على الناس قول الحكيم العليم: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِى سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾[التوبة: 34].
وطالبوا بما شئتم من تشريعات، وضعوا ما شئتم من اقتراحات ليكون الناس جميعا أغنياء، فقد استعاذ نبى الإسلام من الفقر كما استعاذ من الكفر. أما إذا كنتم تريدون فوضى جامحة، وشيوعية فاسدة مدنسة، فذلك مالا نسلم لكم به ولا يوافقكم فيه تشريع الإسلام.
وتريدون محاربة الجهل وتعميم التعليم، وتقولون إن على الدولة أن تكفل للشعب العلم كما تكفل له الخبز، فلم تعد الحياة الجاهلة خليقة بالأمم الراقية والشعوب التى تعيش فى هذه الأعصار.
فنعم، ولكن أين أنتم من تعاليم الإسلام الذى جعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، ووزن مداد العلماء بدم الشهداء، وجعل فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب وجعل تعلم الصناعات من فروض الكفايات، وألزم الإمام -وهو الدولة- أن يوفر ذلك للناس.
أما إذا كنتم تريدون بذلك هدم العقائد ومهاجمة الضمائر فى أخص ما تسمو به وترتاح إليه فأبعدكم الله، وستكون الغلبة عليكم للإسلام ولا كلام.
وتريدون تحرير المرأة ومساواتها بالرجال فى الحقوق والواجبات، وأن توفروا سعادة الحياة وراحة البال، ولن تجدوا ما يضمن لكم ذلك ويأخذ بيدكم إليه كما يهديكم إلى ذلك الإسلام الذى يقول كتابه الكريم: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ﴾[آل عمران: 195]. ويقول نبيه العظيم صلى الله عليه وسلم: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلى".
حتى فى المعانى العاطفية البحتة لم يهملها الإسلام وكان فيها صريحا واضحا، فالقرآن هو الذى يقول: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾[الروم: 21]. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "حبب إلى من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عينى الصلاة". والإسلام هو الذى حفظ للمرأة كل حقوقها ولم يرهقها بواجبات فوق طاقتها وقدر لها كل التقدير عظيم مهمتها.
أما إذا أردتم الإباحية، والمجون، والعبث، والاستهتار، وطرح المرأة فى الأسواق والمجامع تتقلب بين أيدى المغرورين والمفتونين من الشبان، وتنهبها الأبصار من كل مكان، وتدع مهمتها القدسية التى لها خلقت وبها اختصت من رعاية الطفل وتدبير البيت وإسعاد الزوج، فلن يكون معكم الإسلام فى هذا، ولن ندع لكم هذا العبث، وسنجاهد فى سبيل إنقاذ المرأة من براثن هذه الدعاية الضالة الطائشة التى يهتف بها المخدوعون الأغرار من الشبان والشابات.
تريدون التجنيد الإجبارى والعناية بإعداد الجيش، وتفيض فى هذا اللجان البرلمانية والحكومية على السواء. وهل تريدون ما يساعدكم على تحقيق هذه المطالب غير الإسلام الذى يدوى كتابه بالنفير العام ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ اللهِ﴾[التوبة: 41]. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من مات ولم يغز ولم ينو الغزو مات على شعبة من النفاق". أفترى فى هذا التشريع مثارا للإعفاء أو حجة للتعلل والتخلص من أداء هذا الواجب المحترم على كل مسلم يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله؟
أيها الحائرون المتخبطون الراغبون فى الإصلاح إلى الإسلام وكفى، فهو نعم الدواء(6).
المصادر
- جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (40)، السنة الرابعة، 29شوال 1355ﻫ/ 12يناير 1937م، ص(1-3).
- جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (42)، السنة الرابعة، 13ذو القعدة 1355ﻫ/ 26يناير 1937م، ص(1-4).
- جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (43)، السنة الرابعة، 20ذو القعدة 1355ﻫ/ 2فبراير 1937م، ص(1-3).
- جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (46)، السنة الخامسة، 19ذو الحجة 1355ﻫ/ 2مارس 1937م، ص(1-2).
- جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (47)، السنة الرابعة، 26ذو الحجة 1355ﻫ/ 9مارس 1937م، ص(1-3).
- مجلة التعارف، العدد (12)، السنة الخامسة، 4 ربيع الآخر سنة 1359ﻫ / 11 مايو سنة 1940م، ص(1-2).