إعداد موقع الإمام حسن البنا
(لأن أساس الإيمان القلب الذكي، وأساس الإخلاص الفؤاد النقي، وأساس الحماسة الشعور القوي، وأساس العمل العزم الفتي) كلمات عبر بها الإمام البنا عن حقيقة الإيمان وأثره في نفوس الناس.
فالإيمان بالله تعالى هو كبرى النعم التي يكرم الله بها من يشاء من عباده، إنه أكبر من نعمة الوجود نفسها فضائل الإيمان وآثاره النفسية والقلبية، وآثاره في حياة الإنسان العملية كثيرة، فهو نور وسكينة للقلب والعقل، وهو تحرر وكرامة وعزة للنفس، وهو قوة وعزيمة دافعة للخير، ومن هنا كان الأساس الأول للتربية الروحية في الإسلام.
حقيقة الإيمان بالله
الحمد لله الذي شرَّف قلوب أحبابه بالإيمان به، وأثابهم عليه أجزل ثوابه، وأثنى عليهم في كتابه، فقال -تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [المؤمنون: 1]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، أكمل المؤمنين إيمانًا، وأتم المحسنين إحسانًا، وعلى آله وصحبه، ومن تبع هداهم إلى يوم الدين.
أما بعد..
فيا أخي المسلم، إنَّ لكلِّ لفظ حقيقة، ولكلِّ ظاهر باطنًا، ولا يفيد اللفظ ما لم تكن حقيقته موجودة، ولا ينفع الظاهر ما لم يكن الباطن موافقًا له، وإذا عرفت ذلك؛ فاعلم أن الإيمان كذلك لفظي باللسان، وحقيقي بالعمل والجنان، ولا ينفع القول وحده ما لم يؤيده العمل والاعتقاد، ﴿إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ [يونس: 36]، وإن أشد الناس ندامةً يوم القيامة رجل خدع نفسه [بأنه] مؤمن، واستمر مخدوعًا بهذه الكلمة وحدها، حتى إذا كان يوم القيامة، وكشفت السرائر، وظهرت الضمائر لم يجد إيمانه شيئًا مذكورًا، ﴿كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ﴾ [النور: 39]، ومثل هذا المسكين كمثل رجل ذهب إلى السوق وكيسه مملوء بالنقود؛ فهو مطمئن إلى ذلك، غافل عما هنالك، فلما وصل وفتح كيسه وجد ذهبه نحاسًا، وفضته رصاصًا، وورقه مزورًا، ونقوده زائفةً، فعض بنان الندم، وشعر بالخيبة والألم، ولات حين مندم.
فانظر -يا أخي- في إيمانك؛ فإنه أساسُ دينك، وَزِنْه بميزان الشَّرع، وقسه بمقياس القرآن حتى تستعد للقاء ربك واثقًا بدينك، متمكنًا من يقينك.
واعلم أن الإيمان بالله أن تعلم أنه -تبارك وتعالى- منفرد بالتصرف في ملكه، واحد في تدبير شئون خلقه، بيده الأمر كله، ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: 82]، ويمتلئ قلبك بهذه العقيدة، فيشرق مصباح الهداية في قلبك، ويتفجر معين الحكمة بين جوانحك، وتشعر ببرد اليقين بين جنبيك، واطمئنان السكينة يتنزل عليك؛ فتكل إلى الله كل شئونك، وتركن إليه وتستعينه في جميع أمورك.
والإيمان بالله أن تعلم أنه -تعالى- رقيب على خلقه، مطّلع على شئون عباده، محيط علمه بكلِّ شيءٍ، ﴿عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ في السَّمَوَاتِ وَلاَ في الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ في كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [سبأ: 3]؛ فيكون أثر ذلك الإيمان خوفًا من الله وخشيةً له، وهيبةً منه تمتلئ بها نفسك، فتخافه في ضميرك، وتخافه في بيتك، وتخافه في سوقك، وتخافه منفردًا، وتخافه مع الناس؛ فلا تجرؤ على معصيته، ولا تستحلّ محرمًا.
والإيمان بالله -يا أخي- أنسٌ بحبِّه، وشوقٌ إلى قربه، واستغراقٌ في مشاهدة جلاله، وَوَلَهٌ برؤية جماله، وجهادٌ في سبيله، وتأملٌ في مصنوعاته، وتفكرٌ في مخلوقاته، وأدبٌ مع عظمة ذاته، وامتثالٌ لأمره، واجتنابٌ لنهيه، وذكرٌ له آناء الليل وأطراف النهار، ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [الأنفال: 2-4]، ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ في سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحجرات: 15].
فإذا كنت كذلك أيها الأخ؛ فأبشر بالفوز الكبير والأجر الكثير، وإنْ لم تكن؛ فاجتهد أن تداوي قلبك، وتصحح عقيدتك، وتقوي إيمانك؛ لتكون من الفائزين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ سَبْعُونَ شُعْبَةً، أَعْلاهَا: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا: إِمَاطَةُ الأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الإِيمَانِ»، رواه البخاري وغيره(1).
درجات الناس في الإيمان
الحمد لله الذي فاضل بين عباده المؤمنين في درجات الإيمان، وجعل بعضهم فوق بعض درجات في رتب الإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، أقوى المؤمنين يقينًا، وأعلاهم درجةً، وأهداهم طريقًا مبينًا، وأشرفهم رتبةً، اللهم صلِّ وسلِّم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد..
فيا عبد الله، إنَّ الله جعل الناس في الإيمان درجات، وفي اليقين رتبًا متفاوتات، منهم مَنْ كان إيمانه قول لسانه لم ينفذ إلى قلبه، ومنهم مَنْ وصل الإيمان إلى قلبه، ولم يستولِ على لبّه، ومنهم مَن امتلأت نفسه بالعقيدة الصادقة، ﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 82].
وقد أشار الكتاب المبين إلى درجات المؤمنين، فقال فيمن وُصف بالإيمان، وليس من أهله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآَخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ [البقرة: 8-10].
وقال في قوم آخرين آمنوا بلسانهم، ولم تؤمن قلوبهم، وفهموا أنهم صاروا بذلك من المؤمنين، فأعلمهم أنهم لم يصلوا إلى حقيقة الإيمان، ولن يكونوا من أهله حتى يخالط قلوبهم؛ فقال -تعالى: ﴿قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ في قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحجرات: 14].
وإنَّ من أصناف الناس قومًا يؤمنون بالله في الرخاء، فإذا امتحنهم نكصوا على أعقابهم، واتبعوا غير سبيل المؤمنين، أولئك الذين قال الله فيهم: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الحج: 11].
وقال -تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ في اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِمَا في صُدُورِ الْعَالَمِينَ﴾ [العنكبوت: 10].
وكلُّ هؤلاء الأصناف إيمانهم مدخول، ودينهم معلول، وعقيدتهم في نقص مبين.
أما المؤمنون الكاملون؛ فأولئك الذين عرفوا أن الإيمان قول باللسان؛ فرطبت به ألسنتهم، واعتقاد بالجنان؛ فامتلأت به قلوبهم، وعمل بالأركان؛ فنشطت إلى الطاعة جوارحهم، لا تُزعزع عقيدتَهم الحوادثُ، ولا تفتنهم عن دينهم الكوارثُ، ولا تنسيهم مولاهم الدنيا، ولا تبعدهم عن الله الغفلاتُ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -ما معناه: «عَمَّار مملوء بالإيمان من مفرق رأسه إلى أخمص قدمه».
وَهُمْ بَعْدُ في ذلك رتبٌ متفاضلة، ﴿وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً﴾ [الإسراء: 21]، ولأمرٍ ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصديق الأعظم رضى الله عنه -ما معناه: «لَوْ وُزِنَ إِيمَانُ الأُمةِ وإِيمَان أَبِي بَكْرٍ لَرَجَحَ إِيمَانُ أَبِي بَكْرٍ».
فانظر إلى درجتك -يا عبد الله- لتعلم أين أنت من المؤمنين، وتأمّل في عقيدتك لتنظر منزلتك بين المؤمنين، ولا يغرنّك كثرة الكلام وتحريك اللسان؛ فذلك لا يجدي نفعًا إلا أن تأتي الله بقلب سليم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَيَّ، وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ، مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثَّدِيَّ، وَمِنْهَا مَا دُونَ ذَلِكَ، وَعُرِضَ عَلَيَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ». قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الدِّينَ»، البخاري(2).
علامات الإيمان
الحمد لله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويطّلع على محتويات القلوب ومكنونات الضمير، لا يروج عنده الباطل وهو شديد المحال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبع هداهم إلى يوم الدين.
أما بعد...
فيا عباد الله.. إنَّ لكلِّ شيء علامة، ولكلِّ عقيدة أمارة، وإن للإيمان علامات، ولليقين أمارات.. فانظر -يا أخي- أين أنت من المؤمنين، وما درجتك في الموقنين حتى لا تؤخذ على غرّة، وتندم على ما مضى من الفعلة؛ فقد ورد في الأثر: «حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَعْمَالكُمُ قَبْلَ أَنْ تُوزَنَ عَلَيْكُمْ».
فالمؤمن -يا أخي- ثابت العزيمة، قوي الشكيمة، لا يخشى في الحق لومة لائم، ولا يخاف في الله قولة قائل، ملأت خشية الله قلبه، فلم يخش معه غيره، وخاف من الله فلم يخف أحدًا سواه، لا يتزحزح عن الحق قيد شعرة، ولا يداجي في الباطل أحدًا، ولا يجامل في عقيدته، ولا يلين لأعداء دينه، ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ [آل عمران:173].
والمؤمن عزيز النفس، موفور الكرامة، لا يقبل الضيم، ولا يعطي الدنية من نفسه، يعلم أن القوة لله جميعًا، وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين؛ فهو عزيز بعزة مولاه، عظيم بانتسابه إلى الله، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ﴾ [محمد: 11].
المؤمن كامل التوحيد لله؛ فهو يعتمد عليه، ويستند في كلِّ الأمور إليه، ويتوكل مطلق التوكل على قدرته؛ لأنه يعلم أن الأمر كله لله، وأن الأمر بيد الله، وأمره إذا أراد شيئًا أن يقول له: «كُنْ» فيكون، فأنى يلجأ إلى غيره أو يطلب من سواه، يحبُّ الله بكلِّ قلبه، ويأنس إليه أكثر من أنسه بخلقه، ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ﴾ [البقرة: 165].
المؤمن شديد الحبِّ لأنصار دينه، شديد البغض لأعداء عقيدته، يبغضهم من أعماق قلبه، ويقاطعهم في كلِّ شئون حياته؛ لأنه يسمع قول الله -تعالى: ﴿لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ﴾ [المجادلة: 22]، وقوله -تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ﴾ [الممتحنة: 1]؛ فهو يحب لله ويبغض لله، كما قال -تعالى- في أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: 29].
المؤمن يثق بما عند الله أكثر من ثقته بما في يده؛ فهو يسخو بما في يده رجاء ما عند الله، ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ﴾ [النحل: 96].
تلك -يا عبد الله- علامات من علائم الإيمان: العزيمة، والعزة، والتوحيد، والتوكل، والحب والبغض لله، والثقة بما عند الله؛ ففتش عقيدتك، وانظر إلى قلبك، فإنْ وجدتها متوفرة فيه؛ فاحمد الله على ما هداك إليه، وأبشر بخير يوم منذ ولدتك أمك، وإنْ كان الأمر على غير ذلك؛ فابك على نفسك، ونُحْ على ما مضى من عمرك، ودَاوِ قلبك، واعرض نفسك على أطباء القلوب؛ لعل عندهم لك دواء ينفعك، وسَلِ الله وألحَّ في الدعاء أن يسلك بك سبيل المؤمنين، ويهديك إلى طريق الموقنين.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحبَّ المرءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ»، أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما(3).
في حدود علمنا
﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [الإسراء: 85]، ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه:114].
هل أدرك العقل الإنساني بعد طول الطواف وكثرة التجارب وتكرار البحث والنظر حقيقة واحدة لشيء من الأشياء؟
يقول القاصرون إجابةً على هذا التساؤل: نعم! ويقول الراسخون في العلم: لا!
العقل الإنساني مجبول على النظر، مفطور على البحث، مدفوع إلى الجري وراء الحقيقة؛ فهو دائمًا يفتش عنها، ويندفع وراءها طامعًا في الوصول إليها، ولكن الحقيقة دائمًا تداعبه وقد تسخر منه؛ فكلما قارب أن يدركها، أفلتت وتركت بين يديه صفةً من صفاتها أو أثرًا من آثارها أو خاصةً من خواصها، أما هي.. هي نفسها حقيقتها وكُنهها، فتتحداه في ذلك أبلغ التحدي، وتأبى عليه أن يكتشف سرها كل الإباء.
ومع هذا التحدي العجيب؛ فإنَّ هناك من الحقائق ما يزال بكلِّ خواصه وصفاته مجهولاً غامضًا لم تمتد إليه أشعة العقل الإنساني بعدُ.
كما أن هناك أيضًا من خواص الأشياء ما لم يستطع العقل الإنساني أن يصل فيه إلا إلى عمل صوري، هو وضع الألفاظ والأسماء لمسميات لا يعلم كُنهها، يستر بذلك جهله، وكأنما انحصر محصول الإنسانية العلمي في عمرها الماضي الطويل في هذا القدر الضئيل من المعرفة.
يرى الإنسان الماء، فيتساءل عن حقيقته، ويصل إلى أنه أحد عناصر الوجود الأربعة (الماء، والهواء، والنار، والتراب)، ولكنه لا يلبث أن يصل إلى أنه كان مخدوعًا، وإلى أن هذا الماء الذي ظنه عنصرًا مجردًا ليس إلا مركبًا من عنصرين يسمِّيهما الإنسان الأوكسجين والأيدروجين، ولكن ما الأوكسجين؟ وما الأيدروجين؟ ويستنيم العقل الإنساني إلى هذه المعرفة حينًا من الدهر، ثم يواصل بحثه، فإذا هما مركبان لا عنصران، وهكذا يجري العقل الإنساني وراء الحقيقة، فتفر منه، وتترك في يديه الخواص والصفات.
حتى فكرة الذرة ونظرية الجواهر الفردة التي لا تقبل الانقسام ما زالت عمدة الناظرين في حقائق الكون، حتى حطَّمها العقل بتحطيم الذرة، ففرت الحقيقة المجهولة، وتركت العقل الإنساني وراءها في عالم من المجاهيل.
وما أحكم ما قاله العالم الفرنسي شارل ريشيه في بعض كتاباته في هذا المعنى؛ إذ يقول: «يجب على الإنسان مع احترامه العظيم للعلم العصري أن يعتقد بقوة أن هذا العلم مهما بلغ من الصحة؛ فهو لا يزال ناقصًا نقصًا هائلاً».
إنَّ حواسنا من القصور والنقص على حال يكاد يفلت من شعورها الوجود كل الإفلات؛ فالقوة المغناطيسية العظيمة لم تُعرف إلا عَرَضًا، ولو لم يوضع الحديد الحلو بجانب المغناطيس اتفاقًا لجهلنا دائمًا أن المغناطيس يجذب الحديد، وما كان أحد منذ وقت قصير يحلم بوجود أشعة إكس، وقبل اكتشاف الفوتوغرافيا ما كان يدري أحد أن النور يؤثر في أملاح الفضة.
لِمَ لا نصرِّح بصوت جهوري بأن كل هذا العلم الذي نفخر به إلى هذا الحد ليس في حقيقته إلا إدراكًا لظواهر الأشياء؟!
وأما حقائقها فتفلت منا ولا تقع تحت مداركنا، والطبيعة الصحيحة للنواميس التي تقود المادة الحية أو الجامدة تتعالى عن أن تلم بها عقولنا، إذا ألقينا حجرًا في الهواء نراه يسقط إلى الأرض.. فلماذا سقط؟ يجيبنا نيوتن بقوله: «سقط بجذب الأرض له جذبًا مناسبًا لكتلته وللمسافة التي سقط منها»، ولكن ما هو هذا الناموس إن لم يكن مجرد تحصيل حاصل، وإلا فهل فهم أحد تلك الذبذبة الجاذبة التي تجعل الحجر يسقط على الأرض؟ إن ظاهرة سقوط حجر على الأرض من الشيوع بحيث لا تدهشنا، ولكن الحقيقة أنه لا يوجد عقل إنساني فهم ذلك.
إنَّ هذه الظاهرة عادية وعامة ومقبولة، ولكنها غير مفهومة ككل ظواهر الطبيعة بلا استثناء، إننا نعيش في وسط ظواهر تتوالى حولنا، ولم نفهم سرّ واحدة منها فهمًا يليق بدرجتها، حتى إن أكثرها سذاجة لا تزال سرًّا من الأسرار المحجوبة كل الاحتجاب! فما معنى اتحاد الأيدروجين بالأوكسجين؟ ومن الذي استطاع أن يفهم ولو مرة واحدة معنى هذا الاتحاد، وهو يؤدي إلى إبطال خواص الجسمين المتحدين، وإيجاد جسم ثالث مخالف للأولين تمام المخالفة؟
إنَّ العلماء لم يتفقوا للآن حتى على طبيعة الذرة المادية التي توصف بأنها غير قابلة للوزن، وهي مع ذلك تصير قابلة له متى اجتمع عدد كبير منها.
فالأولى بالعالم الصحيح أن يكون متواضعًا وجريئًا في آن واحد، متواضعًا لأن علومنا ضئيلة، وجريئًا لأن مجال العوامل المجهولة مفتوح أمامه، والويل للعلماء الذين يظنون أن كتاب الكون قد أقفل، وإنه لا يوجد شيء جديد يحسن تفهيمه للإنسان الضعيف.
وما أدق ما علّق به أحد الإخوان العارفين على هذا الكلام الواضح الجميل؛ حيث قال: «وأستطيع أن أزعم أن العقل الإنساني لن يصل مهما جاهد إلى كُنه حقائق هذا الكون؛ لأن الحقيقة سرّ الصنعة، وسرّ الصنعة عند الصانع وحده، ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه: 110]».
فإلى الذين يغترّون بألفاظ حفظوها، وقشور عرفوها، وأسماء وضعوها؛ فكان هذا الغرور حجابًا كثيفًا بينهم وبين الوصول إلى الحق والاعتراف بالعجز والوقوف عند الحد- نسوق هذه الكلمات لعلها تذكرهم بأن هناك ميدانًا أوسع من ميدان العلم المجرد، وأرفع في إدراك الحقائق منزلةً وأعلى كعبًا.. ذلك هو ميدان الإيمان؛ فليجاهدوا في الميدانين، ويعملوا في السبيلين، ويهتدوا بالنورين: نور العقل ونور القلب؛ فيفوزوا بالحسنيين، ويتحقق لهم قول القرآن الكريم: ﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: 11].
وليتأملوا قول الله العلي الكبير: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا في الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا في الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللهِ التي قَدْ خَلَتْ في عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ﴾ صدق الله العظيم [غافر: 82-85](4).
معية
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا في السَّمَوَاتِ وَمَا في الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شيء عَلِيمٌ﴾ [المجادلة: 7].
هل أحد أقرب إليك من الله العليم الخبير؟
الجواب في كتاب الله -تبارك وتعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق: 16]، ولقد سأل الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟»؛ فأنزل الله الآية الكريمة: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة: 186].
وسمع النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم أصحابه يدعون الله بصوتٍ مرتفعٍ، فقال: «ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ، وَلَكِنْ تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا».
وفي الحديث القدسي يقول الله : «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي؛ فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً».
وهل أحد أبرُّ بك من الله العلي الكبير؟
الجواب في ردِّ إبراهيم المفحم لقومه: ﴿أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ * الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَّغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾ [الشعراء: 75-82].
فوجودك وعدمك، وطعامك وسقيك، وشفاؤك ومرضك، وحياتك وموتك، والمغفرة السابقة والسعادة الدائمة، والمستقبل الكريم.. كلُّ ذلك بيد الله وحده، يتفضل به على من يشاء من عباده، وإنما يتراحم الناس فيما بينهم بما أفاض الله عليهم من آثار رحمته، والله أرحم بعبده المؤمن من الوالدة بولدها.
وأنت بعد ذلك.. إذا خدعتك الأباطيل، وغرّتك الأماني، وغلبتك الشهوات، واجتالتك الشياطين، تستطيع أن تقف ببابه، وتتذلل لجنابه، وتستمطر شآبيب مغفرته، وتشيم بروق عفوه، وتفتح أذنيك لقوله: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53]، فإذا أقبلت عليه، وأتيت إليه، غفر لك وعفا عنك، وكتب لك من المثوبة والأجر ما يقرّ به عينك في الدنيا، وتسعد به سعادة لا شقاء بعدها في العقبى، ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ [آل عمران: 135-136].
وليست هذه الرقابة الدائمة، والرعاية التامة، والمغفرة الشاملة بقاصرة على ليلة دون ليلة، ولا على وقت دون وقت، بل هي أزلية أبدية، ينالها كل من عرف طريقها، وسلك سبيلها، وحباه مولاه بها، وإنَّ الحق ليتجلى على عباده في كلِّ ليلة؛ فينادي مناديه: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من مسترزق فأرزقه؟ هل من طالب حاجة فأقضي حاجته؟ هل من كذا.. هل من كذا؟ حتى يطلع الفجر.
فيا أيها الذين تؤثرون ليلة النصف من شعبان بالدعاء، وتخصّونها بالنداء، وتقبلون فيها على المساجد خُشَّعًا، وتقضون ما بين المغرب إلى العشاء سُجّدًا ورُكّعًا، وتسألون ربكم فيها طول العمر، وسعة الرزق، ومفاتيح السعادة، والوقاية من الحرمان، ثم تنصرفون بعد ذلك وكأن لم يكن شيء؛ تعود القلوب إلى قسوتها، والضمائر والمشاعر إلى غفوتها، وتنطلق الأهواء والشهوات من عقالها، وتنسى النفوس وتغفل عن يوم حسابها ومآلها.. اعلموا أنكم لم تصنعوا شيئًا!!
إنَّ طول العمر لا يقاس بعدد السنين، وكثرة الأعوام، وكرّ الليالي، وترادف الأيام، ولكن يقاس بالعمل والإنتاج؛ فكم من مُعمَّر موته كحياته، وحياته كموته، وكم من فتى تَفضل سنونه القصيرة عددًا كبيرًا من الأعمار الطوال، ولست أدري: لماذا يسأل المسلمون ربهم أن يطيل أعمارهم في هذه الذلة الذليلة، والأوضاع الفاسدة الوبيلة، التي لا خير فيها، ولا طعم للحياة الكريمة معها، والتي جعلت بطن الأرض خيرًا للكرام المؤمنين من ظهورها؟ ورحم الله القائل:
إِنْ دَامَ هَذا وَلَم يَحدث لَهُ غَير لَم يُبْكَ مَيْتٌ وَلَم يُفرَح بِمَولودِ
على أن العبرة.. كل العبرة بالعمل وحده؛ فاعملوا أيها المسلمون يبارك لكم ربكم في أعماركم، وينسئ لكم في آجالكم بالبركة فيها لا بكثرة أيامها، وطول أعوامها، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالعمل وحده، ﴿وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [التوبة: 94].
وإنَّ سعة الرزق لا تأتي بمجرد بسط اليد بالدعاء، وقد أمرنا الله بالسعي الدائب، والكد الواجب، ﴿فَامْشُوا في مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ﴾ [الملك: 16]، ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا في الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الجمعة: 10].
وإنَّ من وصية عمر رضى الله عنه للمؤمنين: «لا يَقْعُدُ أَحَدُكُمْ عَنْ طَلَبِ الرِّزْقِ وَهو يَقُولُ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ السَّمَاءَ لا تُمْطِرُ ذَهَبًا وَلا فِضَّةً»، فجدّوا أيها المسلمون، تعلَّموا واعملوا، ونافسوا غيركم، واجتهدوا ألا يغلبنّكم الناس على خيرات أرضكم، وثمرات بلادكم، ومنابع الثروة والرزق في أوطانكم، والله بعد ذلك معكم، ﴿وَلَن يَّتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: 35].
وإنَّ السعادة لن تكون منحة يمنحها الله لغير من يستحقّونها، ويؤدّون حقها، ويعرفون ثمنها، وما ثمنها إلا العلم النافع، والإيمان الصادق، والجهاد الدائب، والعمل النافع، والتعرف إلى الله في الصباح والمساء والشدة والرخاء.
يا مَنْ تلحّون على الله في الدعاء، وتسألون سعة الرزق، وطول العمر، ومفاتيح السعادة والخير.. إن الطريق أمامكم واضحة؛ سلوا الله ذلك في كلِّ ليلةٍ، وفي كلِّ وقتٍ، لا في ليلة النصف من شعبان وحدها!! واشفعوا هذا السؤال بالإيمان الصادق، والجهاد الدائب، والعمل النافع، والعلم الصحيح، وكونوا واثقين بعد ذلك من الإجابة والوصول إلى كلِّ ما تريدون، ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 21](5).
منطق المؤمنين
﴿إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾ [الحج: 38].
أردت أن أصل بهذا الحديث ما انقطع من حديث وحي رمضان -لسفر عارض- ولكن أسئلة وجهت إليَّ، وخواطر تواردت عليَّ دفعتني دفعًا إلى الكتابة تحت هذا العنوان: «منطق المؤمنين»، ومنطق المؤمنين سهل فطري، لا فلسفة فيه ولا تعقيد؛ لأنه من وحي القلوب الكاشفة التي قلما تخطئ الإدراك والتصوير، لا من نظرات العقول الملبكة بمختلف الأخيلة والتصاوير، ولست أود أن أخرج بالقراء في هذا الحديث عما ألفوه فيه من مناجاة وتذكير إلى أحاديث السياسة، وسيرون أننا سنخرج سريعًا من حديث السياسة إلى حديث الإيمان ومنطق المؤمنين.
وجَّه إليّ أحد الإخوان هذا السؤال: هذه هي المفاوضات بيننا وبين الإنجليز تسير في طريقٍ ملتوٍ متشعبٍ لا أول له ولا آخر، وهاهم أولاء يراوغوننا على عادتهم، ويؤخِّرون البتَّ في قضيتنا حتى يفرغوا من مشاكلهم، وستضيع منا الفرص فرصة بعد أخرى؛ من مؤتمر الصلح، إلى مجلس الأمن، إلى هيئة الأمم المتحدة.. فماذا ننتظر بعد ذلك؟ فقلت: وليكن ذلك -لن يضرونا إلا أذى- وكل الوقت للمؤمن فرصة طال الزمن أو قصر.
ووجَّه إليَّ أخ آخر في نفس المجلس سؤالاً ثانيًا فقال: وهاهى ذي إنجلترا جادة في أن تصرف أنظار الناس في قضية فلسطين إلى مشروع للتقسيم البغيض الذي لن يقبله عربي واحد، ولن يوافق عليه مسلم واحد من المحيط الهادي إلى المحيط الأطلسي، كما أنها هي وحليفتها أمريكا لا زالتا تحاولان اتخام الأرض المقدسة بالمهاجرين من اليهود سرًّا وعلانية، حتى تمَّ لهم ما قررا من إدخال مائة ألف يهودي إليها ونحن قاعدون.. فهل تودون أن ننتظر متفرجين حتى تغص فلسطين بهؤلاء الأفاقين؟
فقلت: وماذا يضيرك؟ ألا تحفظ جواب الإسكندر: إن الجزار الماهر تسره كثرة الغنم؟
وانفض المجلس، وخلوت إلى نفسي أفكر فيما سمعت وقلت -ودارت بخلدي هذه الخواطر:
إننا معشر العرب والمسلمين في أنحاء الأرض نطلب حقًّا مقررًا لنا مقدسًا عندنا عزيزًا علينا؛ فنحن نطلب الحرية وهي للإنسان كالغذاء والهواء والماء، لا يمكن أن يعيش بغيرها، ولا أن يحيا بدونها، ونطلب الوحدة والارتباط والتجمع، وأن تزول من بيننا هذه الحواجز الصناعية والحوائل السياسية التي مزَّقت بها وحدتنا يدُ المطامع والأهواء في حوادث التاريخ المتعاقبة، ووحدتنا من صنع الله لنا؛ قرَّرها القرآن، وأكَّدها الإيمان، ومهَّدت لها طبيعة أرضنا، وثبَّتتها شركة تاريخية في المصالح والآلام والآمال، هي أبقى على الزمن الباقي من الزمن.
ونطلب بعد هذين الحقين أن يفسح لنا المجال بين الأمم العاملة لنقول كلمتنا وإنها لحق، ولنبلغ رسالتنا وإنها لخير، ولنساهم في بناء العالم، وإن ذلك لعدل وإنصاف.
ذلك ما نرجو من مطالب، وما نجاهد في سبيله من حقوق لا بغي فيه ولا عدوان ولا جحود ولا نكران، وليس فيه من الباطل مثقال ذرة.
ولهذا نحن مؤمنون أعمق الإيمان بأننا سنفوز في نضالنا، وسننتصر في كفاحنا؛ لأننا على الحق، والحقُّ باقٍ خالد، ولا قيام للباطل إلا في غفلة الحقِّ.
ونحن معشر العرب والمسلمين نؤمن بكتاب كريم، وعدنا ربنا فيه بأنه سيضاعف الأجر، ويجزل المثوبة للذين يجاهدون في سبيل الحقِّ؛ فمن قال كلمةً، أو أنفق نفقةً، أو احتمل مشقةً، أو شاكته شوكة، أو مسه جوع أو نصب، أو لقي في جهاده أقل عناء.. فذلك كله عند ربه يسجله له ويجزيه به ويثيبه عليه، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ في سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلاَ يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [التوبة: 120-121].
ونحن معشر العرب والمسلمين نعتقد أن أولى البديهيات في إيماننا، وحجر الزاوية في عقيدتنا.. أن لنا ربًّا عظيمًا قويًّا قديرًا بيده ملكوت كل شيء، له التصرف والملك والخلق والأمر من قبل ومن بعد، ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الذي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: 54].
ولن يصيبنا إلا ما كتب لنا ربنا؛ فالرزق والأجل والنفع والضر والحياة والموت والمرض والشفاء والسعادة والشقاء.. كلها بيده، يصرّف الناس فيها كيف يشاء؛ فلن يموت أحدنا إلا بأجله، فـ﴿إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [يونس: 49]، ولن يُنقَص أحدٌ شيئًا من رزقه، ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ [الذاريات: 22]، ولن تمتد إليه يد بنفع أو ضر إلا بقضاء حق وقدر سبق، «جَفَّتْ الأَقْلامُ، وَطُويتْ الصُّحُفُ».
ولقد عاتب القرآن بعض الضعفاء، وكشف عن خبيئة الضعف في أنفسهم؛ فقال: ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمْرِ مِن شيء قُلْ إِنَّ الأمْرَ كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ في أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شيء مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنْتُمْ في بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا في صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا في قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [آل عمران: 154].
وقد وعدنا هذا الرب الجليل الكبير العظيم الذي بيده ملكوت كل شيء، والذي له جند السموات والأرض، والذي لا يعلم جنوده إلا هو، والذي أحاط بكلِّ شيءٍ علمًا- وعدًا لن يخلف أنه ينصر عباده المؤمنين، ويمدهم بتأييده الغالب ما جاهدوا في سبيله، واستقاموا على الحقِّ الذي رسم لهم: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ﴾ [غافر: 51]، ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 40]، ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: 47]، ﴿إِن يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ﴾ [آل عمران: 160]، ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 21]، ﴿إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الأعراف: 128]، ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي في قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ [الأنفال: 12]، ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال: 17]، ﴿هُوَ الذي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ﴾ [الحشر: 2].
ولم يشترط علينا ربنا لينزل نصره إلا أن نؤمن به وحده، ونعتمد عليه وحده، ونفعل أمره، ونجتنب نهيه، ونعدّ لأعدائنا ما استطعنا من قوة، ليس بلازم أن تكون نظير قوتهم أو مثل عُدّتهم؛ فإنما يراد منا ما استطعنا، ونرجو من الله بعد ذلك ما لا يرجون، ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ [النور: 55]، ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الأنفال: 60].
ومن هذه المقدمات السابقة.. أننا على الحقِّ، ولن يضيع الله أجر العاملين للحقِّ، ولن يصيبهم إلا ما كتب الله لهم، ولن يتخلى عنهم ربهم ويدعهم لأعدائهم وخصومهم، بل النصر حليفهم والعاقبة مكفولة لهم، نستطيع أن نستخلص النتيجة المحققة: إنه مهما حاول الغاصبون المبطلون، وراوغ الدهاة الطامعون؛ فإننا إلى حقنا واصلون، ولن يغيِّر ذلك شيئًا من النتيجة المحتمة والإرادة المحكمة، ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾ [الأحزاب: 62].
ذلك منطقنا -نحن المؤمنين- في سهولته وبساطته ومقدماته ونتائجه، وقد عاهدنا الله عهدًا لن نخيس به، ولن نحنث فيه -إنْ شاء الله: أن نحيا لهذه الحقوق، ونموت في سبيلها، وكلاهما جميل، ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ﴾ [التوبة:52]، ولعل من الخير لنا وللقوم ألا يهزؤوا بهذا المنطق، أو يضحكوا من هذا الحديث، فليعلمُنَّ نبأه بعد حين(6).
منطق المؤمنين
﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ﴾ [التوبة: 52].
حقيقة الإيمان أن نتحرى الحق، ونؤمن به، ونثبت عليه، ونجاهد في سبيله، ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ في سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحجرات: 15].
والعزة حق من حقوق الإيمان، ولازمة من لوازم أهله، ووصف عرف لهم، وعرفوا به، ﴿وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [المنافقون: 8].
وتأييد الله -تبارك وتعالى- ونصره ومؤازرته مكفولة للمؤمنين مضمونة لهم متى صحَّ الإيمان وسلم اليقين، ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: 47].
ولن يصيب المؤمن إلا ما كتب له أو عليه وهو لا يترقب إلا إحدى الحسنيين: سعادة الدنيا أو مثوبة الآخرة، ولن يضيع عمله ولا أجره أبدًا، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ في سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلاَ يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [التوبة: 120-121].
وكلُّ شيءٍ في عقيدة المؤمن يجري بقضاء وقدر، وفق نظام مرسوم، وتقدير معلوم، وقضاء محتوم؛ فالأجل محدود، والرزق معدود لا ينقصهما الإقدام، ولا يزيدهما الإحجام، ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمْرِ مِن شيء قُلْ إِنَّ الأمْرَ كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ في أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شيء مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنْتُمْ في بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا في صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا في قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [آل عمران: 154].
هذه المقدمات الصحيحة السليمة أنتجت أمام المؤمنين نتيجة سليمة صحيحة كذلك؛ هي أن الوسيلة الوحيدة لاستخلاص الحقوق، وصيانة العزة هي الكفاح والجهاد، والعاقبة خير على كلِّ حالٍ: شهادة أو سعادة، والأخذ بهذه النتيجة عند أسلافنا وصل بهم إلى الخيرين فعلاً؛ فظفروا في الدنيا بالسعادة، وكتب لهم في الآخرة ثواب الشهادة، ﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ في سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآَخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 146-148].
وغفلنا نحن عن هذا المنطق السليم، والنهج القويم، والصراط المستقيم، وحاولنا أن نستخلص حقوقنا بالأساليب السياسية والوسائل الدبلوماسية، والتلطف مع خصومنا وأعدائنا، واستجداء غاصبينا والمعتدين على حقوقنا، والحرص على مجاملتهم واجتلاب مودتهم ومرضاتهم، وهم لن يريدوا بنا إلا السوء، ولن يضمروا لنا إلا الشر، ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾ [آل عمران: 118]، بل بلغ من استهتارنا بأنفسنا، واستهانتنا بحقوقنا وقدرتنا، وهضمنا لكفايتنا وموهبتنا، وغفلتنا عن نعمة الله علينا بميزاتنا وخصائصنا التي صرنا بها خير أمة أخرجت للناس.. أن أصبحنا نستلهمهم الرأي، ونستهديهم الطريق، ونأخذ بمشورتهم في أخص شئوننا، ونكاشفهم بأسرارنا، ودخائل أمورنا، والله -تبارك وتعالى- يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾ [آل عمران: 149-150].
ولقد عرفنا نتائج هذه السبيل؛ فلم نجنِ إلا الصَّاب والعلقم، ولم يبق أمامنا إلا أن نعود من جديد إلى منطق المؤمنين، فنوقن بحقنا كما يوقنون، ونجاهد في سبيله كما يجاهدون، ونترقب نصر الله وتأييده كما يراقبون، والعاقبة للمتقين.. ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 173-175].
والله أكبر ولله الحمد(7).
إيمان
﴿قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [طه: 72-73].
وقف الحقُّ الأبلج الأعزل أمام الباطل القوي المسلح، يجابهه ويطارده ويتحداه، ووقف رجل الحقِّ نبي الله موسى المبعوث من عند الله أمام فرعون المتجبر على عباده يخاطبه: ﴿إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الشعراء: 16-17]؛ فهي إذن دعوة الحرية، وأي حق أوضح وأعز من الدعوة إلى الحرية والمساواة والعدالة والإنصاف، وترك الناس أحرارًا كما ولدتهم أمهاتهم، يمشون على الأرض أعزة، ويبتغون من فضل الله.
وما كان فرعون القوي ليستجيب لهذه الدعوة العزلاء، وإنْ كانت حقًّا، ﴿فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى﴾ [النازعات: 23-24]، ﴿وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ في الأَرْضِ﴾ [القصص: 39]، وقال لقومه: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص: 38]، وأرسل في المدائن حاشرين ليبعثوا إليه بكلِّ ساحرٍ عليمٍ.
وجاء السحرة وفي قلوبهم غيظ، وفي أفئدتهم حقد، وفي نفوسهم طمع، وفي أعينهم تطلّعٌ إلى المال الوفير يبذله فرعون الغني بسخاء، وإلى الجاه العريض يمد لهم فيه ما استطاع، ولم يخيب هو ظنهم، ولكن مدَّ لهم فيه مدًّا، وحين قالوا: ﴿أَئِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ [الشعراء: 42-43]، وهم يصدقون وعده، ويؤمنون كل الإيمان بقدرته وقوته وجبروته، ﴿فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ﴾ [الشعراء: 44].
وخيل للنبي الكريم من سحرهم أنها تسعى، ﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى﴾ [طه: 67]، ولكن السكينة التي ثبَّت الله بها أفئدة أوليائه ساعة العسرة تنزلت عليه، ونودي من سرادقات الجلال: ﴿لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعْلَى * وَأَلْقِ مَا في يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى﴾ [طه: 68-69].
وكأنما اتصل بهذه العصا قبس من نور الإيمان الحق، وشعاع من سناه، لامس هذه الأفئدة، أو فاض عليها سبب من رحمة الله ونعمته، فغشي هذه القلوب، ﴿وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ في قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: 7]، وفي النفس المصرية رقة ولين، وفي الصدر المصري منذ فجر التاريخ تقوى ودين، وكأنما لقفت العصا المباركة مع ما لقفت من حبال وعصي أدران الشرك والشك، وأزاحت حُجُبَ الغفلة والرين عن هذه القلوب ووصَلتْها بحبل الإيمان المتين، وأشرقت عليها بنوره المبين، ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ﴾ [الشعراء: 46- 48].
وجُنَّ جنون فرعون، وذهب بلُبِّه الغضبُ، فكال لهم التهم، ﴿قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ في جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى﴾ [طه: 71].
وأنى لهذا التهديد والوعيد أن يصل إلى قلوب صرفتها حلاوة المعرفة عن الآمال والآلام إلى مرضاة الله العلام، وهل يذهب خوف المخلوقين بخشية رب العالمين من قلوب العارفين متى سبقت لهم السعادة، فأصبحوا بنعمة الله من المؤمنين.
لذلك كان جواب هؤلاء الأصفياء الأقوياء: ﴿لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [طه: 72-73]، لقد كان هؤلاء يعيشون قبل هذه اللحظة في حدود من شهوات الدنيا الفانية، ومطالبها الزائلة، ولذائذها الحقيرة.
أما بعد أن خالط الإيمان شغاف هذه القلوب، وأدركوا بعين البصيرة سرّ هذا الوجود فقد وزنوا بكفتين، وقارنوا بين حياتين، فآثروا الباقية على الفانية، واختاروا ما عند الله على ما عند أنفسهم، و﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ [النحل: 96]؛ ﴿إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى * وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلا * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكَّى﴾ [طه: 74-76].
فيا أيها المؤمنون بالله واليوم الآخر، هكذا الإيمان الحق؛ اعتقاد صادق يهزُّ المشاعر والوجدان، ويستولي على القلب والجنان، وينتج صدق اللسان والعمل بالأركان وخشية الواحد الديان، وألا يرهب المؤمن أحدًا في الحقِّ إلا الله، وأن تصغر في نظره الدنيا حتى لا تساوي عنده قلامة ظفر، ولا تقعده عن قولة حقٍّ؛ فهل أنتم مؤمنون؟!(8).
أيها الإنسان ما أنت؟
﴿يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الذي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * في أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾ [الانفطار: 6-8].
أيها الإنسان ما أنت؟!
أما نحن المؤمنون المصدقون؛ فنقول: أنت لطيفة ربانية، ونفحة قدسية، وروح من أمر الله، خلقك بيديه، ونفخ فيك من روحه، وفضّلك على كثير من خلقه، وأسجد لك ملائكته، وعلّمك الأسماء كلها، وعرض عليك الأمانة فحملتها، وأسبغ عليك نعمه ظاهرة وباطنة، وسخّر لك ما في السموات وما في الأرض جميعًا منه، وكرَّمك أعظم تكريم؛ فخلقك في أحسن تقويم، وأعدّك أكمل إعداد، ووهب لك السَّمع والبصر والفؤاد، وأوضح لك الطريقين، وهداك النجدين، ويسَّر لك السبيل؛ فأنت بإذنه وصنعته تغوص في الماء، وتطير في الهواء، وتسابق الكهرباء، وتحطم الذرات، وتتجاوز بتفكيرك وتقديرك أقطار السموات.. فهل رأيت أجلّ وأعظم وأطهر وأكرم؟
دَواؤُكَ فِيكَ وَمَا تُبصِرُ وَدَاؤُكَ مِنْكَ وَمَا تَشعُرُ
وَتَزعُمُ أَنَّكَ جرمٌ صَغِيرٌ وَفِيكَ اِنطَوى العَالَمُ الأَكبَرُ
وأنت بعد هذه الحياة القصيرة خالد لا تبيد، تحيا وتُنشر، وتُبعث وتُحشر، وتستأنف حياة الكرامة في دار النعيم والمقامة، إنْ كنت أدركت سرّ مهمتك في الوجود، فأخلصت العمل للملك المعبود، ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ [الذاريات: 56-57].
وما الموت الذي تخشاه إلا نقلة من هذه الحياة إلى تلك الحياة، ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت: 64]، وما هذا الجسم إلا قفص أنت فيه من المسجونين، وثوب تخلعه إلى حين، ثم يعود إليك يوم الدين، ورحم الله العارف؛ إذ يقول:
أَنَا عُصْفُورٌ وَهَذَا قَفَصٌ طِرت عَنْه وَبَقِيَ مُرتَهَنًا
أَنَا فِي الصُّورِ وَهَذَا جَسَدي كَانَ [ثَوْبِي وَقَمِيصِي] زَمنًا
وَأَنَا الآنَ أُنَاجِي مَلأً وَأَرَى اللهَ جِهَارًا عَلنًا
لا تَظُنُّوا الْمَوْتَ مَوْتًا إِنَّه لَيْسَ إِلا نَقلة مِنْ هَهُنَا
ويقول الماديون الجدليون: أنت -أيها الإنسان- حفنة من تراب، ونطفة من أصلاب، قذفت بك الأرحام، وأفنتك الأيام، وابتلعتك الرِّجام، ثم لا شيء بعد ذلك، من يحيي العظام وهي رميم؟
كذلك قال قدماؤهم: ﴿مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ﴾ [الجاثية: 24]، وهكذا قال محدثوهم: أثر أنت من تفاعل العناصر المادية والتطورات الفسيولوجية؛ فالشعور والوجدان والفكر والإدراك والعزم والإرادة كل أولئك من آثار المادة الصماء، ونتائج اختلاط التراب بالماء، وما الحياة إلا هذه الأيام المعدودات، تقضى فيها اللبانات، وتنتهز الفرص للذّات.
إِنَّمَا الدُّنْيَا طَعامٌ وَشَرابٌ وَمَنامُ
فَإِذَا فَاتكَ هَذَا فَعَلَى الدُّنْيَا السَّلامُ
تلك -يا أخي- قضية الحياة، إنْ أنعمت فيها النظر، وأجلْتَ فيها الفكر، ولم تكن من الغافلين المستهترين بوجودهم، المحتقرين لإنسانيتهم.. استطعت أن تحدِّد في الوجود غايتك، وأن تتبيِّن وسيلتك.
وكلُّ الذي أنصح لك به أن تخلو إلى نفسك ساعة من ليلٍ أو نهارٍ؛ لترى أفضل الرأيين، وأثر الخطتين في حياة الفرد والجماعة، حتى إذا اقتنعت بالرأي الأول -وهو الفطرة- أقبلت على نفسك، فاستكملت فضائلها، وسموت بها عن سفاسف الأمور وصغار الغايات، ووصلتها بربها العلي الأعلى، وطهّرتها بذكره وطاعته ومراقبته وخشيته، و«مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ؛ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ».
قَدْ رَشَّحوكَ لأَمرٍ لَوْ فَطِنتَ لَهُ فَاربأْ بِنَفسِكَ أَن ترعى مَعَ الهَمَلِ
ولا تستغرب أن يختار بعض الناس الرأي الثاني؛ فهي الفتنة أو الهداية، ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 175-176].
ألهمنا الله وإياك الرُّشد وهدانا سواء السَّبيل.. آمين(9).
طريقان
﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ﴾ [البلد: 10]، ﴿أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى﴾ [القيامة: 36]، وقد حدَّد له سبيله، وخطَّ بين يديه طريقه، ووضعت أمامه أعلام غايته وحكمة خلقته، ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾ [المؤمنون: 115-116].
والسعداء من صادفتهم العناية، واجتذبتهم أضواء الهداية، وانجابت عن أبصارهم سحائب الغفلة؛ فأدركوا هذه الحقيقة، وتعرّفوا مراحل الطريق، وسلكوا قُدُمًا إلى الغاية، وفقهوا قول العلي الكبير: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * وَلاَ تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ [الذاريات: 50-51].
وكلُّ ما عوقك عن الوصول إليه، أو حولك عن الاتجاه نحوه، أو حال بينك وبين الاعتماد عليه من هوى غالب، أو غرض جامح، أو عرض زائل؛ فهو إله من دونه: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللهِ﴾ [الجاثية: 23].
أيها الإنسان! بين يديك طريقان لا ثالث لهما: طريق ممهدة ظليلة، مشرقة جميلة، يحفُّ بها الرَّوح والريحان، ويحيط بها الجمال من كلِّ مكانٍ، أولها اليقين والإيمان، ومراحلها الاستقامة وطاعة الرحمن، ونهايتها الجنة والرضوان ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر: 55].
وطريق مقفرة موحشة، مظلمة مهلكة، أولها الجحود والنكران، ومراحلها الإثم والعصيان، وآخرها الجحيم والنيران، ﴿فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [النازعات: 37-39].
ولا يستوي الطريقان أبدًا، ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لاَّ يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الذي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ [السجدة: 18-20]، ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [القلم: 35-36]، ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ في الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ [ص: 28].
فالصالحون العاملون المخلصون إلى خيرٍ في الدنيا، وإلى سعادةٍ في العقبى، والعكس بالعكس، ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 97]، ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه: 124].
وكما يختلف الأثر في الأفراد يختلف في الأمم والجماعات؛ فالأمة المستمسكة بهذا الهدي الرباني، السَّالكة على الطريق الإلهي، الآخذة عن الوحي السماوي- مؤيدة في دنياها بالعزة والسيادة، ولها في الآخرة الحسنى وزيادة، والعكس بالعكس كذلك، ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾ [الأعراف: 96]، ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم﴾ [المائدة: 66]، ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [النحل: 112].
ومشكلة الدنيا اليوم ليست مشكلة مادية بقدر ما هي مشكلة روحية، ليست مشكلة الفقر والمرض والجهل بقدر ما هي مشكلة الظلم والطمع والقوة وفقدان العدالة والرحمة والإنصاف.
فيا أيها الإنسان! إلى متى والنُّذُر بين يديك، والشواهد حاضرة لديك، ولم تنس بعدُ آثار درس الأمس، وقد تلقته الإنسانية كأقسى ما يكون، طوال ست سنوات أكلت الأخضر واليابس، والنعل حاضرة إنْ عادت العقرب، والعقوبة ممكنة إن أصر المذنب، و«الْبِرُّ لا يَبْلَى، وَالذَّنبُ لا يُنْسَى، وَالدَّيَّانُ لا يَمُوت، وَكَمَا تَدِين تُدَان»؛ ﴿فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ * ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 102-103]، والقلوب بيد الله، ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 21](10).
قلم التسجيل
﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف: 49].
كنت أصحح سورة «ن» أمام سيدنا الشيخ محمد زهران -رحمه الله، فوقفت عند الآية الكريمة: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ﴾ [القلم: 17]، وتوجهت إليه بالسؤال فجأةً: يا سيدنا الشيخ! إنك تقول لنا: إنَّ الجنة دار نعيم ليس فيها غمٌّ ولا كدر، ولكن هذه الآية تقول: إن أصحاب الجنة في بلاء.. فكيف هذا؟
فابتسم الشيخ -رحمه الله، وقد كان رجلاً فيه حلم وأناة وظرف وأدب وعلم وفضل، وقال: اسمع يا بني، إن الجنة هنا ليست جنة الآخرة التي وعدها الله عباده المتقين، ولكنها «جنينة» وحديقة كانت لثلاثة من الإخوة، اعتادوا أن يُخرجوا من ثمرها كل عام جزءًا للفقراء والمحتاجين شكرًا لله على نعمته، وكان الله -تبارك وتعالى- يبارك لهم فيها بسبب هذا الشكر، ولكنهم في عام من الأعوام بيَّتوا أمرهم من الليل، وتناجوا فيما بينهم ألا يسمحوا لمسكين أن يدخلها عليهم، أو ينال من ثمرها شيئًا، وظنوا وهم يتحدثون أنهم في خلوة خالية لا يحضرهم فيها غيرهم، ولا يسمع حديثهم أحد سواهم، ولكن الله الذي يسمع ويرى، ويعلم السر وأخفى، ﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا﴾ [المجادلة: 7]- سمع حديثهم، وعلم قصدهم؛ فعاقبهم على ذلك بأن أرسل على جنتهم صاعقة دمرتها وَهُمْ نائمون، فلم تُبقِ فيها ولم تذر، وأصبحوا يتهامسون، ﴿فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَلا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾ [القلم: 23-27]، وتلك يا بنيَّ عاقبة الذين يظنون أن الله غافل عما يفعلون، غائب عما يبيتون، ﴿كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [القلم: 33].
كان هذا الحديث منذ ثلاثين عامًا تقريبًا، ولكني أذكره الآن كأنه وقع بالأمس، فلقد ترك في نفسي أعمق الأثر، وأذكر أني حدّقت بين يدي الشيخ وأنا دائم التفكير في هذه الرقابة الربانية التي فرضها الله على عباده المؤمنين به، وأذكر أن هذا التفكير دفع بي إلى التبصر في كثير من آيات الكتاب الكريم، وتبع هذا المضي فيه؛ فلم أر إحاطةً أعظم ولا رقابةً أحكم ولا تسجيلاً أتم مما صوَّر به القرآن الكريم هذه الصلة بين الله والناس.
فالحقُّ -تبارك وتعالى- معهم أينما كانوا، ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق: 16]، ﴿وَمَا تَكُونُ في شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ في الأَرْضِ وَلاَ في السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ في كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [يونس: 61]، ﴿وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 60]؛ فهي رقابة تخترق حجب الضمائر، وتبعد إلى أعماق القلوب والسرائر.
وليس ذلك فحسب، ولكن كل لفظ أو قول أو عمل أو فعل محصيٌّ مكتوب مسجل مرقوم ﴿فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾ [عبس: 13-16]، ﴿وَكُلُّ شيء فَعَلُوهُ في الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ﴾ [القمر: 52-53]، ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18]، ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ في عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا﴾ [الإسراء: 13]، ﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الجاثية: 28-29]، ﴿أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ [الزخرف: 79-80].
ولعل من لطائف صور هذا التسجيل ما ورد في الحديث أن رجلاً قال في بعض أدعيته ومناجاته: «يَا رَبِّ، لَكَ الْحَمْدُ كَمَا يَنْبَغِي لِجَلالِ وَجْهِكَ وَعَظِيمِ سُلْطَانِكَ، فَعَضَّلَتْ بِالْمَلَكَيْنِ، فَلَمْ يَدْرِيَا كَيْفَ يَكْتُبَان ثوابها، فَقَالَ الحَقُّ -تبارك وتعالى: «اكْتُبَاهَا، كَمَا قَالَ عَبْدِي، فَإِذَا لَقينِي جزيَته بِما قَالَ».
ولعل من لطائف صوره كذلك ما ورد من أن «العبد إذا ندم وتاب واستغفر محا الله سيئته، وأنسى جوارحه ما عملت، ومسح آثار معصيته عن مشاهده ومغانيه وأماكنه حتى يلقى الله وليس عليه شاهد بذنب»، ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ [هود: 114].
وقد تبدو هذه الصور غريبة مستبعدة أمام أنظار الماديين، الذين لا يؤمنون إلا عن طريق هذا الحس الغليظ، مع أنهم يجاهرون بالإيمان بتسجيل الأصوات والأشكال والأضواء، وبقائها في طيات الأثير والراديو والهواء مهما تطاولت بها الأزمان، وليس وراء ذلك من دليل أو برهان ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا في الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شيء شَهِيدٌ﴾ [فصلت: 53].
فيا أيها القارئ العزيز: إن أقوامًا استشعروا هذه الرقابة، فبلغوا فيها مرتبة الإحسان، وكان أحدهم لا ينطق إلا بما يعلم أنه الخير، ولا يفعل إلا ما يعود بالفائدة؛ بل إن بعضهم فرض هذه الرقابة على خطرات نفسه كما أحكمها مع جوارحه وحسه، وكان يردد وهو يعني ما يقول:
ولو خطرت لي في سواك إرادة على خاطري [يومًا حكمت] بردتي
فماذا أنت صانع؟ وليس أضر على النفوس من الغفلة، ولا أضيع للفائدة من التسويف، وقلم التسجيل دقيق لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، و«البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت»، ولكلٍّ كتابه: فكتاب في سجين، وكتاب في عليين ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ في عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * في جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ في الأيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾ [الحاقة: 19-24](11).
القضية الكبرى
الحمد لله العلي الكبير، القوي القدير، عالم الغيب ﴿لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [سبأ: 3]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن تبع هداهم إلى يوم الدين.
أما بعد...
فيا عباد الله نُشاهد فيما بيننا أن أحدنا لو جاءه إعلان من محكمة جزئية بجلسة مدنية في قضية عادية؛ فإنه يهتم كل الاهتمام بنفسه، ويفكر في شأنه، ويُعِدّ لذلك العُدّة، ويستشير أهل الخبرة، ولا يقَرّ له حال، ولا يهدأ له بال حتى يطمئن على نتيجة تلك القضية التي غاية أمرها وقصارى شأنها غُرم يسيرٌ في زمن قصير؛ ذلك شأننا في هذه القضايا الصغرى؛ فما بالنا -أيها الإخوان- نسينا القضية الكبرى والجلسة العظمى بين يدي الملك الأعلى؟
فاعلموا إخواني -أرشدكم الله- أن الله -تبارك وتعالى- أرسل لكم نبيه سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم يحمل إليكم إعلان هذه القضية، وينذركم، ويذكّر بهذه الجلسة الإلهية؛ فذلك قوله -تعالى: ﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ * يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شيء لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غافر: 15-16]، وليس ذلك الإعلان إلا القرآن المجيد، قال -تعالى: ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾ [ق: 45].
ألا وإن الموعد يوم الفصل، ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا * يَوْمَ يُنفَخُ في الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا * وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا * وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا﴾ [النبأ: 17-20].
ألا وإن دار المحكمة هي أرض المحشر وصعيد المنشر ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ﴾ [النازعات: 13-14].
ألا وإن شهودك منك وبيِّنتك فيك ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ﴾ [النور: 24-25].
ألا وإن مستنداتها مدونة ﴿فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾ [عبس: 13-16]، ﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الجاثية: 28-29]، ﴿وَكُلُّ شيء فَعَلُوهُ في الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ﴾ [القمر: 52-53].
ألا وإن الجزاء نعيم الأبد للمحسنين، وشقاء الأبد للمسيئين ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ في عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * في جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ في الأيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ في سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ﴾ [الحاقة: 19-32].
فإذا لم تفكر -يا أخي- في هذا المصير، ولم تشتغل بحساب نفسك قبل أن يحاسبك العليم الخبير؛ فكيف تضمن لنفسك أن تكون من الناجين أو تفوز بالبراءة من النار يوم الدين؟!
يا أخي: إن الصالحين من عباد الله، والعارفين من خاصة خلقه يقضون الليل خائفين، ويقضون النهار مشفقين، ويقطعون الأوقات نادمين على تقصيرهم، باكين على أنفسهم، مفكّرين في مصيرهم ﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ﴾ [الأنبياء: 49]، ﴿يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ﴾ [الشورى: 18]، ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ في أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ﴾ [الطور: 25-27].
فاخلع -يا أخي- ثوب الغفلة، وشمّر عن ساعد الجد، واعمل لآخرتك، ولا تسوِّف؛ فالوقت يمضي وأنت لا تشعر، وما فات من الأوقات لن يُرد عليك، وقد نصحتُ لك وذكّرتك، فإن قبلت النصيحة وجددت التوبة الصحيحة، وأقبلت على مولاك بصدق وإخلاص وضَحَ لك سبيل الخلاص، وإن أعرضت فأمرك إليك وأستغفر الله لي ولك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون؛ أطَّت السماء وحُق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك واضع جبهته لله -تعالى- ساجدًا، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيرًا، ولما تلذذتم بالنساء على الفُرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله -تعالى»، الترمذي(12).
بيعة
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح: 10].
إلى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف، ويطرد في جبال مكة ويهان ونحن في ديارنا آمنون مطمئنون؟
بهذا تناجى المؤمنون من أهل المدينة بعد أن حمل إليهم مصعب بن عمير رضى الله عنه شعلة الإيمان الأولى، فأضاءت لها قلوبُهم، وأشرقت عليها أرواحُهم، ولم تبق دار من دورهم إلا وفيها قبس من هذا النور المبين!
واستقر رأيهم على أن يكون منهم أكثر من سبعين رجلاً مع حجيج هذا الموسم، يلتقون بنبيهم صلى الله عليه وسلم، ويرون رأيه المبارك في مستقبل الدعوة، وأنفذوا ما اعتزموه، ودخلوا مكة، وواعدهم النبي صلى الله عليه وسلم شِعب العقبة خلال ليلة مباركة من ليالي منى.
وعند الموعد أخذوا يتسللون الرجل بعد الرجل، والرجلان من بعد الرجلين، حتى اكتمل عددهم، اثنان وسبعون رجلا وامرأتان: نسيبة بنت كعب أم عمارة، وأسماء بنت عمرو بن عدي أم منيع -رضي الله عنهم أجمعين، ووافاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه العباس بن عبد المطلب وهو على دين قومه يومئذ، ولكنه أحب أن يستوثق لابن أخيه، والتأم الجمع، وكان أول متكلم العباس، فقال: «يا معشر الخزرج، إن محمدًا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه؛ فهو في عزة من قومه ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما وعدتموه به، ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم؛ فمن الآن فدعوه؛ فإنه في عزة ومنعة من قومه وبلده».
قالوا: «قد سمعنا، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت».
فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغّب في الإسلام، ثم قال: «تبايعون على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافوا لومة لائم، وعلى أن تنصروني، فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة».
قال العباس بن عبادة بن فضلة الأنصاري أحد بني سالم بن عوف: «يا معشر الخزرج، هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟».
قالوا: «نعم»، قال: «إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا أنهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلى أسلمتوه، فمن الآن [دعوه]، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا»، قالوا: «فإنا نأخذه على مصيبة في الأموال وقتل الأشراف؛ فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفّينا؟»، قال: «الجنة».
واعترض القول أبو الهيثم بن التيهان، فقال: «يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالا وإنا لقاطعوها؛ فهل عسيت إن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟»، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب مَن حاربتم، وأسالم مَن سالمتم»، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخرجوا لي منكم اثني عشر نقيبًا يكونون على قومهم بما فيهم»، فأخرجوا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، وبسط يده رسول الله صلى الله عليه وسلم وبسطوا أيديهم، وكانت بيعة قام بها صرح الحق، واندكّ على أثرها معقل الباطل، وفخر بها شاعرهم مسجلاً أسماء نقبائهم في قوله:
وأَبْلِغْ أبا سفيانَ أنْ قَدْ بَدا لنا بأحمدَ نورٌ من هُدَى اللهِ سَاطِعُ
فَلاَ تَرْغَبَنْ في حَشْدِ أَمْرٍ تُرِيدُهُ وأَلِّبْ وَجَمِّعْ كُلَّ ما أَنْتَ جَامِعُ
وَدُونَكَ فاعْلَمْ أَنَّ نَقْضَ عُهُودِنَا أَبَاهُ عَلَيْكَ الرّهْطُ حِينَ تبايعوا
أَبَاهُ البَرَاءُ وابنُ عمروٍ كِلاهُمَا وأسْعَدُ يأْبَاهُ عَلَيْكَ وَرَافعُ
وَسَعْد أَبَاهُ السّاعِديُّ وَمُنْذِرٌ لأنفِكَ -إنْ حَاوَلْتَ ذلكَ- جَادِعُ
وَمَا ابْنُ ربيعٍ إنْ تَنَاوَلْتَ عَهْدَهُ بمُسْلِمِهِ لا يَطْمعَنْ ثَمَّ طَامِعُ
وأيضًا فلا يُعْطِيكَهُ ابنُ رواحَةٍ وإخفارُهُ من دونِهِ السُّمُّ ناقعُ
أَبُو هَيْثَمٍ أيضًا وَفيٌّ بمثلِهَا وفاءً بمَا أَعْطَى مِنَ العَهْدِ خَانِعُ
وما ابنُ حضَيرٍ إنْ أَرَدْتَ بمَطْمَعٍ فَهَلْ أَنْتَ عَنْ أُحْمُوقَةِ الغَيِّ نَازِعُ
وسعدٌ أَخو عمرِو بن عوفٍ فإنّهُ ضَرُوحٌ لِمَا حَاوَلْت مِ الأَمْرِ مَانِعُ
أُولاكَ نُجُومٌ لا يغبُّكَ مِنْهُمْ عَلَيْكَ بِنَحْسٍ في دجى الليلِ طَالِعُ
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنقباء بعد ذلك: «أنتم كفلاء على قومكم ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم»، وقد بلغت الحماسة بالقوم أشدها، فقالوا: «يا رسول الله، والذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى غدًا بأسيافنا»، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم نؤمر بذلك، ولكن ارفضّوا إلى رحالكم».
أيها المؤمنون: إنها بيعة بالقلب واللسان، لم تُسجّل في عقد، ولم تُخلّد في كتاب، ولكنها سُطّرت على صفحات قلوب مؤمنة كريمة، وأعربت عنها ألسن صادقة مبينة، فأعز الله بها الحق حتى امتد رواقه واشتد سلطانه، وظهر أمر الله وأعداؤه كارهون، وهاأنتم اليوم تدعون لبيعة على نهج البيعة الأولى، تعاهدون فيها ربكم، وتعطون فيها موثقكم على الجهاد في سبيل الله لاستنقاذ الأرض المقدسة وحماية الأوطان العزيزة وإعلاء كلمة الله؛ ﴿حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾ [الأنفال: 39]؛ فإن كنتم تقدرون ما تعملون، وتفقهون ما تقولون فبايعوا، وإنها والله لخير الدنيا والآخرة، وإن صدقتم الله صدقكم ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 40].
والله أكبر ولله الحمد(13).
صاحب النقب
﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5].
طال الحصار وامتد بالمحاصرين الأمد، وهم قوم أبعد همة من النجوم، يود أحدهم أن لو كان بجناحين، وأحاط بأقطار الأرض جميعًا ليُعلن فيها كلمة الحق، ويرفع على ذوائبها راية الله، وابتدأ الملل يتسرب إلى نفس الأمير والجند؛ فالموضع حصين، والسور مرتفع، والحامية يقظة، والعدة وافرة، ولا بد من مغامرة للقيام بمحاولة قد يكون من ورائها الفتح؛ فمن الذي يقوم بها؟
وفي القوم رجل مؤمن مغامر -وكلهم مؤمنون بحمد الله- فتألف عدد منهم على شاكلته، وزحف بهم مدرعًا بجلباب الليل تحت وابل من القذائف الطائشة، وحفظتهم عناية الله حتى لاصقوا السور، وصاروا بمنأى عن مواقع القذائف، وابتدأوا عملهم بنشاط وهمة، وأعملوا معاولهم في هذا البناء الضخم حتى أوسعوا فيها نقبًا صالحًا للمرور، ووقعت المعجزة، وتمت المغامرة، وكان هذا النقب أو الفتح، وقضي الأمر، وتم النصر، ووزعت المغانم، وهتف الأمير بصاحب النقب ليجزل عطاءه، ويجزل ثناءه؛ فلم يجبه أحد، فاستخدم سلطة الأمر، وأقسم على صاحب النقب أن يخبر عن نفسه، وناشد الله أن يفعل، وناشد من يعرفه أن يدل عليه، فقام رجل وقال: «أيها الأمير، إن صاحب النقب يشترط عليكم إن دلكم على نفسه ألا تسألوه عن اسمه أو قبيلته أو شيء من أمره، فإذا أعطيتموه شرطه أظهركم على نفسه؛ فهل أنتم فاعلون؟»، قال الأمير: «نعم وكرامة»، فقال الرجل: «أنا صاحب النقب»، وجلس، فصاح الأمير: «من أنت يرحمك الله»، فقال: «عبد من عباد الله»، والشرط أملك، والمؤمنون عند شروطهم، ودخل في القوم حتى لا يعرفه أحد؛ فكان الأمير بعد ذلك يقول: «والله ما صليت صلاة إلا سألت الله أن يحشرني مع صاحب النقب».
وعثر بعض الجنود على حُق من الجوهر لا تقدر قيمته لنفاسته، بعد فتح المدائن، فجاء به إلى سعد الأمير، وقال: «عثرت على هذا أيها الأمير وهو من غنائم الفتح فضعه حيث أمر الله»، وعجب الأمير، وسُرّ بأمانة جنده، وقال: «الحمد لله الذي جعل في هذا الجند من يؤدي إلى الأمير مثل هذا»، ثم التفت إلى المجاهد الأمين، وقال: «من أنت حتى أكتب باسمك إلى أمير المؤمنين؟»، فقال: «أيها الأمير، لو كنت أبتغي وجه أمير المؤمنين ما جئتك بهذا، ولا علم لأمير المؤمنين به، ولكني أبتغي وجه الله، وهو أعرف بعباده؛ فلا تكتب باسمي إلى أحد، وحسبي رضوان الله».
وخرج عبد الله بن المبارك رضى الله عنه في سرية من السرايا التي تغزو الروم، والتقى الجمعان، وبرز من الروم فارس معلم أخذ ينكل بالأبطال، فانبرى له من جند المسلمين فارس ملثم جال معه جولة، وأرداه بعدها قتيلاً، وفعل بالقوم الأفاعيل، فقالت السرية: «ملك من عند الله أمدنا به»، واستقبله أميرها، وعزم عليه أن ينزع لثامه، وأن يكشف عن شخصه، فأبى الفارس، وحاول أن يمتنع، فلم يمكنه الأمير، فامتثل أمره، وأزاح اللثام؛ فإذا هو شيخهم عبد الله بن المبارك والأمير من تلامذته، ثم قال الشيخ مخاطبًا إياه: «وأنت أيضًا يا فلان تأبى إلا أن تشهر بنا؟ لقد خرجت هذه الخرجة لله، وآليت ألا أخبر بها أحدًا، أما إذ عرفتم شأني فلا مقام لي معكم بعد اليوم»، وكرَّ راجعًا إلى مدرسته.
هكذا كانوا، وبهذا الإخلاص وإنكار الذات والعمل لله وحده انتصروا، وقد فقدنا هذا الخُلق، ففقدنا معه [الإمداد] والنصر والتأييد، وما أحوجنا في هذه الساعات العصيبة إلى أن نتخلق به من جديد، وإلى أن نعمل ليرانا الله وحده، وصدق الله العظيم ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5](14).
ذم الدنيا والتزهيد فيها
الحمد لله الغالب على أمره، القاهر فوق عباده، وهو الحكيم الخبير. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبع هداهم إلى يوم الدين.
أما بعد...
فيا عباد الله إن الله -تبارك وتعالى- قد ابتلى عباده بهذه الدنيا، واختبرهم فيها لينظر كيف يعملون؛ فكان منهم قوم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، وغرّهم زخرفها الباطل، وخدعهم متاعها الزائل، فركنوا إليها، واطمأنوا بها، واشتغلوا بجمعها، لا يسألون عن حِلٍّ ولا حرمة، همهم اجتذاب حطامها واجتلاب أعراضها، فإذا حدثتهم عن الآخرة نظروا إليك نظرة دهش واستغراب كأنهم ما سمعوا بها، وكأنهم لم يروا الذاهبين كل يوم إليها، وكأن الموت في هذه الحياة الدنيا على غيرهم كتب، والحق فيها على غيرهم وَجَب، والقرآن لسواهم نزل، وكأن الذين يشيعونهم كل يوم من الأموات سُفر، عن قريب إليهم راجعون، يبوّءونهم أجداثهم ويأكلون تراثهم كأنهم خالدون من بعدهم، قد نسوا كل واعظة، وأَمِنوا كل جائحة، همهم الشهوات، وديدنهم الغفلات، لا يفكرون في مستقبلهم، ولا يعدون في العاجلة ما ينفعهم في الآجلة.
أولئك أبناء الدنيا وكلابها وخدامها وطلابها لا حظ لهم في الآخرة، وما لهم في سعادتها من نصيب ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ في الآَخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [هود: 15-16]، ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاَهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا﴾ [الإسراء: 18-19]، ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ في حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ في الآَخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ﴾ [الشورى: 20].
وقسم أنار الله بصائرهم بنور الإيمان، وأشرقت في قلوبهم شمس اليقين، فعلموا أن الدنيا غرور وخدعة وساعة ثم تنقضي، وأنها دار اختبار وامتحان وبلاء وكدر، وأن الآخرة حقٌّ لا شكَّ فيه، ويقين لا بد منه، وأنها أقرب من أن يرحل إليها، وأنها أدنى إلى المرء من شراك نعله، وما بينه وبينها إلا الموت أن ينزل به؛ فخشعت لذلك قلوبهم، واطمأنت إليه أفئدتهم، وأشفقت من الساعة نفوسهم ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلاَ إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ في السَّاعَةِ لَفِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ﴾ [الشورى: 18]، يبيت أحدهم على مهاد التذكر، ويستيقظ وديدنه التفكر، ويقضي دقائق حياته في العبرة والتبصر، لا يأمن مكر الله، ويسأله النجاة من عذابه وصلاح حاله في معاده.
أولئك أبناء الآخرة، وأحباب الله، وأهل الجنة، والفائزون بنعيم الطاعة في الدنيا، وبجزيل الثواب في العقبى، وقد جاء في الأثر أن «النور إذا دخل القلب انشرح الصدر وانفسح»، قالوا: «أولذلك علامة يا رسول الله؟»، قال: «نعم؛ التجافي عن دار الغرور، وإنابة إلى دار الخلود».
وقد أرشد الله عباده المخلصين من الصديقين والنبيين والشهداء والصالحين إلى ذلك الطريق المستقيم، فقال -تعالى- لنبيه الكريم: ﴿وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [طه: 131]، كما قال -تعالى: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾ [الأعلى: 16-19]، وقال -تعالى: ﴿أَفَمَن وَّعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾ [القصص: 61].
فاجتهد -يا عبد الله- أن تكون من أبناء الآخرة المتقين، ولا تكن من عُبّاد الدنيا المغرورين لتفوز في آخرتك بالنعيم المقيم والثواب العظيم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني...» الحديث(15).
يأس المسلمين من أنفسهم وخطؤهم في ذلك
الحمد لله الذي جعل لعباده المؤمنين من كلِّ همٍّ فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، وهيأ لهم -ما استقاموا- أسباب النصر المبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، أقوى الخلق أملاً، وأشرفهم عملاً، اللهم صلِّ وسلِّم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الذين جاهدوا في الله حق جهاده حتى أظهر الله بهم كلمة هذا الدين.
أما بعد،
فيا عباد الله، يئس المسلمون من أنفسهم، وقنطوا من صلاح حالهم، وظنوا أن لن يعود إلى هذه الأمة مجدها أبدًا، فإذا حدثتهم في الإصلاح لم تر إلا قلوبًا يائسة وهممًا خامدة، وإذا دعوتهم إلى العمل قالوا: هيهات هيهات، وماذا يجدي العمل أو ينفع الجهاد؟ وهكذا استسلموا للمذلة، واستكانوا للعار، ورضخوا تحت نير العذاب، لا يحرّكون ساكنًا، ولا يطلبون للنجاة سبيلاً، حتى رثى لهم القريب، وطمع فيهم البعيد، ومد يده إليهم بالسوء من لا يدفع عن نفسه، ونسي المسلمون أن الله من وراء كل ذلك، أَمْره إذا أراد شيئًا أن يقول له: «كن» فيكون؛ فهو القادر في لمحة واحدة أن يحوّل الحال، فإذا بالقوي ضعيف، والمالك مملوك، والمستضعفين سادة الأرض.
يا عباد الله: إن اليأس ليس من أخلاق المؤمنين؛ فقد قال -تعالى: ﴿إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 87]، وقال -تعالى: ﴿وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ﴾ [الحجر: 56]؛ فالمؤمن يأمل دائمًا في النجاة، ويستعين في ذلك مولاه، فإن صحّ له السبيل فذلك هو القصد النبيل، وإن عزّت عليه الحياة في بحبوحة السعادة آثر عليها الموت والشهادة ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا﴾ [التوبة: 52].
والحياة -أيها الإخوان- دول، والأيام متقلبة، ودوام الحال من المحال ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [آل عمران: 140].
وكل هذه أمراض تعترض الأمم كما تعترض الأفراد، ولكل مرض دواء، ولكل علة شفاء متى تغلب على اليأس الرجاءُ، وقد ابتلى الله الأمم من قبلكم بأشد مما ابتلاكم به، ألم يخاطبكم الله -تبارك وتعالى- بقوله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة: 214]؟ أولم يبين لكم في كتابه سُنتَه في خلقه أن يختبرهم ليعْلم الشاكين والثابتين كما قال -تعالى: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: 1-3]؟
وهؤلاء بنو إسرائيل كانوا أذلاء مستضعفين قد تسلط عليهم عدوهم، يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم فاتبعوا نبيهم، وصدقوا رسولهم، فأورثهم الله ﴿مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ﴾ [الأعراف: 137].
ففيم اليأس أيها الإخوان! وفيم القنوط ونصر الله -تبارك وتعالى- ينزل من حيث لا تحتسبون، ورحمة الله قريب من المحسنين، ولكم عبرة فيمن سبقكم ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ [يوسف: 110]؟
وقد وعدكم الله في كتابه وعودًا إن نفذتم شرطها رجعت إليكم عزتكم، وأدركتم ما فاتكم من سيادتكم، قال -تعالى: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ في الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾ [الحج: 40-41]، وقال -تعالى: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾ [النور: 55].
فأكملوا إيمانكم، وصححوا عقيدتكم، والجئوا إلى بارئكم، واستعينوا مولاكم، وعودوا إلى دينكم، وتمسكوا بشريعتكم ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11]، وأنا لكم زعيم أن ينصركم الله على أعدائكم، وأن يورثكم ديارهم وأموالهم؛ فتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 139]، ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [التوبة: 105].
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه : «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني؛ فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلى شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إلى ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة»(16).
بين اليأس والأمل
﴿وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف:87].
لا أتصور أن مؤمنًا بالله وبالقرآن يجد اليأس إلى قلبه سبيلاً، مهما أظلمت أمامه الخطوب، واشتدت عليه وطأة الحوادث، ووضعت في طريقه العقبات.
إن القرآن ليضع اليأس في مرتبة الكفر، ويقرن القنوط بالضلال قائلاً: ﴿وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ﴾ [الحجر: 56]، وإن القرآن ليقرره ناموسًا كونيًّا لا يتبدل، ونظامًا ربانيًّا لا يتغير، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً، إن الأيام دول بين الناس، وإن القويَّ لن يستمر على قوته أبد الدهر، والضعيف لن يدوم عليه ضعفه مدى الحياة، ولكنها أدوار وأطوار تعترض الأمم والشعوب كما تعترض الآحاد والأفراد: ﴿وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: 140].
وإن من حكمة الله في ذلك أن يبلو المؤمنين ويختبر الصادقين، ويميز الخبيث من الطيب، فيجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعًا، فيجعله في جهنم، ويأجر الصادقين الثابتين نصرًا وتأييدًا في الدنيا، ومثوبة ومغفرة في الآخرة ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ [محمد: 31]، ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة: 214].
وأقرب ما يكون هذا النصر إذا اشتد الضيق، وزاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ [يوسف: 110].
ولم تتخلف هذه القواعد الربانية في الأمم السابقة؛ فكم من أمة ضعيفة نهضت بعد قعود، وتحركت بعد طول خمود، وكم من أمة بطرت معيشتها، وكفرت بأنعم الله، فزالت من الوجود، وأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ في الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ في الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا﴾ [الإسراء: 4-6]، ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ في الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا في الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ في الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرونَ﴾ [القصص: 4-6].
وإن القرآن ليمد هؤلاء الصابرين الآملين الذين لا يجد اليأس إلى قلوبهم سبيلاً بمعان من القوة لا تفيض إلا من رحمة الله وقدرته، تتحطم أمامها قوى المخلوقين، وتعجز عن إضعافها والنيل منها محاولة العالمين، ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ﴾ [المدثر: 31]، ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 173- 175]، ﴿قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: 23]، وقد لا يخطر ببال هؤلاء المؤمنين الصابرين أنهم سيصلون إلى الغاية بمثل هذا اليسر، أو تتحقق لهم الآمال بهذه السهولة، ولكن الله العلي يُدني منهم ما بَعُد، ويهوّن عليهم ما صعب، ويوافيهم بالنصر من حيث لا يحتسبون ﴿هُوَ الذي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ * وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ في الدُّنْيَا وَلَهُمْ في الآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ﴾ [الحشر: 2-3]، ﴿وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا﴾ [الأحزاب: 25-26].
فيا أيها المؤمنون بهذا الكتاب الكريم:
أيليق بكم أن يقول قائل: ماذا نصنع ونحن ضعاف وخصومنا أقوياء؟ أو يجمل بأحد منكم أن يتخلف وفي صدره هذا الأمل الواسع ومن ورائه هذا التأييد الشامل عن صف الجهاد؟ اللهم لا(17).
إعزاز الله للمسلم بالطاعة
وإذلال المسلم لنفسه بالمعصية
الحمد لله العلي الكبير، القوي القدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وحبيبه وصفيه، اللهم صلِّ على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعَ هداهم إلى يوم الدين.
أما بعد.. فيا عبد الله: تصور أن لك خادمًا تريد أن ترفع منزلته وتُعلي رُتبته وتقرّبه إليك وتجعله فوق زملائه من خَدَمِك، فكان يأبى إلا الذلَّ ولا يرضى إلا بالهوان؛ فكلما رفعته أسقط نفسه، وكلما ناديته أسرع في الهرب، ألست تغضب عليه، وتحكم بأنه لا يفرق بين ما ينفع وما يضر، ولا يدرك ما يُحزن وما يَسُر؟
ذلك مثلك -يا أخي- مع ربك ومولاك، الذي خلقك فسواك فعدلك، في أي صورة ما شاء ركّبك، أكرمك مولاك وفضلك على سائر خلقه، وسخر لك ما في السماوات وما في الأرض جميعًا منه، وفضلك على كثير ممن خلق تفضيلاً، وأعزك بالإيمان والطاعة والانتساب إليه، فقال -تعالى: ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [البقرة: 257]، وقال -تعالى: ﴿وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [المنافقون: 8].
وجعلك خليفته في أرضه، والقائم بحق الأمانة في ملكه، فقال -تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 30].
واختصك بطاعته، وأوصاك بعبادته، وشرفك بخدمته، وحذرك من عدوك وعدوه، فقال -تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ [يس: 60-61].
وأخذ عليك العهد والميثاق أن تكون له خالصًا ولا تكون لغيره أبدًا، فقال -تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ [الأعراف: 172].
وجعلك أستاذ العالم وهادي الخلق إلى الحق، وشرفك بمبعث خير نبي وأفضل رسول، وجعل أمتك خير أمة أخرجت للناس، فقال -تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 143].
أكرمك الله بكل ذلك، وأوضح لك منزلتك، وعرفك وظيفتك، فأهملت نعمة الله عليك، وانصرفت إلى غير واجبك، ورضيت بالذل بدل العز، وبالجحود بدل الإيمان، وبالمعصية بدل الطاعة؛ فحاق بنا ما ترى من الأهوال والمصائب والنكبات والكوارث والأزمات والبلايا، وصدق فينا قول الله -تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [النحل: 112]، هذا وعذاب الآخرة أشد وأبقى، وآلم وأنكى، وأفظع وأعظم ﴿لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ﴾ [الزمر: 16].
هذه حالنا أيها الأخ الحبيب.. فماذا ترى؟ أنبقى هكذا كعبيد السوء يريدُ لهم مولاهم العز ولا يريدون لأنفسهم إلا الذل، ويدعوهم إلى السعادة فيأبون إلا الشقاء، أم نفكر في طريق نعود به إلى عزنا ونسترد به سالف مجدنا ونحصل منه على رضا ربنا؟!
فاعلم -يا أخي- أن لا طريق لذلك إلا أن نتخذ القرآن إمامًا، نُحِلَّ حلاله ونحرم حرامه، والرسول صلى الله عليه وسلم هاديًا ومرشدًا نقتدي بسيرته ونتمسك بسنته، والدينَ أميرًا ومُعْتَصَمًا، ما أمَرَنا به فعلناه وما نهانا عنه تركناه.
والذي يعيننا على ذلك ويقرب لنا الطريق إليه أن نتآخى في الله، ونتعاون على البر والتقوى، ونكون صفًّا واحدًا في سبيل الوصول إلى الحق ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11].
ألا قد بلغت.. اللهم فاشهد.
عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار تقع فيها، فجعل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحُجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها»، أخرجه البخاري ومسلم والترمذي(18).
المصادر
- مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 6 – صـ11، 12 – 27ربيع الأول 1352هـ /20يوليو 1933م.
- مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 7 – صـ10، 11 – 4ربيع الآخر 1352هـ / 27يوليو 1933م.
- مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 8 – صـ11، 12 – 11ربيع الآخر 1352هـ / 3أغسطس 1933م.
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الأولى – العدد 42 – صـ1 – 21رجب 1365هـ / 21يونيو 1946م.
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثانية – العدد 360 – صـ1 – 15شعبان 1366هـ / 4يوليو 1947م.
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الأولى – العدد 78 – صـ1، 4 – 5رمضان 1365هـ / 2أغسطس 1946م.
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثالثة – العدد 706 – 15شوال 1367هـ / 20أغسطس 1948م.
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الأولى – العدد 204 – صـ1 – 10صفر 1366هـ / 2يناير 1947م.
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الأولى – العدد 18 – صـ1 – 23جمادى الآخرة 1365هـ / 24مايو 1946م.
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الأولى – العدد 54 – صـ1 – 6شعبان 1365هـ / 5يوليو 1946م.
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الأولى – العدد 30 – صـ1 – 7رجب 1365هـ / 7يونيو 1946م.
- مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 2 – صـ13، 14 – 28صفر 1352هـ / 22يونيو 1933م.
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثانية – العدد 436 – صـ1 – 18ذو القعدة 1366هـ / 3أكتوبر 1947م.
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثانية – العدد 549 – صـ1 – 3ربيع الآخر 1367هـ / 13فبراير 1948م.
- مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 13 – صـ9، 10 – 17جمادى الأولى 1352هـ / 7سبتمبر 1933م.
- مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 10 – صـ13 : 15 – 25ربيع الآخر 1352هـ / 17أغسطس 1933م.
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الأولى – العدد 186 – صـ1 – 18محرم 1366هـ / 12ديسمبر 1946م.
- مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 1 – صـ12، 13- 21صفر 1352هـ / 15يونيو 1933م.