حسن البنا وقاسم أمين وحرية المرأة

تميّزت المرأة عبر العصور القديمة والحديثة بمشاركتها الفاعلة في شتى المجالات؛ فلعبت دور الشاعرة والملكة والفقيهة والمحاربة والفنانة، وما زالت المرأة حتى العصر الحالي تتعب وتكد في سبيل بناء الأسرة ورعاية البيت، حيث يقع على عاتقها كأم مسؤولية تربية الأجيال، وتتحمل كزوجة أمر إدارة البيت واقتصاده، وذلك ما يجعل المهام التي تمارسها المرأة في مجتمعاتنا لا يمكن الاستهانة بها، أو التقليل من شأنها.

ولقد اعتنى الإمام حسن البنا بالمرأة وطالب بحسن تربيتها ولها فيها فكر سطره خلال رسائله ومقالاته وصدع به في كل مكان، وهو فكر مناقض للداعين لتحرير المرأة تحريرا كاملا دون ضوابط.

ما زالت الطغمة العلمانية واليسارية في كل مكان تهاجم أصحاب الرأي الإسلامي وعلى رأسهم الأستاذ حسن البنا في قضية المرأة حيث لا يعجبهم رأيه في التزام المرأة بتعاليم الإسلام في تعاملاتها وملابسها وتصرفاتها، ويدعون لحريتها كاملة.

كانت المرأة عند جميع الأمم تعاني من اضطهاد شنيع، حيث انتكست الفطرة، وابتعدت الأمم عن شريعة الله إلى ما زينته لهم شياطينهم من قوانين وضعية، فعند الرومان سلب قانونهم المرأة معظم حقوقها، فقبل الزواج تكون ملكاً لرب الأسرة، له الحق في قتلها، وبيعها، وبعد الزواج يحل زوجها مكان والدها في جميع حقوقه، وهي لا ترث عندهم، لأنها ليس لها حق في الحرية عندهم، ولا عقل لها([1]).

حسن البنا وحرية المرأة

لقد اعتنى حسن البنا بالمرأة وقضيتها وطبع جماعته على التحلي بفضائل الأخلاق مع المرأة والعمل على إعطائها حقوقها وفق كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، حتى أنه أصدر رسالة كاملة عن المرأة المسلمة، في وقت تنازعها تياران: تيار يدعو للتمسك بالتقاليد ولا يرى حقوقًا للمرأة، وآخر يدعو إلى الانحلال ومتابعة الغرب في رؤيته للمرأة، فكتب الإمام البنا هذه الرسالة لتوضيح موقف الإسلام من المرأة وحقوقها.

فيقول: ونحن لا نريد أن نقف عند هذا الحد، ولا نريد ما يريد أولئك الغالون المفرطون في تحميل المرأة ما لا حاجة لها به من أنواع الدراسات، ولكنا نقول: علموا المرأة ما هي في حاجة إليه بحكم مهمتها ووظيفتها التي خلقها الله لها.. ويرى الإسلام في الاختلاط بين المرأة والرجل خطرًا محققًا، فهو يباعد بينهما إلا بالزواج وأن أكبر الكبائر في الإسلام أن يخلو الرجل بامرأة ليست بذات محرم له، ولقد أخذ الإسلام السبيل على الجنسين في هذا الاختلاط أخذًا قويًّا محكمًا.

ثم يقول: إن الإسلام يرى للمرأة مهمة طبيعية أساسية هي المنزل والطفل، فهي كفتاة يجب أن تهيأ لمستقبلها الأسري، وهي كزوجة يجب أن تخلص لبيتها وزوجها، وهي كأم يجب أن تكون لهذا الزوج ولهؤلاء الأبناء، وأن تتفرغ لهذا البيت، فهي ربته ومدبرته وملكته، ومتى فرغت المرأة من شئون بيتها لتقوم على سواه؟ فإذا كان من الضرورات الاجتماعية ما يلجئ المرأة إلى مزاولة عمل آخر غير هذه المهمة الطبيعية لها، فإن من واجبها حينئذ أن تراعي هذه الشرائط التي وضعها الإسلام لإبعاد فتنة المرأة عن الرجل، وفتنة الرجل عن المرأة، ومن واجبها أن يكون عملها هذا بقدر ضرورتها، لا أن يكون هذا نظامًا عامًّا من حق كل امرأة أن تعمل على أساسه، والكلام في هذه الناحية أكثر من أن يحاط به، ولاسيما في هذا العصر الميكانيكي الذي أصبحت فيه مشكلة البطالة وتعطل الرجال من أعقد مشاكل المجتمعات البشرية في كل شعب وفى كل دولة([2]).

حرص الإمام حسن البنا على إعطاء المرأة حريتها الكاملة التي كفلها لها الإسلام والدين الحنيف، وفي ذلك يقول حسن البنا: "نحب من كل قلوبنا أن تبلغ المرأة الشرقية أقصى حدود الكمال الممكن، وأن ترقى إلى أوسع مدى تطمح إليه، ونعتقد أن النهضة الصحيحة إنما تدعم على أسس قوية من نفسية المرأة وروحها، وما تبثه في نفوس أبنائها -وهم الجيل الجديد- من مبادئ وأخلاق، ذلك أمر مفروغ منه ليس فيه مجال للجدل ولا للخلاف، فلترق المرأة الشرقية في مدارج الكمال ما شاء لها الرقي، ولتكمل نفسها ما شاء لها التكميل حتى تصل إلى الكمال، ولتعمل في هذا السبيل بكل ما وجدت من وسع، ولكن حذار حذار فإن الموقف دقيق، حذار فإن المرأة التي تصلح الأمة بصلاحها هي المرأة التي تجلب على الأمة الفناء والاضمحلال بفسادها، حذار فإن مزالق الضلال كثيرة ومناحي الفساد متشعبة ومظاهر الخداع غرارة، وإذن فلابد من تحديد الغاية([3]).

ثم يوضح منهج وفكر الإخوان في قضية المرأة والتصدي لطالبي التغريب، فيقول: أما إذا أردتم الإباحية، والمجون، والعبث، والاستهتار، وطرح المرأة في الأسواق والمجامع تتقلب بين أيدي المغرورين والمفتونين من الشبان، وتنهبها الأبصار من كل مكان، وتدع مهمتها القدسية التي لها خلقت وبها اختصت من رعاية الطفل وتدبير البيت وإسعاد الزوج، فلن يكون معكم الإسلام في هذا، ولن ندع لكم هذا العبث، وسنجاهد في سبيل إنقاذ المرأة من براثن هذه الدعاية الضالة الطائشة التي يهتف بها المخدوعون الأغرار من الشبان والشابات([4]).

وقف حسن البنا مع تعليم المرأة فلم يحجر الأمر على الرجال دون النساء لكنه مع ذلك طالب بأن يكون التعليم مناسبا لطبيعتها بعيدا عن الاختلاط، فيقول: أيها القوم جميعًا: أما تعليم البنت وتثقيفها وتهذيبها وتربيتها فأمر لا نجعله محل نزاع فيما بيننا، وليس هو من شئون بحثنا، وأما سفورها أو حجابها واختلاطها أو اعتكافها فلنا فيه كلام([5]).

كما كتب برسالة لوزير المعارف، بحث الوزارة على الاهتمام بالدين والتربية الإسلامية للحصول على نتائج أفضل وسط المجتمع خاصة محيط الفتيات فقال فيها: يا معالي الوزير: إن الاعتناء بأمر الدين من شأنه تخريج موظفين مخلصين للحكومة والأمة معًا، أمناء على الأموال والأعراض والحقوق، وتخريج فتيات مهذبات وفتيات مدبرات للمنازل حافظات للغيب صالحات لتربية أولاد المستقبل معاونات للأزواج على مشاق الحياة([6]).

ومن القضايا الهامة التي اهتم بها الإخوان قضية تعليم المرأة، فقد أيدوا تعلمها غير أنهم وضعوا بعض الشروط لهذا التعليم، وذلك بأن يقتصر على العلوم التي تفيد وتناسب طبيعة المرأة والذي لا يدفعها للاختلاط بالرجال، وفي ذلك يقول الإمام البنا: "ومن حسن التأديب أن يعلمهن ما لا غنى لهن عنه من لوازم مهمتهن كالقراءة والكتابة، والحساب، والدين، والتاريخ -تاريخ السلف الصالح رجالاً ونساءً، وتدبير المنزل، والشئون الصحية، ومبادئ التربية وسياسة الأطفال، وكل ما تحتاج إليه الأم في تنظيم بيتها ورعاية أطفالها([7]).

إذا لم يطلب حسن البنا – كما يدعي العلمانيون واليساريون وأذناب الأنظمة الديكتاتورية- أن يحجر على المرأة أو تفقد حريتها أو تحرم من التعليم أو تمارس حياتها، لكنها وضعها في الإطار الإسلامي الذي يحافظ على المرأة وليس كما يطلب دعاة التغريب من خروجها سافرة فتتحول لسلعة كما دعى قاسم أمين وهدى شعراوي ودرية شفيق وغيرهم.

قاسم أمين وتحرير المرأة

يحاول طغاة العلمانية واليساريين أن يصوروا أن دعوة قاسم أمين إلى تحرير المرأة إنما كان يقصد بها إعطائها حرية التعليم وهذا عسل مدسوس فيه سم زعاف، حيث أن دعوات إعطاء المرأة حريتها في التعليم موجودة من قبل ظهور قاسم أمين، بل إن الإسلام شرع تعليم المرأة ما ينفعها ويحفظ حقها ومجتمعها.

فكان من أبرز من كتب مطالبا بتعليم المرأة مثلا في العصر الحديث الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي عام 1890م في كتابه "المرشد الأمين في تربية البنات والبنين"، حيث قال رحمه الله "إن القول بأنه لا ينبغي تعليم النساء وإنه مكروه في حقهن، استنادا على النهي عن ذلك في بعض الآثار، فينبغي ألا يكون ذلك على عمومه ولا نظر لمن علل ذلك، وقد اقتضت التجربة في كثير من البلدان أن نفع تعليم البنات أكثر من ضرره بل لا ضرر فيه أصلا" ([8]).

والغريب أن المفكرين العرب لا يكتبون ما يكتبون إلا بعد عودتهم من الدول الغربية وكأنهم اكتشفوا شيء أخر غير ما جاء في تعاليم الإسلام، أو انهم أرادوا أن يهدموا تعاليم الإسلام من أجل الفكر الغربي.

فحينما عاد قاسم أمين من فرنسا كتب كتابه تحرير المرأة وحاول أن يثبت أن العزلة بين المرأة والرجل لم تكن أساسا من أسس الشريعة، وإن لتعدد الزوجات والطلاق حدودا يجب أن يتقيد بها الرجل بها ثم دعا لتحرير المرأة لتخرج للمجتمع وتلم بشؤون الحياة.

الغريب أن قاسم أمين نفسه ناقض نفسه فيما دعا له، فقبل أن يكتب كتاب تحرير المرأة الذي صدر في سنة (1317هـ = 1899م) ودعا فيه إلى:

– ما أثاره عن الحجاب الذي كان يسود عالم المرأة في تلك الفترة.

– ما دعا إليه من ضرورة تقييد الحق المطلق الممنوح للرجل في الطلاق.

– نقد نظام تعدد الزوجات والدعوة إلى ضبطه وتقييده.

كتب كتاب بعنوان المصريون عام 1894م ردا فيه على الدوق "دار كور" الذي كتب عن المصريين وجرح كرامتهم وقوميتهم وطعن بالدين الإسلامي، حيث ألف الكتاب بالفرنسية.

دافع كتاب "المصريون" عن نظام الحجاب السائد لعالم المرأة الشرقية في عصره، وامتدح النظام الصارم الذي جعل المجتمع الشرقي مجتمعًا انفصاليًّا، وهاجم "تحرير المرأة" الأوربية، بل إنه غالى في تصوير مساوئ الاختلاط في أوروبا، وصور نتائج الاختلاط بأنها تنتهي غالبًا بفقدان المرأة لعفتها، وتفريط الرجل في عرضه.

لكن في تحرير المرأة رأى أنه يرتبط بالعادات وليس بالشرائع، وهاجم المجتمع الانفصالي، واستنكر إمكانية ممارسة المرأة لواجباتها ومهماتها في الحياة طالما ساد الانفصال بين الجنسين في المجتمع.

لم يكن قاسم أمين مصلحًا إسلاميًّا، وخلفيته الفكرية الإسلامية لا تؤهله ليكون كاتبًا إسلاميًّا فضلاً عن أن يكون مصلحًا إسلاميًّا، بل إن طبيعته الخاصة وتكوينه الذاتي كانا ينأيان به عن أن يكون الكاتب المتخصص والمهتم بأمور الدين، ولكنه مع ذلك دافع عن الإسلام في كتابه "المصريون" الذي رد فيه على هجوم الدوق "داركور"، لكنه تحول فكريا في كتابه تحرير المرأة([9]).

واقع الحياة بين البنا وأمين

ترجم البنا واقعه وفق أفكاره التي أمن بها ودعا لها والتي استمدها من تعاليم الدين الإسلامي، حيث حرص على تعليم بناته، كما أنه اهتم بالمرأة في جماعة الإخوان وتعليمها فخصص لهن قسم خاص بهن.

أما قاسم أمين فتعاليمه لم تتسق ولم تلتزم بها أقرب الناس له وهي زوجته السيدة زينب هانم، وهذا أمر لا نلمز به قاسم أمين، لكن زوجته اقتنعت بنظرتها الإسلامية، ولم يفرض عليها أراءه، ومن ثم فلا قاسم أمين ولا أتباعه ودعاة التحرير لهم الحق أن يفرضوا رأيهم على أحد أو يلمزوا فكر أحد.

فهم قد عرضوا فكرهم كما عرضه البنا وغيره من الدعاة الإسلاميين، وكما تركها القرآن والشرع الحنيف حيث لم يجبر الإيمان على أحد وترك الاختيار للإنسان.

لقد التزمت السيدة زينب هانم زوجة قاسم أمين بحجابها حتى أنها لم تختلط بأحد من الرجال أبدا، وحينما كانت تدعى للطعام في بيت صفية زغلول كانت تطلب أن تأكل وحدها بعيد عن موائد الرجال.

وكانت زوجته زينب قاسم أمين من ضمن الرافضين لتلك الأفكار، فلم تكن بنفس القدر من التحرر، وتمسكت بالعادات والتقاليد في المجتمع.

وذكر الكاتب الكبير مصطفى أمين في كتابه من "واحد لعشرة"، والذي يحكي فيه عن حياة سعد زغلول والرجال في حياته، تحدث فيه عن زينب زوجة قاسم أمين: قائلًا "إن أكثر ما يؤلم قاسم أمين أنه لم يفلح في إقناع زوجته التي عاش معها في بيت واحد، بالرسالة التي آمن بها".

لم تستطع الزوجة التخلي عن الفكرة التقليدية في عدم نزع حجاب الوجه، فحينما كانت تزور صفية زغلول ﻻ تنزع حجابها، رغم أنهما يجلسان بمفردهما.

كان قاسم أمين يحضر الغداء الدوري الذي كان يعده سعد زغلول للوزراء وزوجاتهم، إﻻ أن زوجة قاسم لم تحضر ولو لمرة واحدة هذا الغداء.

ويذكر الكاتب في مذكرته، أن السيدة زينب إذا حضرت لتناول الغداء مع صفية، كانت تُحضر لها أم المصريين الطعام في غرفة خاصة([10]).

ولقد عبرت عن رأيها في دعوة زوجها لتحرير المرأة بقولها في الحوار الذي أجرته معها مجلة الاثنين والدنيا في عددها الصادر برقم "385" في 27 أكتوبر سنة 1941م حيث أجابت عن سؤال المجلة (هل ترين أن فتيات اليوم قد حققن الغرض من دعوة المرحوم قاسم أمين؟) بقولها: دعا قاسم أمين إلى تعليم المرأة وتهذيبها حتى تساهم مع الرجل في تكوين الأسرة الصالحة وتهيئ للأجيال القادمة ذرية نافعة ونسلا كريما وقد دعا إلى السفور ولكن الفتيات اليوم تجاوزن الحد في سفورهن إلى ما لا يليق الصمت دونه "سمعت أن بعض الفتيات والسيدات من أسر كريمة يشربن الخمر ويقامرن ويرقصن مع الشباب الأجانب فحز هذا في نفسي لأنني وجدتهن جاهلات لا يفهمن معنى الحرية ولا يقدرن حق الفضيلة والاحتشام" وأني لاعتقد أن التعليم والسفور ليس هما المسئولين عن هذه النتائج السيئة ولكن سبب ذلك في الغالب يرجع إلى اختلاط فتيات الأسر الشريفة بمن هن أقل شأنا وتربية في المدارس لذلك حرص زوجي قاسم أمين على أن يتلقى بناتنا دروسهن في المنزل على أيدي أساتذة ومربيات ولن يذهبن إلى المدارس قط ولكي تدرك السيدات والفتيات مبلغ حرصي على الحشمة ورعاية الأخلاق - رغم دعوة قاسم أمين إلى السفور – أقول أننا تعودنا قضاء الصيف في راس البر وكنت أحرم على فتياتنا جميعا الاستحمام إلا في الساعات المخصصة للسيدات وأذكر لك بهذه المناسبة أننا وزوجي كنا نقضي سهرات سعيدة في بيت الأمة مع المرحوم سعد زغلول والسيدة الجليلة حرمه صفية هانم وفي هذه السهرات كنا نسمر في كثير من الشئون العامة بعيد عن التقول وذم الآخرين ذلك هو الاختلاط الذي دعا إليه قاسم أمين واشترط أن يقوم على أسس من الفضائل والأخلاق الكريمة لا هذه المجتمعات التي يقضي الوقت فيها باجتراع الخمور والرقص ولعب القمار.

-لماذا احتفظت بالحجاب إلى عهد قريب؟

-كان زوجي يقصد من الدعوة إلى الحجاب أن ينهض جيل جديد يقاوم الحياة بأخلاق وتقاليد مبنية على الكرامة والاعتداد بالنفس ولم يكن يقصد على أن تنزع سيدات عصره حجابهن وخاصة أن أولئك السيدات ما كن على قسط من التعليم وأنا من الجيل القديم وللعادة حكمها وقد حرصت على بقاء الحجاب بعد زوجي الذي توفي في الخامسة والأربعين وكان يكبرني بخمس سنوات وفي الوقت الذي توفي فيه زوجي كان يكفي أن تسير السيدة سافرة حتى تتناولها السن السوء بالطعن والأذى وخاصة إذا كانت أرملة فبقيت بالحجاب حتى وجدت الكثيرات قد رفعنه.

هذا رأيي وأرجو أن تكون الاثنين رسول خير لإسماع صوتي إلى سيدات وفتيات هذا الجيل اللواتي فهمن الحرية على غير حقيقتها وأني لأرجو منهن أن يستخدمن هذه الحرية في خدمة وطنهن المعذب وخاصة في تلك الظروف العصبية وأن يتبرعن بأثمان المساحيق ووسائل التجميل في الترفيه عن البؤساء إن المرأة التي لا تحجب وجهها بهذه المساحيق أجمل في نظري من تلك التي تلبس قناعا منها يخفي ما لها من جمال طبيعي([11]).

ومن طريف ما يروى في ذلك، أن المؤرخ الإسلامي «رفيق العظم» أراد أن يثبت لقاسم أمين فشله في دعوته بطريق عملي، فطرق منزله يومًا فلما رآه الخادم أسرع وأخبر قاسم أمين الذي خرج لاستقباله، فقال رفيق العظم: أنا في هذه المرة جئت لزيارة حرمكم لأتحدث معها في بعض المسائل الاجتماعية.. وعندما استنكر قاسم أمين طلبه أجابه رفيق العظم متعجبًا: كيف تدعو لشيء وتمنع أهلك منه؟ إذن فأنت تدعو الأمة إلى غير ما تريد لنفسك؟! فقال قاسم: إن زوجتي تلقت تربيتها و(عاداتها) عن والديها، وهي لم تألف ما أدعو إليه.. فضحك رفيق العظم وقال: كلنا هكذا، والخير في ذلك، وتهذيب المرأة لا يتوقف على لقائها بالرجل، وقد أردت أن أبرهن لك على أن ما تدعو إليه يمجه الناس جميعًا حتى أهل بيتك ([12]).

بل إن قاسم أمين نفسه عر بخواء فكره ودعوته لتحرير المرأة فتحدث نادما في حوار مع مجلة الطاهر حيث قال: لقد كنت أدعو المصريين قبل الآن إلى اقتفاء أثر الترك بل الإفرنج في (تحرير نسائهم)، وغاليت في هذا المعنى حتى دعوتهم إلى تمزيق ذلك الحجاب، وإلى إشراك النساء في كل أعمالهم ومآدبهم وولائمهم، ولكن.. أدركت الآن خطر هذه الدعوة بما اختبرته من أخلاق الناس، فلقد تتبعت خطوات النساء في كثير من أحياء العاصمة والإسكندرية لأعرف درجة احترام الناس لهن، وماذا يكون شأنهم معهن إذا خرجن حاسرات، فرأيت من فساد أخلاق الرجال بكل أسف ما حمدت الله على ما خذل من دعوتي، واستنفر الناس إلى معارضتي، رأيتهم ما مرت بهم امرأة أو فتاة إلا تطاولوا إليها بألسنة البذاءة، ثم ما وجدت زحامًا في طريق فمرت به امرأة إلا تناولتها الأيدي والألسن جميعًا([13]).


 


([1])  إسماعيل صديق عثمان: المرأة تحت مظلة الإسلام مكانتها وصون حقوقها، مجلة جيل حقوق الإنسان، العدد الرابع، 17 مارس 2017م

([2])  رسالة المرأة المسلمة من رسائل حسن البنا.

([3])  جريدة الإخوان المسلمين: العدد (2)، السنة الثالثة، 20 محرم 1354ﻫ/ 23 أبريل 1935م، صـ23.

([4])  مجلة التعارف، العدد (12)، السنة الخامسة، 4 ربيع الآخر سنة 1359ﻫ / 11 مايو سنة 1940م، صـ1.

([5])  جريدة الإخوان المسلمين، العدد (8)، السنة الأولى، 11ربيع الثاني 1352ﻫ/ 3أغسطس 1933م، صـ19.

([6])  جريدة الإخوان المسلمين – السنة الثالثة – العدد 6 - 18صفر 1354هـ / 21مايو 1935م.

([7])  مجلة المنار، الجزء (10)، السنة الخامسة والثلاثون، 1شعبان 1359ﻫ/ 4 سبتمبر 1940م، صـ35

([8])  وسيم عفيفي: ماذا قالت زوجة “قاسم أمين” عن أفكاره ورد فعل المجتمع، 18 مايو 2017، https://bit.ly/2XMujSS

([9])  الدكتور محمد عمارة: قاسم أمين .. من “المصريون” إلى “المرأة الجديدة”، https://bit.ly/3mcnPG7

([10])  مصطفى أمين: من واحد لعشرة، دار العلم للملايين، 1977، صـ120.

([11])  مجلة الاثنين والدنيا: العدد “385” في 27 أكتوبر سنة 1941م.

([12])  أحمد بن عبد العزيز الحصين: المرأة المسلمة أمام التحديات، دار المعراج الدولية، الرياض، 1998م.

([13])  مجلة الطاهر: 17 أكتوبر 1907، وانظر: هاني علي نسيرة، الحنين إلى السماء،طـ1، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت، 2010 صـ97.

المقال التالي الإمام حسن البنا والعنف
المقال السابق الدستور في فكر الإمام حسن البنا