عرفت مصر القوانين المقيدة للحريات في عهد المستعمر الإنجليزي حيث سعى منذ وطأت قدماه أرض مصر إلى تحجيم الصيحات المطالبة باستقلال البلاد والتحرر من المستعمر الغربي.
كانت دوافع المحتل كثيرة في فرض الطوارئ والأحكام العرفية على البلاد المحتلة ومنها محاولاته المستميتة تأمين قواته وتوفير مناخ مستقر له في البلاد التي يحتلها، وأيضا لإسكات كل صوت ينادي بالحرية أو الاستقلال، وذلك غير فرض سياسته على الجميع بقوانين استثنائية يراها مناسبة لوضعه الاستعماري.
ففي 2 نوفمبر 1914م – وبعد أن اندلعت الحرب العالمية الأولى – فرض المستعمر الحالة العرفية على مصر ووضعها في حالة استثنائية لبث الرعب في قلوب المصريين حتى لا يفكروا في استغلال الوضع وينتفضوا ضد المحتل وقت ضعفه في الحرب.
حسن البنا وسط الأحكام العرفية
ولد ونشأ وعاش ومات حسن البنا في ظل وضع استثنائي عاشته مصر ألا وهو وجود محتل أجنبي يفرض إرادته على البلاد بقوة الساعد والسلاح ويعمد إلى بث الجهل والبطالة والتخلف والمرض في صفوف الشعب حتى لا يفكر يومًا في الحرية أو التحرر.
إلا أن حسن البنا مع ذلك جاءت تربيته كغيره من أطفال وشباب كُثر، حيث حرص والده على حسن تربيته وتعليميه وغرس مبادئ الإسلام الصحيح في نفسه منذ الصغر، فنشأ حسن البنا وهو كاره للمحتل البريطاني خاصة والأجنبي عامة، ووضع نصب عينه من اللحظة الأولى العمل على حشد وتربية الشباب للتخلص من المحتل الغربي.
بل إن خطبه ودروسه سيطرت عليها لغة العمل من أجل الجلاء التام عن البلاد، إلا أنه مع ذلك كان يحرص على احترام قوانين البلاد والالتزام بها، مع العمل على تصحيح ما يراه وجماعته من مساوئ في بعض القوانين أو تطبيقها.
ومن هذه القوانين كانت الأحكام العرفية التي كانت تفرض على البلاد بين الحين والأخر – خاصة أوقات الحروب التي كانت تعيشها البلاد – حيث فرضت الأحكام العرفية في مصر في فترة حياة حسن البنا عدة مرات، منها:
الأحكام العرفية التي فرضت في 2 نوفمبر 1914م أثناء الحرب العالمية الأولى والتي استمرت حتى نهاية الحرب عام 1918، وكان عمر البنا آنذاك لم يتجاوز الثامنة.
والمرة الثانية والتي فرضت في 1 سبتمبر 1939م أثناء الحرب العالمية الثانية واستمرت حتى عام 1945م، وكان في ذلك الوقت قد كون جماعة الإخوان المسلمين بل وكون النظام العسكري الخاص بالجماعة.
والمرة الثالثة في عمره والتي فرضت أثناء حرب فلسطين عام 1948م واستمرت حتى عام 1950م وهي المرة التي حلت فيها جماعة الإخوان المسلمين واغتيل فيها حسن البنا ليلة 12 فبراير 1949م.
حسن البنا والأحكام العرفية
كانت الأحكام العرفية تفرض من قبل رئيس وزراء مصر – وإن كان المحتل هو الآمر الناهي – وهو ما كان يفرض على الجميع احترام هذه الأحكام وإلا طبقت عليه مواد استثنائية، إلا أن حسن البنا وردت في كتاباته التنديد بهذه الأحكام التي تفرض وضع استثنائي غير مقبول في البلاد لا يتجرع إلا المواطن من آثاره فقط، فحينما فرضت الأحكام العرفية في سبتمبر 1939م تقدم الإخوان بعقد مؤتمر وفق قوانين الأحكام العرفية إلا أن الحكومة المصرية رفضت في يناير 1941م.
ولقد ندد البنا بمثل هذه الظروف والأحكام فيقول: كان الإخوان أمام قرار المؤتمر السادس من جهة وأمام التزامهم لأهل دائرة الإسماعيلية من جهة أخرى، وأمام ما يأملون ويعلمون بالتجربة من أن البرلمان هو الرئة الوحيدة للتنفس، واستنشاق بعض نسمات الحرية في ظل الأحكام العرفية الخانقة يرون أنه لا بد لهم من التقدم إلى الترشيح من جديد([1]).
جاءت كتابات حسن البنا حول هذا المعنى على معان مختلفة، فنراه مثلا يتهكم من مصير من يعترض على فرض الأحكام العرفية فيكون مصيره تطبيق القوانين الاستثنائية عليه، ولكن في معرض ذكره لموقف زعماء مصر الذين طالبوا برفع الأحكام العرفية فكان مصيرهم النفي إلى مالطة، فيقول حسن البنا: ولاشك أننا صائرون إلى الأمام وأن قضايانا تتقدم إلى النجاح وأنها منتهية قريبًا إلى ذلك، ولا شك- إن شاء الله- فنحن إذا تذكرنا ما بعد الحرب العالمية الأولى، وكيف أن زعماء مصر حينما طلبوا مجرد رفع الأحكام العرفية والسفر إلى الخارج، وبعبارة أدق إلى لندن أو باريس للتفاهم مع البريطانيين حول استقلال البلاد كان جزاؤهم النفي إلى مالطة، وأن الملك فيصل بن الحسين الذى حالف الإنكليز وبذل معهم من دماء العرب وجهودهم ما كان كفيلًا بالنصر حرم عليه مؤتمر الصلح فلم يستطع أن يصل بصوته إلى المجتمعين فيه وعاد من باريس خاوي الوفاض([2]).
وفي موضع أخر نرى فيه تفهمه للأحكام العرفية في ظروف معينة إلا أنه شدد أنها ليست الشيء المقبول في البلاد، فحينما مارست حكومة صدقي باشا الاضطهاد ضد جماعة الإخوان المسلمين عام 1946م دون أي مبرر اعترض البنا على هذا السلوك وكتب لرئيس الوزراء موضحًا أن هذه التصرفات ربما تقبل نوعًا ما في ظل الأحكام العرفية لطبيعتها ولحماية البلاد لكنها ليست تصرفات دائمة وسيف يظل مسلط على رقاب العباد في كل وقت، فيقول البنا: حدث ما هو أغرب من ذلك، وهو مهاجمة حكمدار الفيوم للمجتمعين في منزل الأستاذ عبد الحكيم عابدين الخاص بمطرطارس لعزائه في وفاة عمه وابن عمه بقوة مسلحة، وأمرهم بالتفرق لوجودي في هذا الاجتماع مع أنني كنت معزيًا ومعزى.
هذه التصرفات -يا دولة الوزير- إن جاز أن تقع في أيام الأحكام العرفية والأوامر العسكرية فلا يجوز بحال أن يعمد إليها المسئولون في وقت نطالب فيه بشدة بإلغاء كل قانون ينافي الحرية، ويصطدم مع حق الأفراد والهيئات المقرر فيها.
ويضيف: لهذا أتقدم إلى دولتكم محتجًا على هذا التصرف الجائر الظالم راجيًا أن تأمروا بإلغاء مثل هذه الأوامر، وإباحة حرية الرأي والكتابة والاجتماع والنصح لكل الهيئات لا للإخوان المسلمين وحدهم، وخاصة في مثل هذه الظروف التي تحتاج فيه الحكومة إلى استجلاء وجهات النظر في اختلافها مؤيدة أو معارضة، وفى القانون ما يكفي لردع من أساء استعمال حقه أو اعتدى به على غيره([3]).
لقد استخدمت الحكومات المصرية الأحكام العرفية – في كثير من الأحيان – ضد مواطنيها وتكبيل حرياتهم، وهو ما وضح في مذكرة عبد الرحمن عمار التي رفعها للنقراشي باشا من أجل حل جماعة الإخوان المسلمين والتي استند فيها في الأساس على الأحكام العرفية التي تعيشها البلاد مع اختلاق الكثير من القضايا ومحاولة تغليفها بالصبغة القانونية مما استدعت بالأستاذ حسن البنا بالرد عليه ودحض ما جاء في مذكرته وتعريتها فقال: ويكفي للرد على سعادة الوكيل أن القانون حمى هذا النشاط عشرين سنة، ولم يستطع أحد الاعتداء عليه إلا في غيبة القانون وفي ظل الحكم العرفي الاستثنائي الفردي البحت، والذي ينص الدستور في المادة 155 بأنه إذا عطلت الحريات فان ذلك لا يكون إلا تعطيلًا مؤقتًا ينتهي هذا التعطيل بانتهاء الأحكام العرفية([4]).
بل إن البنا أوضح أن صدور قرار بحل جماعة الإخوان المسلمين باطلًا لأن الحاكم العسكري تجاوز في استخدام القانون الممنوح له في ظل الظروف الاستثنائية حيث يقول: وباطلًا موضوعًا لأنه تجاوز لحقوق الحاكم العسكري الممنوحة له في مرسوم الأحكام العرفية، ومنافٍ لروح الغاية التي فرضت من أجلها هذه الأحكام([5]).
ويضيف: أن الإخوان عاشوا عشرين عامًا طوالًا يزداد نشاطهم في ظل القانون، فلم يستطع أحد أن يعتدي عليهم إلا في غيبته وبسلاح الأحكام العرفية، وهي سلطة استثنائية لم تمنح لمثل هذه الشئون والأحوال([6]).
وهو الوضع القانوني الذي انتقده القانوني عبد الرحمن الرافعي وفتحي رضوان من أن سلطات الحاكم العسكري لا تمنحه حل الجمعيات وأن ما أقدم عليه النقراشي كان خطأ.
ظل الإخوان على التعاليم التي غرسها الأستاذ حسن البنا فيها بعد استشهاده وتصدوا للأحكام العرفية والقوانين الاستثنائية في البلاد، حيث نرى أن الإخوان المسلمون بمصر يصدرون بيانًا صادرًا عن مكتب الإرشاد العام، والمصدق عليه من الهيئة التأسيسية للإخوان المسلمين في مصر، ومنشور في مجلة الدعوة بتاريخ 27 يوليو 1952م، وكذا البيان الآخر بتاريخ 2 أغسطس 1952م عن الإصلاح المنشود أي بعد قيام الثورة بأسبوع، تضمن المطالبة بالإصلاح الدستوري وبالديمقراطية الصحيحة وبإلغاء الأحكام العرفية والقوانين المنافية للحريات وإعادة بناء الحياة البرلمانية.
([1]) حسن البنا: رسالة الانتخابات، مجموعة رسائل حسن البنا، صـ 811.
([2]) حسن البنا: بمناسبة عودة رئيس الوزراء، جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (424)، السنة الثانية، 4 ذو القعدة 1366 ﻫ/19 سبتمبر 1947م، صـ2.
([3]) حسن البنا: حول رحلة الأستاذ المرشد إلى الوجه القبلي، المرجع السابق، العدد (59)، السنة الأولى، 12شعبان 1365ﻫ- 11يوليو 1946م، صـ2.
([4]) رد فضيلة الأستاذ المرشد العام للإخوان المسلمين على مذكرة عبد الرحمن عمار بك عن جماعة الإخوان، رسالة قضيتنا، رسائل الأستاذ حسن البنا.
([5]) المرجع السابق.
([6]) المرجع السابق.