إعداد موقع الإمام حسن البنا
مصر دولة عظيمة وكبيرة ولها تاريخ طويل وحضارة ظلت خالدة بأسرارها التي ما زالت تتكشف حتى أيامنا، ولقد كان لها دور كبير حينما وصلتها الحضارة الإسلامية حينما كانت مركز انطلاق لبقية بلاد إفريقيا بل وبلاد الأندلس، وهو ما جعلها هدف استراتيجي للأعداء في شتى البقاع.
ومع ضعف الدولة الإسلامية وتفككها في العصر الحديث كانت أول البلدان التي سعى المستعمر الغربي إلى بسط نفوذه عليها وتنفيذ خططه التي لخصها قول أحدهم «كأس وغانية تفعلان في تحطيم الأمة المحمدية أكثر مما يفعله ألف مدفع، فأغرقوها في حبِّ المادة والشهوات».
وإن مما ينفطر له قلب الغيور وتميد من أجله الأرض وتمور أن المتابع للحياة المصرية في هذه الفترة يجد الرذائل والموبقات قد اجتاحت البلاد طولاً وعرضًا.
فساد في الأخلاق، وخروج على الشريعة، وإلحاد في الدين، وزيغ في العقيدة، وشهوات قاتلة، وعفاف ينتحر، وطهر كاد يندثر، وحرية معناها -عند المنادين بها: الإباحية وترك الفرائض والفضائل والآداب.
غذى ذلك كله ورواه الاحتلال حتى إن الزنا أصبح بترخيص علني في بلد الأزهر، وشرب الخمر جهارًا نهارًا حتى في أيام رمضان.
ولذا وقف الإمام البنا والإخوان ومعهم بعض الغيورين من أبناء هذا الوطن موقفًا صلبًا لرد هذه الهجمة الشرسة من الفساد، والتي استهدفت ثوابت الأمة وقواعدها، حتى استطاعوا بناء جيل قوي قاد مشاعل النور في العالم فيما بعد.
ولقد تعددت مظاهر الفساد التي حاربها الإخوان كالبغاء والقمار وشرب الخمر والسفور وغيرها من المنكرات التي استشرت في المجتمع المسلم.
البغاء الرسمي
مذكرة جمعية الإخوان المسلمين بالإسماعيلية
حضرة صاحب السعادة محمد شاهين باشا رئيس لجنة بحث موضوع البغاء الرسمي أيد الله به الحق وأجرى على يديه الخير للبلاد والعباد آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فإن مجلس إدارة جمعية الإخوان المسلمين بالإسماعيلية -ومن ورائه جمعيتها العمومية- يتشرفون برفع هذه المذكرة فى الإجابة على أسئلة سعادتكم الخاصة بموضوع البغاء الرسمي، معتقدين أنهم بذلك يقومون بواجبهم الإسلامي وأنهم سيرون من سعادتكم أفضل من يصغى إلى الآراء الحقة الناضجة ويعمل بها، وما توفيقنا إلا بالله عليه توكلنا وإليه ننيب.
تمهيد: تقدير الفكرة:
كلنا -يا صاحب السعادة- سرور وغبطة وتقدير لأولئك الذين فكروا فى ناحية الإصلاح الاجتماعية للأمة، تلك الناحية التى أهملت طويلاً، وأغفلها الناس على اختلاف طبقاتهم، واشتغلوا عنها بما هو فرع لها، وإننا نتقدم إليهم بأجزل الشكر وأجمل الثناء؛ لأنهم بدئوا إصلاحهم بعلاج رأس الأدواء وهو البغاء الرسمي؛ ولأنهم أعطوا القوس باريها، واختاروا لعلاج هذه الآفة أبا بجدتها، وخير نطاسيها، وأبرع من يقدر على علاجها، مع سلامة دين وصحة يقين وسداد رأى، ونشكر لكم من كل قلوبنا انتدابكم الشعب لإبداء رأيه لما فى ذلك من إظهار الحقيقة جلية واضحة، والإهابة بكل طبقات الأمة إلى الاشتراك فى الإصلاح المنشود.
وإننا نرجو أن تكون هذه باكورة يتوالى بعدها ثمر الإصلاح جنيًا إن شاء الله.
الإجابة على السؤالين: الأول والخامس:
هل ترون إلغاء البغاء الرسمي أو إبقاءه، وما هى الأسباب التى تبنون عليها رأيكم؟
نرى إلغاء البغاء الرسمي دفعة واحدة بمنع الترخيص، وسحب الرخص من المشتغلات بالبغاء حالاً، للأسباب الآتية:
أ- إن البغاء الرسمي وصمة عار فى جبين الأمة المصرية الكريمة التى ينص دستورها على أن دينها الرسمي الإسلام، ويحمل جلالة مليكها المفدى علم حماية هذا الدين القويم، وتتولى هى زعامته بين شعوب العالم، وسعادتكم وحضرات أعضاء اللجنة الكريمة أعلم الناس بما قال الله تبارك وتعالى فى تحريم الزنا والتنفير منه واعتباره فاحشة وساء سبيلاً.
ب- إنه سبب فى انتشار الأمراض السرية بين شبان الأمة، وهم زهرة رجالها، ومعقد آمالها، ولسنا نقول ذلك من أنفسنا، بل إن تقارير حضرات الأطباء الاختصاصيين ناطقة بأن ثمانين فى المائة من المرضى بهذا المرض إنما جاءهم عن طريق البغاء، ولا نفيض فى هذا المعنى اكتفاء بما تعلمونه سعادتكم من ذلك.
ج- إن البغاء سبب فى فساد الأسر وانحلالها؛ فإن المرأة متى علمت بأن زوجها يتردد على مواخير البغاء التهبت الغيرة فى نفسها ودبت البغضاء إلى قلبها، وأداها ذلك إلى احتقاره، وربما إلى خيانته، ويكون عن ذلك انحلال الأسرة وتفككها والطلاق.
د- إنه سبب فى إضراب الشبان عن الزواج؛ فإن الشاب متى رأى أنه يتمكن من قضاء مآربه بدريهمات، ويتنقل بين مواطن الهوى من امرأة إلى امرأة مع قلة التبعة وعدم التقيد والكلفة آثر ذلك عن حياة الزوجية وقيودها، ولاسيما وما فى الزواج من معان شريفة وأغراض سامية نبيلة لا يدركها إلا أولياء البصائر والفهم، وهم فى عامة الشعوب قليل، ومتى أضرب الشبان عن الزواج قل النسل وضعفت بذلك الأمة، وأغرى الفتيات على التبرج والتهتك والخلاعة، ثم المخادنة والفساد، ثم الزنا السرى وحمل السفاح، وما يتبع ذلك من فضائح وجرائم ومنكرات.
ﻫ- إن إقرار الحكومة للبغاء وحمايتها له وترخيصها به سبب فى تهوينه على الشبان والشابات، وكأنها ترفع بذلك عنه وصف الإثم وتبرزه للناس فى صورة الأمور المقبولة المشروعة وتشجع بذلك الدعوة وتزيد الإقبال عليه، وفى ذلك ما فيه من إبراز الباطل فى صورة الحق وإلباس الضار ثوب النافع.
و- هذا البغاء سبب فى قيام تجارات غير مشروعة إلى جانبه منها تجارة الرقيق الأبيض، التى يشترك فيها الصائد والسمسار والمستوردة والفريسة التى تذهب ضحية الجميع، وفى ذلك ما فيه من إغراء بالفجور وجر الأطهار الأبرياء والغافلات إلى بؤر الفساد.
ز- إن البغاء من المساعدات على السكر والعربدة وتعاطى المخدرات ونحوها؛ لأن سلسلة الشر واحدة تأخذ حلقاتها بحجز بعض، فإذا أمسك الشرير بحلقة جرته إلى أختها وهكذا حتى يصل إلى قرارة الهوة، والواقع المشاهد كفيل بتبيان ذلك وشرحه.
ح- إنه سبب عظيم فى كثرة الإجرام والمجرمين لما يكون حينذاك من التنافس بين الأقران والتحريش من الإخوان، ولأمر ما أكثرت الحكومة من الشرطة ونقط البوليس فى أماكن البغاء.
ط- إذا كانت الحكومات الراقية المدنية قد حرمته على نفسها ومنعته فى بلادها، فأحر بحكومة مصر وهي المدنية الإسلامية أن تقضى عليها وتمنع منه أشد المنع.
هذا ما يحضرنا من ذكر الأسباب الهامة التى توجب إلغاء البغاء فى أقرب وقت ممكن دفعة واحدة، ولو أردنا الاستقصاء لطال بنا القول وفيما ذكر الكفاية.
الجواب على السؤال الثاني:
فى حالة الإلغاء ما هى الطرق التى تشيرون بها لمعاملة البغايا المرخص لهن الآن؟
الطرق التى نراها لمعاملة البغايا المرخص لهن هى:
أ- أن يحاط إلغاء البغاء الرسمي بجو من الدعاية الطيبة تجعل الشعب ينظر إلى هؤلاء البغايا كبائسات أوقعهن الحظ السيئ فى هذا الإثم، لا فاجرات يتاجرن بأعراضهن، ويأكلن بثديهن ليكون ذلك مدعاة إلى عطف الشعب عليهن رحمة لهن.
ب- أن تقوم الحكومة بعمل ملاجئ لهن فهن فى حاجة إلى الرعاية كالأيتام فى ملاجئهم والأحداث فى إصلاحيتهم.
ج- استصدار الفتاوى من كبار العلماء التى تبين ثواب الله تعالى فى زواجهن، وتكليف الوعاظ والأئمة بث هذه الروح فى نفوس الناس، وتشجيع كل من يؤوى إحداهن إليه كزوجة شرعية بالثناء عليه فى الصحف والمكافأة له من الحكومة ماليًا وأدبيًا.
د- تأليف لجان من أهل الخير فى كل منطقة بغاء لمعاونة البغايا بعد التوبة والنظر فى شأنهن، وذلك يسير لو أعارته الحكومة جانبًا من عنايتها، وأبدت للجمهور الرغبة الصادقة فيه.
الجواب على السؤال الثالث:
ما الوسائل التى تقترحونها لمكافحة البغاء السري؟
أما لمكافحة البغاء السري الذي انتشر الآن بكثرة وينتشر بكثرة كذلك فنقترح ما يأتى:
أ- تعديل مواد القانون التى تبيح الزنا فى سن خاصة بتحريمه قطعًا، ووضع عقوبة شديدة لكل من يضبط متلبسًا بجريمة الزنا، سواء فى ذلك المرأة والرجل، وحبذا لو رجعت الحكومة فى ذلك إلى الحد الشرعي إذن يبطل الزنا كل البطلان، وترتاح الحكومة كل الراحة من جرائمه، مع أن هذا الحد سوف لا يوقع إلا مرات بعدد الأصابع ثم يقلع الناس بعد ذلك عن هذا الإثم العظيم، ودواء الله تبارك وتعالى أفضل دواء.
ب- التشديد على رجال البوليس فى المراقبة والشدة على الأشخاص الذين يضبطون متلبسين بجريمة الزنا.
ج- تكليف الجمعيات الإسلامية الموثوق بها مساعدة البوليس فى مهمته بلجان خاصة بذلك وإخطار البوليس بما يرون، وعليه أن يحترم آراءهم ويقصدهم فى المراقبة ونحوها حتى تحقق الغاية بذلك.
الجواب على السؤال الرابع:
ما الوسائل التى تقترحونها لتلافى أضرار الأمراض السرية؟
الوسائل التى نراها لاتقاء الأمراض السرية هى:
أ- إصدار نشرات مزينة بالصور تبين للناس خطر هذه الأمراض وخطر العدوى الفظيع فيها وينفرونهم منها، وقد اتبعت مصلحة الصحة هذه الطريقة فى مكافحة الأمراض الطفيلية فأفادت فائدة لا بأس بها.
ب- الإكثار من شرائط السينما التى تبين للناس فظائع هذه الأمراض.
ج- الإكثار من إلقاء المحاضرات بالفانوس السحري إذا أمكن عن أضرارها ومهالكها وتحذير الجمهور منها، وتكليف الوعاظ والأئمة والجمعيات الإسلامية والأطباء العناية بذلك.
د- نشر المتاحف الخاصة بتمثيل مظاهر هذه الأمراض بين الجمهور فى أمهات المدن حتى يرى الناس بأعينهم ما يستهدفون له من الخطر إذا أهملوا السلاح أو تعرضوا للعدوى، وقد رأينا بأنفسنا أن كثيرًا من الشبان بلغ منهم التأثر مبلغه بزيارة واحدة لمتحف جلالة الملك بعابدين حين نظروا مهالك الأمراض السرية وأخطارها.
ﻫ-عمل مستشفيات خاصة تحجز فيها الأشخاص الذين يثبت مرضهم بهذه الأمراض حتى يتم شفاؤهم.
الخاتمة:
إزالة شبهات الذين يعارضون فى إلغاء البغاء الرسمي:
يحسن هنا أن نختم هذه الكلمة بالرد على شبهات الذين يرون عدم إلغاء البغاء الرسمي، معتمدين فى ذلك على البرهان الحسي والدليل القوى وبالله التوفيق.
الشبهة الأولى: يقولون: إن البغاء آفة مستأصلة من القدم فلا تلغى بجرة قلم.
والرد على ذلك أن نقول: ليس زمانه المرض مستوجبة للسكوت عليه حتى يموت المريض، بل علينا أن نقوم بالعلاج الواجب حتى يتم الشفاء، على أن التجارب وعلم النفس الاجتماعي والفردي يثبتان أن كل عادة مهما تأصلت يمكن أن تقتلع بعادة أخرى متى وجدت العزيمة، وإذن فلا ينقص الحكومة ولا الأمة إلا العزيمة الصادقة، وبالحزم فى التنفيذ والصبر وطول الأناة يصل الجميع إلى الغاية.
ولو سلمنا بهذه القاعدة -وهي قاعدة أن توغل الجريمة فى القدم يبيح السكوت عن محاربتها- لما حاربنا رذيلة من الرذائل؛ فإن كل الجرائم متوغلة فى القدم منذ الخليقة، فالقتل والسرقة والطمع والعدوان كلها جرائم وجدت مع الإنسان يوم وجد، ولم يقل أحد بالسكوت عنها، بل إن المنطق السليم يوجب أن تتضاعف الجهود بقدر انتشار الجرم حتى يتم النصر للفضيلة فى النهاية.
الشبهة الثانية: يقولون: إن البغاء الرسمي ضرورة للعصر الحديث؛ لأن الشبان لا يستغنون عنه.
وهذه شبهة أوهى من بيت العنكبوت؛ فإن الأخلاق متى استقامت -ويجب أن نفكر فى طريق استقامتها، وفى أفضل الطرق لتقوية إرادة شباب الأمة- وجد الشاب نفسه فى مأمن من نزغات الشيطان ونزعات النفس، ولاسيما إذا حوربت الخلاعة وقضى على التهتك والتبرج، وأي ضرورة لارتكاب الإثم وفى الحلال مندوحة عن الحرام فليتزوج المضطر، وبذلك تنقضي ضرورته ويستغنى عنه.
الشبهة الثالثة: يقولون: إن القضاء على البغاء الرسمي يكثر البغاء السري.
والجواب على ذلك من وجهين: أولهما: أن وجود البغاء الرسمي لم يحل دون البغاء السري؛ فها هو منتشر وينتشر فاستوى الأمران إذًا.
والوجه الثاني: أن القضاء على البغاء الرسمي إعلان وتنفير من الزنا فى جملته فهو يعين على النفور من البغاء السري.
ودواء انتشار البغاء السري ليس إبقاء البغاء الرسمي وإنما هو التشديد فى المراقبة، ويقظة البوليس، والدعاية القوية فى التنفير، وما دام القانون لا يحمى نوعًا من أنواع الجريمة تداعت الأنواع الأخرى ووهنت قوتها، وبذلك يقضى على هذا البغاء السري بتاتًا.
بقيت شبهات أخرى متداعية من نفسها نضرب صفحًا عن الرد عليها إيثارًا للاختصار، واكتفاء بما فيها من الضعف ومخالفة الحق والبرهان.
هذا -يا صاحب السعادة- ما بدا لنا فى موضوع البغاء الرسمي، نبعث به إليكم وكلنا أمل فى أنكم سترضون الله، وتنقذون الأمة، وتقررون إلغاء البغاء الرسمي إلغاء باتًا، وتخلدون هذه المأثرة فى صحيفة مجيدة من تاريخ مصر الإسلامية الناهضة مقرونة باسمكم الكريم، واسم صاحب الجلالة مليك مصر المفدى، وولى عهده المحبوب أعز الله بهما دينه وأيد شريعة نبيه صلى الله عليه وسلم.
عن لجنة الرد على الأسئلة بجمعية الإخوان المسلمين بالإسماعيلية
الرئيس: حسن أحمد البنا(1)
البغاء
ما رأيت كلمة تضم حروفها من معانى الإيلام والإيذاء، والأضرار والبلاء ما تضمه حروف هذه الكلمة البغيضة البشعة، ولولا أن الطبيب كتب عليه أن يتناول بمشرطه الصديد والقيح، ويخوض به بين الفرث والدم ما أبحت لقلمي ككاتب أن يكتبها، ولا للساني كواعظ أن ينطق بها، فهي كلمة قد جمعت كل معاني الحطة والأسى والإيلام والأذى فى حروف أربعة، وإن أسعد أيام مصر والأمم الشرقية هو اليوم الذى تحذف فيه هذه الكلمة من قوانينها أولاً، فتخفى بعد ذلك عن أسماع الناس وألسنتهم، ولعلها تنضمر بالإهمال حتى تموت من قاموس اللغة غير مأسوف عليها.
لقد نال خصوم الشرق من الشرق كثيرًا، ولقد عاثوا فيه الفساد، ولقد أذلوا أبناءه بكل ما عرفوا من صنوف الإذلال، ولقد حاطوهم بصنوف الرزايا والنكبات، ولا أظن أن فى ذلك كله ما هو أشد ولا أنكى من إباحة الزنا وحماية البغاء وهدر الأعراض، وما كانت النفس الشرقية العفيفة الأبية لتقبل أن يحل بينها هذا الضيف الثقيل من اللوائح والنظم، لولا أن خصوم الشرق مخادعون ختالون استطاعوا بدهائهم أن يخدعوا الشرقي عن دينه وعرضه، وأن يحتجوا أمامه بأن هذه البؤر لم تحفر له ولكن للأجانب عنه الذين يرون ذلك ضرورة لازمة لهم، حتى إذا سلم بأن توقد النار إلى جوار بيته ناله أولاً دخانها، ثم اتصل به بعد ذلك شررها، ثم استشرت وامتدت فإذا بها تلتهم البيت بما فيه، وإذا بهم بعد أن استمكن لهم الأمر ونجحت الحيلة يرمون هؤلاء الشرقيين بدائهم ويعيبون عليهم ما كانوا هم أصله ومصدره ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّى بَرِىءٌ مِّنْكَ﴾[الحشر: 16].
لست مبالغًا حين أصارح القراء الكرام بأن هذه الكلمة إن كتبتها أو تلوتها اهتزت لها أعصابي واضطربت مفاصلي، وتمثل أمامي ما تحويه من معاني البؤس والشر والمسكنة معًا، فأسخط تارة وأشفق أخرى وأنا فى كلتا الحالين آسف حزين.
البغاء أقوى معول يهدم كيان الأسرة ويفكك رابطتها، ويأتي على بنائها من أساسه، ويبدل هناءتها آلامًا وسعادتها جحيمًا، وحبها بغضًا وانتقامًا ويعبث بحرمتها وقدسيتها وينال من كرامتها وعزتها، إنه يعطل تكوين الأسر ويحول بين الشبان والزواج، فهو فى الوقت الذى يفكك فيه الأسر القائمة ويقضى عليها بما يلقى فى نفوس أفرادها من شكوك وريب وظنون وتهم يحول دون تكوين أسر جديدة، ويمنع الشاب أن يتزوج وأن يكون أبًا رحيمًا وزوجًا مخلصًا، فهي سلاح ذو حدين يقطع روابط الأسر أولاً وأخيرًا، وماذا يبقى للأمة من قوة إذا تهدمت الأسر وانحلت روابطها وتحطمت قواها وهل الأمة إلا مجموعة أسر؟!
والبغاء دركة منحطة ومنزلة سفلى لا تليق بالإنسانية الكريمة التى شرفها الله وفضلها على كثير ممن خلق تفضيلاً، وأنت ترى -عافاك الله- أن الحيوان الراقي الفصيلة يأنف هذه الإباحة فى الأعراض، ويغار الإلف منه على إلفه ويذود عن حماه، فلا يقتحمه سواه، ومن ذا الذي يستطيع أن يدخل عرين الأسد ليقرب لبؤته ثم لا تكون معركة حامية وموقعة دامية يسلم فيها الشرف الرفيع، وهل رأيت الحمام حين يحمى أنثاه فلا يحوم حولها غيره ولا تمتد إليها عين غير عينه؟
العرض هو أغلى شىء فى هذه الحياة، أغلى من المال وأغلى من الدم، فإن المال تنفقه فتعوضه، والدم تبذله فى سبيل العرض فتحمد على هذا البذل وتثاب، ولكن ما سمعنا ولا قرأنا أن عرضًا ابتذل فعوض أو شخصًا فرط فيه فلم يُلم، أو ليس الشرف والخلود طيب الأعراق وطهارة الأعراض؟ أوليس النبل والكرامة والعزة والفضيلة وما إلى ذلك من ألقاب السؤود والمجد كلها لا تستقيم لأحد أو تتم له إلا أن يكون وافر العرض طاهر الذيل؟
أدرك الحيوان الراقي هذا بفطرته فقام يحتفظ بعرضه ويعتز به ويذود عنه، فأية إنسانية هذه التى ترضى أن تكون أقل من الحيوان؟
مساكين ضحايا البغاء من رجال ونساء، إنهم رضوا بأن يكونوا كالأنعام بل هم أضل، إنهم فقدوا أنبل معاني الإنسانية وأبهج صور الفضيلة، إنهم فقدوا الطهر الرائع الجميل وتدنسوا بأقذار هذا الخلق الوبيل. وأيهما خير للرجل البغي أن يجد أمامه امرأة حرة طاهرة قاصرة الطرف عفيفة النفس تقنع منه بالقليل وتعطيه من نفسها الكثير، وتساهمه سراءه وضراه، وتكون معه فى المبسط والمكره، ويعرف بها لذة الأسرة ومعنى الرجولة الكاملة، أم تلك الخليعة المستهترة الزائغة العين الطامحة النفس، التى تسلبه كل شىء: عرضه وماله وقلبه ودمه ثم لا تعطيه من نفسها شيئًا؟ إنها لغيره كما هى له، وهي لكل منهما على قدر ما تستلب منه.
اليوم عندك دلها وحديثها وغدًا لغيرك جيدها والمعصم
ولو كان قائل هذا البيت حضر ذلك العصر الأغبر الذي أبيح فيه البغاء وتظرف الناس فيه بالفحشاء لعدل رأيه ولقال: إنها تكون للجميع فى ساعة واحدة.
وأيهما خير للمرأة البغي أن تجد أمامها زوجًا كريمًا رحيمًا يهب لها قلبه ويحوطها برعايته ويذود عنها غوائل السوء، وتذوق به لذة الأنس ويرفعها إلى شرف الأمومة، أم تظل سلعة فى سوق الرذيلة تتقاذفها أيدي العابثين وتتدافعها شهوات الفاجرين، حتى إذا قضى أحدهم لبانته لقاء دراهم معدودات نبذها نبذ النواة تندب شرفها وعرضها، ولن تحصل عليه ولو بذلت ملء الأرض ذهبًا؟
هذا تدهور كبير وانحطاط خلقي ليس بعده انحطاط، وهدر لكرامة الإنسانية لا يتفق مع مطالب الأمم الحية اليقظة التى تريد تحقيق الآمال، وتحطيم شرف النفوس يجعلها لا تصلح بعد ذلك لشيء أبدًا، ولا تسمو إلى غاية نبيلة ولا تجدى فى طريق شريف.
البغاء حبالة الجريمة وعش الشيطان لا يزال بمن يرتادون أماكنه يزين لهم أنواع الجرائم ويدفعهم إلى المنكرات والفواحش، ويحضهم على الموبقات المهلكات فيأتي بذلك على ما بقي من شعورهم إن كان ثم شىء فلا يتخرجون فى هذه المدرسة الوبيلة إلا على أسوأ الحالات، وهل تجد دور البغاء إلا مأوى الشريرين ووكر المجرمين ومخابئ السموم ومثاوي الرذائل، ومجامع المؤامرات التى تحاك فيهم خيوط الجرائم؟
لو ذهبت أعدد لك ما يتجسم فى هذه الكلمة من المهالك لاستغرقت هذا العدد، بل وأعدادًا بعد ذلك، وإن الكتابة فى هذا المعنى لثقيلة علىّ مؤلمة لنفسي فاعفنى وقاك الله السوء، وكثير على بلد يتزعم العالم الإسلامي أن يعترف قانونه بهذا المنكر، وتحسبونه هينًا وهو عند الله عظيم، وما أجمل أن تتعاون قوى الأمة على إنقاذها من هذا الداء الوبيل، والقضاء عليه بتشريع صارم حاسم يردع ويرد عادية المعتدى ويحقق أوامر الله، وإن حدًا من حدود الإسلام يقام فيه كل الكفاية لإراحة الناس من كل هذا البلاء، فهل يقيم الناس حدود الله؟ ذلك ما نسأل الله أن يرينا -فى القريب- إياه(2).
أضرار المقامرة، ومشروع ساحل الفيروز
محاضرة ألقاها فى نادى جمعية الشبان المسلمين مساء السبت الماضي حضرة الأستاذ المخلص العمل لله والفضيلة والإصلاح حسن أفندي أحمد البنا
بسم الله الرحمن الرحيم
.. المحمود جلّ جلاله .. والمصلى عليه محمد وآله .. والمدعوُّ له الوطن ورجاله.
سادتي الفضلاء..
بالأمس كنا نتمنى أن يهيئ الله لنا تلك الأمة التى تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتعين على نوائب الحق، وتكون مثابةً لتلك القلوب الخافقة إشفاقًا على الدين والفضيلة، ورابطة لتلك الأرواح التى تهفو إلى الحق والاستقامة عن طريقه، واليوم نحمد الله سبحانه إذ حقق تلك الأماني فى "جمعية الشبان المسلمين"، وجعلها رمزًا لتلك النهضة الدينية، وإني لأراها أفصح معبر عن عواطف الداعين إلى الله، ومحقق لما يرجوه المصلحون الحقيقيون لهذه الأمة، والله نسأل أن يمدها بروحه ويؤيدها بتوفيقه.
سيتناول كلامنا الليلة -إن شاء الله- موضوع "أضرار المقامرة"، وهو موضوع حدا بي إلى اختياره -على جفافه- أمور: أولها مشروع ساحل الفيروز الذى تكلمت عنه الجرائد فى هذه الأسابيع، ذلك إلى ما نشر من تصريح الحكومة بفرع "للتيرو" بمصيف رأس البر، إلى ما نشر أيضًا من ضبط محال للقمار كانت تضم كثيرًا من الموظفين وذوى المكانة بالأقصر، إلى ما نشر من أن حكومة لبنان عينت مفتشين للتفتيش عن أماكن المقامرة، وما أذاعه مكاتب المقطم الإسكندري اليوم عن سرقة 13ألف جنيه من محل معروف من محال البورصة مدفوعًا إلى ذلك بجريمة المقامرة، كل هذه الحوادث حركتني إلى أن أتكلم عن بعض أضرار القمار بين شبابنا، وعلى مسمع الشبان المسلمين، لا لأنهاهم، بل لينهوا غيرهم، وسيدور كلامنا إن شاء الله حول النقط الآتية:
الدوافع النفسية إلى القمار، أضراره الخلقية، أضراره الصحية، أضراره المالية، أضراره الاجتماعية، أضراره الدينية، المشروع الجديد وخطره، واجب الأمة نحوه، الوقاية ضد القمار.
الدوافع النفسية إلى القمار:
يقول النفسيون: إن كل عمل من أعمال الإنسان نتيجة ميل خاص وغريزة معينة تدخل ففي تكوين النفس الأساسي، فإن كان هذا الميل صالحًا وهذه الغريزة مهذبة كان العمل شريفًا نافعًا، وبالعكس إذا كان هذا الميل وضيعًا والغريزة إلى الحيوانية الأولى أقرب منها إلى الإنسانية كان العمل دنيئًا ضارًا كثيرًا ما يدفع صاحبه إلى الهلاك والإجرام، مثال ذلك أن الإحسان إلى الفقير عمل شريف؛ لأنه ينبعث عن غريزة الرحمة وهي غريزة إنسانية شريفة، والسرقة عمل حقير؛ لأنه ينبعث عن غريزة الطمع والشَّره وهي غريزة حيوانية ممقوتة.
وإذا علمنا ذلك فما هى الدوافع التى تدفع إلى المقامرة؟
اللاعب أيها السادة يبتدئ اللعب مدفوعًا بغريزة الأثرة والطمع، ويستمر فى لعبه متأثرًا بغريزة حب القهر والغلبة، ويعاود اللعب مسوقًا بغريزة حب الانتقام، وكل هذه الغرائز سافلة وضيعة، لا تمتُّ إلى الشرف بصلة، ولا تعرف لها الإنسانية رسمًا، فاللاعب فى كل أدواره خاضع لدافع وضيع، فعمله لذلك وضيع يدفعه إلى الهلاك وإلى الجريمة، ويقتل فى نفسه عواطف الإنسانية والشرف.
وكل قانون يبيح المقامرة أو يعترف بها قانون خاطئ؛ لأنه يشجع الرذيلة ويقتل الفضائل فى نفوس الأمة التى ترضاه، وأين الأثرة والشّره من الإيثار والإحسان؟ وأين القهر والغلبة من التعاون والتناصر؟ وأين الانتقام من العفو والتسامح؟ تلك أدنى مراتب الحيوان وهذه عليا مدارج الإنسان، ولما كانت تلك الغرائز متأصلة فى نفس الإنسان وقليل من يعنى بتهذيبها ومجاهدتها، كان القمار قديمًا فى تاريخ البشر وإن اختلفت أنواعه وتعددت وسائله، ولكنه لم يكن منتشرًا فى أى أمة من الأمم السابقة انتشاره وفظاعته فى هذه الأيام؛ حيث تعدّد لعبه وتنوعت أساليبه فى أسماء خلابة ضخمة، وقصور مشيدة فخمة، وقد بذل مديرو هذه الأماكن مهارة فائقة فى صيد النقود وإغواء النفوس، ونصبوا لكل قطعة نقدية شَرَكًا يناسبها فلا ينجو القرش ولا الجنيه حتى تعم البلوى كبير الأمة وصغيرها.
أضرار القمار الخلقية:
يعرفون "الخُلُق" بأنها ملكة نفسية تصدر عنها الأعمال، فإذا كانت تأمر بالخير وتصدر عنها الفضائل سميت خلقًا فاضلاً شريفًا، وإذا كانت تأمر بالمنكر وتصدر عنها الرذيلة سميت خلقًا دنيئًا وضيعًا، وكل عمل من أعمال الإنسان كما أنه يصدر عن هذه الملكات يؤثر فيها كذلك، فمن الأعمال ما يزيد الخلق الطيب قوة ويضعف الخلق الخبيث فيسمى لذلك بالعمل الصالح، ومنها ما يؤثر عكس ذلك فيقتل الخلق الطيب ويظهر عليه الخبيث فيسمى عملاً غير صالح.
والقمار -أيها السادة- يميت فى نفس اللاعب أعز الفضائل، ويقضى على أخص صفاته ومواهبه، فهو سوسة الخلق ومستقر الرذيلة، ولنضرب الأمثلة على ذلك بإيجاز واختصار:
1- ذلك الذي يكسب فى المقامرة ما معنى كسبه؟ أليس معناه أن مدّ يده إلى جيب صديقه أو قريبه أو أحد من يعرف فاختلس منه نقوده التى كدّ فيها وتعب، دون أن يعوضه عنها شيئًا، وتركه يتحرق غيظًا ويتلوى كمدًا وهو ضاحك السن قرير العين لأنه فاز وكسب؟ هو فى هذه الحالة لصٌ ووحشٌ، إن لم يكن فى عرف القانون ففي عرف الحقيقة. لص لأنه أخذ غير حقه بدون مقابل، بل شر من لص لأن اللص يعتدى على غير أهله وأصدقائه، وكثيرًا ما يكون مضطرًا إلى هذا العدوان. ووحش لأنه يُسر بحزن غيره ويفرح بكمد سواه ويحيا بموت غيره، فأين عواطف الأناس من نفس هذا المجرم الأثيم؟ وكلما تكرر عمله كلما مرن على الشر.
2- تربية الأحقاد والضغائن، فمن ذا الذي يرى غيره يتمتع بما له بدون كدّ ثم لا يحنق عليه ولا يضمر له أشد البغضاء وأفظع الشحناء؟ وحسبكم بذلك قضاء على الفضيلة والشرف.
3- تَعوُّد الزور والكذب والمغالطة، وذلك نتيجة طبيعية لما يريده الخاسر من المدافعة عن نفسه، ويريد الكاسب من تأييد كسبه.
4- تعود الكسل وإضاعة الوقت سدى، والاتكال على ما فى يد الغير والاعتماد على الصدفة؛ إذ يضيع المقامر معظم وقته على المائدة ويعتمد على كسب ما فى يد غيره، وفى ذلك القضاء على فضيلة الاعتماد على النفس، وفضيلة النشاط والعمل، وفضيلة تثمير الوقت، والذي ينعم النظر يرى أن هذه الفضائل هى أساس رقى الأمم وتقدمها، وما ظهرت علينا أمم أوروبا إلا لأنها قدرتها حق قدرها.
5- ما تولده الخسائر المتوالية فى نفس الخاسر من اليأس والقنوط والتبرم بالحياة، وكم سمعنا بانتحار الخاسر على موائد القمار؛ لأنهم فضلوا الموت على حياة الفاقة والسقوط، ولا حياة مع اليأس، ولا فضيلة تدفع إلى العمل كالأمل.
6- سقوط مركز المقامر الأدبي، ويتبع ذلك فقدان الثقة به، وكم من موظف كبير ووجيه محترم سقطت هيبته بين أهله وذويه وبين مرؤوسيه واستخزى أمام أقل منه؛ لأنه عرف بينهم بالمقامرة، والمركز الأدبي حاجز من أمنع الحواجز عن الشر.
7- ما يستدعيه القمار من الموبقات الأخرى، فالرذائل مزلق إذا انحدرت القدم فى أوله هوى إلى قراره، أو هو سلسلة إذا أمسك أحد بأول حلقاتها جذبته إلى غيرها حتى يستقصيها حلقة حلقة، ولذلك قيل: "إياك والكأس الأولى".
والقمار رذيلة تستتبع غيرها وتدعو إلى سواها ولاسيما الشراب، فقد قال النفسيون: إن من دواعي تعاطى المخدرات شعور الإنسان بألم نفسي على أثر عمل يثير توبيخ الضمير، فيحاول الإنسان أن يغيب هذا الشعور المؤلم فيلجأ إلى التخدير، والمقامر إن كسب أغراه المال، وإن خسر حَزَبَه الضيق، فهو واقع بين مخالب الرذيلة على كلتا الحالتين.
8- تعود إهمال الحقوق والواجبات الدينية والدنيوية، فالمقامر يستغرق كل وقته منهمكًا فى اللعب لا يفكر فى واجب، ولا يعمل لمهم، ولا يهتم بأي شىء.
ووقت الإنسان -أيها السادة- مهما اتسع ولاسيما فى هذا العصر لا يفي بمطالب الإنسان، فهو إن فرغ من عمله الرسمي فوراءه عمل اجتماعي، فإن فرغ منه فأمامه واجب ديني فإن فرغ منه فأمامه واجب إنساني: من عيادة مريض، إلى زيارة صديق، إلى مواساة بائس، فإن أدى كل ذلك فأمامه واجب أسرته من إرضاء زوجته، إلى تربية أولاده. وقد يستغرق أحد هذه الواجبات معظم الوقت أو كله، وحرام على من وراءه كل ذلك أن يضيع وقته عابثًا لاهيًا لا يحسب لشيء حسابًا.
سُئلت مرة عن المقامرة بدون عِوَض ما حكمها شرعًا؟ فقلت: الحرمة. فقال السائل: ولِمَ؟ أليس التحريم إنما جاء للعوض؟ فعرضت عليه هذه الواجبات واحدًا واحدًا، وقلت له: ألست تعترف بأن كل هذه الأمور واجب عليك أداؤها وضياعها حرام؟ فقال: نعم. فقلت له: ألست ترى -إن كنت منصفًا- أن اللعب مهما كان مضيع لها؟ فقال: نعم. فقلت: أليس ما يستتبع الحرام يحرم؟ فقال: أسلمت وجهي لله رب العالمين.
وفى الحديث -أيها السادة: "إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها"، والنفس الكبيرة ترقى إلى عظائم الأمور ولا تنحط إلى درجة العبث، وهذا أبو الطيب دعاه شرف نفسه إلى أن يقول:
وما العشق إلا غِرّةٌ وطماعةٌ يُعرّض قلبٌ نفسه فيصابُ
وللخود مِنّىساعةٌ ثم بيننا فلاةٌ إلى غير اللقاء تُجابُ
وللسر منى موضعٌ لا يناله صديقٌ ولا يفضي إليه شرابُ
وغيرُ فؤادي للغواني رَميَّةٌ وغير بناني للرخاخ ركابُ
أعزُّ مكان فى الدُّنا سرج سابح وخير جليس فى الزمان كتابُ
فهو يربأ بفؤاده أن يكون هدف الغانيات، ويدّخره لمعالي الأمور، ويربأ ببنانه أن يكون ركابًا لرخ الشطرنج، ويبقيه للعمل النافع المجيد.
الأضرار الاجتماعية:
الاجتماع -أيها السادة- يراد به تعاون بنى الإنسان وتعاطفهم، ذلك التعاون الغريزي المركب فى طبع الإنسان، والذي به قضاء لوازمه وحاجياته وحفظ حقوقه الطبيعية والمدنية، وكل شىء يكون من شأنه تقوية هذه الرابطة والانتفاع بها يسمى عملاً اجتماعيًا مفيدًا، وكل عمل يكون من شأنه إضعافها وعدم الانتفاع منها يسمى عملاً اجتماعيًا ضارًا، والقمار من هذا الأخير، وبيان ذلك بالأمثلة الآتية:
1-رأينا مما تقدم كيف أن القمار مفسد للخلق الصالح الذي هو مدار تعاطف الناس ومحبتهم، مولد للشحناء والبغضاء التى تجعل التعاون على المنافع محالاً، فأي ضرر بالاجتماع أكبر من إفساد الصلات والروابط، ووقف حركة التعاون الضروري للبشر؟
2-الدعوة إلى الجريمة والاعتداء، فقد علمنا ما ينجم عن القمار من حقد النفوس وغلها، مما يثير فى كثير من النفوس الحفائظ والغيظ، فيدعوها إلى الإجرام، ذلك إلى أن الولع بالقمار كافٍ وحده لدفع بعض النفوس فى سبيل الجريمة والسرقة؛ إذ يحتال المقامر لجلب المال من حله ومن غير حله، وكم سمعنا أن موظفًا اختلس المال الذي تحت يده، وإذا فتشنا عن السبب الحقيقي وجدناه عدم استقامة هذا البائس، وما حادث موظف البريد عنا ببعيد.
3- الأسرة -أيها السادة- نواة الاجتماع، وأقوى مظاهره، وأشد العوامل فى صلاحه أو فساده، والقمار خطر عظيم على بناء الأسرة، وقضاء مبرم على سعادتها وهناءتها، فهو يدفع الزوج إلى سلب زوجه كل ما تمتلك، وإلى أن يبخل عليها بما ينفق أضعافه على مائدة القمار، وإلى إهمال أبنائه الليل والنهار فلا يقوّم أخلاقهم، ولا يقيم فسادهم، ولا يشعرهم حنان الأبوة وعطف الوالد، إلى ترك زوجه طول الليل فريدة مستوحشة تندب بؤسها وتبكي سعادتها، ولسان حالها يقول: تطاول هذا الليل وأزور جانبه
وقالوا: إن رجلاً تعود المقامرة حتى أتت على جميع ما يملك وتملك زوجه، فمد يده إلى حلى بناته فأعطته زوجه إياه فى علبة صغيرة، ولما فتحها ليبيع ما فيها وجد فى أسفلها بطاقة مكتوباً عليها بخط زوجته: "يا هذا، إنك حين تبيع هذا الحلى تبيع مستقبل بناتك وتقضى عليهن، فانظر ما أنت صانع!"، ويظهر أن الرجل كانت لا تزال له بقية من حياة الضمير، فهاج بنفسه حنان الوالد فثاب إلى رشده ورجع عن عادته، ومن لك بمثل هذا!
ومن هنا -أيها السادة- كان القمار خطيرًا على الأمة؛ لأنه يقطع صلات المودّة فيها، خطرًا على الحكومة؛ لأنه يثير الجريمة التى تحاربها، خطرًا على الأسرة؛ لأنه يصدع بناءها ويهدم كيانها، وتلك أصول الاجتماع، فهو خطر على الاجتماع من جميع نواحيه.
الأضرار المالية:
المال -أيها السادة- مادة الحياة، وقوام المشروعات النافعة، واعتزاز الأمم، وبخاصة فى هذه العصور المادية إنما ينبني على ثروتها وشرفها بالأغنياء فيها، هذه الولايات المتحدة إنما تقود العالم بأموالها، وتدير دفته الاقتصادية بأصحاب الأعمال والملايين من أهلها، والقمار عفريت الثروات وخراب البيوت، وأمامنا المشاهد والحوادث:
1- فكم من ثرىّ عظيم كان غنىّ قومه وسيد عشيرته، ساقه القضاء إلى المائدة الخضراء فأتت على ثروته لا تدع منها ذهبًا ولا فضة، ولولا حرمة البؤس والموت لسردنا أسماء كثير من العظماء الذين طبع القمار حياتهم بطبائع الشقاء.
2- وكم من شاب تركه أبواه يتقلب فى أعطاف النعيم، ويمرح فى بحبوحة الثراء، والتفّ حوله سماسرة السوء ورسل الفقر فساقوه إلى المقمر حيث فقد شرفه وأمواله ووقع فريسة المرابين والدائنين، ثم انفضوا عنه وتركوه ملومًا محسورًا بين براثن البؤس ومخالب الفقر، وعلى نفسها جنت براقش.
3- وكم من موظف يرتع فى رغد العيش سعيدًا بأسرته وأبنائه مغتبطًا بنعمة الله عليه، وما هو إلا أن يسوقه القدر المتاح، إلى المقمر المجتاحة، فيستنفذ مرتبه ومثله معه، ويدع أبناءه يتضورون جوعًا ويتضاغون ألمًا، ويرقبون آخر الشهر كما يرقب السجين مدته، فإذا جاء ما ينتظرون طار عائلهم بأمنيتهم إلى حيث يسد بها دينه أو يرضى منها شهوة نفسه، ثم يعود إليهم صفر اليدين مقطب الجبين فلا يجد أمامه إلا زوجة باكية وأبناء بائسين.
4- وكم من سيدة ذهبت إلى "التيرو" وما شاكله من بيوت الوبال وبالوعات المال مثقلة بحليها باشة الوجه، وما هو إلا جولة أو جولتان ثم تعود إلى منزلها تندب الحظ والحلى والشرف والسمعة، وكذلك شأن المقامرة لا تشبع ولا تقنع، تحطم الأخضر واليابس، وتلتهم الأبيض والأصفر، ثم تقول: هل من مزيد!
ولو أن هذه الأموال التى تذهب هباءً منثورًا أنفقت فى سبيل المشروعات النافعة لآوت كثيرًا من عاطلي الأمة وأحداثها الذين لا يجدون ملجأ، ولخففت جمّ المصائب والآلام عن المنكوبين الذين لا يرون مسليًا، ولكن هو الشيطان لعنه الله ﴿قَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا﴾[النساء: 118].
الأضرار الصحية:
لو علم المقامر ما يجنيه على صحته وبدنه بهذا اللعب لما أجاز لنفسه أن يغشها بقوله: أروح عن نفسي من عناء العمل والكد، فما أبعد الحقيقة من هذا الزعم، وأعرق هذا الخيال فى الوهم، فالمقامر يجنى على بدنه من حيث لا يشعر، ويقامر بصحته وهو لا يدري، وإلى حضراتكم أسباب ذلك:
1- قرر الأطباء أن الإنسان إذا أفرط فى السهر، وحرم نفسه راحة النوم، ودام الحال على ذلك مدة اختلت أجهزة الجسم، وأدى ذلك إلى فقر الدم واصفرار الوجه، وقال جالينوس: "إن أكثر ضرر السهر يقع على القلب والدماغ والرئتين"، وهذه هى الأعضاء المهمة، فلو لحق أحدها ضرر تداعت قوى الجسم وهلك، وإليه الإشارة بقول الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عمر ينهاه عن طول السهر: "إنك إن فعلت خوصت عينك ونفهت نفسك"، والأطباء المحدثون لا يقولون بغير هذا، والمشاهد أن الإنسان إذا أفرط فى السهر بعض ليال ولو قبل الامتحان مثلاً ظهرت أعراض ذلك السهر فى وجهه، وعدم النوم نوع من أقسى أنواع العذاب عذب به ديميوس مغتال لويس الخامس عشر بعد الكى وذوب الرصاص والزيت فقال قبيل موته: "إن حرمان النوم كان أفظع ما لقى من أنواع العذاب"، وإليه الإشارة بالآية الكريمة: ﴿وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ﴾[الانفطار: 14-16]، ولأحد الأدباء المحدثين:
إياك والسهر الذي يودي بجسمك والحواس
واجعل له حدًا به تبنى الجسوم على أساس
وإذا سهرت فلا تكن ما بين ندمان وكاس
فيضيع عقلك فى الضلال ل وتذهب الكأس النعاس
ولا شك أن المقامر يمنعه لهوه بالمقامرة وتأثره بالكسب أو الخسارة راحة النوم، فهو يقضى الليل على المائدة واجمًا متأثرًا نادمًا متحسرًا، ثم لا يألف النوم عينه نهارًا إلا غرارًا، وباستمرار ذلك ينهار بناء جسمه، ويذوى غصن شبابه، ويختل نظام صحته.
2- قرر الأطباء أن الجهود الفكرية والجسدية تثير الدورة الدموية، والحركة أيًّا كانت يلازمها احتراق الدم المار فى جزئيات الأنسجة البدنية والأعصاب عملاً بقاعدة "الاحتراق البطيء"، وإذا طالت هذه الحركة نفد الدم الصالح بالاحتراق، وازدادت الرواسب الفاسدة الناشئة عن هذا الاحتراق، وهذه الرواسب سم زعاف يمتصها الجسم فيستهدف للخطر فيحس الإنسان حينئذ ما يسمى بالفتور أو الملل أو التعب، ويقول الأطباء: إن هذا الإحساس كصمام الأمن فى الآلة البخارية ينذر الإنسان بضرورة تعطيل العمل، والتماس الراحة بالبعد عن الضوضاء، والتروض فى الهواء الطلق، والابتعاد عن الهواجس والمؤثرات، وإلا سعى فى حتفه وعرض جسمه للتسمم، والمقامر تلهيه شواغل اللعب وترقب النتائج عن الإحساس بالتعب، فيستمر فى عمله غير حاسب للراحة حسابًا حتى تتسمم عضلاته فيجنى على صحته.
3- قرر الأطباء كذلك أن لمفاجأة المؤثرات النفسية وتواليها تأثيرًا عظيمًا على الجسم سواء فى ذلك الحزن والسرور، فهي تهيج الدم وتثير الأعصاب، وقد يؤدى هذا التأثير إلى الصعق والغشية، بل إلى الموت.
يحدثنا التاريخ أن المتنبي لما طالت غيبته عن وطنه بعث إلى جدته يستقدمها إليه ببغداد فقبلت كتابه وحُمَّتْ لساعتها وماتت من شدة السرور، وذلك حيث يقول فى رثائه إياها:
أتاها كتابي بعد يأس وترحة فماتت سرورًا ومتُّ بها غمًّا
ولا شك أن المقامر بين إحدى الحالتين إما ربح مفاجئ يثير كامن سروره، وإما خسارة تستدعى عظيم حزنه، فهو بينهما فى مد وجزر وطي ونشر، وتعاقب المؤثرات له أثر مضاعف، فما يزال كذلك حتى يضطرب كيان نفسه ويختل ميزان حسه.
4- ذلك إلى المؤثرات الموضعية ككثرة الجلاس واحتباس الأنفاس وفساد الهواء وتخالف الأجواء وفى ذلك البلاء المبين.
الأضرار الدينية:
الميسر -أيها السادة- جزء من تاريخ العرب الاجتماعي كانوا يلعبونه فى جاهليتهم يقصدون بلعبه العطف على الفقراء ومساعدة الضعفاء، فكان الكاسب لا يطعم ما يكسب وإنما يفرقه على ضعفة قومه وفقراء عشيرته، ولذلك عدُّوه من مفاخرهم وذكروه بين مآثرهم، قال النمر بن تولب يصف مجلس لعب وما ولّده من الحقد فى نفس الخاسر:
ولقد شهدت إذا القداح توحدت وشهدت عند الليل موقد نارها
حتى إذا قسم النصيب وأصفقت يده بجلدة ضرعها وحُوارها
ظهرت ندامته وهان بسخطه سبًّا على مربوعها وعذارها
ويقول الأعشى ذاكرًا تفضلهم بكسب الميسر:
المطعمو الضيف إذا ما شتوا والجاعلو القوت على الياسر
ويقول عمرو بن قبيصة أو ابن قميئة:
بأيديهم مقرومة ومغالق يعود بأرزاق العيال منيحها
والمنيح: قِدْح من قداح الميسر عندهم.
ويقول عنترة مفتخرًا:
ربذ يداه بالقداح إذا شتا هتاك غايات التجار ملوّم
ويقول النابغة فى هذا المعنى:
إنى أتمم أيسارى وأمنحهم من الأيادى وأكسو الجفنة الأدما
ولابن قتيبة الدينورى مؤلف جامع لأشتات أحوال العرب فى "الميسر والقداح" وقد نشر فى السنوات الأخيرة.
ولكن الإسلام رأى فى أضرار القمار ما يقضى بتحريمه ولا توازيه تلك الغاية الشريفة غاية نفع الفقراء فسلك سبيل التدريج فى هذا التحريم فنزلت الآية الكريمة: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾[البقرة: 219]، ثم نزلت بعد ذلك الآية الحاسمة آية التحريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ﴾[المائدة: 90] الآية، والمتأمل فى هذه الآية يرى أن النهى فيها جرى على أسلوب لم يعهده القرآن من قبل فى منهياته من الحماسة والشدة والوعيد بأشنع الموبقات من الخمر وآثار الشرك فذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزْلاَمُ﴾[المائدة: 90]، ثم وصفها بالرجس، ووصف هذا الرجس بأنه من عمل الشيطان، فزاده رجسًا إلى رجسه، فذلك قوله تعالى: ﴿رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾[المائدة: 90]، ثم طالب المؤمنين باجتناب هذا الرجس المضاعف مبينًا لهم أن الفلاح موقوف على هذا الاجتناب فذلك قوله تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[المائدة: 90]، ثم أخذ يعدد مساوئ هذه المناكر القبيحة فبين أن ما ينجم عنها كله شيطانى؛ لأنه إرادة الشيطان ورمز إلى الأضرار الاجتماعية بالعداوة والبغضاء، ورمز إلى إهمال الفروض والواجبات بالصد عن ذكر الله وعن الصلاة فذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ﴾[المائدة: 91]، ثم أراد تكرير النهى، وعدل عن صيغته إلى صيغة الاستفهام الإنكاري لما يفهم عنها من الإنكار الشديد والتوعيد والوعيد فذلك قوله تعالى: ﴿فَهَلْ أَنْتُم مُّنتَهُونَ﴾[المائدة: 91]، ثم عدل بعد النهى إلى الأمر بالطاعة مؤكدًا مكررًا لفظ الطاعة لله وللرسول، محذرًا لهم عواقب المخالفة فذلك قوله تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا﴾[المائدة: 92]، ثم يبين لهم واجب الامتثال ولا حجة لهم فى المخالفة، فذلك قوله تعالى: ﴿فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ﴾[المائدة: 92].
فأي زجر أو تشديد، وأي نهى أو توعد، وأي تخويف أو تحذير بعد هذا النهى الصارخ والزجر المقنع والحجة البالغة، وكأنها كسف من القوارع تساقط من السماء إلى الأرض، وصواعق غضب الله على المخالفين تلمع فى فم جبريل حين يبلغ محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهو صوت الإرادة الإلهية المسموع دوى فى أذن عمر فصرخ قائلاً: "انتهينا يا رب".
وأي مؤمن تدوي فى أذنه صيحة ربه فلا تأخذ قلبه الرجفة، ولا تهز جوانب نفسه الخشية، ولا يتملك فؤاده الفزع الأكبر، ومن يملك من الله شيئًا إن أراد أن يهلك من فى الأرض جميعًا.
وكل ذلك النهى والوعيد -يا سادتي- فى لعبة بسيطة لا يتجاوز وزر ربحها جزءًا من جزور فكيف بما انتشر بيننا من مختلف اللعب ومتعدد الموبقات؟
ولكأني بقائل يهمس لنفسه أو لجاره: وماذا عسى أن يبلغ هذا الحكم الديني وهذا الزجر القرآني من قلوب طال عليها الأمد فقست، وبعد عنها النور الإلهي فأظلمت؟ وذلك حق -أيها السادة- فقد أصبحت الموعظة لا تجدى فتيلاً، ولا الوازع الديني لا ينال من النفس إلا قليلاً، ولكن ذلك لا يمنعنا البيان لعل فيه تبصرة وذكرى، ولا يسكتنا الإنذار بالوحى فلأن يمتثل المسلم أمر ربه أولى وأحرى.
وإلى حضارتكم الحادثة الآتية لنتبين منها مبلغ الفرق بيننا وبين سلفنا المجيد فى التأثر بأمر الله والنزول على حكمه، والخوف من عقوبته، مع احتقار هذه الزواجر الدنيوية إلى الزواجر الأخروية: رجل من فرسان المسلمين وكبارهم أولع بالخمر فى جاهليته حتى كان يقول:
إذا مت فادفنى إلى جنب كرمة تروى عظامي بعد موتى عروقها
ولا تدفنوني فى الفلاة فإنني أخاف إذا مت ألا أذوقها
وجاء الإسلام بتحريم أم الخبائث فانصاع لأمره ونزل على حكمه، ولكن عادة الشرب المتأصلة فى نفسه أرغمته على أن يحتسى جرعة يرد بها ظمأته، فجاء إلى أمير المؤمنين الفاروق مقرًا بجريرته فحده، وتكرر الأمر فنفاه إلى القادسية وسجنه أميرها سعد بن أبى وقاص .
وفى يوم القتال سمع صليل السيوف وصهيل الجياد فهاجت نفسه إلى ميدان الجهاد، وهو الفارس لا يهدأ أو تقوم قيامة فيها الدماء على الدماء تصيب، فعاهد زوجة الأمير إن أعطته فرسًا وعدة ليعودن إن سلم، وإن استشهد فهي الأمنية، فأعطته ما طلب فنفذ كالسهم مهللاً مكبرًا ورآه سعد من منظرته فعرفه، ولما أن وضعت الحرب أوزارها عاد أدراجه إلى سجنه بعد أن أبلى بلاءً حسنًا لا يريد من الغنيمة إلا أن يرضى الله عنه.
استجوبه الأمير عما دفعه إلى مبارحة سجنه فقال: حب الجهاد والرغبة فى الشهادة فى سبيل الله، وعما دفعه إلى العودة بعد أن كان سبيل النجاة أمامه سهلاً ميسورًا؟ فأجاب: الوفاء بالعهد، فقد عاهدت ولا أغدر.
وسأله: ماذا ترى أن يكون جزاؤك؟ فأجاب: ليقضى الله أمرًا كان مفعولاً. أكبر الأمير هذه النفس المؤمنة فأمر بإطلاقه وحلف ألا يحده فى الشراب.
وكان المنتظر بعد ذلك أن يمرح هذا الفارس فى غيه ولكنه فعل غير ذلك، إنه فكر قليلاً ثم حلف على نفسه ألا يذوق الخمر وإن أدّى ذلك إلى هلاكه، ولما سئل فى ذلك أجاب هذا الجواب الذي تتجلى فيه قوة النفس الإسلامية وعظمتها ومبلغ إيمانها عند ربها حيث قال: "كان جزائي أولاً تلك العقوبة الدنيوية وهي ى شىء لا أهتم له، فلما أن وكلت عقوبتي إلى الله فأنا أستحى أن أبارزه بالعصيان ولا طاقة لى بغضبه وعذابه".
ذلك الفارس المعلم هو سيدنا أبو محجن الثقفي ، وحيا ذلك الإيمان المكين والدين المتين.
فأين نحن أيها السادة من التأثر بكتاب الله ورهبة ما عنده والخوف مما لديه؟ أولئك قوم تملكتهم شهامة الإيمان فكانوا يستحيون ولا يخافون، أما نحن فنخاف ولا نستحى ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾[الحديد: 16](3).
حوادث التكفير وخطر المبشرين
لابد من صوت قوى لإسماع الصم، وقبلاً نصح الناصحون، ونادى المنادون بخطر التبشير والمبشرين على هذه الأمة الوديعة، ثم ها هو الصوت القوى والدليل المادي، والبرهان الحسى يدوى صداه ويتردد فى أنحاء القطر من أقصاه، إلى أقصاه، وقد برح الخفاء وانكشف الستار عما يرتكبه هؤلاء النزلاء المضللون من الجرائم والمناكر مع أمة أكرمت وفادتهم، وشعب أحسن ضيافتهم، وبلاد آوتهم وضمتهم، فهل سمعت الحكومة الرشيدة هذا الصوت الداوى وقد تكررت الحوادث بلا انقطاع، وظهر منها ما يكفى بعضه لإبعاد هؤلاء النزلاء المفرقين للكلمة، المزلزلين للعقائد، ومصادرة مدارسهم ومشافيهم ومعاهدهم ومكاتبهم وكتبهم، ولها ذلك إن أرادته فإنها مطالبة بالمحافظة على الأمن الذي يعمل هؤلاء المضللون على الإخلال به، مطالبة بالمحافظة على دين الدولة الرسمي الذى يحاربه هؤلاء بشتى الوسائل، مطالبة بالمحافظة على شعبها الوادع الأمين، وحمايته من عدوان المعتدين.
وهل سمعت الأمة التى انخدعت حينًا، وأحسنت الظن طويلاً، وغرها زخرف ما يظهر لها المضللون من قول معسول وتصدق معلول؟ وهل سمع الآباء والأمهات وأولياء أمور البنين والبنات بهذا التكفير والتنصير، والتمويه والتضليل، وخطف الأولاد، وتشريدهم إلى أمريكا وإلى أوروبا وغيرها من البلاد، واستغلال العوز والفاقة فى شراء الضمائر وهدم العقائد؟
وهل سمعت الحكومات الأجنبية التى أكرمت مصر وفادة أبنائها فوجدوا فيها منزلاً آمنًا ومرتزقًا رغدًا، فتحرص هذه الحكومات على مقابلة الجميل بالجميل وحسن الجوار ومتانة الروابط، فتكف هؤلاء المرتزقة بالدسيسة وتردهم إلى بلادهم؟
ألا إن حوادث التكفير قد شاعت وذاعت وعمت القطر وغزت القرى والمدن، وعلم الناس منها ما نشرته الجرائد، ولا يزال الكثير منها فى طي الخفاء، وستظهره قريبًا يقظة الأمة، وحزم الحكومة الموفق.
فى كل عاصمة من عواصم المديريات أو المراكز مركز تبشيري قد أعد العدة لغزو بلاد دائرته بشتى الوسائل، وقد أصبحت هذه المراكز التبشيرية شبكة متصلة تضلل بلاد القطر المصري، محكمة الحلقات متصلة الخيوط، ففي: الإسكندرية وفى أسوان وفى القاهرة وفى بور سعيد وفى طنطا وفى الإسماعيلية وفى دكرنس وفى شبين وفى المحمودية وفى بلبيس فيالق مجهزة من المبشرين تؤدى مهمة التبشير فى هذه المراكز وفى غيرها من الجهات بكل وسيلة من: الإغراء والاستهواء واستغلال البؤس والتمويه والتضليل والتستر بالتعليم والتصدق والمداواة.. والغرض من كل ذلك واحد هو التكفير ولو شئت أن أقص طرفًا من حوادث المبشرين لضاق المقام.
على أن المبشرين أنفسهم لا ينكرون هذا بل يفتخرون به قديمًا وحديثًا، وإلى القراء ما يقوله القسيس "زويمر" عن مبلغ نجاح المبشرين فى دعوتهم: "إن لنتيجة إرساليات التبشير فى البلاد الإسلامية مزيتين: مزية تشييد ومزية هدم، ولا ينبغي لنا أن نعتمد على إحصائيات التعميد فى معرفة عدد الذين تنصروا رسميًا من المسلمين؛ لأننا واقفون على مجرى الأمور، ومتحققون من وجود مئات من الناس انتزعوا الدين الإسلامي من قلوبهم واعتنقوا النصرانية فى طرف خفىٍ".
فالقسيس "زويمر" ينادى منذ سنة 1911م بأنه قد نجح فى تكفير مئات من المسلمين وانتزاع الإسلام من قلوبهم، ويؤكد أن الذين أخرجهم المبشرون من دينهم أكثر من الإحصائيات وأكثر من الحوادث وأكثر مما يعلم الناس.
والمبشرون كذلك لا ينكرون وسائلهم فى تكفير المسلمين، فهذا القسيس "فليمنغ" الأمريكي يذكرها فى صراحة وجلاء فيقول: "وأهم هذه الوسائل العزف بالموسيقى، وعرض الفانوس السحري عليهم -أى: على المسلمين، وتأسيس الإرساليات الطبية بينهم، وأن يتعلم المبشرون اللهجات العامية واصطلاحاتها نظريًا وعمليًا، وأن يدرسوا القرآن ليقفوا على ما يحتوى، وأن يخاطبوا العوام المسلمين على قدر عقولهم، ويجب أن تلقى الخطب عليهم بأصوات رخيمة وبفصاحة، ومن الضروري أن يكون المبشر خبيرًا بالنفس الشرقية، وأن يستعمل التشبيه والتمثيل أكثر مما يستعمل القواعد المنطقية التى لا يعرفها الشرقيون".
ويقول سكرتير مؤتمر المبشرين بالقاهرة فى سنة 1906م: "وإن المبشرين أرادوا أن يكسبوا ثقة الشبان المسلمين المتعلمين بهم، فصاروا يلقون محاضرات فى موضوعات اجتماعية وخلقية وتاريخية لا يستطردون فيها إلى مباحث الدين رغبة فى جلب قلوب المسلمين إليهم، وأنشأوا بعد ذلك فى القاهرة مجلة أسبوعية افتتحوا فيها بابًا غير ديني يبحثون فيها عن الشئون الاجتماعية والتاريخية، وأسسوا أيضًا مكتبة لبيع الكتب بأثمان قليلة، والغرض من ذلك استجلاب الزبائن، ومحادثتهم فى أثناء البيع.
ويقول الدكتور أرهارس (Arhars طبيب إرسالية التبشير فى طرابلس الشام بعد أن ذكر مجهوداته فى إفساد عقائد مرضاه: "يجب على طبيب إرساليات التبشير ألا ينسى -ولا فى لحظة واحدة- أنه مبشر قبل كل شىء ثم هو طبيب بعد ذلك".
إن المبشرين لا يواربون فى غايتهم، فهم ينادوننا فى صراحة وجلاء بأن مدارسهم ومشافيهم ومكاتبهم ومكتباتهم لا غاية منها إلا أن يكونوا مبشرين قبل كل شىء، أى: هادمين للإسلام مفسدين لعقائد أبنائه، بل إنهم صرحوا بذلك فى تقرير مؤتمر القاهرة فختم سكرتيره كلامه بقوله: ربما كانت العزة الإلهية قد دعتنا إلى اختيار مصر مركز عمل لنا لنسرع بإنشاء هذا المعهد المسيحي لتنصير هذه الممالك الإسلامية.
كان صديقي القاضي الفاضل الشيخ أحمد شاكر قاضيًا بمحكمة الإسماعيلية الشرعية، وأراد أن يدخل كريمته مدرسة البنات الأميرية بها، فاعتذر إليه ناظرها بامتلاء الأماكن وفوات الوقت؛ إذ إن معظم العام الدراسي قد فات، فرأى أن تقضى كريمته بقية العام فى مدرسة المرسلات التابعة للإرسالية الأمريكية للتبشير بالإسماعيلية، واشترط على رئيستها ألا تحضر الطالبة دروس الدين المسيحي، وأوقات الصلاة بكنيسة المدرسة؛ لأن ذلك لا يتناسب مع مركز أبيها الديني، فرفضت الرئيسة هذا الشرط وأجابت فى صراحة: "إن المدرسة إنما أنشئت لخدمة التبشير البروتستانتي، ولا أستطيع الخروج عن هذه الغاية". فكان جميلاً جدًا أن يرفض فضيلته بكل إباء بقاء كريمته لحظة واحدة فى هذه البؤرة التضليلية، وفضل أن تبقى فى المنزل بدل أن تتسمم عقائدها فى مدرسة المرسلات، وذلك واجب كل مسلم يحرص على دينه وأبنائه.
يا حكومتنا الحازمة: الجريمة ثابتة، والمجرم مقر معترف، والعدوان صارخ متتابع على دين الدولة ودستورها وكرامتها وعقائد أبنائها، وفلذات أكبادها، والعقوبة ممكنة لأنها بحق، وللحق صولته مهما قامت فى وجهه الحوائل، فاغضبى غضبة شريفة لله ولرسوله، ولرغبة جلالة المليك المفدى حامى حمى الإسلام و نصيره، تحسني سمعة مصر، وتريحي ضمائر أبنائها المعذبة.
وأنت أيها الشعب الكريم احذر دسائس هؤلاء المضللين وخداعهم، وابتعد عن مدارسهم ومستشفياتهم وملاجئهم وكتبهم، فإن السمك يلتقط الطعم فيعلق به الشص ويؤديه إلى الهلاك.
وأنتم أيها القوم احفظوا الجميل لأهله، ولا تقابلوا إحسان هذه الأمة إليكم بالإساءة إليها، فإن للاحتمال حدًا ينتهي إليه، والضغط يولد الانفجار، والإسلام عند بنيه أغلى من دمائهم وأموالهم(4).
المسيح برىء من المبشرين
يدعى المبشرون أنهم يبشرون بالمسيح ويكرزون بالإنجيل ويدعون الناس إلى النصرانية، وأنت إذا حققت هذه الدعوى وجدتها تسير طبقًا للقانون الذى تسير عليه دعاويهم كلها، وهو التجديف والتدجيل، والكذب والتضليل، إن المسيح عليه السلام كان سمحًا كريمًا لا يؤذى أحدًا ولا يعتدى على أحد، وكان يوصى بالزهادة فى الدنيا والانصراف إلى التقشف، ويقدس الروحانيات ويحتقر الماديات، والإنجيل ينادى بهذه التعاليم ويؤيدها، ويقول فى كتابه [6 : 24]: "لا تقدروا أن تخدموا الله والمال، لذلك أقول لكم: لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون ولا لأجسادكم بما تلبسون- أليست الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس؟" ويقول فى [19 : 21]: "قال له ياسوع إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبع أملاكك وأعط الفقراء فيكون لك كنز فى السماء" إلى آخر القصة، وكلها وصية بالتجرد من مظاهر الحياة الدنيا وصرف إلى روحانيات فقط- وكل الذين كتبوا مع "متّى" يؤيدون هذه التعاليم ويؤكدونها، فأين سماحة المسيح وعدله من عدوان المبشرين على عقائد الناس وخطفهم لبناتهم وأبنائهم؟ وأين صراحته وإخلاصه بخداعهم ومكرهم؟ وأين الزهادة والتقشف وتقديس الروحانيات التى هى أساس المسيحية مما يجلبه هؤلاء الدعاة، ويزينونه لضحاياهم وفرائسهم فتيانًا وفتيات من حب المادة والإغراء بمظاهر الحياة الدنيا، واستغلال الشهوات والأهواء، واشتراء العقائد والضمائر بالملذات والمطاعم والمشارب، وسجن الأرواح والقلوب فى حدود أعراض هذه الدنيا الزائلة من الأموال والمساكن والملابس؟!
المسيح عليه السلام يقول للشاب الغنى: بع أملاكك واتبعني ولك ثواب الآخرة، وهؤلاء يقولون للشاب أو الشابة: اتبعونا نعطكم الأموال والبيوت والوظائف والمرتبات والأزواج والزوجات.
فأين هؤلاء من المسيح والمسيحية؟
أيها المبشرون: إن كنتم تنشرون المسيحية فقد رأيتم أن المسيحية براء منكم ومن خططكم وأساليبكم المادية الخادعة!
وإن كنتم تبتغون بذلك الرزق والتجارة فأمامكم الشعوب الوثنية قد تجدون فيها مرتعًا خصبًا وعقولاً ساذجة.
وعلى كليهما: فخير لكم أن تعملوا فى غير بلاد الإسلام التى عرف أبناؤها من أنتم وماذا تعملون(5).
حفل جمعية الهداية الإسلامية
لتكريم الإخوان الأمجاد الذين آثروا هداية الإسلام
على ضلال القاديانية
فى مساء الخميس 7شعبان 1352ﻫ دعت جمعية الهداية الإسلامية كثيرًا من فضلاء العاملين للإسلام لحضور حفل تكريمي تقيمه بدارها لحضرات الإخوان الفضلاء، الذين آثروا العودة إلى هداية الإسلام على البقاء مع ضلال القاديانية الخاطئة، وما وافت الساعة المحددة حتى حفل المكان بخيرة الأدباء والعلماء وفضلاء العاملين للدعوة الإسلامية، وفى مقدمتهم صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر، وحضرة صاحب الفضيلة شيخ الإسلام السابق فى تركيا، وفضيلة الأستاذ الجليل شيخ كلية الشريعة، والأستاذ السيد محب الدين الخطيب صاحب "الفتح" الغراء، ثم دعي المجتمعون إلى مقصف فاخر تناولوا فيه ما لذ وطاب، ثم قام فضيلة الأستاذ الجليل رئيس الجمعية الأستاذ محمد الخضر حسين فحيا المحتفل بهم وشكر الحاضرين، وأفاض فى ثبات الأصول الإسلامية وخلودها على الزمان، وانهيار كل ما عداها مما يزيفه المبطلون، ثم تلاه الأستاذ الشيخ عبد الوهاب محمد سليم من علماء التخصص بقصيدة عصماء، وقام من بعده فضيلة المرشد العام للإخوان المسلمين فألقى الكلمة المنشورة بعد، وتلاه الأستاذ الأديب الفاضل على أفندي الجندي المدرس بوزارة المعارف بكلمة قيمة كانت مسك الختام.
خطبة فضيلة المرشد العام
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن تبع هداهم إلى يوم الدين.
صاحبي الفضيلة شيخي الإسلام والمسلمين، سادتي الفضلاء، إخواني الكرام.
هى عاطفة قامت بالنفس لقاء هذا الحفل المحفوف بأنوار الهداية، المرموق بعين العناية، أحببت أن أفضى بها إلى حضراتكم، فإن من الجميل أن ينسب الجميل إلى أهله، ومن الفضل أن يعرف الفضل لذويه.
سادتي، اجتمعنا لنكرم إخواننا الذين عادوا إلى وطن العقيدة الإسلامية الحقة بعد رحلة رأوا فيها من تضارب نحلة القاديانيين وسخفها ما دعاهم إلى نبذها نبذ النواة، والبراءة منها على رءوس الأشهاد ولسنا نكرم أشخاصهم؛ فإن الصدف إنما تعلو قيمته بما يحوى من در ثمين، وإنما نكرم نعمة الله تبارك وتعالى وفضله عليهم بهدايتهم إلى التمسك بدينهم والاعتزاز بعقيدتهم ﴿فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ﴾[الأنعام: 125]، ونكرم فيهم خلق الإنصاف والرجوع إلى الحق، وما أقل المنصفين فى هذه الأيام.
وهما طريقان وصفهما الله تبارك وتعالى فى كتابه يسلكهما صنفان من الناس، فأما الأول فقوم إذا انحرفوا عن الحق وصاحبوا الباطل عز عليهم أن يعودوا، فغلوا فى باطلهم، وسدروا مع أهوائهم، أولئك الذين أشار إليهم الكتاب الكريم بقوله: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الْذِى آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ﴾[الأعراف: 175-176].
وصنف آخر سرعان ما يعودون إلى الحق متى لاحت لهم أنواره، ويستمسكون باليقين متى اطمأنت نفوسهم إليه، أولئك الذين أشار إليهم الكتاب الكريم بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾[الأعراف: 201].
وأبناء القرآن الكريم وأتباع سيدنا محمد العظيم خاتم الأنبياء والمرسلين من أولئك الذين يتخذون الإنصاف شعارًا، والرجوع إلى الحق خليقة، فليهنكم أيها الإخوان فضل الله عليكم، وليهنكم أن تكونوا من المبصرين إن شاء الله.
وإنا لنشكر من كل قلوبنا جمعية الهداية الإسلامية فى شخص فضيلة رئيسها الأستاذ الجليل السيد محمد الخضر حسين، وحضرات أعضائها الكرام على ما يبذلون من جهد ويقدمون من تضحيات فى سبيل الله، ونشكر فضيلتي الإمامين الجليلين وشيخي الإسلام العظيمين على تشريفهما هذا الحفل المبارك الذي عمت فيه بركاتهما، وفاضت عليه أنوارهما.
وأنتهز هذه الفرصة لأقول لسادتي العاملين لخير الإسلام، وهم خير من يعلم ذلك، ولكنها الذكرى تنفع المؤمنين: إن الإسلام منذ نشأته إلى الآن وهو هدف المبطلين، وغرض الهدامين، يناوئونه فى كل عصر، ويحاولون النيل منه بكل الوسائل؛ لأنه حق والحق، لا يسلم من عنت الباطل وأهله، والشيطان لا يسكت عن الكيد للحق طرفة عين، ولقد حدثنا التاريخ أن الإسلام فى كل عصوره كان يكبت كل معاند، ويعلو على كل غاية، ويظهره الله على كل خصم، فيخرج من كل بلاء خروج السيف من الجلاد.
ولكنه فى عصرنا هذا هدد بما هو أدهى وأمر، وهوجم بما هو أعظم وأكبر، من حيث الدعاة، ومن حيث الدعوة، ومن حيث المدعوين.
فأما من حيث الدعاة فإن خصوم الإسلام أدركوا أن الدعاية فى هذا العصر فن يعلم، وصناعة تتلقى، ومهنة يدرب عليها صاحبها، فدربوا أنفسهم عليها، وخصصوا جنودهم بها، حتى صار فى مقدور دعاتهم أن يقلبوا الحقائق للعامة، وأن يزينوا الباطل للسواد الأعظم من الناس، وبحسن السبك قد ينفى الزغل.
أذكر أن زعيم البهائية السابق عباس عبد البهاء فى رحلته إلى أمريكا قابل رئيس الجمهورية وقال له: إنى أدعو إلى السلام من الوجهة الروحية، وأنت تدعو إليه من الوجهة السياسية، فلنتفق معًا على الدعوة إلى السلام، ولنتصافح على ذلك، فمد الرئيس يده إليه علامة التآزر على السلام لا أكثر من ذلك، فما كان أسرع المصور البهائي فى التقاط هذه الصورة وإذاعتها بين الناس فى الجرائد والصحف مدعيًا أن الرئيس صار بهائيًا، ألا تراه يصافح الزعيم البهائي ويبايعه، وبهذه الوسيلة خدع كثيرًا من العقول الصغيرة، وأؤكد لحضراتكم أن الرئيس لم يعلم شيئًا عن البهائية، ولم يُعن حتى بدراسة عقيدة واحدة من عقائدهم، ولكنها المخادعة فى الدعاية وإحكام صناعتها جعلهم يستغلون هذا الظرف. هذا من ناحية الدعاة.
وأما من ناحية الدعوة فقد كان الإسلام قديمًا يهاجم بدعوات نظرية وعقائد فلسفية، فأصبح اليوم يحارب بدعوات هى ألصق ما يكون بالنفوس والشهوات من: الإباحية والإلحاد والقومية والشعوبية، وغيرها من الأفكار والنزعات، فتنساق النفوس وراء أهوائها، وتقبل هذه الدعايات التى تتفق مع أغراضها وغاياتها، ولا تتفطن إلى ما فيها من مغالطة وخداع.
وأما المدعوون فقد كان المسلمون الأولون فى منعة من إيمانهم، وعصمة من يقينهم، وما كان أحد يجرؤ أن يمس عقيدة إسلامية أو مقدسة إسلامية؛ لأن حب المسلمين لدينهم ومظاهره يجعلها أعز عليهم من نفوسهم وأبنائهم وأموالهم، أما الآن فقد ضاع معظم هذه المناعة، وقضى -إلا قليلاً- على هذه الحصانة الإيمانية، ولاسيما المتعلمين فأصبح تعرضهم للخطر محققًا.
كنت اليوم فى مصلحة من المصالح الحكومية علمت أن فيها ألفين وخمسمائة موظف، وقد رأيتهم حال خروجهم كالجراد المنتشر، فسألت نفسي كم من هؤلاء يهمه أمر دينه، ويعنى بدراسة دينه وتعرف أحكام دينه؟ والجواب أعرفه وتعرفونه حضراتكم.
وقرأت فى إحدى الصحف أن ناظر مدرسة عليا يفخر بأن طلبة مدرسته ألف وثلاثمائة وثمانية وخمسون طالبًا، فسألت نفسي كم درسًا يأخذه هؤلاء الطلبة الذين هم عماد الأمة وسنادها فى مستقبلها من دروس الدين والتاريخ الإسلامي، وما المصدر الذي يستقون منه عقيدتهم الدينية وعزتهم الإسلامية؟ والجواب معروف كذلك.
هذه حال أيها السادة تدعو إلى التفكير العميق، والعمل المنتج السريع، وها أنتم قادة الرأي الإسلامي فى مصر، وإن فى جنودكم لخيرًا كثيرًا فسيروا بهم إلى الأمام والله معكم، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين(6).
مشاهدات فى مولد الإمام الحسين رضى الله عنه
أما أن حب أهل البيت رضوان الله عليهم فريضة من فرائض الإسلام وعاطفة يستلزمها الإيمان فقول لا غبار عليه، وأمر يستشعره كل من استشعر فضل جدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس كافة، ويرحم الله أبا الحسن بن جبير بقوله:
أحب النبى المصطفى وابن عمه عليًا وسبطيه وفاطمة الزهراء
همُ أهل بيت أذهب الرجس عنهمُ وأطلعهم أفق الهدى أنجمًا زهرًا
موالاتهم فرض على كل مسلم وحبهمُ أغلى الذخائر للأخرى
وما أنا للصحب الكرام بمبغض فإنى أرى البغضاء فى حقهم كفرا
همُ جاهدوا فى الله حق جهاده وهم نصروا دين النبى بالظبا نصرا
عليهم سلام الله ما دام ذكرهم لدى الملأ الأعلى وأكرم به ذكرا
كل ذلك صحيح نعتقده وندين الله به، ونسأله تبارك وتعالى أن يرضى عنا بمحبتهم، وأن يمتعنا فى الجنة -إن شاء الله- بمشاهدتهم ورؤيتهم آمين.
وأما أن أهل مصر يحبون أهل البيت فقضية فيها نظر، ومهلاً -أيها الإخوان- لا تعجلوا فأنا لا أتحكم فى عاطفتكم، ولا أنقص من تعلق قلوبكم بأهل البيت رضوان الله عليهم ولكنى أقول: إنكم أحد رجلين، إما محبون بحق ولكنكم أخطأتم طريق التعبير عن هذا الحب فأسأتم إلى من تحبون وأنتم لا تشعرون، ومثلكم فى ذلك مثل الدبة التى هشمت وجه صاحبها وقضت عليه لتطرد الذباب عنه، وإما كاذبون فى دعوى المحبة متصنعون فى هذا التعلق مراؤون فى هذا الإخلاص، وقد يكون الأول أقرب إلى الحق، بل هو ذلك، ولا تستغربوا هذا الحكم ولا تغضبوا أيضًا وتعالوا نتفاهم.
هل مما يرضى الإمام الحسين ويدل على محبتكم إياه وتعلقكم به أن يختلط النساء بالرجال هذا الاختلاط الشائن، ويزدحموا هذا الازدحام المعيب الذي يؤدى إلى العبث والاجتراء حول مشهده وأمام ضريحه؟؟
وهل مما يرضيه ويدخل السرور عليه أن تقام باسمه وفى الاحتفال بذكراه تلك السوق الفاجرة سوق الفحشاء والمنكر، فتنصب الخيام التى لا تضم بين جدرانها إلا خليعة [و] ماجن، يقضون الليل فى طبل وزمر وخمر وقمر ورقص وخلاعة يتندى منه جبين الفضيلة، ويحمر له وجه الشريعة، ويستجلب سخط الله وغضبه؟؟
وهل مما يرضيه ويسره أن يتخذ الأخدان من أوقات هذا المولد مواعيد للخلوات حيث يتسع الفضاء ويتلهى الرقباء وتنبسط الرمال وتدنو الآمال؟
وهل مما يرضيه ويسره أن تقام هذه الحلق من الذاكرين فيحرفون أسماء الله ويغيرون ويبدلون، ويخرجون الأذكار بالطبل والطار والناي والمزمار والمواويل والأشعار؟ ولقد سمعت منهم من ينشد على الذكر "آه آه آه يا جميل أوع تميل".
وهل مما يرضيه ويسره أن يجول هؤلاء البائعون بين هذه الجموع يوزعون عليهم سلعهم ومأكولاتهم وقد تراكم عليها الغبار وخالطتها الأقذار، فيوزعون عليهم الآلام ويقدمون لهم الموت الزؤام؟؟
ذلك بعض ما شاهدته فى بعض ليالي المولد الحسيني بالقاهرة وقد عدت من جهة بعيدة إلى دار جمعية الإخوان المسلمين، وما كنت أظن أن الأمر وصل بالقوم إلى هذا الحد فى ليالي الاحتفال بذكرى إمام جليل كالإمام الحسين بن على سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الإمام الحسين كان أغير الناس على دين الله ومحارمه، وأشدهم تمسكًا بأحكام الشرع الشريف، وأقومهم بحق الله فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وأشد ما يؤذيه ويؤلمه أن يخرج الناس عن دين الله ويتناسوا أحكام الشريعة، ولو رأى مثل ذلك فى زمنه لجاهد فى سبيل إزالته وعمل على إبطاله، فهل يظن القاهريون بعد هذا أنهم يتقربون إلى الإمام الحسين؟ وألا يرون بعد هذا أننا معذورون فى الحكم الأول؟
يا قومنا، كونوا محبين صادقين، أو اتركوا هذا الادعاء لمن هم أولى به منكم، والسلام(7).
خطر يتهدد الأمة وينذر بفنائها
كيف ولم نلتمس لتحديد النسل حكم الإسلام والمنطق الصحيح فى هذا التحديد؟
من خطبة لفضيلة المرشد العام فى الجمعية الطبية
نشكر للجمعية الطبية أن أتاحت لنا هذه الفرصة لنتحدث فى هذا الموضوع الدقيق "موضوع تحديد النسل"، وأرجو أن تتكرموا حضراتكم بملاحظة أننى حين أتكلم فيه سأعرض إلى ناحية محدودة، هى الناحية الإسلامية، بمعنى أننى سأوضح -ما استطعت- نظرة الإسلام إلى هذه الفكرة، وسأصدر فى ذلك عن رأيي الشخصي بحسب ما علمت، لا عن رأى جماعة الإخوان المسلمين التى أشرف بالانتساب إليها.
يا حضرات السادة:
جاء الإسلام نظامًا كاملاً يشمل كليات الشئون الإنسانية عملية وروحية، ووصف نفسه بأنه دين البشرية جميعًا، ورسالة الله على يد نبيه محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾[الأنبياء: 107]، والإسلام دين فطرى، لا يركن إلى الخيال ولا يعتمد عليه، بل يواجه حقائق الأشياء ويحترم الواقع ويطوعه، ونحن نعلم أن كل تشريع لا تحميه قوة تنفيذية تشريع عاطل مهما كان عادلاً رحيمًا، لا يظفر من النفوس إلا بدرجة من الإعجاب لا تدفعها إلى اتباعه والنزول على حكمه، فلابد إذن من قوة تحمى التشريع وتقوم على تنفيذه، وتقنع النفوس الضعيفة والمتمردة التى لا تحتمل البرهان ولا تنصاع للدليل بإجلاله واحترامه.
والناس إن ظلموا البرهان واعتسفوا فالحرب أجدى على الدنيا من السلم
لهذا شرع الإسلام الجهاد، وفرض على بنيه جندية عامة، غايتها مناصرة الحق أينما كان، والذود عنه حيثما وجد بدون ظلم أو إرهاق، واستغلال مادي أو استعمار نفعي، بل كما قال القرآن الكريم: ﴿حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ﴾[الأنفال: 39]، وأجمل ما تكون القوة مع الحق، وليست القوة عيبًا فى ذاتها ولا عارًا على أهلها، وليس الاستعداد للطوارئ إلا صفة من صفات الكمال، وإنما العيب أن تستخدم القوة فى تثبيت الظلم، ويكون الاستعداد وسيلة العدوان.. ومن هنا أمر الإسلام بالقوة والاستعداد فى قول القرآن الكريم: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾[الأنفال: 60]، ثم وجه هذه القوة أفضل توجيه وأكرمه فى قوله: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾[المائدة: 8].
وإذا كانت هذه هى فكرة الإسلام ورسالته، وكانت القوة أول ما تكون بالعدد الكثير من العاملين، وكانت القاعدة الأصولية أن: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، كان لنا أن نستخلص من هذا نتيجة منطقية طبيعية هى: "أن الإسلام يأمر بالإكثار من النسل ويحض عليه، ويدعو إليه وبالعكس لا يرى التحديد والضبط وتطبيقًا على ذلك، وتحقيقًا له وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [أخبار] تحث على الزواج، وتبين أن الغاية منه الأولاد قبل كل شىء، ومن ذلك ما يلي:
1- عن معقل بن يسار قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنى أصبت امرأة ذات حسب ومنصب ومال إلا أنها لا تلد فأتزوجها؟ فنهاه. ثم أتاه الثانية فقال بمثل ذلك، ثم أتاه الثالثة فقال له: "تزوجوا الودود الولود فإنى مكاثر بكم الأمم" رواه أبو داود والنسائي والحاكم.
2- وعن معاوية بن حيدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "سوداء ولود خير من حسناء لا تلد، إنى مكاثر بكم الأمم" رواه الطبراني.
3- نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزوبة للقادر على الزواج، ونهى عن أن يخصى أحد من بنى آدم فى روايات عدة.
هذه نظرة، وهي القاعدة الأصلية التى جرى عليها الإسلام وأجمع على قبولها المسلمون، وثم نظرة أخرى، وهي أن الإسلام وهو التشريع الذي جاء ليكون عامًا خالدًا وضع فى حسابه ظروف الأفراد والأسر والأمم التى تختلف باختلاف أحوال الحياة وحوادث الكون، فجعل العزائم والرخص، وقرر أن الضرورات تبيح المحظورات، وأنه لا ضرر ولا ضرار، وأن الاستثناء قد يعرض للقاعدة الكلية وخصوصًا فى المصالح المرسلة والشئون العارضة، ومن هنا اختلفت النصوص والآراء وكثير من المسائل ومنها هذه المسألة.
وإنا نوجز ما ورد فيها فيما يلي: وردت أحاديث بحرمة العزل، وأنه الموءودة الصغرى، وبها أخذ فريق من أئمة الفقهاء فمنعوه وحكموا بحرمته مطلقًا.
ووردت أحاديث تبيحه وتبين أنه لا يؤخر من قضاء الله شيئًا، وبها أخذ فريق من أئمة الفقهاء أيضًا فحكموا بالإباحة مطلقًا أو مع الكراهة.
وتوسط فريق ثالث فاشترط للإباحة إذن الزوجة، وتفرع على هذا الأصل حكم تعاطى الأدوية لمنع الحمل وتقليل النسل.
فالذين حرموا العزل حكموا بحرمته، والذين أباحوا العزل حكموا بإباحته، والذين توسطوا اشترطوا رضاء الزوجة فى هذا أيضًا.
وبعض الذين أباحوا العزل حرموا منع الحمل بتعاطي الأدوية ومحاولة تقليل النسل بأية وسيلة من الوسائل، ومن هؤلاء جمهور المالكية وبعض فقهاء الشافعية، وإليك بعض أقوال هؤلاء:
1- نقل البرزلى عن القاضي أبى بكر بن العربي أن تعاطى ما يقطع الماء عند الرجل أو يبرد الرحم عند المرأة لا يجوز.
2- وقال الحطاب الجزولي فى شرح "الرسالة": "لا يجوز للإنسان أن يشرب من الأدوية ما يقلل نسله".
3- قال صاحب "المعيار": "إن المنصوص لأئمتنا رضوان الله عليهم المنع من استعمال ما يبرد الرحم أو يستخرج ما هو بداخله من الماء، وعليه المحصلون والنظار".
4- نقل فى شرح الإحياء عن العماد بن يونس والعز بن عبد السلام وهما من أئمة الشافعية أن يحرم على المرأة استعمال دواء مانع للحمل، قال ابن يونس: ولو رضى به الزوج.
أما تعاطى الأدوية لقتل الحيوان المنوي بعد وصوله إلى الرحم فقد فرق الأئمة بين حالتي قبل التخلق وبعده، فأما بعد التخلق فالإجماع على حرمته تقريبًا، وأما قبل التخلق ففيه الخلاف المتقدم.
إذا تقرر هذا ولاحظنا معه أن الإسلام لم يغفل ناحية القوة فى الأبناء، والصحة فى الإنتاج، بل أوصى بذلك ونبه إليه، فعن أسماء بنت يزيد قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تقتلوا أولادكم سرًّا فإن الغيل يدرك الفارس فيدعثره عن فرسه" أخرجه أبو داود. والغيل: أن يقرب الرجل امرأته وهي ترضع فتضعف لذلك قوى الرضيع، فإذا بلغ مبلغ الرجال ظهر فيه أثر هذا الضعف.
علمنا من أن الإسلام مع وصيته بالإكثار من النسل وإرشاده إلى أسباب القوة فيه قد جعل رخصة تستخدم إذا توفرت الأسباب والدواعي التى تدعو إليها.
وعلينا إذا أردنا أن نستخدم هذه الرخصة أن نسأل أنفسنا الأسئلة الآتية:
1- أليست هناك أسباب تدعو إلى الإكثار من النسل؟
2- هل ثبت بأدلة قوية وقرائن صادقة أن هناك من الأسباب ما يدعو إلى التحديد، وهل تأكدنا أن كثرة النسل هى السبب فى الضائقة الاجتماعية؟
3- هل لا يمكن استخدام علاج اجتماعي آخر؟
4- هل وثقنا من أنه سوف لا تنجم عن هذا التحديد أضرار خطيرة؟
5- هل اتخذت الاحتياطات الكافية لمنع هذه الأضرار؟
6- ما الوسائل التى ستتخذ وهل يبيحها الإسلام؟
7- هل وثقنا من أن هذه الرخصة ستستخدم بالقدر الضروري فقط، وأنه سيستخدمها الذين يراد منهم استخدامها، وأن العودة إلى القاعدة الكلية وهي ترك التحديد سيكون ممكنًا إذا دعت الحاجة إليه؟
8- وأخيرًا هل الأفضل فى ذلك أن يعالج بصورة عامة أو بصورة فردية خاصة؟
9- أليس من الجائز أن تسفر هذه التجربة عن عجز عن معالجة الأضرار المزعومة كوفيات الأطفال مثلاً، فتظل هذه الدواعي كما هى ويضاف إليها الأضرار التى ستنجم عن التحديد؟
10- وملاحظة أخرى قد تكون بعيدة عن تفكيرنا المحدود بالواقع والبيئة الخاصة وإن كانت صحيحة فى ذاتها، هى أن الإسلام لا يتقيد بهذا التقسيم السياسي فى الوطن الإسلامي العام فهو عقيدة ووطن وجنسية، وأرض المسلمين فى نظره وطن واحد، فالزيادة فى جزء منه قد تسد نقصًا فى جزء آخر.
وعلى ضوء البيانات التى سمعتها فى هذه الدار الكريمة من حضرات الباحثين الفضلاء -أمثال: الدكتور الوكيل، والدكتور فليب بشارة، والدكتور نجيب محفوظ باشا، والأستاذ عيسى عبده- أستطيع أن أستخلص النتيجة الآتية:
أن هناك من ظروف الأمة المالية فى نهضتها الجديدة ما يدعو إلى تكثير النسل، فأمامنا الجيش وأمامنا السودان، وأمامنا الأرض البور فى مصر وهي تبلغ ثلاثة ملايين من الأفدنة، أى: نصف المزروع إلى الآن.
وأن أسباب الأضرار المشكو منها اقتصاديًا وصحيًا واجتماعيًا لا ترجع إلى كثرة النسل، بل إلى ارتفاع مستوى المعيشة من جهة وجهل الأمهات من جهة أخرى، وأسباب كثيرة يضيق المقام بحصرها وسردها.
وأن نجاح التشريع غير مضمون فى القرى بتاتًا؛ فإن أولاد الفلاح هم رأس ماله وثروته، والفلاحون فى أشد الحاجة إلى الإكثار من هذه الذرية.
وأن المشاهد أن الطبقة التى تستخدم التحديد هى الطبقة المتعلمة التى ينتظر منها الإكثار، وذلك ضار بالأمة؛ فإن القادرين على التربية هم الذين يفرون من كثرة الأبناء، ولهذا نحن فى الواقع نخشى إن استمر بنا هذا الحال قد نجد أنفسنا فى المستقبل أمام مشكلة هى كيف نكثر من النسل لخدمة الوطن الذي تحتاج إلى كثرته البلاد، ولا يصح أن تحمل عليها الأمة، بل تستخدم بصورة خاصة فردية بحتة مع الذين تتوفر عندهم دواعيها فقط(8).
المجلات الباريسية المتهتكة
فى مصر المسلمة -بل زعيمة العالم الإسلامي- تباع مجلات متهتكة تنشر صورا عارية تثير الشهوة البهيمية وتحرك الغريزة الجنسية، فتشيع الفاحشة وتنشر الفساد. ولقد رأى صاحب الفضيلة المرشد العام للإخوان المسلمين أن يلفت نظر رئيس الوزراء إلى هذه المجلات وأثرها على الأخلاق طالبا منه مصادرتها فوجه إليه الخطاب الآتي:-
حضرة صاحب المقام الرفيع وزير الداخلية:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
ليس يخفى على رفعتكم ما يستتبع حالة الأخلاق فى الأمة قوة وضعفا من أثر خطير فى نهضاتها نجاحا وإخفاقا. ولعل خير ما أفادت الأمة من محنها الوطنية السابقة وما وضع فيها من تقاعد الشبان عن العمل وضعف المتقدمين منهم عن الإنتاج لانشغال أكثرهم باللهو واصطناع الحزم عن الجد ومعالي الأمور- لعل خير ما أفادت الأمة من ذلك اقتناع الساسة أولى الأمر بمسيس الحاجة إلى بناء الأمة من جديد على أساس من الخلق الفاضل، والترفع بها عن هذا الإسفاف الشائن والهزل البذيء اللذين يطبع بهما المجلات الخليعة -ولاسيما- الباريسية شباب الأمة وشوابها فتقضى على الرجولة وتنزل بالمثل العليا إلى بؤر الحضيض.
لهذا أتشرف بأن أرجو مقامكم الرفيع التفضل بلفت نظر المختصين إلى مصادرة أمثال هذه المجلات المتهتكة المعلنة بالفاحشة والمغرية بالفساد، وإلى وجوب مصادرتها وتنقية المجتمع المصري مما تذيع فى الناس من قتل للفضيلة وإحياء للشهوات.
ومرفق بهذا بعض هذه المجلات التى يؤكد تصفحها لرفعتكم مبلغ جنايتها على الفضيلة والعفة فى بلد تنتهي إليها زعامة الشعوب الإسلامية، وبمرأى من حكومة تكتسب قوتها من الاستناد إلى الروح الإسلامية.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
3ربيع أول سنة1357- 13 إبريل سنة 1938(9)
تحطيم الحانات
ظاهرة تدعو إلى التفكير الجدي
واجب الحكومة ألا تحرج الشعب وأن تعيد النظر
فتضع من التشريع ما يمنع المنكر ويريح ضمائر الناس
بدت فى الأيام الأخيرة ظاهرة واضحة من الشعور القوى بأخطار الانحلال الخلقي الذي يسود المجتمع المصري ويستنزف كل معاني القوة والرجولة منه، وارتفعت أصوات كثيرة بوجوب التفات الحكومة إلى هذه النواحي ووضع حد لهذه الإباحية، ولا تعدل الحرية التى تسهل على كل راغب فى الفساد أن يصل إلى رغبته من أهون السبل ومن غير رادع من عرف أو قانون. ومهمة الحكومة -كما هو معلوم- حياطة المجتمع وحماية الشعب من كل مظاهر الفساد حتى من نفسه إذا أساء أحد استخدام حريته، وهى بهذا الحق تحجر على السفيه وتحرمه حقه الطبعي فى التصرف بما له؛ لأنه أساء استخدام هذا الحق – وكثير من الناس يستحق حجرا اجتماعيا باسم القانون؛ لأنه يسئ استخدام حريته الفردية والاجتماعية، ويشيع الفاحشة والإفساد بين الناس، ومن هؤلاء مدمنو الخمر، ومدمنو المقامرة، وأحلاس بيوت الفجور، وقعدة المقاهي والمشارب والبارات والصالات إلى غير ذلك من هذه البؤر التى تقتل الروح والعقل والنفس والشرف والقوة والمال.
ارتفعت الأصوات من كل مكان بوجوب تدخل الحكومة لوضع حد لهذه الإباحية والقضاء باسم القانون وحق التشريع على هذه الموبقات، وتحركت الحكومة فى بعض الأوقات، ونظرت، ثم وعدت الناس خيرا بإلغاء البغاء ووضع تشريع يخفف من أضرار الخمر، وفضلا عن أن هذا ليس هو المقصود ولا هو مما يستأصل، الداء فقد انتظر الناس طويلا فلم تحقق الحكومة وعدها ولم تقم بواجبها حيال هذه الحال، وظلت بيوت الفجور كما هى، وحانات الخمور تزداد فى كل مكان.
هذا إحراج غريب لشعب مسلم يؤمن بالله ورسوله ويقرأ صباحا ومساء قول الله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ اللهِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾[النور: 2]. وقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُم مُّنتَهُونَ﴾[المائدة: 90-91]. إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة والأحاديث الكثيرة التى يجد المسلم نفسه آثما ومقصرا ومهضوم الحق وممنوعا باسم القانون عن يحقق أمر الله الذي أنزل إليه.
وظلت الحكومة على هذا الجمود والانصراف عن الإصلاح الاجتماعي حتى وقعت هذه الحوادث المتلاحقة (حوادث تحطيم الحانات).
نحن لا نوافق على تحدى القانون بهذه الصورة، وليس من منهاجنا -نحن الإخوان المسلمين- أن نسلك هذا السبيل وليس ذلك هربا من تحمل التبعات المترتبة على هذا العمل؛ فالله يعلم أننا تجردنا له عن كل شىء من نفس وأهل ودم ومال، ولكن لأننا نرى ونعتقد أن غير هذا السبيل أجدى منها فى الوصول إلى الغاية، ولكنا فى الوقت الذى لا نوافق فيه على هذا التحدي نقول فى صراحة ووضوح: إن جمود الحكومة وانصرافها عن المبادرة بتشريع يحمى الأخلاق والأعراض والعقول والنفوس والجيوب من هذا الخراب السريع هو السبب الأول لوقوع هذه الحوادث، فالحكومة هى المسئول الأول وهى أولى بأن تحاكم من هؤلاء الفاعلين.
"جاء رجل إلى عمر رضى الله عنه يتهم خدمه بأنهم سرقوا من ماله الذي يعملون فيه، فأحضر عمر هؤلاء الخدم وسألهم عن السرقة فأقروا بها، فسألهم عن السبب فى ذلك فأخبروه أن سيدهم هذا لم يعطهم أجورهم حتى اضطروا إلى أن يمدوا أيديهم، فأحضر عمر سيدهم وقال له: أيها الرجل: إن عاد خدمك إلى السرقة قطعت يدك. اذهب وأعطهم أجورهم". هذا قضاء عجيب فى استئصال الداء من أساسه وتربية الأمة تربية فاضلة عميقة، لا تسكينات وقتية تسكن الحادثة الطارئة وهي لم تعرض لجذور الداء- لهذا نقول فى وضوح وصراحة: إن الحكومة بقعودها وجمودها هى المسئول الأول عن هذا التحطيم، وهي أكبر من يستحق العقوبة القانونية عليه؛ لأن موقفها هو الدافع المثير للذين فعلوه. وما من شك فى أن هؤلاء الشبان الذين وقفوا هذا الموقف قد وقفوه بدافع برىء ونية حسنة طيبة ولم يكن العدوان مقصودا لهم. ولكن إنما أرادوا أن يلفتوا نظر الحكومة بصورة من الاحتجاج العملي بعد أن قالوا مع القائلين وبحت أصوات الجميع ولا مجيب إلى ضرورة إعادة النظر فى التشريعات التى تحمى المجتمع المصري وتحافظ على آدابه وأخلاقه وأعراضه وأمواله.
فالقصد الجنائي منعدم فى القضية من أولها إلى آخرها تمام الانعدام. وما من شك كذلك فى أن إغلاق الحانات، وإلغاء البغاء، والقضاء على القمار، واستئصال هذه المفاسد جميعا، هو أمنية غالية عزيزة لكل مصري على أرض هذا الوطن مهما كان دينه.
نكتب هذه الكلمة وتلك الحوادث بين يدي القضاء. فأما كلمتنا إلى الحكومة فهي أن تنزل على إرادة هذا الشعب المؤمن فتبادر بسن تشريع صارم يحمى عقيدته، ويتفق مع دينه وقرآنه، ويقضى على هذه المفاسد.
وأما كلمتنا إلى القضاء المصري فهي: أن يقدر الدوافع الشريفة التى دفعت هؤلاء الشبان إلى هذا الموقف، فلا يقسوا فى المؤاخذة على جرم، إن كان فى صورته معصية للقانون فهو فى لبه وجوهره والدوافع التى دفعت إليه تقديس للقانون وحماية لسلطانه.
وكلمتنا إلى هؤلاء الشبان: أن يكفوا عن هذه الوسيلة، وحسبهم أن قد وصل صوتهم إلى الناس، وأن يعملوا على تحقيق أغراضهم فى حدود القانون(10).
حول حوادث تحطيم الحانات
صورة خطاب الأستاذ المرشد لمعالي وزير العدل
القاهرة فى 4 من ذي الحجة سنة 1357ﻫ
حضرة صاحب المعالى وزير العدل:
أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأصلى وأسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته ونصر شريعته، وأحييكم فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
يا معالي الوزير: أنت رجل مسلم تؤمن بالله ورسوله وكتابه: وتعتقد من أعماق نفسك أن تعاليم الإسلام وأحكام الإسلام هى أفضل التعاليم وأعدل الأحكام، وأن الإسلام إذا أمر ففي إطاعة أمره سعادة الناس وصلاحهم، وإذا نهى ففي ارتكاب ما نهى عنه شقاؤهم وبلاؤهم.
وتعلم إلى جانب ذلك أن الإسلام فرض على أبنائه الدعوة إلى محاربة الخمر، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والتحذير من المعصية، ومناصرة الحق مهما كلفهم ذلك، ومقارعة الباطل مهما كان عاليا جبارا، وحمل الناس على الفضائل وإن فشت فيهم الرذائل. والإسلام إنما يزن الأمم بهذا الميزان؛ فأمة آمرة ناهية هى خير الأمم: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾[آل عمران: 110]. وأمة ساكنة مغضية هى أهل اللعنة والمقت فى كل زمان ومكان: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِى إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْننِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾[﴾[المائدة: 78-79]. وإنما يعيش المسلم بالحق للحق صابرا محتسبا، ولا شىء إلا هذا: ﴿إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِى خُسْرٍ*إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر﴾[العصر: 2-3] ولا أطيل عليك بذكر ما ورد فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والغضب لله وخصومة أهل الباطل حتى يؤطروا على الحق أطرا –من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة الصحيحة فأنت بذلك جد عليم، وإنما ترأست ما ترأست من الجمعيات الإسلامية على هذه القاعدة؛ قاعدة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
وأعتقد يا معالي الوزير أنك معي فى أن الخمر أم الخبائث، ومركز الجرائم، ومصدر الكبائر، وأساس الموبقات المهلكات، وأنها ما فشت فى أمة إلا استنزفت عقلها وهو أثمن ما لديها، ومالها وهو قوام حياتها، وشرفها وهو ملاك دينها ودنياها، فلم تبق لها بعد ذلك شيئا، ولهذا حرمها القرآن أشد التحريم، وجعلها رجسا من عمل الشيطان، وقرنها بالميسر والأنصاب والأزلام، ورتب عليها العداوة والبغضاء، ونفر منها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أبلغ التنفير، وتوعد من ذاقها بطينة الخبال. وهتف الصحابة يوم دعاهم الله إلى تركها هتاف الطاعة والامتثال فقال قائلهم: انتهينا يارب. انتهينا يارب.
ومصر يا معالى الوزير بلد مسلم وهو زعيم بلاد الإسلام، ومع هذا فحسبك أن تمر بأي شارع شئت من شوارع القاهرة فترى بعينيك كيف زادت عدد الحانات على حوانيت ألزم الحاجيات، وكيف صارت دكاكين البقالة خمارات يحميها القانون، وكيف دنست رائحة الخمر الجو الصافي الطيب فى هذا البلد المسكين، وكيف جلس أحلاس البارات والخمامير بعد منتصف الليل فى زواياها، وهم هياكل عظمية لا يعرفون حق مال ولا ولد ولا زوجة ولا أهل، وإن فى قطعة من شارع محمد على وحده بين العتبة وباب الخلق أكثر من عشرين خمارة، وليس هذا الحى من أحياء الفجور والفساد فكيف بغيره من الأحياء!
أهذا يرضى الله؟ أهذا يتفق مع نصوص الدستور؟ أهذا يساير مكانة مصر من زعامة بلاد الإسلام؟ أهذا يعيننا على تكوين الجيل القوى الذي يصل حاضر مصر الضعيف بماضيها القوى المجيد؟
فإذا آلمت هذه المظاهر -وهي مؤلمة- بعض الشبان فتحمسوا وأرادوا أن يسمعوا الحكومة صوتهم، ويحتجوا على هذه المظاهر التى تتنافى مع دينهم احتجاجا عمليا بعد أن سئموا الكلام والكتابة وكل وسائل الإبلاغ، فاعتدوا على بعض الحانات وقدموا من أجل ذلك إلى المحاكمة.
أتعتقد يا معالي الوزير أن هذه القضية ككل قضايا الإتلاف والعدوان؟ وأن هؤلاء الشبان يصح أن يعاملوا كما يعامل البلطجية والمتشردون والمعتدون على صالات الرقص ومذابح الفضيلة فى كل مكان؟
يا معالي الوزير المسلم: إن العدل هو أساس القانون والحق الذي يستمد منه القانون سلطانه وهيمنته على الناس، والذي لا يكون القانون قانونا بغيره، والذي تتربع باسمه فى كرسيك الكريم، هذا العدل والحق يقضى بأن تنظر إلى هذه القضية نظرة خاصة، وأن يكون لهؤلاء الشبان سبيل غير سبيل المعتدين الظالمين.
لست أقر أحدا أن ينتقض على القانون، ولست أدعو إلى العدوان فى أية صورة من صوره، فقد نهانا القرآن عن العدوان. ولكنى أعتقد أن عناصر الجريمة فى هذه القضية مفقودة تمام الفقدان والقصد الجنائي منعدم بتاتا، فليس بين هؤلاء الشبان وبين هذه الحانات وأصحابها صلة ما تحملهم على الانتقام والإجرام، وإنما حملهم على ذلك دافع شريف جدير بالتقدير هو فى الواقع مساعد للقانون على أداء مهمته؛ وهى محاربة الجريمة والقضاء عليها وسد المنافذ الموصلة إليها، والخمر هى أوسع المنافذ التى يدخل منها المجرمون إلى انتهاك حرمة القانون والخروج على سلطانه – وهؤلاء الشبان بشعورهم هذا إنما يعبرون عن شعور الأمة كلها، فليس هناك مصري واحد لا يتمنى أن تغلق الحانات، وتوصد المواخير، وتطهر الشوارع والأحياء من هذه الأرجاس والآثام، وخير للحكومة أن تعدل قانونها وتستكمل ما فيه من نقص حتى يتفق مع شعور الأمة وعواطفها، ولاسيما إذا كانت هذه العواطف والمشاعر مثال السمو والكمال من أن تتحداهم بالقانون، وتخوفهم بنصوصه، وتضطرهم إلى التبرم عليه والزراية به، وليس آلم لنفس المؤمن من أن يتلفت حوله فيرى حرمات الله تنتهك، ومعاصيه ترتكب، وأوامره تعطل، وهو مكتوف اليدين لا يستطيع دفعا ولا يملك إنكارا. ولعلك يا معالي الوزير لو ترجلت عن سيارتك وطفت خلال هذه الأحياء ورأيت هذه المناكر فى صورتها البشعة المثيرة يقع فيها عامة هذا الشعب الضعيف الفقير المريض، لكنت أنت الذي تحطم الحانات وتأخذ بخناق هؤلاء الخمارين.
والدستور المصري -يا معالي الوزير- ينص على أن دين الدولة هو الإسلام ويجب أن تتوفر للقوانين "صفة الدستورية" حتى لا تكون متناقضة مع القانون العام، فإذا كانت مادة الإتلاف التى يراد تطبيقها على هؤلاء الشبان قانونا محترما، فإنها قد وضعت قبل وضع الدستور بعشرات السنين، والدستور بما له من الهيمنة على القوانين جدير بنسخها وإضعاف أثرها.
لهذا أتقدم إلى معاليك وذلك حقكم بالآتي:
أولا- أن تعيدوا النظر فى إجراءات هذه القضية، وتنظروا فى الوسيلة القانونية التى بها يطلق سراح هؤلاء الشبان المسجونين ولا يعجزكم ذلك، وإن أبته حرمة القانون فظرف هذه القضية ليس كغيره من الظروف.
وثانيا- أن تتقدموا إلى الحكومة عاجلا بتشريع حازم يقضى على هذه الفوضى الخلقية، ويحمى الشعب من الخمر والبغاء والمهالك والآثام.
يا معالي الوزير: لقد تيقظ الشعور الإسلامي فى نفوس الشعب المسلم، ولم يعد هناك وقت للسكوت والإهمال فى إجابة هذه الرغبات بعد أن وصل الفساد والاضمحلال الخلقي إلى الصميم، فبادروا بإنقاذ الأمة ورفع الحرج عن الناس حتى يقفوا من القانون موقفا يرضاه القانون، وتكون الحكومة هى المقصرة والمسئولة بين يدي الله والناس.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(11)
أيها الشعب المسلم ماذا يراد بك؟!
القبعة فى الجيش. حرية الفكر فى الجامعة. الطبقات فى الأندية. الإباحية على الشواطئ. التبشير فى كل مكان. ثم ماذا بعد ذلك؟
منذ أسابيع أصدر الدكتور طه حسين كتابا يدعو فيه إلى الانغماس التام فى التقليد الأوربي، ويستنكر بشدة هذه الدعوات "المنافقة" كما يريد أن يسميها إلى نزع هذا التقليد والرجوع إلى غيره من النظم أيا كانت، حتى ولو كانت نظم الإسلام الحنيف- ولم نشأ أن نتناول هذا الكتاب بالرد حتى لا يكون فى الكتابة عنه إذاعة لأمره، ولا زلنا عند هذا الموقف من هذا الكتاب حتى نكتب عنه عند اللزوم إن شاء الله.
وتحدث المتحدثون بأن سلاح الطيران فى الجيش قد لبس القبعة، فما كان أجملها، وما كان أحلاها، وما كان أحسن شكلها على رءوس ضباطنا الناشئين من أفراد سلاح الطيران، كأن الطربوش الجميل الزاهي بلونه وشكله قد صار من الأثريات. سمعنا فقلنا أول الغيث قطر، وما لبثنا أن تلا ذلك قرار لبس الجيش للقبعة فى وقت العمل فقط فأسرعت دقات القلب، وأخذت صدور المؤمنين تعلو وتهبط فى انتظار الخطوة التالية، وتنبأ بها بعض المتنبئين، ولم يكن الوقت طويلا حتى جاء القرار الأخير بأن يرتدى الجيش المصري القبعة فى كل شأنه إلا فى الحفلات، وكيف كان ذلك؛ لأن القبعة أعجبت رفعة رئيس الوزراء؟
هذا غريب حقا! حينما أرادت إنجلترا أن تغير بعض لباس الرأس فى الجيش البريطاني استصدرت بهذا قرارا من البرلمان؛ لأن أمر الزي -وبخاصة زي الرأس- يتعلق بمشخصات قومية الأمة، وانفراد شخص بتقريره -أيا كان- افتيات على حقوق ممثلي الأمة ونوابها. لا يكفي أن يعجب شكل القبعة رئيس الوزراء، ولا يكفي أن يفتى كبير أطباء الجيش الدكتور "سوسوباسيلى" ومساعده الدكتور "إبراهيم رزق" وكلاهما غير مسلم، وكلاهما متخرج من كلية الطب ببيروت؛ بأن القبعة أليق وأوفق وأكثر ملائمة للجيش.
إن الحالة الدولية قد شغلت حكومتنا بل حكومات العالم عن عظائم الأمور. أفما كان يصح أن ننصرف عن هذه الشكليات إلى غيرها مما هو أعود بالفائدة والنفع على الجيش الذي لا يمنعه من النصر -ما دام مؤمنا مدربا- طربوش ولا عمامة ولا قلنسوة.
مرت على أبصارنا صور من تاريخ الانقلابات الحديثة التى جعلت من حكومات إسلامية ونظم إسلامية ما يتنافى مع الإسلام كل التنافي. إن الخطوة الأولى فى هذا الانقلاب كانت القبعة. فهل يا ترى تكون قبعة الجيش فى مصر هى ناقوس الخطر والخطوة الأولى فى انقلاب جديد لا يتفق مع الإسلام؟
ولم نكد ننتهي من صدمة القبعة حتى علا صوت نوابنا المحترمين فى البرلمان حول ميزانية الجامعة، وتناول المتكلمون حرية الفكر والعلم والدين والدستور بكلام عجيب غريب.
لقد ارتضت مصر -حكومة وشعبا- الإسلام دينا، ونصت على ذلك فى دستورها، ولقد لاحظنا ولاحظ كل بصير وكل أعمى جهل طلبتنا بالدين، وبعدهم عن روح التمسك بالدين، وخلو المدارس من هذه الناحية، وخلو الجامعة هى الأخرى منها، وعلمنا وعلم الناس أن كتبا تتحامل على الإسلام تدرس على أنها كتب مسلمة، ويتلقاها أبناؤنا على أنها مقررات رسمية قد آمن أساتذتهم بصحتها، وقدموها لهم ليعلموا ما فيها ويؤمنوا به، لا على أنها كتب فيها ما يتنافى مع عقائدنا ونحن ندرسه لنرده ولنعلم ما يقول عنا غيرنا من الناس، ولاشك أن الفارق عظيم فى الحالتين، فنحن ندرس الأحاديث الموضوعة –مثلا- على أنها مكذوبة على رسول الله، ولا يمنعنا ذلك من تدريسها، ولكن مع تعريف الطالب أنها مكذوبة.
فهل يستطيع قائل إن يقول: إن مدرس كلية الآداب الإنجليزي حين يدرس للطلبة المحادثة الإنجليزية، أو مسرحية "جان دارك" أوقفهم على ما فيهما مما يتنافى مع عقائدهم الإسلامية؟ ومع ذلك فهل إباحة التفكير والنظر وحريتهما تبيح لكل أحد أن يتعاطى مالا يدرك ومالا شأن له به؟
يا حضرات النواب: إن هذه كلها تكاد تكون بديهيات مسلمة، والذي يطلبه النواب عبد الحميد بك سعيد والشيخ دراز والشيخ رضوان والشيخ عبد الوهاب ومن إليهم ليس أمرا عجيبا، هم يريدون منكم أن تعلموا أبناءنا دينهم، وأن تحافظوا على عقائدهم. فهل فى هذا ما يستحق ثورة أو معارضة؟ لم لا تصادر الكتب المثيرة للشهوات والمخلة بالآداب، ولم لا يقول إن حرية الفكر والبحث تبيح هذا؟ أريد الجواب من الأستاذ العقاد والأستاذ فكرى أباظة، وأظنهما سيوافقان على الإباحة؟!
ويتقدم نبيل فيدافع عن نظام الطبقات على صفحات الجرائد ويقول: إن ذلك ما يأمر به الإسلام. يا سيدي النبيل: لا. ليس هذا ما يأمر به الإسلام. إن الإسلام سوى بين الناس: ولم يقم للتفاضل فى الدم، ولا فى الجنس ولا فى الآباء، ولا فى الأجداد، ولا فى الفقر والثراء وزنا، فالناس من هذا الوجه فى نظر الإسلام سواء، الناس لآدم وآدم من تراب. لا فخر لعربي على عجمي إلا بالتقوى. أما فى الأعمال وفى المواهب فنعم؛ عالم وجاهل يتقدم الأول ويترك منزلته من النفوس والقلوب، برٌ وفاجر، كذلك نافع وضار، عامل وعاطل، هذه وأمثالها هى وجوه التميز بين الناس فى الإسلام. ومن هنا نعلم أن الإسلام لا يقر نظام الطبقات. ثم يكتب الشيخ "أبو العيون" فى تواضع وأدب جم طالبا إلى بلدية الإسكندرية المحافظة على الآداب فى الشواطئ. طلب جميل عادل لا شىء فيه ينافي الأدب ولا المروءة ولا الكمال. فتنبرى السيدة "هدى هانم شعراوي" وتشمر الآنسات الفضليات عن سواعد الجد ويتحدين ويهاجمن، ويحاورن ويداورن. لماذا يا حضرات الآنسات والسيدات؟ كل ما يريده رجل العلم والفضيلة أن يحافظ عليكن، فإن أبيتن فستلقين الجزاء شديدا فى الدنيا والآخرة. ومن يعش يره.
ثم نسمع أن مصر القديمة صارت وكرا للتبشير، وأن كشفا طويلا عريضا ليس فيه أقل من ثلاثين اسما قد اعتنقوا النصرانية ومرقوا من الإسلام بفضل إغراء مستشفى "هرمل" وجمعية التبشير هناك بين سمع الأمة والحكومة وبصرها، ومع هذا فأين نرى المخبرين؟ وأين يكثر البوليس الملكي والسرى والعلني؟ أمام دور الهيئات الإسلامية والجمعيات الإسلامية وفى محاضراتها وأنديتها. ما هذا أيها الناس؟ لقد علمنا أن كتاب "زهرة الغابة" الذي صادرته النيابة وحققت فيه لأنه هجوم على عقائد الإسلام وتبشير بغيره من الأديان، قد وزع على المدارس الثانوية وجاءتنا عنه أنباء من قنا والفيوم، كما جاءتنا من شبرا الثانوية ومن الخديوية.
كل ذلك وأكثر منه تجرى به الحوادث تباعا سراعا خلال أيام. فماذا يخبئ القدر لهذه الأمة؟ وماذا يراد بك أيها الشعب المصري البريء؟ اللهم إن الحياة هكذا صارت عبثا لا يطاق فرحماك(12).
حول الصورة المخلة بالآداب
رسالتان إلى وزير الداخلية ووكيل الأزهر
بعث فضيلة المرشد العام بالرسالتين التاليتين إلى وكيل الجامع الأزهر ودولة وزير الداخلية عن الصور البذيئة التى تنشرها المجلات:
حضرة صاحب الفضيلة وكيل الجامع الأزهر... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فأبعث إلى فضيلتكم بصورة من الخطاب الذي وجهته إلى معالي وزير الداخلية بخصوص ما تنشره عادة بعض المجلات المصرية من الصور الخليعة والمناظر الفاجرة بلا تحرج أو حياء وغير ناظرة إلى اعتبار خلق أو دين أو وطنية، فيكون لذلك فى أفراد الأمة والمجتمع نفسه من الآثار أسوأها مغبة وعاقبة.
ولا شك أن فضيلتكم يحملون بين أيدي الله والناس والتاريخ تبعة كبرى من هذا الخطر الوبيل، لذا أناشدكم باسمها أن تتصلوا بالمسئولين من رجال السلطة التنفيذية ليضعوا لذلك الفساد حدا، وأنتم بحمد الله من أغير الناس على دين الله وأحرصهم على أداء الأمانة وحمل التبعة، فاعملوا والله معكم ولن يتركم أعمالكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حضرة صاحب الدولة وزير الداخلية... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فيؤسفني أشد الأسف أن أضع أمام نظر معاليكم مجموعة من الصور الخليعة الفاجرة وما كتب بحقها من تعليقات آثمة المغزى ساقطة المعنى، نشرتها مجلة الاستديو فى صفحتها الثانية من عددها الثاني الصادر بتاريخ 13 أغسطس الجاري، وهي مجلة مصرية، وما هذه المجموعة إلا مثال عادى لكثير غيرها مما تنشره هذه المجلة وأمثالها، وتروج له من ألوان الفجور ومثيرات الفساد بلا رقيب من القانون، فتتناقله أيدي الشباب وعامة الناس وخاصتهم، داخل البلاد وخارجها فيسرى أثرها السيئ المتلف فى النفوس سريان السم القتال والداء الوبيل.
ومما يزيد الأمر وضوحا أن ذلك الداء آخذا فى الاستفحال كأثر سيئ من آثار الإباحية العصرية والتحلل الخلقي، والمادية النفعية التى جلبتها المدنية الغربية إلى حضارتنا الشرقية فأفسدت مقوماتها، وأذهبت معالمها الفاضلة.
ولما كان مثل هذه الصور الساقطة والاتجاهات الفاجرة معامل هدامة لأخلاق الأمة على سلامة بنائها، فضلا عما فى ذلك من مصادمة للدين الإسلامي وسائر الأديان والشرائع، وخرق الدستور بالتالي، إذ ينص دستور البلاد على أن دينها الرسمي الإسلام، وأبسط مبادئ الإسلام يتنافى مع هذا الفساد وإشاعته فى الأمة والناس.
فإن الأمر يبدو أخطر مما يظن الكثير من المسئولين ومما يقدر المقدرون فى هذا التيار الجارف الخطير.
ولئن تقدمت الشكوى وصيحات الاحتجاج والاستنكار من جانب ذوي الغيرة على الفضيلة والدين والمعنيين بالمحافظة على كيان الأفراد والأمة وسمعة البلاد فى الأقطار العربية والعالم الإسلامي، الذي تعد مصر زعيمة له وقدوة يقتدى بها، فلقد بلغ الأمر مبلغا لا يصح بحال من الأحوال السكوت عليه والتهاون معه، ولابد إذن من علاج حاسم ورقابة دقيقة لإنقاذ الأمة من هذه السموم التى تحقن بها فى العروق على مرأى ومسمع من الحكام والمسئولين، وصيانة كيانها من هذا التدهور والتحلل باستصدار قانون أو استكمال تشريع.
ولا شك أن معاليكم خير من يستطيع الضرب على أيدي مروجي هذه السموم والحد من هذا الفساد والخطر، وإنا لذلك منتظرون، واعملوا بقول الله تعالى ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾[الحج: 41].
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(13).
المصادر
1- مجلة الفتح، العدد (304)، السنة السابعة، 2ربيع الثاني 1351ﻫ/ 4أغسطس 1932م، صـ(11-13).
2- جريدة الإخوان المسلمين: العدد (33)، السنة الثانية، 13رمضان 1353ﻫ 20ديسمبر 1934م، صـ(11-13).
3- مجلة الفتح، العدد (105)، السنة الثالثة، 2صفر 1347ﻫ/ 19يوليو 1928م، صـ(1).
4- جريدة الإخوان المسلمين: العدد (3)، السنة الأولى، 6ربيع الأول 1352ﻫ/ 29يونيو 1933م، صـ(1-4).
5- جريدة الإخوان المسلمين: العدد (3)، السنة الأولى، 6ربيع الأول 1352ﻫ/ 29يونيو 1933م، صـ(6).
6- جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (23)، السنة الأولى، 4رمضان 1352ﻫ، صـ(18-20).
7- جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (14)، السنة الثانية، 28ربيع الثاني 1353ﻫ/ 10أغسطس 1934م، صـ(28-29).
8- جريدة الإخوان المسلمين: العدد (2)، السنة الخامسة، 18ربيع الأول 1356ﻫ/ 28مايو 1937م، صـ(1، 13).
9- مجلة النذير، العدد (1)، السنة الأولى، 30ربيع الأول 1357ﻫ/ 30 مايو 1938م، صـ(12).
10- جريدة النذير، السنة الأولى، العدد (33)، 25 ذو القعدة سنة 1357ﻫ/17 يناير 1939م. ص(3-4).
11- جريدة النذير، العدد (2)، السنة الثانية، 8 محرم 1358 ﻫ/ 28 فبراير 1939م، ص(11-13).
12- جريدة النذير، العدد (17)، السنة الثانية، الاثنين 24 ربيع الثاني سنة 1358 ﻫ/13 يونيو 1939م، ص(3-5).
13- مجلة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (239)، السنة الأولى، 21ربيع أول 1366ﻫ / 12فبراير 1947م، ص(2).