رسائل الإمام الشهيد حسن البنا إلى الملك

إعداد موقع الإمام حسن البنا

كان الحكم في مصر ملكيا في أسرة محمد علي، وقد عايشت جماعة الإخوان المسلمين أخر ملكين في الأسرة العلوية، وكانت تنظر إليهما على كونهما الحاكم الشرعي للبلاد، لكنهم كانوا في نفس الوقت لا يضنون بالنصيحة بين الحين والآخر، أو بالمطالبة بما يهم الأمة سواء بالعمل من اجل استقلال البلاد أو محاربة الفساد أو تطبيق الشريعة الإسلامية، خاصة أن الملك فاروق في بداية حكمه التزم بخط التقرب من عموم الشعب بل وارتاد المساجد قبل أن ينحرف عن هذا المنهج.

وهنا نحاول أن نعرض كل ما كتبه الإمام حسن البنا إلى الملك سواء من رسائل أو برقيات أو مطالب أو نصائح التزم بها الإمام البنا عمليا وترجمها واقعيا قبل أن يرفعها للملك، حتى أنه كان في بعض الأحيان يرأس الوفد المتجه للقصر الملكي لرفع مطالب الجماعة، ومنها ما ذكرته مجلة العلم الأخضر في 3مايو 1938م: أن وفدًا من الإخوان قصد السراي الملكية -وكان على رأسهم المرشد العام– وقدموا عريضة للملك يطالبون فيها بإلغاء البغاء الرسمي والسري، وتحريم الخمر، ومحاربة السفور والإباحية، كما طالبوا بتحريم المقامرة، وسن قانون يمنع الربا، كما طالبوا بالعناية بالتعليم والمساجد.

مهمة الائتلاف

الحمد لله والصلاة والسلام رسول الله ومن ولاه.

حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق الأول ملك وادي النيل (حفظه الله).

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد: فأنت -يا صاحب الجلالة- موضع الأمل، ومعقد الرجاء لوادي النيل، ولأبناء العروبة، ولشعوب الإسلام. عاطفة من الولاء والحب غرسها الله لك فى قلوب الناس؛ لإرادة يعلمها، وحكمة يريدها، لعلها أن تجتمع بك الكلمة، ويرأب الصدع، وتلتقي فى ساحتك الأماني والآمال.

ومصر الآن -يا صاحب الجلالة- تجتاز أدق مراحل تاريخها الحديث، وحكومتها فى مفاوضة مع حكومة بريطانيا ترجو من ورائها أن تصل إلى حق الوطن فى الجلاء، ووحدة الوادي؛ حتى يحيا حياة الحرية والكرامة والاستقلال فى ظل عرشك العزيز، وتاجك المفدى.

وستلقى نتيجة المفاوضات كائنة ما كانت على كاهل الأمة والحكومة تبعات وواجبات ثقال، لا يمكن النهوض بها إلا إذا توحدت الكلمة، وتضافرت جهود العاملين المخلصين.

وتلك مهمة ليس لها إلا نظرك السامي، ورأيك الثاقب السديد فتفضل -يا مولاي- وآس بيدك الكريمة هذه الجراح، وأنت نعم الطبيب، ووجه دعوتك المستجابة وأمرك المطاع إلى هذه الأحزاب والهيئات؛ لتلتقي جميعا عند كلمتك -وهي كلمة الوطن العزيز- ولتفكر مجتمعة فى برنامج العمل للمستقبل القريب والطريق إلى تنفيذه على كل الفروض؛ حتى لا نؤخذ على غرة ولا نؤتى من غفلة. 

والله نسأل أن يحقق على يديك الآمال وأن يعز بعهدك السعيد عرش وادي النيل المجيد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(1)

 

إلى جلالة الملك

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

القاهرة فى 11 من ذي القعدة سنة 1365

حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم فاروق الأول – حفظه الله- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد: فقد تتابعت الأيام والشهور، ومضت الحوادث يتلو بعضها بعضا، وكلها تثبت أن المفاوضات بين مصر وبريطانيا لم تعد الوسيلة الصالحة لتحقيق مطالب البلاد، وأنها ليست أكثر من إجراء يقصد من ورائه الإنجليز التعاقد لحماية مصالح يدعونها لا تتفق قطعا مع استقلال البلاد وحريتها، مع تفويت الفرص السانحة، وكسب الوقت، والعمل على تفريق كلمة الأمة.

وقد أدرك شعب وادى النيل بفطرته السليمة هذه الحقيقة، فحدد مطالبه تحديداً واضحا، ثم انتظر وصبر طويلا، حتى إذا لم يبق فى قوس الصبر منزع، طلب إلى الحكومة ممثلا فى كل هيئاته الوطنية وصحفه وجرائده، بل على لسان بعض أعضاء وفد المفاوضة نفسه، أن تعلن فشل هذه المفاوضات، وتتجه اتجاها سليما، فترفع الأمر إلى هيئة الأمم المتحدة، وتعلن سقوط معاهدة سنة 1936 التى أصبحت بحكم الحوادث والظروف غير ذات موضوع، كما صرح بذلك معالى وزير الخارجية المصرية فى مجلس النواب، وتطلب إلى الإنجليز وغيرهم سحب جميع القوات الأجنبية عن أرض الوادي وجوه ومائه، وتدعو الأمة وتنظم معها سبل الجهاد للوصول إلى الاستقلال الكامل والحرية الصحيحة، كما تفعل كل أمة مجاهدة نكبتها الحوادث بظلم واحتلال غير مشروع.

ولكن حكومة دولة صدقي باشا الأولى أو الثانية، لم تصغ إلى هذا الصوت القوى الوطني المخلص وأصرت على المضي فى طريقها، حتى بعد أن سافر المفاوضون الإنجليز إلى بلادهم، واعتزم صدقي باشا أن يلاحقهم إلى هذه البلاد، وأن يسافر إلى لندن لاستئناف المفاوضات التى لا خير فيها، ولا فائدة ترجى من ورائها.

وأمام هذا الموقف الضار بمصلحة الوطن فى وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى الدقائق فضلا عن الأيام والشهور ننفقها فى العمل المنتج يفزع (الإخوان المسلمون) إلى جلالتكم، راجين أن تتفضلوا بتوجيه الحكومة هذا التوجيه الشعبي السليم أو إعفائها من أعباء الحكم والجهاد فى سبيل حقوق البلاد؛ لتنهض بذلك حكومة قوية على هذه القواعد السليمة والأسس الصالحة.

ويعتقد (الإخوان)، من كل قلوبهم أنهم إنما يعبرون بذلك عن شعور أمة وادي النيل جميعا من الشمال، إلى الجنوب، وإن جلالتكم – وأنتم الوطني الأول- خير من تتحقق على يديه الآمال، وتنصلح بسامي حكمته وجميل إرشاده وتوجيهه الأحوال.

وفقكم الله يا صاحب الجلالة للخير، وحقق للوادي فى عهدكم الزاهر ما يرجو من صلاح وحرية واستقلال- آمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(2)

 

إلى مقام صاحب الجلالة الملك فاروق الأول

حضرة صاحب الجلالة الملك الصالح فاروق الأول

أيد الله ملكه وأعز به دولة الإسلام

أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأصلى وأسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وأرفع إلى 

السدة العلية ولاء أعضاء جماعة الإخوان المسلمين فى القطر المصري كله بل فى العالم الإسلامي أجمع، وإخلاصهم لعرشكم المفدى وتحيتهم لذاتكم المحبوبة فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

يا صاحب الجلالة: بالنيابة عن مئات الآلاف من شعبكم المحبوب ورعيتكم المخلصة من أعضاء جماعات الإخوان المسلمين "بمصر" أرفع إلى جلالتكم هذا الرجاء؛ لا يدفع إلى ذلك إلا حب الخير الذي تحرصون عليه لأمتكم المخلصة، والحرص على المصلحة التى تحدون إليها شعبكم الكريم، وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم العهد والموثق على كل مسلم أن يجهر بالحق، ويتقدم بالنصيحة "لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم".

يا صاحب الجلالة: مصر الناهضة فى حاجة إلى الوحدة والاستقرار؛ حتى تتفرغ للإصلاح الضروري فى كل مظاهر حياتها، وتدعم نهضتها على أصول ثابتة من التعاون الوثيق، والعمل المنتج. ولكن الحزبية السياسية التى تفشت بين الناس فرقت الكلمة، ومزقت الوحدة، وأضعفت القوة، وذهبت بمعنى التعاون على الخير فى شعب أشد ما يحتاج إليه التضافر والاتحاد. الحزبية السياسية يا مولاي: أفسدت كل الأعمال، وعطلت كل النواحي من الخير، وأتت على كل جوانب الإصلاح، عبثت بالأخلاق والضمائر، وباعدت بين أبناء الأسرة الواحدة والبيت الواحد، وغرست البغضاء والحزازة فى نفوس الإخوة والأقارب والأصهار فضلا عن الأجانب والأباعد، وجاوزت المدن إلى القرى والكفور والنجوع، ففي كل قرية خلاف حزبي، وفى كل تجمع حزازة حزبية، وكل فريق يتربص بالآخر الدوائر، ويدبر له المكائد، ويتفانى فى القضاء عليه والنيل منه، ويشتغل بذلك عن الواجبات الشخصية والوطنية والإنسانية ويضحى فى سبيل الانتصار على خصمه السياسي بكل نفيس من خلق ومال وأواصر وصلات، وصار من المستحيل على أى مصلح أن ينهض بمشروع نافع فى أى بلد من بلاد القطر؛ إذ تحول الخصومة الحزبية من أعيان البلاد دون الاجتماع على النجاح، ولا يترك فريق منهم الآخر يعمل دون أن يعاكس جهوده، ويقضى على ما يلقى من تعضيد وتأييد، وبذلك تعطلت مظاهر النشاط، وصارت القوى وقفا على المعاندة والمخاصمات؛ وذلك موقف لا يطاق فى أمة تناديها الدقائق قبل الساعات بوجوب الجد والعمل، والتكوين والنهوض الصحيح.

يا مولاي: إن الأحزاب السياسية القائمة فى مصر الآن أوجدتها ظروف وحوادث وغايات، قد انتهت كلها ولم يبق منها شىء وليس هناك من تخالف جوهري فى برامجها يدعو إلى تعددها وتكاثرها، وكل حزب منها يدعى أنه يعمل للإصلاح فى كل نواحي الحياة، مع أن الحقيقة أنها لم تفكر بعد فى أى برنامج عملي منتج تعمل على أساسه، فلا معنى لبقاء هذه الأحزاب بهذه الصورة الشكلية الجوفاء، واشتغالها بالتناحر، والتهاتر حول الأسماء، والمصالح الخاصة، والأمور الشخصية التافهة، وجرها الأمة معها فى خلاف شديد؛ لا نتيجة له إلا أن يكسب رؤساء الأحزاب داخل الحكم وخارجه على حساب الفلاح والعامل والصانع وغيرهم من عامة هذا الشعب الطيب القلب الذين يقومون وحدهم بكل التضحيات.

يا مولاي: لقد برهنتم جلالتكم فى كل موقف على اعتزازكم بتعاليم الإسلام، وحرصكم على أن تسود الروح الإسلامي النبيل مظاهر حياة شعبكم المخلص، وكنتم فى ذلك خير قدوة، ومصركم -يا مولاي- زعيمة العالم الإسلامي فلا يمكن إلا أن تكون صورة واضحة للحياة الإسلامية الصحيحة فعنها يأخذ المسلمون وبها يقتدون، والإسلام -يا مولاي- دين وحدة واجتماع، وتعاون على البر والتقوى، وتواص بالحق والصبر، وحث على الوفاق والوئام، وإرشاد إلى سلامة الصدور، وطهارة القلوب ونقاء السرائر والإخاء بين الناس، وحض على الجماعة فى كل الشئون والأمور. لا يعرف الإسلام الفرقة ولا يقر الخصومة، ولا يعترف بهذا التمزيق فى قوى الشعب المسلم الواحد، وإنه ليتوعد المختلفين المتفرقين بعقوبة الدنيا من وهن العزائم والبعد عن النجاح، وبعقوبة الآخرة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم والله تبارك وتعالى يقول ﴿وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾[الأنفال: 46] ويقول ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾[آل عمران: 103].

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول "لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تناجشوا، وكونوا عباد الله إخوانا. بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث" ويقول صلى الله عليه وسلم "ألا أدلكم على أفضل من درجة الصلاة والصوم قالوا بلى يا رسول الله قال: إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هى الحالقة لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين"

والآيات الكريمة والأحاديث الشريفة فى ذلك أكثر من أن يحيط بها كتاب.

يا مولاي: إن الأمم الغربية التى ليس فيها كتاب قيم ككتابنا، وليست لها شريعة مطهرة كشريعتنا، أدركت بحكم مصلحتها الحيوية ضرر الخصومة الحزبية؛ فقضت عليها من أساسها، واستأصلتها من ديارها، وقذفت بها من حالق، وطهرت أرض الوطن من الفرقة والخلاف، حتى إنجلترا أعرق البلاد فى النظام الحزبي كما يقولون لا يكاد يرى فيها أثره، أو تلمس نتائجه، وهى أمام الأخطار التى تتهدد العالم تبدو حكومة قومية وشعبا متعاونا وأمة واحدة، وإن فرنسا وهى مثال التناحر الحزبي قد ارتفعت صيحات زعمائها بوجوب تعديل هذه النظم الحزبية حتى تستقر الأمور، وتتمكن الحكومات من العمل والإصلاح، وأن حكومات الشرق التى نهضت بعد الحرب العظمى، لم تتركز نهضتها إلا على أساس من الوحدة العاملة المتعاونة، وهذه جارتنا العراق تسير على نظام الحزب الواحد، وتتقدم بخطى واسعة إلى الإصلاح والإنتاج.

يا مولاي: إن الإسلام الذي يحرِّم هذه العصبية الحزبية، يشجع حرية الرأي، ويدعوا العقول إلى التفكير والنظر، ويوجب النصح والبيان، وكل ذلك فى حدود الوحدة المتماسكة، والكتلة المتراصة المصطفة يظهر كل إنسان رأيه، ويقول كل ما يريد أن يقول، ويترك للجماعة بعد ذلك أن تحكم وأن تسير.

لهذا يا مولاي: يلتمس الإخوان المسلمون من جلالتكم، أن تعملوا بسامي حكمتكم، وثاقب نظركم على جمع كلمة الزعماء، بتأليف هيئة قومية واحدة من جميعهم، ومعهم كل أهل الكفايات، والمواهب تضع برنامج الإصلاح والنهضة فى كل النواحي على أساس من الإسلام القوى العزيز الفاضل النبيل مع تنازل كل حزب عن اسمه الخاص واندماج الجميع فى تلك الهيئة الواحدة.

يا صاحب الجلالة: مع هذا الملتمس التماسات كثيرة برجاء الإصلاح الاجتماعي؛ إذ بدت فى المجتمع المصري ظواهر خطيرة من التحلل والإباحية، والخروج على الدين والخلق والفضيلة، تنذر بأخطار جسام إن لم تتدارك بالإصلاح والعلاج، وقد تناولت هذه العرائض كثيرا من تلكم الظواهر. 

وإن مكتب الإرشاد العام للإخوان المسلمين ليشرفه أن يتقدم إلى السدة العلية بهذه الأصوات المخلصة، وأن يضم صوته إليها، فتداركوا -يا مولاي- شعبكم، المتفاني فى الإخلاص لعرشكم المفدى، فى قادته وزعمائه،

وفى منهاج نهضته، وكل مظاهر حياته، وخذوا بيده إلى أقوم السبل، وأنجح الخطط وسيروا به على ضوء القرآن الكريم، وعلى هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين المهديين من بعده أيد الله ملككم وأعز بعهدكم السعيد دولة الإسلام.(3)

 

ملك يدعو وشعب يجيب

إلى جلالة الملك الصالح "فاروق الأول"

من الإخوان المسلمين

يا جلالة الملك الصالح العظيم:

لقد دعوت فأسمعت، وناديت فأبلغت، ونصحت فأفصحت. وإن شعبك الذي عرفك مؤمنا صالحا تقيا، ووثق بك مجاهدا فى سبيل إسعاده وإعزازه أمينا قويا، وإن هذا الشباب الذي ناديته فلبى، وأهبت به فاستعد ليعلن بهذه المناسبة السعيدة عظيم إخلاصه وولائه للعرش المفدى، ويترقب بفارغ الصبر يوم الخلاص وساعة الإنقاذ.

يا جلالة الملك الصالح:

عرف فيك شعبك المنقذ له، والحارس لدينه، والساهر على رعاية مصالحه، والداعي إلى الخير والفضيلة فيه بالقول والعمل، فأحبك من كل قلبه. وأخلص لعرشك من قرارة نفسه، وعقد على عهدك الرجاء، وكنت عنده رمز الأمل.

وأعتقد يا صاحب الجلالة أن الإخلاص للإسلام والعرش والوطن يفرض على أن أضع تحت نظركم السامي صورة مصغرة جدا من المظاهر العجيبة التى تتنافى مع الإسلام فى هذا البلد فتهدد كيانه، وتجعل بناء الجيل الجديد على الفضيلة والرجولة والخلق الكريم أملا لا مطمع فيه ولا سبيل إليه، إن لم تدارك الأمة بالعلاج السريع الحاسم.

يا صاحب الجلالة:

حدود الله معطلة لا تقام، وأحكامه مهملة لا يعمل بها، فى بلد ينص دستوره على أن دينه هو الإسلام.

بؤر الخمور، ودور الفجور، وصالات الرقص، ومظاهر المجون واللهو تغشى الناس فى كل مكان، حتى الإذاعة اللاسلكية كثيرا ما تنقل جراثيم هذا الفساد إلى المخدرات فى البيوت المحجبات فى المقاصير.

أندية السباق والقمار تستنفد الأوقات والأموال، ويعمرها كبار القوم، ويتردد عليها سراة الأمة، حتى أصبحت أندية الموظفين فى العواصم والحواضر عنوان الفساد ومتلفة الأخلاق فى البلاد.

كبار الموظفين يضربون للناس أسوأ المثل فى كل تصرفاتهم الشخصية والرسمية مما أطلق ألسنة الناس بالنقد وأضعف ثقتهم بالحكام.

الصور السافرة المتبرجة بالزينة التى لا تتفق بحال مع آداب الإسلام وما فرضه الله على المرأة من التستر والاحتشام تظهر فى كبريات الصحف وصغرياتها، وتصبح ملهاة العيون الحائرة والقلوب الفاجرة، وتتناول أعرق الأسر وأكبر البيوت وأطهر الأعراض.

الحفلات الساهرة، والاجتماعات المتكررة، والمقابلات الكثيرة من رسمية وأهلية، وتختلط فيها الأجناس، وتشرب بنت الكأس، ويقضى الليل فى مجون وعبث ولهو ورقص.

يا جلالة الملك الصالح:

كل هذا وأمثاله قد حطم عقائد الشعب وثقته بنفسه، وأنساه المثل العليا، وصرفه عن طاعة الله وعمل الخير، وقضى على العقل والعاطفة والصحة والمال، وهدد الأسر الآمنة والبيوت المطمئنة بالخراب العاجل والتحلل السريع الذريع والحوادث التى تنتشر تباعا فى الجرائد والمجلات ترعب وتخيف، ولابد من أن تمتد اليد الآسية الطبيبة حتى يطهر هذا المجتمع من الميوعة والطراوة والخنوثة والمجون.

قلها كلمة منفذة، وأصدره أمرا ملكيا كريما: ألا يكون فى مصر المسلمة إلا ما يتفق مع الإسلام، فإن مائة ألف شاب مؤمن تقى من شباب الإخوان المسلمين فى كل ناحية من نواحي القطر ومن ورائهم هذا الشعب كله يعملون فى جد وهدوء ونظام، يترقبون هذه الساعة ليسعدوا بالشهود بين يديك فى سبيل الله لنصرة الإسلام.

إن الجنود على تمام الأهبة، وإن الكتائب معبئة وقد طال بها أمد الانتظار، واشتد شوقها إلى ميادين العمل والكفاح. فمتى تقام الصلاة؟ ومتى يتقدم الإمام؟(4)

 

إلى ساحة المليك

حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم فاروق الأول -حفظه الله

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

(وبعد) فإلى ساحة عدلكم، وجلالتكم حامى الحريات نفزع من اعتداء وزارة الداخلية على حريات الآمنين واصطدام رجالها بالعزل المسالمين وانتهاكها بذلك حرية الدستور والقانون من غير مبرر ولا سبب معروف إلا تلك الحجة الواهية التى صارت شعارًا مألوفًا لكل عدوان أحمق، أو تصرف شاذ بحجة (المحافظة على الأمن العام).

يا صاحب الجلالة:

إن جوالة الإخوان المسلمين تتبع أقسام البر والخدمة الاجتماعية، وهي أقسام مستقلة مسجلة تسجيلاً قانونيًّا بوزارة الشئون، وتنص لائحة نظامها الأساسي على أنها لا صلة لها بالسياسة ولا بالأحزاب، وهذه فرق الجوالة نفسها مسجلة بعد ذلك فى جمعية الكشافة الأهلية، فهي فرق قانونية رسمية تتبع هيئة اجتماعية رياضية قانونية كذلك، ومن حقها بناء على ذلك، أن تزاول نشاطها الكشفي من رحلات وطابور وسير وتمرينات وحفلات واجتماعات أسوة بغيرها من الفرق الوطنية والأجنبية.

ولكن وزارة الداخلية منذ أمد بعيد يحلو لها دائمًا أن تعاكس هذا النشاط القانوني فتصدر بين الفينة والفينة تعليماتها لرجال الإدارة بمنع جوالة الإخوان من القيام بأي نشاط، خولهم إياه القانون، وكم كان محرجًا للصدور أن يمتد ذلك المنع إلى المناسبات القومية الكريمة فيحول بين فرق جوالة الإخوان وبين التعبير عن ابتهاجها بهذه المناسبات وولائها لجلالة الجالس على عرش البلاد غير مرة.

ولقد كانت هذه الأوامر الشاذة سببًا فى احتكاك واصطدام لا مبرر له بين الطوابير التى تسير آمنة وادعة مسالمة عزلاء وبين رجال البوليس الذين تدفعهم وزارة الداخلية إلى التحرش بها وصدها عن سبيلها، وكثيرًا ما كانت تتغلب الحكمة التى يلتزمها جوالة الإخوان وتقوم عليها دعوة الإسلام فينتهى الأمر بسلام، حتى كان يوم أمس إذ اصطدم مأمور قسم الخليفة الصاغ رشدي الغمراوى بفريق من هؤلاء الجوالين كان يسير فى طابور نظامي إلى ميدان قره ميدان للقيام ببعض تمرينات كشفية فى يوم الأحد الماضي 10من شعبان 1366 الموافق 29من يونيو 1947 وذلك جريًا على عادتهم فى كل أسبوع مما يجعل أمر عدوان مأمور القسم عليهم هذه المرة موضع تساؤل ودهش لأنه آثر التحرش والاندفاع على التفاهم والتروي فأمر قوات البوليس باستعمال العصى ثم إطلاق النار عليهم ولم يدع لقائدهم فرصة التفاهم معه, كما هجم بنفسه على السائرين وأهان المصحف الشريف والعلم المفدى على مرأى من الناس مما أدى إلى تجمع الجمهور واشتباكه مع البوليس فى معركة دامية أسفرت عن كثير من الإصابات ولولا أن تدارك الموقف المسئولون من الإخوان بإلزام المعتدى عليهم وسائر فرق الجوالة كبح شعورهم والاقتناع بأن الأمر سيرفع إلى سدة جلالتكم لوقع مالا تحمد عقباه وقد أحرجت الصدور والأنفس.

ولئن كان هذا التصرف خاطئًا من المأمور فإن حجته فى ذلك ما بين يديه من أوامر لا مسوغ، لها ولا تتفق مع القانون والحريات المكفولة بالدستور فضلاً عن سوء استعمالها وستتكرر هذه المآسي مادامت هذه التعليمات الجائرة قائمة يتخذ منها رجال البوليس ذريعة لهذا العدوان.

وحين تولت النيابة التحقيق جعلته سريًّا ومنعت حضرات المحامين من الحضور مع المتهمين بغير وجه حق وكيفت التحقيق كما شاء رجال البوليس أن يحوروه وهم وحدهم المسئولون عن كل ما حدث.

ولقد أشارت جريدة "الإخوان المسلمين" إلى هذه الحوادث فى عدد اليوم فكان نصيبها أن صادرتها الحكومة بعثت بقوة من رجالها فى الصباح الباكر إلى دارها وجمعت كل ما فيها من أعداد للتوزيع أو الاشتراك وجمعتها كذلك من العربات المسافرة ومن أيدي الباعة فى كل بلدان المملكة المصرية فكان ذلك اعتداء جديدًا صارخًا على حرية الصحافة تضيفه إلى سلسلة الاعتداءات السابقة.

فإلى سدة جلالتكم نفزع -وجلالتكم حامى الحريات ونصير الدستور- راجين أن تعدل الحكومة عن هذه الخطة العرجاء من إهاجة الآمنين ومصادرة حرياتهم وأن تؤاخذ المسئولين عن هذه الأخطاء بكل شدة وأن تلغى هذه الأوامر الظالمة الجائرة وقد أثبتت التجارب سوء آثارها فضلاً عن عدم مشروعيتها خاصة فى هذا الطور الدقيق من أطوار استكمال الحرية والاستقلال التى تجتازها البلاد اليوم، فلا يختل الأمن باسم المحافظة عليه، ولا يعتدى على القانون بأيدي من وكل إليهم حماية القانون وكفالة حريات الناس وحقوقهم الدستورية.

ولازلتم -يا صاحب الجلالة- للحق والحرية والعدالة وللدستور حامين وعنها زائدين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

11 من شعبان 1366

30 من يونيو 1947 (5)

المصادر

  1. جريدة الإخوان المسلمين: العدد (100)، السنة الرابعة، 28 جمادى الأولى 1365/ 30 أبريل 1946، صـ3.
  2. جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (133)، السنة الأولى، 13 ذو القعدة 1365/ 8 أكتوبر 1946، صـ1.
  3. جريدة النذير، العدد (2)، السنة الأولى، 7 ربيع ثان 1357/ 6 يونيو 1938، صـ3-6.
  4. مجلة النذير، العدد (2)، السنة الثانية، 8 محرم 1358ﻫ/ 28 فبراير 1939م، صـ 3-4.
  5. جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (358)، السنة الثانية، 13شعبان 1366ﻫ- 2يوليو 1947م، صـ 2.

 

المقال التالي كتابات الإمام حسن البنا في محاربة الفساد والمنكرات
المقال السابق الدستور في فكر الإمام حسن البنا