إجابات الإمام حسن البنا على بعض الفتاوي

إعداد موقع الإمام حسن البنا

الفُتيا مَقامُها عظيمٌ، وخطرُها جسيمٌ، لذا اعتنى أئمَّة السلف وعلماؤهم من أصوليين وفقهاء بشأن الفتيا، حيث وضعوا لها القواعدَ، وبيَّنوا الشروط التي يلزم تحقُّقُها في المفتي والمستفتي.

وقد لجأ المسلمون إلى الاستفتاء منذ الصدر الأول للإسلام، فصدرت فتاوى سيد المرسلين ومن بعده الصحابة والتابعين والسلف الصالح وعلماء الأمة الأكرمين لتوضيح المفاهيم الغامضة للناس أو توضيح لبس في الشرع.

ولا تقوم الفتوى على الحيل المحرمة شرعًا والشُّبَه الباطلة تحليلا لحرام أو تحريمًا لحلال، ويندب للمفتي أن يذكر فى فتواه الدليل الذي استند إليه، وإذا كانت المسألة موضع اختلاف بين العلماء فيندب له أن يذكر الأدلة التى رجحت لديه الرأي الذي أفتى به.

والفتوى تتغير بتغير المكان والزمان، حيث حاول الإمام البنا تبسيط الفتوى للعوام، فلم تكن اجاباته لأهل التخصص لكن لعموم الناس بشكل مبسط مع الوقوف على الأدلة الشرعية.

وقد كان الإمام البنا يورد أقوال الأئمة ومذاهبهم مع دليل كل رأى فى موضوع الفتوى، ثم يدع للقارئ اختيار ما تطمئن إليه نفسه منها، أو يُقفِّى عليها باختيار ما يطمئن إليه قلبه مع بيان سبب ذلك الاختيار.

وكان يؤكد دائمًا على أن الاختلاف فى فروع الدين ضروري، وليس العيب فى الاختلاف، ولكن العيب فى التعصب للرأي.

 

صلاة النوافل فى غير مكان الفرائض

حضرة الأستاذ مدير جريدة الإخوان المسلمين .. بعد السلام

نلاحظ أن بعض المصلين لا يصلى الفرائض فى مكان النوافل؛ بمعنى أنه إذا صلى أربع ركعات الظهر مثلا فى مكان تزحزح عن هذا المكان قليلا وصلى النوافل.

كذلك نلاحظ أنه عندما يقول المؤذن "حى على الفلاح" ترى بعضهم يقبلون إبهامهم ثم يشقون بها فى عيونهم، وربما كان تحت أظافرهم مكروب يضر العين؛ فهل هذا وذاك من الدين؟ وإذا كان.. فما سر ذلك؟ نرجو التنازل بالإجابة.

وإني أنتهز هذه الفرصة فأرفع إلى حضرتكم سلفًا شكري، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المخلص: محمد أحمد شحاتة

عضو جمعية الإخوان المسلمين بالمنزلة

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم .. الحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

وبعد فإن السنة فى صلاة النافلة أن تكون فى البيت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا أيها الناس فى بيوتكم؛ فإن أفضل صلاة المرء فى بيته إلا المكتوبة" رواه البخاري ومسلم من رواية زيد بن ثابت رضى الله عنه . وعن جابر  رضى الله عنه  قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: "إذا قضى أحدكم صلاته فى مسجد فليجعل لبيته من صلاته نصيبًا؛ فإن الله جاعل فى بيته من صلاته خيرًا" رواه مسلم.

فإن لم يتمكن أو خاف إن هو انتظر حتى يصليها فى البيت شغل عنها فليصلها فى المسجد، قال الشافعية: "يستحب أن ينتقل عن موضعه قليلا"، وعلله البغوى وغيره بتكثير مواضع السجود. وقد يكون ذلك للفصل بين الفرض والتنفل، ولهذا قالوا: "إن لم ينتقل يستحب أن يفصل بين الفريضة والنافلة بكلام إنسان"، واستدل القائلون باستحباب الفصل بين الفريضة والنافلة بالانتقال أو الكلام بحديث عمرو بن عطاء أن نافع بن جبير أرسله إلى السائب ابن أخت نمير يسأله عن شىء رآه منه معاوية فى الصلاة.. فقال: "نعم صليت معه الجمعة فى المقصورة، فلما سلم الإمام قمت فى مقامي فصليت، فلما دخل أرسل إلى فقال: لا تَعُدْ لما فعلتَ؛ إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تُكلم أو تخرج، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك؛ ألا نوصل صلاة حتى نتكلم أو نخرج" رواه مسلم.

وفى الباب أحاديث غير هذا تؤيده وإن كانت ضعيفة، وعلى ذلك فما يفعله بعض المصلين من الفصل بين النافلة والفريضة بالانتقال له أصل فى الدين كما رأيت.

تقبيل الإبهامات عند الحيعلة:

وأما تقبيل الإبهامات عند الشهادتين أو الحيعلة فلم نر له دليلا، نعم ذكر صاحب كتاب "تنوير القلوب فى معاملة علام الغيوب" -وهو الأستاذ الشيخ محمد أمين الكردي النقشبندي -رحمه الله تعالى- استحباب ذلك، وأنه يحول دون إصابة البصر، ولكن الاستحباب حكم شرعي لا بد له من دليل شرعي وما يترتب عليه كذلك، ولم نر هذا الدليل، وكل ما ورد فى إجابة المؤذن أن يقول السامع مثل ما يقول المؤذن ثم يصلى على النبى صلى الله عليه وسلم ويسأل الله له الوسيلة ويدعو بما أحب. فالأولى الاقتصار على ذلك، ومن وجد دليلا فليأتنا به مشكورًا، والله أعلم(1).

 

قراءة القرآن فى الراديو

جاءنا من أحد الإخوان طلب الإجابة عن الموضوعات الآتية:

قراءة القرآن فى الراديو:

نرى أن الأدلة الشرعية تحرم قراءة القرآن فى الراديو على الكيفية التى يقرأ بها الآن، فإنهم يتلونه بين الأغاني والإعلانات، ويقصدون به التفكهة وتتميم منهج الإذاعة، وتنقطع الصلة بين الآيات بما يعاكس لوحة الراديو من موجات التيارات المختلفة.

وتسمع فى القهاوي والمنتديات العامة بين المنكرات والمحرمات واللغو واللهو والعبث، وتلاوة القرآن وسماعه عبادة يجب أن تكون مصحوبة بالخشوع والتفكر، وليس كذلك الحال فى الراديو؛ فلكل هذه الأسباب يجب أن تتدخل الحكومة فى منع محطات الإذاعة من أن تذيع القرآن الكريم، والله أعلم.

وبعدما تقدم علمنا بأن وزارة الداخلية قد أصدرت الأمر بذلك؛ فشكرًا لها على صنيعها هذا، وقد أراحت ضمائر المحافظين على القرآن الكريم من عبء ثقيل، وهكذا نرى أن تدخل الحكومات يريح محبى الإصلاح من تعب كثير واختلاف شديد، فيا حبذا لو سارت هذه السنة فى مقاومة المنكرات والمبتدعات.

رجل أحس فى أثناء الصلاة ببلل فى سرواله مما يظن أنه ناقض للوضوء، وقد توضأ أخرى فحدث مثل الأولى.. فما الرأي فى هذا؟

والجواب -والله أعلم- أن ينتظر ما دام فى الوقت سعة حتى يطمئن قلبه إلى عدم نزول شىء منه، ثم يتوضأ ويصلى، فإن كانت هذه عادة له فهو معذور. وعلى هذا الأخ أن يلاحظ أمرين هامين:

أولهما: أن الشيطان يوسوس للمصلى كثيرًا؛ فعليه ألا يتبع خطراته إلا إن أحس إحساسًا حقيقيًّا بنزول شىء منه.

وثانيهما: أنه يحسن لمثل هذا الشخص بعد الوضوء أن ينضح سرواله بقليل من الماء حتى إذا أحس ببلل بعد ذلك حمله على أنه بلل النضح لا بلل النقض، ويعينه ذلك على التخلص من وسوسة الشيطان.

كتاب رياض الصالحين والكتب النافعة للمبتدئين فى الحديث:

كتاب رياض الصالحين للنووي من خيرة كتب الحديث، وما ذكره الأخ السائل من صعوبة معاني بعض أحاديثه فدواؤه أن يرجع إلى شرحه، وله شرح يسمى "دليل الفالحين شرح رياض الصالحين"، وما ذكره من أن فيه بعض ما يدور على ألسنة العامة .. إلخ فلو فهم الأخ حكمته ومعناه لوجده صحيحًا لا بأس به ولا لبس فيه، فليراجع الشرح وليطالعنا برأيه بعد المراجعة.

ومن كتب الحديث النافعة المفيدة: "الترغيب والترهيب" للحافظ المنذري، و"تيسير الوصول" لابن الديبغ الشيباني، ونذكر للأخ كتابًا حديثًا جمعه مؤلفه من البخاري ومسلم وشرحه شرحًا طيبًا وهو كتاب "زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم" للشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي المدرس بكلية أصول الدين، فليتخذ لنفسه ما يحلو، والله أعلم(2).

 

الذكر وأحكامه والشرعي والبدعي منه

الذكر قربة إلى الله -تبارك وتعالى- بنص الآيات والأحاديث الكثيرة المعلومة للخاص والعام.

أما كيفيته فقد أشارت إليها الآية الكريمة }وَاذْكُر رَبَّكَ فِى نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآَصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ [الأعراف: 205]، وهو مطلوب على كل حال، كما قال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الأحزاب: 41-42]، وكما قال تعالى: }فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء: 103]، وكل صيغة فيها ثناء على الله -تبارك وتعالى- وترديد لاسمه الكريم، وتذكر لآلائه ونعمه، وشكر له عليها فهى ذكر؛ فالاستغفار ذكر، والتسبيح والتهليل والتحميد والصلاة على الرسول  صلى الله عليه وسلم كلها من أنواع الذكر.

حكم الاهتزاز والتمايل فى الذكر:

بقيت الكيفية التى يذكر بها أبناء الطريق الآن من الاجتماع للذكر والاهتزاز فيه وغير ذلك؛ فهذه الكيفية إن صحبها محرم كالدف أو الشبابة أو وجود النساء كما يقع أحيانًا، أو كانت فى موضع لا يليق فيه الذكر، أو كانت الأسماء التى يذكرون بها غير صحيحة بالمرة أو محرفة عن كيفية النطق الصحيح، أو كان المقصود من الاجتماع الرياء والتفاخر، وتزيين ليالي الأفراح بمنظر الذاكرين، والتلهي بمشاهدتهم والتفرج برؤيتهم، أو أخذ الأجر على الذكر، أو الحصول على الطعام والمغانم الدنيوية.. فذلك كله حرام لا يقره الدين ولا يوافق عليه، ولم يكن على عهد النبى صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، ولا ثواب فيه ولا بركة، وهو منكر شرعي يجب الإنكار عليه والإقلاع عنه.

وإن كان الاجتماع للذكر فى مكان مناسب كمسجد أو منزل، وكان الذكر بألفاظ صحيحة، ولا مُحرَّم فيه مع الخشوع وحضور القلب والاشتغال بالله -تبارك وتعالى- والتأدب فى حضرته، والاعتدال فى الاهتزاز والصوت بحيث يكون كما قال تعالى: }وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ [الأعراف: 205] مع مراعاة آداب الذكر التى قال فيها الشيوخ كثيرًا، واختصره بعضهم فى عشرين أدبًا قبله، وفى أثنائه وبعده، وكانت الغاية طاعة الله وحده وتذكير الناس به، إذا كان كذلك فلا بأس بالاجتماع على طاعة الله -تبارك وتعالى- والتقرب إليه بذكره.

حكم الذكر الجماعي:

نعم، إن هذه الكيفية لم تكن على عهد النبى  صلى الله عليه وسلم؛ بل كل واحد يذكر الله لنفسه، واجتماعهم إنما كان على العلم ومدارسة الحديث، ولكن لما قصرت الهمم، وكلَّت العزائم عن الطاعة، وكان الاجتماع منشطًا على العبادة والذكر، ولا سيما والاجتماع مطلوب فى كثير من العبادات، ووردت فى فضله أحاديث كثيرة وفيه بركة عظيمة.. لما كان الأمر كذلك أوصى الشيوخ بالاجتماع على الذكر، وهى وصية حسنة متقبلة وعمل مشكور -إن شاء الله تعالى- ما دام قد خلا من المحرمات، وروعيت فيه الآداب، والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(3).

 

حول فتوى الذكر وأحكامه

جاءنا من حضرة الفاضل صاحب التوقيع ما يأتى:

حضرة الأستاذ المربى الفاضل والمرشد الكامل حسن أفندي البنا.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد.

قرأت فى جريدة الإخوان المسلمين الغراء ذلك الفصل الشيق الذى عقدتموه فى باب الفتاوى بعنوان "الذكر وأحكامه"، وقد أنكرتم فيه على الذين يجتمعون للذكر فى الأفراح أو فى موضع لا يليق، ويستعملون الدف والشبابة ونحو ذلك، وهذا الإنكار من حضرتكم حميد هو المعهود فيكم وفى روحكم الطاهرة وإخلاصكم الذى نفاخر به ونعده مثلا يحتذى، ولكننا لا ندرى كيف أجزتم بعد هذا أن يجتمع الناس للذكر فى مكان مناسب كالمسجد أو المنزل مهما كانت ألفاظهم صحيحة واهتزازهم معتدلا، ومهما أظهروا من الخشوع والتأدب الذى تشترطونه مع علمكم أن هذه هى الأخرى بدعة مستحدثة يجب استنكارها؟

الذكر الجماعي بدعة:

أما كون هذا العمل بدعة فمما لا شك فيه؛ لأنه لم يُعْمل به فى عهد النبى  صلى الله عليه وسلم ولا فى عهد الخلفاء الراشدين وسلفنا الصالح؛ فكل ما حدث بعد ذلك فى أصول العبادات أو فى فروعها فهو البدعة المحرمة التى نهى عنها الشرع بصريح العبارة؛ فقد جاء فى صحيح البخاري عن رسول الله  صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، وجاء فى الحديث الذى رواه الإمام النووي: "... فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى، عضوا عليها بالنواجز، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة"، والنصوص فى هذا الباب كثيرة ومعلومة لحضرتكم، وكلها مجمعة على تحريم البدعة فى العبادات مهما كانت طفيفة زيادة أو نقصانًا؛ لأنهم يعلمون أن الدين قد أكمله الله تعالى على عهد النبى  صلى الله عليه وسلم، وأتم الله نعمته على المسلمين، فلم ينتقل النبى صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى إلا وقد ترك الحنيفية السمحة تامة البنيان مشيدة الأركان "على البيضاء ليلها كنهارها"، وفى ذلك يقول مالك رحمه الله: "من ابتدع فى الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا  صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأن الله يقول: }الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة: 5].

لا يوجد بدعة حسنة:

يقول بعض الناس: إن هذه البدعة الممنوعة هى المخترعة التى لم يكن لها أصل مشروع فى الدين، أما ما كان له أصل من الدين فهو من قبيل البدع المستحسنة، فنقول: إن هذا وهم وانخداع، بل هذه هى المسربة التى دخلت منها جيوش الباطل على الدين الحنيف، وما زالت تتراكم عليه وتتوالد وتتكاثر حتى طمست معالمه، وغيرت من أصوله، وصدت عن سبيله؛ فما من خرافة ولا عادة قبيحة إلا ويزعم منتحلها أن لها أصلا شرعيًّا، ويستطيع أن يجادل عنها ويلصقها بالدين من أى وجه، وإن عجز فلا أقل من أن يقول: إنها بدعة حسنة!

ومن أجل هذا أراد الشارع الكريم أن يسد الذرائع فى وجه كل من يريد تبديلا أو تحريفًا فى الدين؛ فوضع هذه المعالم البينة، والحدود الفاصلة التى لا تشتبه على المستبصر، والتي بفضلها بقيت طائفة من أمته صلى الله عليه وسلم ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم، وعلى ذلك جاءت النصوص الدينية، وإجماع رجال السنة وأئمة السلف على أن البدع بجميع أنواعها محرمة، وأنه لا يوجد ما يقال له بدعة حسنة على الإطلاق، ولم يتسامحوا فى تغيير أو تعديل أى شعيرة من الشعائر أو صورة من صور العبادات.

شدة حذر السلف من البدع:

قلنا: إن النصوص التى جاءت فى تحريم البدعة كثيرة ومشهورة وكلها قاطعة؛ فلا نطيل بإيرادها هنا، وإنما يجب أن نأتي على بعض الأمثلة التى تدل على شدة حذر السلف الصالح إزاء البدع، وامتناعهم من إدخال أى شىء منها مهما كان مستحسنًا أو غيره ظاهرًا أو خفيًّا.

فقد روى عن غضيف بن الحارث الشمال قال: "بعث إلى عبد الملك بن مروان فقال: يا أبا سليمان إننا قد جمعنا الناس على أمرين، قال: وما هما؟ قال: رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة، والقصص بعد الصبح والعصر؛ فقال أما إنهما أمثل بدعتكم عندى، ولست بمجيبكم إلى شىء منهما، قال: لم؟ قال: لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة، فتمسُّكٌ بسنة خير من إحداث بدعة".

وحكى ابن وضاح عن الأعمش عن بعض أصحابه قال: "إن رجلا كان يجمع الناس فيقول: رحم الله من قال كذا وكذا مرة: سبحان الله، فيقول القوم، ويقول: رحم الله من قال كذا وكذا مرة: الحمد لله، فيقول القوم، قال: فمر بهم عبد الله بن مسعود  رضى الله عنه  فقال لهم: هُديتم لما لم يُهدَ إليه نبيكم؟!.. وإنكم لتمسكون بِذَنَب ضلالة.

وذكر له أن ناسًا بالكوفة يسبحون بالحصى فى المسجد، فأتاهم وقد كوم كل رجل منهم بين يديه كومًا من حصى، قال: فلم يزل يحصبهم بالحصى حتى أخرجهم من المسجد، ويقول: لقد أحدثتم بدعة وظلمًا، وقد فضلتم أصحاب محمد  صلى الله عليه وسلم؟!.

وعن يونس بن عبيد أن رجلا قال للحسن: يا أبا سعيد، ما ترى فى مجلسنا هذا؟ قوم من أهل السنة والجماعة لا يطعنون على أحد، نجتمع فى بيت هذا يومًا، وفى بيت هذا يومًا، فنقرأ كتاب الله، وندعو لأنفسنا ولعامة المسلمين؟ قال: فنهى الحسن عن ذلك أشد النهى. نَقَل هذا وكثيرًا غيره الإمام الشاطبي فى كتابه "الاعتصام" (صـ34 و35 ج2)، وإن شئت فراجع ما بسط من البحوث المستفيضة عن البدع الإضافية فى كتابه هذا، وفى كتاب "الموافقات".

فإذا كان الاجتماع لقراءة القرآن والدعاء فى أثره على هيئة مخصوصة، وكان اجتماع الناس على رجل يرسم لهم التسبيح والتحميد بعدد مخصوص فيتبعونه ويقولون بقوله على ما روى هنا، وإذا كان الدعاء فى أدبار الصلوات وقراءة القرآن بالإدارة على صوت واحد على ما ورد فى مواضع أخرى.. كان معدودًا عند أئمة السلف من جملة البدع المنهى عنها؛ فكيف بالناس يجتمعون للذكر فى حالة خاصة وبنغم خاص، ويتمايلون ذات اليمين وذات الشمال؟ أفلا يكون ذلك من البدع المستحدثة فى الدين؟.

اللهم إنى أعتقد كما يعتقد كل مسلم يدين بكتاب الله وسنة رسوله وإجماع السلف الصالح أن الذكر بهذه الصفة منكر لا يجوز شرعًا؛ إذ إنه لا يستند إلى أصل فى الدين، وليس فى يد من يقول به ويسنه للمسلمين أى حجة بل الحجة قائمة عليه لله ولرسوله.

هذا يا سيدي الأستاذ ما أعتقد أنه الحق، وقد أدليت به إلى فضيلتكم راجيًا أن تعيدوا النظر فيما جاء بفتواكم، وإني لعلى يقين من إنصافكم وقوة إيمانكم وغيرتكم على الدين، وأنه لا وجه لكم إلا الحق الصريح وإماطة الشوائب عن دينه المطهر، وأسأل الله تعالى لى ولكم الهداية والسداد ودوام التأييد، والسلام عليكم ورحمة الله.

سيد أحمد فهمى

رد الإمام البنا

وقد أجاب حضرة محرر القسم الديني بالجريدة عن هذا الخطاب بما يأتى:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أخي سيد أحمد فهمي أفندي، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته "وبعد".

فما أجمل أن تتلاقى نفوس المسلمين وأقلامهم حول البحث عن الحقيقة وتجليتها للأمة فى صفاء وإنصاف وإخلاص، ليس لها من دافع إلا حب الحق ومناصرته، ومرحبًا يا أخي بمساجلتك ومناصحتك، وليس أحب إلى نفسي من أن يتبين لى الصواب، فأعود إليه مطمئن النفس مثلج الصدر؛ لأني أعتقد أن كل مخلوق يؤخذ من كلامه ويترك إلا الرسل المعصومون، صلوات الله وسلامه عليهم. فأدلى إليك بوجهة نظري على هذه القاعدة، راجيًا أن تقنع بها نفسك أنت الآخر لا أقولها اتهامًا، ولكن تذكيرًا، فاسمع يا أخي:

أولا: كل خطابك الكريم دائر حول التنفير من البدعة، وبيان سوء أثرها فى العقائد والعبادات، وإيراد النصوص والأمثلة على ذلك.

وأنا معك فى أن البدع والمبتدعين فى النار، وفى أن لهم فى الإسلام بل فى كل دين أسوأ الآثار، وفى أن الأخذ بالسنة والسير على نهجها الواضح هو أفضل منار يهتدى به المسلمون.

السنة والبدعة:

ولكنى أحب أن تلاحظ أن هذا البحث -بحث البدعة والسنة- من أعضل البحوث فى أحكام الإسلام، لا يقطع فيه ببادئ الرأي؛ بل لا بد من نظر دقيق وإحكام تام فى القواعد والتطبيق، وكم زلت فيه أقدام الفحول من السابقين واللاحقين.

ما تعريف البدعة الدقيق المضبوط؟ وما أنواعها؟ وما حكم ما له أصل من الدين وأدى بكيفية لم ينص عليها؟ وما حكم فعل ما تركه النبى  صلى الله عليه وسلم؟ وما الفرق الواضح بين البدعة الحقيقية والمصالح المرسلة؟ وهل لا يتغير حكم البدعة باختلاف الظروف والمقتضيات؟... كل هذه أبحاث تتناول البدعة والسنة، خاض فيها العلماء، وتشعبت آراؤهم فيها تشعبًا لا بد أنك تعلمه وتحس ثقل وطأته، كما يحسه كل من عالج هذا الموضوع علاجًا صحيحًا. وبعد هذا فهل يكفى الاتفاق على تحديد هذه الموازين لحسم الخلاف بين الناس فى الحكم على ما يحدث من الأمور؟ إن ذلك كله لا يكفى؛ فإن أنظار الناس تختلف فى التطبيق أكثر مما تختلف فى وضع القواعد والأصول.

أرأيت يا أخي كيف أن هذا البحث مضلة الأقوام ومزلة العقول والأفهام، والناس فيه بين مُفْرِط ومُفرِّط؟ اللهم إنا نسألك العصمة من الزلل والتسديد فى القول والعمل.

لقد قرأت كثيرًا عن البدعة والسنة، وقرأت ما كتب الشاطبي وابن الحاج وغيرهما، ولكن كل ذلك لم يلهم نفسي الطمأنينة إلى الحكم على كثير مما يسميه الناس بدعًا بهذه البدعية المطلقة وبهذا الوعيد الشديد.

ولعلى أوفق فى الأعداد القادمة إلى استيعاب هذه البحوث والكتابة عنها بما يزيل اللبس ويكشف الغموض، إن شاء الله تعالى.

وختام هذه النقطة أن أقول لأخي: إن موضوعنا ليس تحرير أحكام البدعة من حيث هى؛ فإننا نكاد نكون متفقين فى هذه الناحية، ولكن موضوعنا هو الحكم على عمل خاص بالبدعية؛ فمن ثبت له وصف البدعية المحرمة ترتب على ذلك ما ذكرتم فى خطابكم، وهذا ما سأعرض له فى النقطة الثانية.

ثانيًا: لم يعرض الأخ -أيد الله به الحق- فى خطابه إلى بيان وجه البدعية المحرمة فى الذكر المقيد بالشروط التى ذكرتها فى الفتوى إلا من حيث إنه لم يُعمل به فى عهد النبى  صلى الله عليه وسلم، ولا فى عهد الخلفاء الراشدين وسلفنا الصالح.

وهذا القدر نحن متفقان عليه؛ فقد قلته فى الفتاوى بالنص تقريبًا، ولكن أليست السنة تثبت بالقول كما تثبت بالعمل؟ والجواب: نعم؛ لأن تعريف السنة عندهم فعل النبى صلى الله عليه وسلم أو قوله أو تقريره، وألسنا قد أمرنا بالذكر فى قول الله تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الأحزاب: 41-42]؟ والجواب: نعم، وأليس الحق -تبارك وتعالى- قد أطلق لنا الكيفية فى قوله تعالى: }فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء: 103]، والمعلوم من ذلك أى على كل حالة من حالاتكم؟ والجواب: نعم، وأليس قد ندبنا الرسول  صلى الله عليه وسلم إلى الاجتماع على الذكر والتحلق له فى مثل قوله  صلى الله عليه وسلم: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة يا رسول الله؟ قال: حلق الذكر" رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب، وفى مثل قوله "ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله -عز وجل- لا يريدون بذلك إلا وجهه إلا ناداهم مناد من السماء أن قوموا مغفورًا لكم، قد بدلت سيئاتكم حسنات" رواه أحمد عن أنس، ورواه البيهقي من حديث عبد الله بن مغفل، ورواه الطبراني عن سهل بن الحنظلية بلفظ قريب من هذا، وفى مثل قوله  صلى الله عليه وسلم: "لأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إلى من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل، ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إلى من أن أعتق أربعة" رواه أبو داود عن أنس، وورد من طرق أخرى؟ والجواب: نعم.

 وقد تقول: إن الذكر هنا معناه العلم، فأقول لك: إن الذكر معنى عام يشمل العلم وغيره، وقد ورد فى بعض الأحاديث بمعنى العلم، وفى غيرها بمعنى التسبيح والتحميد، وفى غيرها بمعناه المطلق؛ فقصره على العلم تحكُّم.

أما الاهتزاز فهو مشجع على الاستمرار فى الذكر لما فيه من راحة البدن، ولا يصطدم مع حكم شرعي؛ فلا وجه لمنعه، كما لا قائل بوجوبه.

إذا تبين هذا كان الذكر الذي أعنيه ذكرًا مأمورًا به على كيفية لا ينكرها الشرع، ولا ينطبق عليه وصف البدعية المحرمة، وهو ما ورد فى فتواي، وأرجو أن أكون بذلك قد وفقت.

ثالثًا: بقيت مسألة هامة أحب أن تكون مسك الختام، وحبذا لو انضمت أصوات الفضلاء فيها إلى صوتي هذا الضعيف، إذن لوجدت الأمة سبيلا مفيدًا إلى الرجوع إلى هدى الدين الحنيف.

هذه المسألة هى أننى أحب دائمًا أن يكون سبيلنا فى الرجوع إلى السنة المطهرة؛ بحيث نوجه معظم العناية إلى دعوة الناس إلى السنة، ولا نسلك معهم سبيل الجدل فى إقناعهم بوجه الحق فى محدثاتهم، وقد سبقني إلى ذلك بعض السلف، فقال: لا تجادلوا أهل المحدثات فى محدثاتهم؛ فإنهم قد أعدوا لكل سؤال جوابًا، ولكن سلوهم عن السنة فإنهم لا يعرفونها.

وبذلك نسد باب الجدل والخلاف الذى لا يفتح على أمة إلا كان سببًا فى دمارها وتَشعُّب أمرها وفساد عقائدها.

وعلى هذه القاعدة الأخيرة أقول لك: إنه مما لا خلاف فيه أن أفضل أحوال الذكر ما كان عليه سلفنا الصالحون رضوان الله عليهم، أولئك الذين هداهم الله فبهداهم اقتده(4).

 

الذكر وأحكامه

سيدي الأستاذ المفضال،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، فإنني أشكر لحضرتكم أن تكرمتم فأفسحتم لكلمتي عن الذكر وأحكامه مكانًا فى جريدتكم الزاهرة، وأشكر لكم أدبكم العالي فى الرد، وحسن تلطفكم بإخوانكم.

وقد بدا لى أيها الأستاذ الفاضل من ردكم أن كثيرًا من النقط التى تكلمنا فيها يحتاج إلى مزيد إيضاح، ولولا ضنى بصفحات جريدة الإخوان الثمينة أن يضيع منها شىء فى غير فائدة المجموع لتناولت الموضوع بحذافيره، وبسطته بما فيه الكفاية؛ لتنجلى الرغوة عن الصريح فى أمر السنة والبدعة ونكون منهما على بينة، ولكنى أراني مضطرًّا للإيجاز تعجيلا لإنهاء المناقشة؛ لتفرغوا حضراتكم لما هو أعم نفعًا، وتنصرفوا إلى ما أخذتم به نفسكم من أعمالكم العظيمة الموفقة، إن شاء الله.

ولعدم تشعب الموضوع واختلاط مسائله الكثيرة نرى أن نحصره فى نقطتين هما موضع الخلاف ومركز دائرته: الأولى: "هل البدع كلها محرمة أم أنه يوجد منها ما يقال له بدعة حسنة؟"، والثانية: "ما هى طريقة الذكر الذى يأمر به الكتاب ويحض عليه كثيرًا؟".

أما عن النقطة الأولى: فلا نعلم أن أحدًا من علماء السنة قال بهذا التقسيم؛ بل الكل مجمعون على أن النصوص الواردة فى النهى عن البدعة عامة مطلقة من كل قيد، وعندهم أن كل مستحدث فى الدين بدعة وكل بدعة ضلالة، وإن وجد منهم من يجنح إلى غير ذلك فقوم يقولون إن النهى قد يكون للكراهة سدًّا للذريعة، وبذلك تكون البدعة مكروهة وتختلف درجتها من الكراهة أو التحريم حسب الأمر الذى وقعت فيه، والمقدار الذى غيرت به من صورة العبادة الشرعية، ولكن لم يوجد أحد ممن يعتد به على الإطلاق يقول بوجود البدعة الحسنة، وأنه يجوز تغيير صور العبادات لضرورة ما، أو لتغيير ظرف الزمان أو المكان، ولولا ما التزمته من توخى الإيجاز لأتيت بالأمثلة التطبيقية، ولأجتزئ بهذه الإشارة.

ومن يستقرئ جميع النصوص الشرعية والوقائع التى جرى عليها العمل، والمناهج التى التزمها كبار علماء السلف والخلف لا يلبث أن تتبين له هذه الروح جلية، وهى روح المحافظة على الشريعة المطهرة واعتبارها كلا كاملا لا يقبل التجزئة، وحرمًا مقدسًا ليس لعقل بشرى أو غير بشرى أن يمسه بأدنى تعديل أو تغيير، ويرى النُذُر الشديدة من الكتاب والسنة تتوعد كل من تحدثه نفسه بهذا التغيير أو التعديل، ويرى أن جميع طبقات السلف قد ساروا على هذا المنهج القويم، ولم يوجد منهم من شذ قيد أنملة ويغير صورة من صور العبادات الشرعية؛ بدعوى التحسين أو مسايرة روح العصر، اللهم إلا فريقًا من متأخري الفقهاء والصوفية الذين اتبعوا أهواءهم، وكانوا حربًا على الإسلام والمسلمين بما أدخلوا فى دين الله من الخرافات والضلالات التى وقعت بها النكبة على الإسلام، وما زال يئن تحت أثقالها إلى الآن، وأولئك حسابهم عند الله.

يتساءل أستاذي قائلا: "ما تعريف البدعة الدقيق المضبوط؟ وما حكم ما له أصل من الدين وأدى بكيفية لم ينص عليها؟ وما حكم فعل ما تركه النبى صلى الله عليه وسلم؟ وما الفرق الواضح بين البدعة الحقيقية والمصالح المرسلة؟ وهل لا يتغير حكم البدعة باختلاف الظروف والمقتضيات؟". ويقول: "إن هذه البحوث عويصة تاه فيها العلماء وزلت بها عقول وأفهام"، لا والله ما تاه فيها إلا العقل الضعيف، والنظر الكفيف الذى رانت عليه سحابة الهوى، وأما من كان على هدى من ربه واستمسك بعروته الوثقى فالأمر لديه بيِّن، والنور ساطع، وطريق الله واضحة الحدود والمعالم.

السنة والبدعة ما أيسر أمرهما، وما أبين الفرق بينهما: السنة هى اتباع النبى  صلى الله عليه وسلم فى أقواله وفعاله وأحواله، وأن يعض الإنسان عليها بالنواجذ، والبدعة أن يحيد عن ذلك مثقال ذرة، إما أن يكون حيوده فى أمر عادى؛ فيكون قد ترك الأفضل، وإما أن يكون فى أمر تعبدي فذلك هو المبتدع الأشر، سمِّ هذه البدعة ما شئت، قل: إنها محرمة أو مكروهة أو محظورة، ولكن لا يمكن القول مطلقًا إنها بدعة حسنة، اللهم إلا إذا قلنا إن الدين جاء ناقصًا وخاضعًا لمقتضى الزمان والمكان؛ فلنا أن نعدل منه، ونبتكر فيه، وإذن لانتُهكت حرمته المقدسة، وطُمست معالمه، وأصبح أثرًا بعد عين.

وأما حكم ما تركه النبى صلى الله عليه وسلم من الأمور الشرعية فإنه كان تركه إياه لعلة جبلِّية؛ كامتناعه عن أكل لحم الضب، فإنه ينبه إلى ذلك كما قال  صلى الله عليه وسلم: "إنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه"، وحينئذ فلا علينا إن خالفناه وأكلنا لحم الضب كما فعله خالد بن الوليد، وأما إن كان تركه إياه لعلة طارئة فإنه ينبه إليه كذلك، كما فعل  صلى الله عليه وسلم عند دخوله المسجد فإنه خلع نعله فخلع أصحابه نعالهم، فبين لهم أنه لم يخلع نعله إلا لأن جبريل أخبره أن بنعله نجاسة، وفى مثل هذا فلا ضرر فى المخالفة إلى الفعل.

وأما ما كان تركه إياه من الأمور الشرعية -أعنى مطلقًا- فإن تركه إياه يجب أن يكون مطلقًا لا محالة، والمخالف مبتدع، وليس له سند من الشرع.

أما المصالح المرسلة فهى بمعزل عن هذه الدائرة؛ أى عن دائرة الحدود التعبدية؛ لأن هذه قلنا إنها مرسومة رسمًا توقيفيًّا محترمًا، وتدخل فى دائرة الضرورات التى تنشأ بتغير الظروف كمسألة جمع المصحف وكتابته، وتدوين الدواوين، وتعلم فن الهندسة والحساب، وما إلى ذلك من الضرورات التى لم يكن لها وجود على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي لا يكون مفر منها.

هذا فيما يتعلق بالسنة والبدعة، أما عن النقطة الثانية من نقط الخلاف، وهى الخاصة بكيفية الذكر؛ فأراك يا سيدى الأستاذ قد أكثرت من إيراد النصوص على فضل الذكر والندب إليه، وما أرانا فى حاجة إلى ذلك؛ لأننا نعلم أن الذكر من أوكد الواجبات التى لا ينفك عنها المسلم؛ فإنه يجب عليه أن يكون ذاكرًا الله فى جميع حالاته، وبعدد أنفاسه لا ينقطع عن ذلك لحظة، ولكن الخلاف فى الكيفية؛ فهذه الكيفية ليست هى العلم، كما فرضتم حضرتكم أننا نقوله، وإن كان العلم فرعًا من الذكر، ولكن الكيفية والحِلَق التى أمر الشارع بغشيانها معروفة، وهى التى كانت على عهد النبى  صلى الله عليه وسلم. 

وهذا مثال منها؛ فقد روى عن معاوية رضى الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حَلقةٍ من أصحابه، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنَّ به علينا. قال: الله ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا: الله ما أجلسنا إلا ذلك. قال: أما إنى لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبرائيل فأخبرني أن الله -عز وجل- يباهى بكم الملائكة" رواه مسلم والترمذي والنسائي.

وروى عن أنس أيضًا عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله سيارة من الملائكة يطلبون حلق الذكر، فإذا أتوا عليهم حفوا بهم ثم بعثوا رائدهم إلى السماء إلى رب العزة -تبارك وتعالى- فيقولون: ربنا أتينا على عباد من عبادك يعظمون آلاءك، ويتلون كتابك، ويصلون على نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ويسألونك لآخرتهم ودنياهم، فيقول الله -تبارك وتعالى-: غشُّوهم رحمتي؛ فهم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم" رواه البزار .. إلخ إلخ من الكيفيات التى لا تخرج عن هذه الدائرة.

يستخلص من هذا أن الذكر بالطرق المعروفة فى هذه الأيام، وهو أن يكون بألفاظ مفردة لا تفيد معنى مع التغني والاهتزاز والاجتماع على ذلك بالتحلق هو طريقة مبتكرة فى الدين، داخلة فى الحيز البدعي المنهى عنه شرعًا بعموم النصوص، وأنه لا يوجد فى الدين ما يسمى بدعة حسنة مطلقًا، هذا هو الحكم الشرعي الذي تطمئن إليه النفس وينشرح له الصدر.

هذا وقد قلتم فضيلتكم: إن الشيوخ لم يجنحوا إلى الاهتزاز والنشيد وغير ذلك إلا للتنشيط، وإني لأعجب كيف غاب هذا عن الشارع الحكيم صلى الله عليه وسلم فلم يشرعه لنا فى أحوال الذكر كما شرع لنا القيام والركوع والسجود فى الصلاة؛ لنكون أكثر نشاطًا وأتم حضورًا.

وهل كان الدين ينقصه هذا المقدار حتى يأتى أشياخ آخر الزمان فيشرعونه للناس. 

وإذا كان العابد لا يجد ما تنشط به روحه فى الصلاة وتلاوة القرآن والتسبيح والتحميد والدعاء بالصيغ المأثورة عن النبى  صلى الله عليه وسلم وصحابته الراشدين.. اللهم فلا صدق ولا صلى، وليذهب حيث شاء، فإنه -وايم الله- لا يركب إلا هواه.

هذا ما رأيت أن أبديه على صفحات مجلة الإخوان المحبوبة لمن يريد أن يتبصر لنفسه، ويسترشد فى دينه، وأرجو ألا أكون قد أطلت عن الحد اللازم؛ فهى عهدة فى ضميري أردت أن أخرج منها، كما أرجو أن يكون هذا ختامًا للموضوع منعًا لكثرة الأخذ والرد.

ولا يفوتني هنا أن أكرر شكري وعظيم ثنائي لأستاذنا الجليل على كرم خلائقه، وسعة صدره، وجميل تسامحه، وتفانيه فى خدمة الإسلام.

ونسأل الله لنا وله ولجميع المؤمنين الهداية والتوفيق إلى ما يحبه ويرضاه، إنه بعباده رؤوف رحيم.

سيد أحمد فهمى

 وقد عرض هذا الخطاب على فضيلة محرر القسم الديني بالجريدة فأجاب بما يأتى:

بسم الله الرحمن الرحيم .. الحمد لله الذى يقول الحق وهو يهدى السبيل، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

أخي الفاضل أيد الله به الحق.

السلام عليك ورحمة الله وبركاته، أما بعد فقد قرأت خطابك، وأحب قبل أن أعرض لإجابتك عنه أن أعلن لك ولقراء جريدة الإخوان المسلمين كبير سروري وعظيم فرحى بمظهرين رائعين تجليا فى خطابك.

أما أولهما فدقة بحثك فى موضوع كسل عنه الباحثون من المتخصصين به؛ فما بالك بالمستفيدين، وهى أمنية فى النفس منذ القدم أن يلهم الله شباب الإسلام وبنيه أن يُعنَوا بالدراسة الدينية، ويطلعوا على البحوث الإسلامية، ويتصلوا بأحكام الدين اتصالا قويًّا يفقههم فيها ويبصرهم بأسرارها "ومن يرد الله به خيرًا يفقهه فى الدين". 

وأما ثانيهما فهو شعورك بالتبعة الملقاة على عاتق كل مسلم أن يصدع بكلمة الحق وينادى بأحكام الله، ولا يخشى فى ذلك لومة لائم، ولا تلهيه المجاملة الكاذبة عن تأييد رأى يرى فيه موافقة شريعة الله -تبارك وتعالى- على حين ضعف هذا الشعور فى نفس المسئولين الأول، وكل مسئول.

ولو أن فى المسلمين كثيرين ينصرفون إلى دراسة الدين، ويصدعون بما يعتقدون أنه الحق فى هذه الدراسة لكانت الحال الآن غير ما نراهم عليه؛ فالله نسأل لنا جميعًا الهداية والتوفيق، ولا أشكرك فذلك واجب، ولكن أسأل الله أن يجعلك ممن أراد بهم الخير ففقههم فى دينه.

وأعود بعد بيان هذه العاطفة التى أوحاها الوجدان الصادق إلى خطابك، فأجيبك عن بعض ما غمض من نقاطه تبيانًا لما أرى أنه الحق، فاسمع أيها الأخ العزيز:

أولا: عرضت للبدعة من حيث تحريمها وتحليلها، وليس ذلك محل خلاف بيننا، ولكن الخلاف بيننا حول البدعة فى حقيقتها، وفى تطبيق ما يشبه أنه محدث على هذه الحقيقة، وإذن فلا داعى لطول القول فى هذه النقطة؛ لأن هذا أمر له مجال آخر.

ثانيًا: عرضت للإجابة عن أسئلتي فى خطابي السابق، واستغربت أن أرى فى ذلك لبسًا أو غموضًا، وأخذت تجيب عن كل سؤال منها. فاعلم "يا عزيزي" أن الأمر أكبر من هذا، ولو كانت المسألة قاصرة على مثل هذا الجواب لارتاحت الضمائر وانتهى الخلاف، وكثير من طلاب الحق المخلصين وقفوا أمام هذه البحوث وقفة المتمكث المتثبت حتى انفلق لهم صبح اليقين، وأثلج الله صدورهم بمعرفة الحق فلا تعجل بالحكم، وبعض أجوبتك فيه سداد وتقريب، وبعضها فيه إيجاز وغموض، وبعضها فيه قصور يتضح أمام الاستيعاب، ولعل لك العذر فى ذلك؛ فقد اعتذرت بما يقبل فى صدر خطابك، ولعلى أوفق إلى بحث هذه الموضوعات بحثًا وافيًا فى الأعداد القادمة إن شاء الله تعالى.

وقبل أن أترك هذه النقطة ألفتك إلى أمرين أرى لهما من الفائدة ما يستوجب الذكر:

أولهما: التثبت فى الفتوى وطول الأناة فى الحكم، وأذكر أن عبد الله بن مسعود -وهو من أحبار هذه الأمة وأعلامها- سئل عن المتوفى عنها زوجها قبل الدخول ولم يسم لها مهرًا، فطلب إلى السائل أن يتركه حتى يجتهد شهرًا ثم أفتى بعد ذلك فى حادثة معروفة، ولا إخالك إلا جد عليم بتحريم السلف الصالح فى تقرير الأحكام.

وثانيهما: أن تنزه قلمك -وهو نزيه بحمد الله- عن كل ما يشبه أن يكون لفظًا جافيًا أو وصفًا نابيًا أو عبارة جارحة؛ فلا لزوم لذكر العقل الضعيف والبصر الكفيف وسحائب الهوى فى بحث شأن ديني بين أخوين كل منهما يطلب الحق للحق، واذكر يا أخي محنة الأمة فى كُتّابها الذين ولعوا بالمهاترة، وبرعوا فى الإقذاع حتى ضجت منهم الآداب الإسلامية العفيفة، ولا أشبه ما ورد فى كتابك بهذا، ولكنى أحب أن نتحامى كل ما يمت إلى هذه الناحية بصلة أو يشبه أن يكون منها قريبًا.

ثالثًا: عرض أخي بعد ذلك إلى كيفية الذكر على عهد السلف الصالح -رضوان الله عليهم- وروى فى ذلك حديث معاوية وحديث أنس، ولنا أمام هذين الحديثين الشريفين وأمثالهما وقفة نستجلى فيها عدة أمور:

أولها: هل الكيفية التى وردت فيهما محدودة يمكن تطبيقها تمام التطبيق الآن؟ كيف كانوا يتحلقون؟ وكيف كانوا يلفظون: أفرادى أم جماعة؟ وما الألفاظ والصيغ التى كانوا يعظمون بها آلاء الله، ويصلون بها على نبيه  صلى الله عليه وسلم، ويسألونه بها لآخرتهم ودنياهم؟ كل هذه كيفيات لم يحددها الحديثان بل أطلقاها إطلاقًا وهو -وكما ترى- مانع من التطبيق، وعلى فرض أن ذلك كله محدد.. فهل عمل هؤلاء الصحابة الكرام أمام حكم عبادة مطلقة يحدد إطلاقها، مع العلم بأن الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا أنفسهم يختلفون فى هذه الكيفيات؟ لست متعنتًا يا أخي، ولكنى أرى أن هذه نقاط تستحق التفكير، وقد بنيتَ على ذلك حكمك على الذكر بالطرق المعروفة، وأحب أن تفرق بين الذكر بالطرق المعروفة وبين الذكر الذي رأيته جائزًا فى الفتيا، ولما كان الدليل السابق غير واضح فى الدلالة كان بناء هذا الحكم عليه فيه نظر.

رابعًا: تساءلت: كيف غاب عن الشارع الحكيم أن يشرع لنا أحوال الذكر كما شرع لنا القيام والركوع والسجود فى الصلاة... إلخ؟ وهنا أمر هام أحب أن يلاحظه الأخ، وقد يكون فيه حسم الخلاف -إن شاء الله تعالى- وقد يكون مقياسًا صالحًا يتضح لنا على ضوئه كثير من مشتبهات الأحكام.

هذا الأمر هو أن العبادات تقسم إلى نوعين: 

1-     نوع حدده الشارع وقتًا وزمانًا ومكانًا وكيفية وحكمًا، ومثاله الحج مثلا، وصلاة الجمعة مثلا.

2-     ونوع أطلقه كالصدقة النافلة؛ فأنت فيها مخير فى المقدار وفى الوقت بحسب وسعك وظرفك، وكالدعاء مثلا؛ فأنت فيه مخير ما لم يخالف هذا التخيير حكمًا شرعيًّا ورد به النص، نعم إن المأثور أفضل من غيره، ولكن هل يقول أحد إن الدعاء بغير المأثور وفى كل وقت غير جائز؟ والذكر من هذا القسم؛ أمر به الشارع وأطلقه؛ فأنت فيه مخير ما لم يخالف هذا التخيير حكمًا شرعيًّا، ولإيضاح هذه النقطة أضرب لك هذين المثالين:

‌أ-      رجل تعود أن يتصدق كل يوم بقرش فى وقت محدد يقصد بذلك وجه الله -تبارك وتعالى- وامتثال أمره فى الصدقة، أتراه مبتدعًا؟ وهل يشترط لجواز مثل هذا العمل أن يكون قد عمل مثله السلف الصالح؟

‌ب-    رجل تعود صباح كل يوم ومساءه أن يدعو الله -تبارك وتعالى- بصيغة كهذه مثلا: "اللهم فرج كربتى، واغفر لى ذنبي، واجعلنى عندك من المقبولين، وارزقني اتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم".. أترى هذا الرجل مبتدعًا؟ وهل يشترط لجواز مثل هذا العمل أن يكون واردًا مأثورًا؟

أظنك معى فى أن عموم الأمر بالدعاء والصدقة يجعل عمل هذين عبادة لا غبار عليها. وإذا تقرر هذا فاعلم يا عزيزي أن تقييد العبادة المطلقة هو البدعة؛ فما ورد مقيدًا فالدين أن يؤتى به على وجهه، وما ورد مطلقًا بقي على إطلاقه؛ فكل كيفية تدخل تحت هذا العموم، ولا تتعارض مع الأحكام الشرعية جائزة.

وأخيرًا أحب أن أقول لك: إن الجائز لذاته قد يكون محرمًا لغيره سدًا للذريعة إذا اتُّخذ وسيلة لمحرم، وخير الحالات ما وافق السنة المطهرة، واتباع المأثور أولى وأسلم.

 والله أسأل أن يلهمنا وإياك التوفيق والتسديد، وسلام الله عليك ورحمته وبركاته(5).

 

دلك اليد بالأرض فى الغسل

بتوقيع سائل من المنزلة ما يأتى بعد الديباجة:

جاء فى تفصيل أحكام الغسل فى الصحيفة 9 من العدد 11 من جريدة الإخوان: 

إنه بعد أن يغسل الإنسان الفرج وما يتصل به يستحب بعد ذلك أن يدلك يده بالأرض. فإذا كان النبى صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لعدم وجود الصابون أو نحوه آنذاك، أما كان الأجدر أن يفعل ذلك فى بدء الغسل لا فى وسطه؟ وهل يكون من الخروج على الدين والسنة السمحة لو أننا لم نأخذ بها، فتركنا دلك يدنا فى الأرض فى أثناء الغسل لما أظهره العلم الحديث من وجود جراثيم فى الأرض من وطء النعال وما ينجم عن ذلك من انتقال العدوى، فضلا عن أن النفس تسأم ذلك؟. فما رأى فضيلتكم فى هذا؟

والجواب والله أعلم:

أولا: دلك اليد بالأرض ورد فى حديث ميمونة قالت: "وضعت للنبى  صلى الله عليه وسلم ماء يغتسل به، فأفرغ على يديه فغسلهما مرتين أو ثلاثًا، ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسل مذاكيره، ثم دلك يده بالأرض ثم مضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ويديه، ثم غسل رأسه ثلاثًا، ثم أفرغ على جسده.. إلخ"، الحديث رواه الجماعة؛ فأنت ترى من هذا أنه قد دلك يده بالأرض فى بدء الغسل لا فى وسطه.

ثانيًا: ليس من الخروج على الدين والسنة أن يترك الإنسان ذلك، أو أن يستبدل يدلك اليد بالأرض غسلها بالصابون أو نحوه مما تذهب به القذارة؛ فقد وردت أحاديث كثيرة عن عائشة -رضى الله عنها- وغيرها تفيد أنه  صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، فأفاد ذلك أن الفعل حسن لموافقته لحديث ميمونة، والترك جاء لوروده فى حديث عائشة، والمقصود إزالة القذارة بأية سبيل ولو بالماء المجرد ما دام كافيًا(6).

 

حكم اقتناء الكلاب

وبتوقيع عبد العزيز السيد بكفر البخاري بالسويس ما يفيد انتشار اقتناء الكلاب، ويطلب بيان الحكم فى ذلك.

والجواب: أن اقتناء الكلب إلا لصيد أو حراسة منهى عنه ينتقص به الأجر وتمتنع معه الملائكة؛ فقد جاء فى حديث عمر رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من اقتنى كلبًا إلا كلب صيد أو ماشية فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان" رواه مالك والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي.

وفى حديث بريدة رضى الله عنه  قال: "احتبس جبريل عن النبى  صلى الله عليه وسلم، فقال له: ما حبسك؟ فقال: إنا لا ندخل بيتًا فيه كلب" رواه أحمد، ورواته رواة الصحيح.

على أن اقتناء الكلب سيوقع من يقتنيه فى حرج شديد لضرورة غسل كل ما ولغ فيه هذا الكلب سبع مرات إحداهن بالتراب بإجماع أئمة المسلمين على ذلك، وهو فى غنى عن كل هذا الحرج ما دام فى غير حاجة إلى الكلب، وخير للذين يصرفون أوقاتهم فى تدليل الكلاب ومداعبتهم أن يصرفوها فى العناية بالأولاد والعطف على الأقارب، فإن لم يكن فبؤساء الإنسانية أولى وأحق بالرعاية(7).

نصف شعبان

بعث إلينا أحد الإخوان بمحلة دمنة دقهلية، يسأل عما ورد فى ليلة النصف من شعبان، وما يفعله الناس فيه من الدعاء ونحوه، وسنجيبه إن شاء الله تعالى.

ونذكر القراء الكرام بالمنهج الذى أشرنا إليه فى العدد الأول فى الفتيا من أننا نتحرى الحق جهد استطاعتنا مما بين أيدينا من المراجع والنصوص، ثم نقدمه للقراء على أنه مبلغ جهدنا واستطاعتنا؛ فمن وجد دليلا غير ما أوردنا أو حجة غير ما وجدنا فليتقدم مشكورًا؛ فإن الحق يجب أن يكون طلبة الباحث وغايته، وفوق كل ذى علم عليم، والله المستعان.

الكلام فى ليلة النصف من شعبان يتصل بنواحٍ ثلاث: أولاها: ما ورد فى فضل هذه الليلة، وثانيتها: الحق والباطل مما يعتقده العامة فيها ويتلونه، وثالثتها: حكم هذا الدعاء المعروف.

أولا: ما ورد فى فضل هذه الليلة:

1-     قول الله -تبارك وتعالى- فى أول سورة الدخان: }إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان: 3-4] اختلف العلماء فى الليلة المقصودة فى هذه الآية الكريمة؛ فمنهم من ذهب إلى أنها ليلة القدر التى تكون فى رمضان، ومنهم من ذهب إلى أنها ليلة النصف من شعبان، ومنهم من ذهب إلى أن ليلة القدر قد تكون فى النصف من شعبان؛ فكأنه يريد أن يجمع بين القولين، وهو قول ضعيف جدًا لا يثبت أمام التحقيق فلندعه، ولنحصر البحث فى القولين الأولين اختصارًا.

فأما القول بأنها ليلة القدر فهو الراجح الوارد عن جمهرة المفسرين والعلماء المحققين، وقد تعقبوا أدلة القائلين بأنها ليلة النصف من شعبان بما يبدو أمامنا صالحًا لرده، وإليك نماذج من ذلك:

قال الآلوسى فى تفسيره عند قوله تعالى: }فِى لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ هى ليلة القدر على ما روى عن ابن عباس وقتادة وابن جبير ومجاهد وابن زيد والحسن، وعليه أكثر المفسرين، والظواهر معهم، وقال عكرمة وجماعة: هى ليلة النصف من شعبان.

وقال الطبري فى تفسيره عن هذه الآية الكريمة: "واختلف أهل التأويل فى تلك الليلة.. أى ليلة من ليالي السنة هى؟ فقال بعضهم: هى ليلة القدر، ثم ذكرهم وقال بعد سردهم: وقال آخرون: بل هى ليلة النصف من شعبان، ولم يذكرهم، ثم قال: والصواب من القول فى ذلك قول من قال هى ليلة القدر؛ لأن الله -جل ثناؤه- أخبر أن ذلك كذلك"، وقد أكد هذا المعنى فى موضع آخر من هذا البحث نفسه.

وقال النيسابوري فى تفسير الآية الكريمة أيضًا: "وأكثر المفسرين على أنها ليلة القدر" لقوله: }إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1]، وليلة القدر عند الأكثر من رمضان، ثم نقل كلام الطبري، وقال بعده: "وزعم بعضهم كعكرمة وغيره أنها ليلة النصف من شعبان، وما رأيت لهم دليلا يُعَوَّل عليه".

فهاأنت ترى من أقوال هؤلاء العلماء أن الآية الكريمة لا تصلح أن تكون دليلا فى فضل ليلة نصف شعبان.

2-   ما ورد من الأحاديث فى فضل هذه الليلة، ومن ذلك:

‌أ-      ما أخرجه ابن ماجه والبيهقي فى شعب الإيمان عن على -كرم الله وجهه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها؛ فإن الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى السماء الدنيا، فيقول: ألا مستغفر فأغفر له، ألا مسترزق فأرزقه، ألا مبتلى فأعافيه، ألا كذا ألا كذا حتى مطلع الفجر" ومنها:

‌ب-    ما أخرجه الترمذي وابن أبى شيبة والبيهقي وابن ماجه عن عائشة قالت: "فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فخرجت أطلبه، فإذا هو بالبقيع رافعًا رأسه إلى السماء، فقال: يا عائشة أكنت تخافين أن يحيف الله تعالى عليك ورسوله؟ فقلت: ما بى من ذلك، ولكنى ظننت أنك أتيت بعض نسائك، فقال: إن الله -عز وجل- ينزل ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم بنى كلب". ومنها: ما أخرجه أحمد بن حنبل فى المسند عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم قال: "يطلع الله تعالى إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لعباده إلا اثنين: مشاحن وقاتل نفس".

ولو صحت هذه الأحاديث وسلمت من العلل لكانت أدلة قوية فى فضل الليلة، ولكنها جميعها تكلم فيها المحدثون وأعلّوها؛ فمنها ما ذكروا ضعف إسناده كما قال العراقي فى الحديث الأول، ومنها ما ذكروا أن فى إسناده لينًا كما ذكر الحافظ المنذري فى الحديث الثالث، حتى قال الحافظ أبو بكر العربي: "لا يصح فيها شىء"، ونقل عنه أبو شامة أنه قال: "ليس فى ليلة النصف من شعبان حديث ثبت سماعه، قال: وقد أولع الناس بها فى أقطار الأرض".

والذي تطمئن إليه النفس أن هذه الأحاديث مع التسليم بضعفها وتعليلها تكفي لأن تجعل لهذه الليلة فضلا على غيرها من ليالي هذا الشهر، وتجعل القيام بما ورد من العبادات كقيام ليلها قيامًا شرعيًّا وصيام يومها صيامًا شرعيًّا كذلك من المستحبات بناء على قاعدة العمل بالحديث الضعيف فى فضائل الأعمال، بشرط ألا يتخذ ذلك ذريعة إلى التعبد فيها بما لم يرد به دليل.

ثانيًا: عقائد العامة فى هذه الليلة وعباداتهم فيها:

أولا: يعتقدون أن هذه الليلة هى الليلة التى يُفْرَق فيها كل أمر حكيم؛ فيقضى فيها أمر السنة كلها فيما يتعلق بشئون الخلق، وقد علمت مما تقدم الخلاف فى الليلة المقصودة وترجيح أنها ليلة القدر.

ثانيًا: يعتقدون أن من حضر الدعاء الذى يدعون به فى المساجد بعد المغرب، وصلى الصلاة التى ذكروها، وحضر هذا الاجتماع الذى يجتمعونه لم يمت هذه السنة وثبت الله ورقة أجله، ويتشاءمون إذا فاتهم هذا الجمع، وهى عقيدة باطلة لا أساس لها من الدين البتة.

ثالثًا: يقرءون سورة يس فى هذه الليلة، ويجمعون بينها وبين هذا الدعاء بكيفية خاصة، ولم أر فى ذلك دليلا، نعم إن قراءة القرآن أمر مستحب فى كل وقت، ولكن تخصيص هذه الليلة بسورة خاصة وبكيفية خاصة أمر لا يثبت إلا بدليل خاص، وليس عندنا هذا الدليل، ومن وجد فليأت به.

رابعًا: يذكرون أن لهذه الليلة صلاة خاصة هى مائة ركعة، يقرأ فى كل ركعة بعد الفاتحة "قل هو الله أحد"، إحدى عشرة مرة، وإن شاء صلى عشر ركعات يقرأ فى كل ركعة بعد الفاتحة مائة مرة "قل هو الله أحد"، ذكر ذلك الإمام الغزالي فى الإحياء، وقال: "كان السلف يصلون هذه الصلاة ويسمونها صلاة الخير، ويجتمعون فيها وربما صلوها جماعة، روى عن الحسن أنه قال: حدثني ثلاثون من أصحاب النبى  صلى الله عليه وسلم أنه من صلى هذه الصلاة فى هذه الليلة نظر الله إليه سبعين نظرة، وقضى له بكل نظرة سبعين حاجة أدناها المغفرة"، هكذا قال الإمام الغزالي فى كتابه الإحياء، وقد تعقبه الحافظ العراقي بأن حديث صلاة نصف شعبان حديث باطل، وهو رأى جمهور العلماء فيه، بدليل أنه لم يرد فى كتاب من كتب الحفاظ الأثبات، ولم يسنده راويه إلى صحابي معروف، ولم يرفع إلى النبى  صلى الله عليه وسلم.

وقد علمت أن تخصيص وقت بعبادة خاصة يحتاج إلى دليل شرعي، ولا دليل على هذه الصلاة كما رأيت.

خامسًا: الدعاء بالصيغة المعروفة، وقد أفردناه ببحث خاص لأهميته وكثرة اختلاف الناس فيه.

ثالثًا: دعاء نصف شعبان:

وينقسم الكلام فيه إلى ثلاثة أقسام:

•       صيغته: يلاحظ بعض العلماء فى صيغة هذا الدعاء أمورًا تخالف ظواهر الأدلة الشرعية، منها:

•       نسبة التجلي الأعظم وإبرام الأمور والفصل فيها إلى ليلة النصف من شعبان، وقد علمت رجحان أن ذلك فى ليلة القدر لا فى ليلة النصف.

•       نسبة المحو والإثبات إلى أم الكتاب، وأم الكتاب إن كانت اللوح المحفوظ فلا محو فيها ولا إثبات، وإن كانت علم الله -تبارك وتعالى- فكذلك؛ فكيف يقال فى هذا الدعاء: "اللهم إن كنت كتبتني عندك فى أم الكتاب شقيًا أو محرومًا... إلخ فامح اللهم بفضلك شقاوتي... إلخ"؟

وقد اختلف المفسرون اختلافًا شديدًا فى تفسير الآية الكريمة: }يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد: 39]، وعندي أنهم -جزاهم الله خيرًا- لو أنعموا النظر فيما قبل الآية وما بعدها لما كان ثمة داعٍ لهذا الخلاف؛ فقد نزلت الآيات حين سألت قريش نبينا  صلى الله عليه وسلم أن يستعجل لهم العقوبة فأنزل الله قوله تعالى: }وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً [الرعد: 38] إشارة إلى سريان أحكام البشرية عليهم -عليهم الصلاة والسلام- }وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ [الرعد: 38] إشارة إلى أن النبى صلى الله عليه وسلم لا يأتى بالآيات من نفسه، ولا يستطيع ذلك إلا بإذن الله؛ فلا معنى لسؤاله إياه ذلك، }لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ [الرعد: 38] إشارة إلى أن الحوادث تقع فى آجالها ومواعيدها الغائبة فى تقدير الله -تبارك وتعالى-، لا تستقدم لحظة ولا تستأخر؛ فلا لزوم لإرهاقهم نبيهم صلى الله عليه وسلم باستعجال ما لم يحِن وقته بعد }يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ [الرعد: 39] يفعل ما يشاء ويترك ما يشاء، يُوجِد ما شاء ويُعدِم ما شاء، إشارة إلى مطلق تصرفه -تبارك وتعالى- فى شئون الخلق إيجادًا وإعدامًا، وتنبيهًا لهم إلى أن سؤال الآيات واستعجال العقوبات إنما يكون لله وحده }وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد: 39] علمه، أو لوحه، قد أثبت فيه ذلك المحو، وذلك الإثبات على النحو الذى يقع فيه }وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [الرعد: 40]، وسواء وقع هذا الذى ثبت فى أم الكتاب وجودًا أو عدمًا فى حياتك أو توفيناك قبل وقوعه؛ فذلك لا يقدح فى مهمتك، وهى تبليغ الشريعة؛ فعليك أن تبلغهم ما أُمِرْت به، وعلينا أن نحاسبهم بعد ذلك على موقفهم منك.

هذا تفسير للآيات مطابق لظاهرها، مُخْرج لكل خلاف فيها مُتَّفق مع السياق، منسجم مع أسباب النزول، بعيد عن الكلفة والتعسف فيما أعتقد والله أعلم بمراده، وإنما عرضت له هنا لبيان أن هذه الآية الكريمة لا تصلح حجة للذين يصححون صيغة الدعاء، وعليهم البحث عن دليل آخر.

سؤال الله -تبارك وتعالى- محو الشقاوة والحرمان والطرد والتقتير فى الرزق، وإثبات أضدادها من السعادة والقبول والسعة فى الرزق، وإثبات هذا الاعتراض على صيغة الدعاء يزج بنا فى مأزق القضاء والقدر، وهو ما يحتاج إلى بحوث مستقلة، والإمساك عنه خير والخلاف فيه شديد، ومن ذلك نعلم أن اعتراض العلماء على صيغة هذا الدعاء مبنى على خلاف شديد يتسع فيه مجال الرأي وتكثر فيه مواطن الشبهات، ولا شك أن دعاءً مجمعًا على صيغته خير وأجدى من دعاء تثار حوله كل هذه المشكلات.

أصله: هذا الدعاء لم يرد فى القرآن طبعًا، ولا فى الأحاديث الصحيحة، وكل ما علمناه عن أصله أنه ذكر أن بعضه قد ورد على لسان بعض الصحابة والتابعين والصالحين.

قال الآلوسى فى تفسيره: أخرج ابن أبى شيبة فى المصنف وغيره عن ابن مسعود  رضى الله عنه  قال: "ما دعا عبد قط بهذه الدعوات إلا وسع الله عليه فى معيشته: يا ذا المن ولا يمن عليه، يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطول، لا إله إلا أنت، ظهر اللاجئين، وجار المستجيرين، ومأمن الخائفين، إن كنت كتبتني عندك فى أم الكتاب شقيًّا فامْحُ عنى اسم الشقاوة وأثبتني عندك سعيدًا، وإن كنت كتبتني عندك فى أم الكتاب محرومًا مقترًا على رزقي فامح حرماني ويسر رزقي واثبتني عندك سعيدًا موفقًا للخير؛ فإنك تقول فى كتابك الذى أنزلت: يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب".

وأخرج عبد بن حميد وغيره عن عمر -رضى الله تعالى عنه- أنه قال وهو يطوف بالبيت: "اللهم إن كنت كتبت على شقوة أو ذنبًا فامحُه واجعله سعادة ومغفرة، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب". 

وذكر مثله عن شفيق أبى وائل، هذا مع ما ورد فى آثار كثيرة عن الصحابة والتابعين فى النهى عن سؤال محو الشقاوة وإثبات السعادة، نقل ذلك ابن جرير الطبري عن ابن عباس من طريق سعيد بن جبير، وعن مجاهد كذلك من طرق عدة. وذكر صاحب الإبداع أنه نقل عن اليافعي أن أول ما يدعى فى ليلة النصف من شعبان: "اللهم يا ذا المن ولا يمن عليه".

ويلاحظ ما يأتى:

1-     أنه ليس مأثورًا كله جملة واحدة عن أحد الصحابة أو التابعين.

2-     أن فيه ما يصطدم بآراء بعضهم رضوان الله عليهم.

3-     أنه لم يؤثر عن النبى  صلى الله عليه وسلم، والدعاء بالمأثور أولى قطعًا.

4-     أننا لا نعرف درجة ثبوت نسبته إلى من نسب إليهم من الأئمة.

كيفيته: يتلى هذا الدعاء بتلقين الإمام أو غيره للداعين عدة مرات، وهم يقولونه خلفه بأصوات عالية، مع أن كثيرًا منهم لا يفهمون معناه، ويخطئون فى ألفاظه من حيث الإعراب، ويرددونه بحالة لا تدل على الخشوع أبدًا، ولا يقولونه إلا فى هذه الليلة حتى صار شعارًا لها منسوبًا إليها، وكل ذلك مخالف للأحكام من عدة نواحٍ، منها:

1-     التخصيص الذي يحتاج إلى دليل شرعي وهو غير موجود، ومنها:

2-     فقدان الخشوع وحضور القلب، والله تعالى يقول: }ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [الأعراف: 55]، ومنها:

3-     رفع الأصوات بهذا الحال، وقد رأى النبى  صلى الله عليه وسلم أصحابه يرفعون أصواتهم فى الدعاء فنهاهم عن ذلك بالحديث الصحيح: "أربعوا على أنفسكم؛ إنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، إنما تدعون سميعًا بصيرًا"، ومنها:

4-     أن الداعين لا يتذوقون معناه ولا تتأثر به قلوبهم، ولأنْ يناجى أحدهم ربه بحاجته التى يشعر بها ويجد فى نفسه أثرها أنفع وأجدى من ترديد ألفاظ ملقنة لا يدرك معناها.

خلاصة البحث:

إذا تقرر هذا علمت أن خلاصة هذا البحث تنحصر فى هذه الأمور:

أولا: ليلة النصف من شعبان ليلة فاضلة، وإحياؤها بأي طاعة من طاعات الله وصوم يومها أمر مستحب.

ثانيًا: تخصيصها بعبادات خاصة من قراءة يس وصلاة الخير والدعاء الخاص أمر لا دليل عليه من الشرع؛ فالواجب عدم التقيد به، وعدم اتخاذه شعارًا لها.

ثالثًا: هذا الدعاء الذى تعوده الناس لم يثبت أصله من الكتاب والسنة، وصيغته محل خلاف عظيم، والكيفية التى يلقيه الناس بها مخالفة للأحكام الشرعية.

خاتمة:

الناس فى ليلة النصف من شعبان قسمان: قسم يتحمس لهذه التقاليد الموروثة تحمسًا عظيمًا، ويدافع عنها دفاعًا قويًا، ويتلمس لأصحابها الحجج والمعاذير، ومنهم فريق من أئمة المساجد ومن أهل العلم، وهؤلاء أقول لهم: عليكم أن تلاحظوا الأقوال الشرعية قبل ذلك؛ فإنكم بلا شك ستتركون هذا الحماس. وقسم يتحمس ضدها تحمسًا عظيمًا كذلك فيحقر من شأنها وينحى باللائمة على فاعليها، وقد يؤديه ذلك إلى السب والشتم؛ بل إلى الاشتباك أحيانًا، وهؤلاء أقول لهم: عليكم أن تلاحظوا أن الذين يفعلون ذلك إنما يفعلونه لأنهم يعتقدون أنه من الدين؛ فهم حَسنُو النية، وحسن النية لا بد من الرفق معه، وأن هذا المظهر من المظاهر الدينية يوقظ فى المسلمين روح الشعور بالإسلام والحماس له، ومقاومته بهذه الوسائل من التحقير والعنف يهدم فى نفوس العامة ما بقى فيها من تقديس الدين واحترامه، ويقوى دعاية الخروج على الدين والاستهتار به، وإذن فيكون ضرر هذه المقاومة أشد من نفعها.

والذي يوجبه الدين على كل مسلم استخدام الحكمة فى الأمر والنهى، ولا سيما فى المظاهر التى تتعلق بأعمال الجماهير مجتمعة؛ فإنها أحوج ما تكون إلى حسن السياسة ودقة المسلك؛ فعلى الدعاة والمرشدين واجب قدسي؛ هو أن ينشروا هذه الأحكام بين الناس فى ظل التعليم الصحيح والحب الخالص، وتبادل شعور العطف والتعاون فى البحث عن الحقيقة، وبمرور الزمن والدأب على الإرشاد يتعرف الجمهور الحق فيعود إليه، والله الهادي إلى سواء السبيل(8).

 

الحقنة الجلدية.. هل تفطر الصائم؟

الجواب:

الذى يؤخذ من أقوال الفقهاء واستنباطهم أنها لا تفطر، ومعلوم أنها لم تكن فى زمن التشريع الأول؛ فلم يرد نص فيها؛ فلا بأس فى الأخذ بما قال الفقهاء رضوان الله عليهم، والله أعلم(9).

 

صيام ست من شوال

ما حكم صيام ست من شوال؟

الجواب: 

عن أبى أيوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال فذاك صيام الدهر" رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي، ورواه أحمد من حديث جابر، وعن ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من صام رمضان وستة أيام بعد الفطر كان تمام السنة، من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها" رواه ابن ماجه.

وذلك يدل على أن صوم هذه الستة من شوال سنة بنص هذه الأحاديث، وهو مذهب الشافعي وأحمد وأئمة غيرهما، وقال مالك وأبو حنيفة: "يكره صومها"، واستدلا بأن ذلك قد يوهم فرضيتها.

وهل تصام متوالية أو متفرقة؟ قال النووي فى شرح مسلم، نقلا عن أصحاب الشافعي رضى الله عنه : "الأفضل أن تصام متوالية عقيب يوم الفطر؛ فإن فرقها أو أخرها عن أوائل شوال إلى آخره فقد حصلت فضيلة المتابعة؛ لأنه صدق عليه أنه أتبع رمضان بست من شوال".

والحكمة فى أنها تمام السنة أن رمضان ثلاثون يومًا، وهذه ست؛ فهى ست وثلاثون، والحسنة بعشر أمثالها؛ فهى ثلاثمائة وستون حسنة، وهى عدد أيام السنة تقريبًا، والله أعلم(10).

 

فتاوى الجريدة

بسم الله الرحمن الرحيم.. والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

حضرة الفضيلة المرشد العام للإخوان المسلمين، أرجو إفادتنا على صفحات جريدتكم الغراء عن السؤالين الآتيين:

1-     يقولون: إن الروح ترى زائريها، وتعلم شيئًا عن حالة أسرتها، وتنتفع من الصدقات التى توزع على الفقهاء وغيرهم فى المواسم، وتسر من ذلك؛ فهل هذا صحيح؟؟

محمد مصطفى الشال

أحوال الروح بعد مفارقة الجسد:

الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم "وبعد"، فأما إن الروح ترى زائريها وتعلم شيئًا عن أحوال أسرتها فذلك هو المعلوم من كثير من الآثار المروية عن السلف الصالحين -رضوان الله عليهم- مرفوعة وموقوفة:

1-     روى ابن أبى الدنيا فى كتاب "القبور" بسنده عن عائشة -رضى الله عنها- مرفوعًا: "ما من رجل يزور قبر أخيه إلا استأنس به ورد عليه حتى يقوم"، ومعنى مرفوعًا: أن الراوي من الصحابة -رضوان الله عليهم- ينسب هذا الحديث إلى النبى صلى الله عليه وسلم، ومعنى موقوفًا: أن السند انتهى عند الصحابي، ولم يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.

2-     وروى الصابوني فى كتاب "المائتين" بسنده عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من عبد مر بقبر لرجل كان يعرفه فى الدنيا فسلم عليه إلا عرفه، ورد عليه السلام".

3-     وإذا علمنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم شرع لأمته فى السلام على القبور أن يخاطبوا الأموات بصيغة من يفقه ويعقل؛ ففى صحيح مسلم وسنن النسائي وابن ماجه عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون"، علمنا أن فى ذلك إشارة إلى سماع الروح سلام من يسلم عليها.

وأما إنها تعلم أحوال أسرتها، فإن أقوال السلف -رضوان الله عليهم- وتفسيرهم لكثير من الآيات يدل عليه، مثال ذلك ما روى عن ابن عباس -رضى الله عنهما- من تفسيره لقوله تعالى: }اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا [الزمر: 42] قال: "بلغني أن أرواح الأحياء والأموات تلتقي فى المنام، فيتساءلون بينهم، فيمسك الله أرواح الموتى ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها".

وأما إنها تشعر بالصدقات فذلك هو المتبادر من قول النبى  صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له". فإن قيل: إن المقصود بالصدقة الجارية ما كان من عمله وقت حياته لا من عمل غيره بعد وفاته كما هو رأى بعض العلماء؟ قلت: إن دعاء المسلم للميت ينفع قطعًا، وهو ليس من عمل الميت، والصدقة فى الحديث عامة؛ فلا معنى للتخصيص. وأما تقييد الصدقة فى سؤال السائل بأنها على الفقهاء وفى المواسم؛ فهذا تقييد لا محل له، فإن الصدقة نافعة على المستحقين فى كل وقت، فإن كان الفقيه صالحًا مستحقًا للصدقة فهى نافعة، وإن لم يكن صالحًا ولا مستحقًا فهى صدقة وضعت فى غير محلها، فتأخذ هذا الحكم، والله أعلم.

2-     ما كيفية زفاف المرأة المسلمة إلى زوجها المسلم فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم؟ وما صفة زواج السيدة فاطمة -رضى الله عنها- وحفلة زفافها؟ وهل ارتدت حلة من الجنة نزل بها سيدنا جبريل لها كما يزعمون؟ .

محمد مصطفى الشال

كيفية زفاف المرأة المسلمة

الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أما كيفية زفاف المرأة المسلمة إلى زوجها المسلم فى عهد رسول الله  صلى الله عليه وسلم فقد كان على حالة بالغة من السهولة والبساطة، شأنهم فى كل أمور حياتهم من مأكل ومشرب ومسكن وملبس؛ تخطب المرأة ثم يعقد العقد، ويقدر الصداق بحسب مقدرة الزوج؛ نواة من ذهب أو درع أو سورة من كتاب الله أو غير ذلك من الأموال أو العروض، كلٌّ على حسب مقدرته، ثم تأتى المواشط من النساء فيجهزن العروس، ويصلحن من شأنها، وتحمل إلى بيت زوجها. ولقد كان النبى  صلى الله عليه وسلم يستحب فى المدينة أن يكون مع هؤلاء النسوة شىء من اللهو حتى كان يعلمهن الغناء وأن يقلن:

أتيناكم أتيناكم                   فحيونا نحييكم

ولولا الحبة السمراء              لم ننزل بواديكم

إلى آخر هذا الغناء العفيف الجميل، ثم يدخل عليها زوجها، وتنتهى بذلك مهمة الزفاف ببساطة وسهولة وطهر وقصد، لا منكر ولا إثم ولا بغى ولا فحش ولا سكر ولا خمر ولا سرف ولا تبذير.

صفة زواج السيدة فاطمة:

وأما صفة زواج السيدة فاطمة -رضى الله عنها- لسيدنا على -كرم الله وجهه- فقد كان فى السنة الثانية من الهجرة عقيب غزوة بدر، والأظهر من روايات الأحاديث أنه دخل بها بعد العقد بفترة قصيرة فى نهاية السنة الثانية، وبعضها يؤخذ منه أنه عقد عليها ثم انتظر سنة حتى بنى بها؛ فكان البناء فى السنة الثالثة، هذا فيما يتعلق بتاريخ الزواج.

وأما صفته فقد روى الإمام أحمد فى مسنده عن على  رضى الله عنه قال: "أردت أن أَخْطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة -رضى الله عنها– فقلت: ما لى من شىء.. فكيف؟ ثم ذكرت صلته وعائدته فخطبتها إليه، فقال: هل لك من شىء؟ قلت: لا، قال: فأين درعك الحطمية التى أعطيتك يوم كذا وكذا؟ قال: هى عندى. قال: فأعطها لى". وفى رواية للبيهقي أنها كانت لا تزيد على أربعة دراهم فكانت صداقها.

وأما جهازها فقد روى عنه أحمد أيضًا قال: "جهز رسول الله  صلى الله عليه وسلم فاطمة فى حمل وقربة ووسادة أدم حشوها ليف الإذخر". وعنه فى روايات أخرى أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم لما زوج فاطمة بعث معها بخميلة ووسادة من أدم حشوها ليف ورحيين وسقاء وجرتين.

هذا هو جهاز بنت رسول الله  صلى الله عليه وسلم وسيدة النساء البتول وأم الحسنين -رضى الله عنهم أجمعين- فليعتبر المعتبرون، وليتعظ العاقلون.

وأما ما ورد فى السؤال من أنها لبست حلة من الجنة فلم نره فى حديث ما، ولا نعرف له أصلا، وقد ادخر الله لأهل البيت نعيمهم الكامل فى الآخرة، جمعنا الله بهم فى مستقر رحمته. آمين(11).

 

فليسمع واضعوا الظهير البربري

استفتاء من أهالي منطقة شمال المغرب الأقصى

حضرة العالم الجليل الشيخ حسن البنا المحترم..

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد، فنحن معشر المسلمين سكان منطقة شمال المغرب الأقصى قد همنا أمر الزنا العلني الذي تفاحش وتكاثر فى المسلمات، حتى تجاهرن به، واعتمدن فى إظهاره على ما بأيديهن من الرخص الرسمية التى تبيح لهن تعاطيه، ونحن نعلم أن هذا الفعل مناف للأخلاق الشريفة، وهادم للمجتمعات، ومصادم لروح الشريعة الإسلامية الطاهرة ونصوصها القاطعة. فإذا رفعنا استفتاءنا فى هذه النازلة إلى أمثالكم من أعلام الشريعة البارزين فليس ذلك عن جهل منا بحكمها، ولكن لتكون فتواكم حجة على من يحاول تأييد الباطل، ولتحل مكانها فى قلب شعبنا المؤمن؛ فيسعى بكل جهوده لتنفيذها، ولتكون أيضًا اتفاقًا وإجماعًا من علماء الخلف موافقًا لنصوص القرآن والسنة وإجماع السلف؛ فتدلنا دلالة واضحة على أن العوارض والشكليات التى تحيط بهذه الفاحشة الخبيثة لا تكون مسوغة لفعلها بوجه من الوجوه.. فأفتونا مأجورين.

ودمتم مظهرين لأحكام الشريعة عاملين على نشرها بين الناس، والسلام.

لجنة مقاومة البغاء

ورد هذا الاستفتاء على إدارة الجريدة، وقد عرض على فضيلة محرر القسم الديني، فأجاب عنه بهذا الجواب الذي أرسل إلى سعادة رئيس لجنة مقاومة البغاء بتطوان:

بسم الله الرحمن الرحيم..

سيدى صاحب السيادة رئيس لجنة مقاومة البغاء بمنطقة تطوان حفظه الله..

أحمد إليكم الله الذى لا إله إلا هو، وأصلى وأسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وأنصار شريعته إلى يوم الدين، وأحييكم ومن معكم من إخواننا المسلمين، رعاهم الله، وأيدهم بتحية الإسلام؛ فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد، فقد ورد خطابكم الكريم، فكان له فى نفسى ونفس أسرة الإخوان المسلمين أجمل الوقع، وأكبرنا فيكم هذه الحمية الإسلامية والهمة العالية التى حدت بكم إلى تكوين لجنتكم الموقرة لمقاومة هذا المنكر الجسيم الخطر العظيم الضرر مع ما يحيط بكم من ظروف شديدة، ولكن المسلم لا بد أن يقوم بقسطه من الجهاد، والله نسأل لكم التوفيق والتسديد فى مهمتكم السامية وغايتكم النبيلة، فبلغوا -غير مأمورين- هذه العاطفة إلى حضرات إخواننا السادة الأجلاء أعضاء اللجنة والعاملين فيها والمعاضدين لها.

أما حكم الزنا مطلقًا فهو معصية كبرى، وموبقة مهلكة، حرمها الإسلام أشد التحريم، ونهى عنها أوضح نهى، ووضح لها حدًا قاسيًا شديدًا زاجرًا رادعًا، ووردت بذلك آيات الكتاب الكريم وأحاديث الرسول العظيم  صلى الله عليه وسلم، فإذا انضم إلى جريمة الزنا التجاهر بها، والرضا عنها، وتسهيل سبيلها على من يريدونها، وإعطاء الترخيصات بذلك لمرتكبيها؛ فإن الحرم حينئذ يتضاعف، والذنب يتزايد، وينضم إلى الجريمة عدة جرائم، يبوء بإثمها ويتعرض لعقاب الله -تبارك وتعالى- من تسبب فيها، ومن يرضى عنها، ومن سكت وهو قادر على إزالتها، ومن دل عليها، ومن شجعها أو هون أمرها.. كل أولئك شركاء فى عقابها، يأخذ كل منهم بنصيبه من جزائها، ومن أنكر تحريم الزنا فى الإسلام أو اعتقد حله؛ فهو كافر بإجماع المسلمين؛ لأنه أنكر صريح القرآن، وجحد معلومًا من الدين بالضرورة.

أما الآيات التى وردت بهذا التحريم؛ فمنها قوله -تبارك وتعالى-: 

} وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا [الإسراء: 32] ، وقول الله -تبارك وتعالى- فى سورة النور:} الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور: 2].

وأما الأحاديث الزاجرة عن هذه الخصلة الشنيعة المنفرة منها فأكثر من أن تعد؛ منها قول النبى  صلى الله عليه وسلم: "من زنى أو شرب الخمر نزع الله منه الإيمان كما يخلع الإنسان القميص من رأسه" رواه الحاكم فى مستدركه بسنده عن أبى هريرة  رضى الله عنه .

والمأثورات عن السلف الصالح -رضوان الله عليهم- فى ذلك فوق الحصر كذلك، وإنما كان هذا لما يترتب على الزنا من المفاسد الصحية والمالية والاجتماعية، وضياع الأنساب، واختلال نظام الأسرة الذى يتوقف عليه نظام العمران، وأخيرًا فإن الله -تبارك وتعالى- قد نهى أشد النهى عن قربان حدوده وتعدى أحكامه؛ فقال تعالى: }تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوهَا [البقرة: 187]، وقال: }وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [البقرة: 229].

نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يوفقنا إلى خدمة دينه، ومناصرة شريعته، والتزام حدوده، وصلى الله على سيدنا محمد النبى الأمى، وعلى آله وصحبه وسلم(12).

 

حكم قضاء الصلوات الفائتة

السؤال:

سألني سائل عن حكم قضاء الفوائت للصلاة، فأجبته بما أعلمه من أحكام المذهب، فاحتج بالآية وهي قوله تعالى: }إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا [النساء: 103]، واحتج بأن لله أعمالا بالنهار لا يقبلها بالليل، وأعمالا بالليل لا يقبلها بالنهار.. فما رأيكم فى ذلك؟ أفتونا ولكم من الله الأجر والثواب.

محمد رافعي – إمام مسجد العدوية ببولاق

والجواب على هذا والله أعلم:

الصلوات المتروكة إما أن يكون تركها لعذر أو عمدًا بغير عذر؛ فإن كان تركها لعذر قاهر كالنسيان أو النوم أو الاشتغال بحرب الكفار مع عدم التمكن من أداء صلاة الخوف.. إن كان ذلك كذلك فقد أجمعت الأمة على وجوب القضاء بعد الذكر أو اليقظة أو زوال الشاغل، واستدلوا على ذلك بقوله  صلى الله عليه وسلم: "إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها؛ فإن الله عز وجل يقول }أَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِى [طه: 14]" رواه مسلم.

وأما إن كان قد تركها عامدًا فقد ذهب الشافعي وطاووس والحسن البصري ومحمد بن الحسن وأبو ثور وأبو حنيفة ومالك وزفر وأحمد إلى وجوب القضاء، على اختلاف فى وجوبه في الفور أو التراخي، ومع الترتيب أو بغير ترتيب، فى تفصيل مطول، واستدلوا لذلك بأدلة أوضحها عموم الحديث الشريف "اقضوا الله؛ فالله أحق بالوفاء" رواه البخاري، واستدلوا كذلك بعموم الأدلة القاضية بالقضاء على من أفطر فى رمضان، وقد تشيع الإمام النووي لهذا المذهب، وناضل عنه، واستدل له، ورد على القائلين بخلافه فى المجموع، وفى شرح مسلم، وأسهب فى ذلك.

وذهب داود وابن حزم -وذكر ابن حزم فى المحلى أن ذلك رأى جماعة من الصحابة والتابعين عددهم- إلى سقوط القضاء عن التارك، وأنه إثم عظيم يكفر بالتوبة والاستغفار والتطوع، ووافقهم ابن تيمية، وتابعه الشوكاني فى "نيل الأوطار"، واستدلوا لذلك بعدم ورود الأدلة بالأمر بقضاء الصلاة، وبأن القياس على الناسي والنائم، وعلى قضاء الصوم قياس مع الفارق، وأطال ابن حزم فى المحلى فى توضيح رأيه، والاستدلال عليه إطالة فيها نظر.

والذى ترتاح إليه النفس ما ذهب إليه الجمهور من وجوب القضاء مع التسليم بأن الترك معصية لحق الوقت تكفر بالتوبة النصوح والاستغفار والتطوع ونحوها من أعمال البر.

وليس فيما جاء فى سؤال حضرة السائل من الآية والحديث فى اعتراض المعترض دليل؛ فالآية تدل على توقيت الصلاة بوقتها، ولم ينكر ذلك أحد، والحديث الذى أورده لم ينص فيه على أن الصلاة من هذه الأعمال من جهة، ومن جهة أخرى فإن الوجوب والصحة غير القبول والثواب، والله أعلم(13).

 

فائدة صندوق التوفير

حضرة صاحب الفضيلة المرشد العام..

أفتى الإمام محمد عبده بجواز إيداع مبالغ بصندوق التوفير بالفائدة المقررة لذلك، على أساس أن المبالغ تستثمر بشراء مواد وبيعها، والفائدة التى تعطى للجمهور هى جزء من الأرباح الناتجة من هذه المعاملة التجارية؛ ولذلك تقرر المجالس الحسبية إيداع مبلغ القاصر بصندوق التوفير للاستثمار.

ولما كانت الحالة الآن قد تطورت عن الوقت الذى صدرت فيه هذه الفتوى؛ فهل لا زال أثرها قائمًا حتى الأمد ويصح أخذ هذه الفائدة أم حرام؟ وإن كانت حرامًا فلماذا المجالس الحسبية تقرر هذا مع أن من أعضائها قاضيًا شرعيًّا؟

وإذا جاز الإيداع.. فهل يجوز فى البنوك أيضًا؛ لأن الشأن واحد والغرض هو أخذ فائدة الاستثمار؟ وما سبب الجواز أو الحرمان؟     

وتفضلوا بقبول عظيم احترامنا.

عبد الحليم محمد نوفل

باشكاتب محكمة أبى تيج الأهلية

بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الذى نعلمه أن الفائدة التى تؤخذ عن الأموال المودعة فى صندوق التوفير من الربا الحرام الذى لا يحل أخذه، والاحتجاج بأنها نتيجة أعمال تجارية أو نحو ذلك منقوض بأن ذلك إنما يكون صحيحًا لو أن صاحب المال ساهم فى الربح وفى الخسارة. أما والحال غير ذلك فلا وجه للقياس ولا للحل تبعًا لذلك، ويكون التحريم؛ لأن هذه الفائدة إنما تؤخذ فى نظر حبس المال فترة معينة باتفاق معين وهو الربا بعينه. وأما الفتوى التى تنسب للأستاذ محمد عبده فى هذا المعنى فلا تستطيع أن تكون حجة حتى نعلم نص السؤال الذى وجه إليه فى ذلك؛ فقد تكون صياغة السؤال على وجه يجعل من يفتى يجد مجالا للحل، ثم تكون الحقيقة لا تنطبق على هذا السؤال، وتكون نتيجة ذلك أن الفتوى صحيحة بحسب سؤالها، ولكن تطبيقها باطل، وتلك سبيل من المغالطة يلجأ إليها كثير من الشركات لتحليل المعاملات التى يرون فيها حرمة أو شبهة، على أنه لو كان رأى الأستاذ -رحمه الله- فى هذا الحل فنحن نخالفه فيه، ونرى أن الدليل فوق كل رأى.

وأخذ المجالس الحسبية بذلك ليس حجة أيضًا؛ فكم من عمل يقع فى دوائر الحكومة لا يتفق مع الشرع ولا يسلم به الدين، وحبذا لو عدلت المجالس الحسبية عن ذلك تطهيرًا لأموال القاصرين، ومحافظة على نواميس الشريعة، والله ولى التوفيق(14).

 

بين عالمي الملك والملكوت

السؤال: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد.

فقد اطلعنا فى كتاب "غيث النفع فى القراءات السبع" لسيد على النوري الصفاقسي بهامش شرح العلامة ابن القاصح على الشاطبية المسمى "سراج القارئ المبتدئ وتذكار المقرئ المنتهى" على موضوع نحب أن نستبين الحق فيه: "قال سيدي على النوري: وقع لسيدي على المرصفى رضى الله عنه أنه مكث أيام سلوكه يقرأ فى كل درجة ألف ختمة؛ ففى اليوم والليلة ثلاثمائة ألف ختمة وستين ألف ختمة، قال تلميذه الشعراني: يقرؤه بالحرف والصوت؟ قال: نعم، مد الله لى الزمان إكرامًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأني من أتباعه".

هذا ما اطلعنا عليه فى كتاب غيث النافع، وقد وقع الناس منه فى اختلاف شديد أدى إلى النزاع بين متشيع ومنكر؛ فرجاؤنا إلى فضيلتكم إجابتنا عن هذا الأمر من جميع نواحيه إجابة وافية على صحيفة الإخوان المسلمين الميمونة؛ ليأنس الناس بالحق، ويذهب عنهم النزغ، والله لكم شكور.

منصور معتوق

عضو مجلس الشورى المركزي

للإخوان المسلمين بكفر الدوار

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، حمدا لله، والصلاة والسلام على نبيه وآله وصحبه، ومن تمسك بسنته إلى يوم الدين.

فاعلم أيها الأخ -أمدك الله بروح منه، وأذاقك حلاوة معرفته، وأنار بصيرتك بنور هدايته- أن الكلام على سؤالك هذا يستدعى أن أتكلم لك فى عدة نقاط، أرجو أن نتفق فيها أولا، وسترى بعد ذلك الجواب إن شاء الله، وإنما أقول ما علمت، وفوق كل ذى علم عليم؛ فما كان من حسنة فمن الله، وما كان من خطأ فالله نسأل ألا يحرمنا من يبصرنا بأخطائنا، ومن يأخذ بيدنا إلى جادة الصواب، والله حسبنا ونعم الوكيل، فأحب أن أقول لك:

أولا: ذكر هذه العبارة الأستاذ الشعراني فى كتابه "الميزان" عند كلامه على ما درس من الكتب بإيجاز واختصار، وليس فيها ذكر الحرف والصوت، وإليك ما ذكره هناك "وقد أخبرني سيدي على المرصفى -رحمه الله تعالى- أنه قرأ فى يوم وليلة ثلاثمائة ألف ختمة وستين ألف ختمة، هذا كلامه لى رضى الله عنه " أ.هـ.

وذكره فى الطبقات فى ترجمته لسيدي على المرصفى، فقال: "وذكر لى سيدي أبو العباس -رحمه الله- أنه قرأ بين المغرب والعشاء خمس ختمات، فقال الشيخ الفقير: وقع له أنه قرأ فى يوم وليلة ثلاثمائة وستين ألف ختمة فى كل درجة ألف ختمة" أ.هـ.

ونقل عنه ذلك الشيخ النبهاني فى كتابه "جامع كرامات الأولياء"، وعلق عليه بكلام النابلسي فى شرح الطريقة المحمدية؛ إذ يقول: "ولا يستبعد هذا على أولياء الله تعالى الذين غلبت روحانيتهم على جسمانيتهم، والروح من أمر الله، وأمر الله كلمح البصر كما أخبر تعالى، وعرض كلمات القرآن كلها مع معانيها فى لسان الولي كلمح البصر ما هو ببعيد، والله على كل شىء قدير" أ.هـ.

تلك يا أخي قصة "الواقعة" فيما وقع لى من كتب القوم، وقد رأيت أن راويها الأول وهو الشعراني لم يصرح فى كتاب من كتبه هو بالحرف والصوت، ومهما يكن فسترى أن هذا الخلاف فى الرواية لا يقف بنا عن علاج الأمر فى مدى فسيح، وإنما أردنا أن نلم بأطراف الموضوع.

وثانيًا: سيدي على المرصفى ترجم له الشعراني فى الطبقات ترجمة واسعة، وذكر أنه كان من الأئمة الراسخين فى العلم، وله مؤلفات فى الطريق منها: مختصر لرسالة القشيري، ثم ذكر الشعراني فى ختام ترجمته: "أنه كان من شأنه إذا كان يتكلم فى دقائق الطريق، وحضر أحد من القضاة ينقل الكلام إلى مسائل الفقه إلى أن يقوم من كان حاضره، ويقول: ذِكْر الكلام بين غير أهله عورة".

وإنما ذكرت لك هذه العبارة بذاتها لما ستراه من أنها مفتاح الجواب، وقد توفى  رضى الله عنه  سنة 930 هجرية ونيف، ودفن بزاوية بقنطرة الأمير حسين بالقاهرة.

وثالثًا: ذكر الشعراني فى كثير من كتبه أن الناس دسوا عليه كثيرًا، وشوهوا أقواله، ومسخوا مروياته، وأنه لاقى من الحساد فى هذا السبيل العنت، وهو لذلك يبرأ من كل ما يخالف الكتاب والسنة، ومن كل ما ينسب إليه فى كتبه، وندب القارئين إلى أن يزنوا أقواله بميزان البحث الصحيح والتطبيق على كتاب الله وسنة رسوله، وشدد فى ذلك، وترك تبعة المخالفة على صاحبها.

ونرى من ذلك مقالا واضحًا فى أول كتابه "اليواقيت والجواهر" وفى "الميزان" نفسه، ولقد أخذ الطريق على المتحللين الذين يخالفون الدين ويخرجون على أحكامه بحجج الكشف والإلهام ونحوهما، وأيد القاعدة الصوفية المعروفة عند القوم "كشف الولي إذا استند إلى غير الكتاب والسنة لا يعمل به ولا يعول عليه"؛ بل ألف فى ذلك رسالة أسماها "حد الحسام فى عنق من قال بجواز العمل بالإلهام"، ولم أرها، وإنما ذكرها الآلوسى فى كلامه على قصة الخضر.

فأحب أن يلاحظ إخواننا الأحباء ذلك، وأن يكون رائدهم فى بحوثهم مقياس كل شىء بالكتاب والسنة من غير نظر إلى شهرة قائله والثقة براويه؛ فكم أفسد الدس علمًا نافعًا، وضيع خيرًا كثيرًا، والأمر لله.

رابعًا: هناك واجب مؤكد يجب أن يلاحظه كل من يتعرض لفهم كلام الصوفية -رضوان الله عليهم- وقراءة كتبهم والأخذ عنهم، وكلما كان الكلام فى دقائق الطريق كان هذا الواجب أشد توكيدًا؛ ذلك أن يعلم الأخ أن بحوث الصوفية تتناول جهتين أو عالمين أو محيطين أو ميدانين من ميادين البحث، هما: 

عالم الملك، وهو هذا الذى تراه وأراه ويرونه معنا.

وعالم آخر هو عالم الملكوت، والنظر فيه من خصائص الأرواح القوية والبصائر المستنيرة، وهم فى أكثر ما يتكلمون عن هذا العالم، وبخاصة إذا عرضوا لأذواقهم ومواجيدهم وفتوحهم، وقلما يتكلمون عن عالم الملك إلا إذا بدأوا فى طريق السلوك والرياضة وتناولوه.

وهناك عندهم عالم ثالث إذا تكلموا فيه جاءوا بالغريب المدهش، وهو عالم السر؛ بل إنهم حظروا الكلام فيه، وأكدوا أنه لا يمكن ذلك إلا عن طريق الإشارة. أما العبارة فهى أقصر من أن تتناوله، وهو هذا الذى يشيرون إليه بعالم الجبروت.

وإذن فبحوث التصوف تتناول ثلاث نواح: عالم الملك، وعالم الملكوت، وعالم الجبروت. وإن شئت قلت: عالم الشهادة، وعالم الغيب، وعالم السر. وإن شئت قلت: عالم الخيال، وعالم المثال، وعالم الحقيقة.. كل ذلك بمعنى واحد، وكل التصوف يدور على الكلام فى هذه النواحي، ومنها ما لا نهاية للكلام فيه.

إذا عرفت هذا فاعلم أنهم حين يتكلمون على عالم الملك -أعنى على هذه الشئون العامة- لا يخالفون غيرهم، ولا يأتون بغريب أبدًا، وبحوثهم هنا كلها مقيدة بالأحوال العادية والنصوص الفقهية، لا يخرجون عنها قيد شعرة، وذلك الكلام مباح عندهم فى كل مجلس ومجمع، ولكل طبقة من الناس.

وأما إذا تكلموا فى العالم الثاني؛ فاعلم -يا أخي- أنهم يتحدثون عن شأن خاص بهم، وهو لا يوزن بميزان العادات، ولا يقاس بقياس المألوفات، هم يعبرون فى هذه الحال عن حالات روحية بحتة كما يعبر عن ذلك المنوم تنويمًا مغناطيسيًا مثلا، ولهذا لا يفهم تعبيرهم، ولا يسلم به إلا من كان منهم، ومن تخطى هذه المراحل كما تخطوها من قبل. وهم فى هذه الحال لا يقررون أحكامًا شرعية أبدًا، ولا تؤخذ عنهم كأحكام، إنما يذكرون وقائع وأذواقًا وكشوفًا وما إلى ذلك؛ فإذا جاء التصريح بهذه الكشوف والأحوال وفق الشريعة مُدح قائله، وأُخذ ذلك عنه، واعتبر تأييدًا لما تقرر بأصل التشريع. وإذا جاء مصادمًا، كان على من صرح به أن يكف عنه، ويؤدَّب على ذلك، وتجرى عليه أحكام الظاهر، ويثاب من يجريها عليه، وإن كان هو عند الله غير آثم؛ لأن الله يعامله بباطن حاله، ونحن نعامله بظاهر هذه الحال، وإذا جاء فى شئون عادية لا تمس الدين فهو أمر عادى كذلك.

وأما العالم الثالث؛ فلا يتكلمون فيه أبدًا، وقد حظروا الكتابة عنه، ومن كتب عنه أو حاول ذلك جاء بما كان السكوت عنه أفضل من الكلام فيه له ولغيره، ومن عباراتهم المأثورة فى هذا "علمنا هذا إشارة، فإذا صار عبارة خفى"، وإلى هذا أشار ابن البنا السرقطسى فى منظومته "المباحث الأصلية"؛ إذ يقول:

ووضعه فى الكتب لا يجوز              بل هو كنز فى النُّهَى مكنوز

إياك أن تطمع أن تحوزه         من دفتر أو شعر وأرجوزه

لهذا كان الشيوخ يتحرون مواقع الكلام؛ ففى دروسهم العامة يتكلمون على التربية والسلوك، وفى دروسهم الخاصة يتناولون الأذواق والمواجيد، وفى خلواتهم بربهم ينعمون بما يفيضه من حضرة القدس على قلوبهم، وأظنك رأيت لوامع ذلك فى قول الشعراني عن الشيخ على نور الدين المرصفى صاحب القصة أنه كان من شأنه إذا كان يتكلم فى دقائق الطريق، وحضر أحد القضاة ينقل الكلام إلى الفقه ونحوه، ويقول: الكلام بين غير أهله عورة، وكذلك رووا مثل هذا عن الجنيد، قدس الله روحه.

قد ألم سيدي زروق بطرف من هذا فى كتابه "قواعد التصوف"، فقال ما خلاصته: دائرة الصوفي أوسع من دائرة الفقيه؛ ولهذا صح إنكار الفقيه على الصوفي لأنه لا يعلم ما عنده، ولم يصح إنكار الصوفي على الفقيه لأنه يعلم أنه يتكلم فى حدود علمه، وقد يمكنك أن تمثل ذلك بهذا الرسم.

ومن تلك القاعدة الجلية تعلم أمرين هامين: أن الصوفي الحقيقي لا بد أن يكون راسخًا فى الفقه، وإلا كان مقصرًا متخطيًا لأول واجباته. وأن الصوفي مقيد بالفقه، ومن واجبه التسليم للفقهاء، والتماس العذر لهم والنزول على أحكامهم الظاهرة.

وإنما بسطت لك الكلام فى هذه الناحية؛ لأنها قاعدة أساسية فى فهم كلام الصوفية -رضى الله عنهم- نطبق عليها حادثة السؤال، وكل ما عداها من الحوادث والوقائع.

خامسًا: خلاصة الجواب: 

إذا تقرر هذا فاعلم يا أخي أن لك فى الجواب على هذه الواقعة مسلكين:

أولهما: أن تقول: إن ذلك مدسوس على الشعراني، وتناقله الناس عنه على أنه من قوله، وأنت إذا قلت ذلك فأنت معذور؛ لأنها ليست أول المدسوسات، وقد صرح هو نفسه بأنهم دسوا عليه كتبًا كاملة، وزوروا خطه وما إلى ذلك، وإن كان يُضعف هذا القول إنه ذكر هذه الواقعة فى عدة كتب من مهمات كتبه؛ فمن البعيد أن تكون مدسوسة، وإنما أوردت لك هذا الوجه؛ لأن كثيرًا من أهل العلم استراح إليه، ورآه أخصر جواب فى الرد على من لا تستطيع عقولهم أن تهضم نظرات الصوفية -رضوان الله عليهم- وخصائص طريقهم.

والمسلك الثاني: وهو الذى ترتاح إليه النفس؛ أن ذلك وقع لسيدي على المرصفى  رضى الله عنه  فى حالة من حالات عالم الملكوت التى لا يصح أن نقيسها بحالات عالم الملك كما فصلت لك آنفًا، وأن الروح حينئذ تأتى بالأعاجيب التى لا تستطيع الإتيان بها فى حالتها العادية فى عالم الملك، ولا يمنع أن يكون ذلك بصوت وحرف، فإن الروح فى تلك الحالة تستخدم الجوارح استخدامًا عجيبًا يستحيل أن يقع فى عالم الشهادة، وقد ذكروا أن بعض من نُوِّموا تنويمًا مغناطيسيًا استطاع أن يحمل من الأثقال بذراع واحدة أضعاف أضعاف ما كان يعجز عن حمله قبل النوم المغناطيسي، هذا مع أن النوم المغناطيسي تأثير خارجي من روح على روح أخرى، فكيف إذا كان التأثير ذاتيًا أتى من تجرد الروح وارتياضها بعالمها الأصلي؟ وإلى هذا أشار النابلسي فى جوابه الذي قدمناه لك أول البحث، وأظنك لاحظت أن ذلك لم يكن عادة للشيخ المرصفى رضى الله عنه ؛ إذ عبر عنه بقوله: الفقير وقع له أنه قرأ كذا، وهو نص فى أنها واقعة غير عادية وقعت للشيخ فى حالة غير عادية؛ فكيف يصح أن نجري عليها أحكام هذا العالم المادي الصرف؟ ذلك ما تستطيع أن تحمل عليه هذه الواقعة وما شابهها من وقائع القوم الغريبة ومروياتهم فى كتبهم، رضى الله عنهم.

ومن هذا تعلم أن من أنكرها وجهة نظره أنه حملها على عالم الشهادة، فأداه ذلك إلى الإنكار وهى وجهة؛ فهو معذور. ومن أقر بها حملها على عالم الملكوت، فأداه ذلك إلى الجواز وهي وجهة، وليس كل الناس يستطيعون إدراك ذلك، ولسنا مكلفين أن نحملهم على هذا الإدراك حملا، ولعل من الناس صنفًا ترقى عن هذا وذاك فعاينها حقيقة؛ فهو يبتسم من المنكِر ولا يغضب منه ولا يعترضه بل يعذره، ويبتسم لمن يؤول ويثنى عليه ويشكره، وهو فى كل ذلك واقف على سر الحقيقة، متنعم بآثار الفيض، لسان حاله يقول: "يا ليت قومي يعلمون بما غفر لى ربى وجعلني من المكرمين"، ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات.

بقى بعد هذا أن ألفتك إلى أمر هام؛ ذلك هو أنه ليس معنى هذه الواقعة: أن الإسراع فى قراءة القرآن منقبة من المناقب أو مزية من المزايا؛ فقد علمت أنها شأن لا يقاس عليه، وليست حكمًا شرعيًّا يؤخذ به.

وإنما السنة فى تلاوة القرآن أن يختم فى سبع ليال أو عشر ليال أو نحو ذلك؛ فإن زاد فى الختمة عن شهر وأبطأ بها أكثر منه كره ذلك، وإن نقص عن ثلاث وختم قبلها كره ذلك أيضًا، وذلك ما جاءت به الأحاديث الصحيحة، وما كان من سنة الأصحاب -رضوان الله عليهم- وهم أعرف الأمة بدين الله، وأقومهم بحقوق عبادته.

وقد أمر النبى صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو رضى الله عنه فى الحديث المشهور أن يختم كل أسبوع، والحديث متفق عليه، وروى أصحاب السنن وصححه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو نفسه: من قرأ القرآن فى أقل من ثلاث لم يفقهه، وممن كان يختم كل جمعة من الصحابة عثمان وزيد بن ثابت وابن مسعود وأبى بن كعب؛ فمن أولى من هؤلاء بالاتباع.

كان عثمان يفتتح ليلة الجمعة بالبقرة إلى المائدة، وليلة السبت بالأنعام إلى هود، وليلة الأحد بيوسف إلى مريم، وليلة الإثنين بـ طه إلى طسم موسى (القصص)، وليلة الثلاثاء بالعنكبوت إلى ص، وليلة الأربعاء بـ تنزيل إلى الرحمن، ويختم ليلة الخميس، وروى عن غيره قريبًا منه، أولئك الذين هداهم الله فبهداهم اقتده.

هذا أمر، والأمر الثاني: أننى أرجو إخواننا جميعًا من أهل الإسلام أن يطرحوا هذا الجدل والخلاف جانبًا، ولا سيما فى مثل هذه الشئون التى ليست من أحكام النصوص، وأرجوهم كذلك أن يطرحوا التعصب للآراء جانبًا؛ فإن مجال النظر أوسع من أن يكون وقفًا على فرد أو أفراد، ودين الله -تبارك وتعالى- أيسر من كل هذا.

لنفرض أن قومًا لم يصدقوا هذه الرواية مثلا.. فهل كذبوا بآية أو أنكروا حديثًا صحيحًا أو أهملوا بتركهم للأخذ بهذه الواقعة فريضة أو سنة أو مندوبًا؟

ولنفرض أن قومًا صدقوا بها واعتقدوها.. فهل زادوا فى أحكام دين الله حكمًا أو غيروا بهذا التصديق نصًا؟

كل الأمر لم يعد اطمئنانًا قلبيًا ووجهة نظر من كل من الفريقين؛ فما معنى الخلاف فى شىء هو من خصوصيات القلوب واختلاف الأنظار؟ وإذا كانت النصوص يقع فيها اختلاف الفهم وسعة التأويل والتفسير، وتتفاوت فيها العقول فى استنباط الأحكام وتطبيق الحوادث؛ فكيف بما لم يرد فيه نص أصلا؟

يا إخواني، شدوا أيديكم على الرابطة الإسلامية، والأخوة الإيمانية، والحب فى الله، وتوكيد التآلف بينكم حتى تكونوا قوة فى أنفسكم، وحربًا على عدوكم، ودعوا الجدل والمراء والتعصب والخلاف؛ فما فتح باب الجدل على قوم إلا ضلوا، وما تمسك قوم بالحب والإخاء إلا سادوا.

تلك وصية أخ لا يبغى إلا وجه الله والخير لكم، والله أسأل لنا جميعًا التسديد والهداية، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم(15).

 

خواطر فى ترجمة معاني القرآن الكريم

أما رأينا فهو أننا لسنا من أنصار المشروع، ونعتقد أن البعد عنه خير من الشروع فيه بأية صورة من صوره، وأن الجهود التى يستنفذها لو أنفقت فى غيره من وسائل النهوض بالمسلمين أو الدعوة للإسلام لكان ذلك خيرًا.

ذلك ما نؤمن به حتى بعد أن قرأنا ما كتب به الكاتبون، وما أفتى به حضرات أصحاب الفضيلة العلماء الأجلاء، وبعد قرار مجلس الوزراء.

ومجمل خواطرنا فى هذه الناحية يمكن أن يحضر فى النقط الآتية:

1-     كل ما يتعلق بالقرآن الكريم يهتم له المسلمون كل الاهتمام فيجب التريث فى إنفاذه.

2-     لا نتهم أنصار المشروع بسوء القصد، ولا نختلف معهم فى ناحية الإخلاص وحسن النية، ولكنا نختلف فى تقدير النتائج.

3-     النص المقصود بالترجمة ما دام على ترتيب السور والآيات فسيعتبره غير العربي قرآنًا مهما قيل فى ذلك، ويؤكد هذا المعنى فى نفسه كتابة النص العربي للقرآن الكريم إلى جانب الترجمة الفرنجية.

4-     الأدلة الفقهية والنصوص فى هذا المعنى يتطرق إليها الاحتمال جميعًا.

5-     يمكن الحصول على الفائدة المرجوة من وراء الترجمة بغيرها من وسائل الدعوة.

6-     الأضرار الخطيرة التى تنجم عن الترجمة تربو على الفوائد المنتظرة منها.

7-     أفضل وسائل الدعاية وخطتنا.

وسنتناول هذه النقط بشىء من التفصيل..

وجوب التريث فيما يتصل بالقرآن:

القرآن الكريم العربي هو أصل الدين الإسلامي والمعجزة الباقية الخالدة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وكل عمل يتصل به يهتم له المسلمون فى كل أنحاء الأرض ويرونه عملا يمس أقدس عقائدهم ويتصل بأعمق وجداناتهم ومشاعرهم.

رأى عمر  رضى الله عنه  حاجة المسلمين إلى كتابة القرآن الكريم بعد رسول الله  صلى الله عليه وسلم وتمام الوحى، وقد استحر القتل فى القراء، واستشهد كثير من الحفظة فى الوقائع والفتوح، وعرض ذلك على الخليفة الأول أبى بكر رضى الله عنه ؛ فتوقف فى الأمر، وهاله أن يأتى بأمر يتصل بالقرآن لم يفعله رسول الله  صلى الله عليه وسلم؛ حتى إذا اتضح له وجه الرأي، واعتقد أن ذلك من حفظ القرآن والعناية به أقدم عليه وانتدب زيد بن ثابت لذلك، فتوقف هو الآخر، وهاب الإقدام على هذه الناحية حتى شرح الله صدره، وعلم أنه الحق ففعل.

وحافظ أئمة المسلمين منذ الصدر الأول على المأثور فى القرآن حتى فى رسمه، وأبوا تغيير هذا الرسم بما يتفق مع القواعد المستحدثة؛ فأفتى مالك بألا يكتب المصحف على ما أحدث الناس من قواعد الهجاء، وقال: "لا إلا على الكتبة الأولى"، وقال الإمام أحمد رضى الله عنه : "يحرم مخالفة خط مصحف عثمان فى واو أو ياء أو ألف أو غير ذلك".

كل ذلك إنما كان تهيبًا للقرآن وسدًّا للذرائع وتقديرًا للتبعة الملقاة على عاتق العلماء فى المحافظة على كتاب الله -تبارك وتعالى-، وكل الذي نريد أن نلفت إليه الأنظار بهذه المقدمة وجوب التريث والتثبت، وتقليب الأمر على وجوهه، والاستعانة بأولى الرأي من المسلمين كافة فى الشئون التى تتعلق بكتاب الله، ومنها ما نحن فيه.

لا يجوز اتهام المؤيدين بسوء النية:

لا نتهم أنصار المشروع بسوء النية ولا بضعف الإخلاص، ولا يستطيع إنسان أن يأتى ببرهان أو شبه برهان على مثل هذا الاتهام، ونحن مطالبون بحسن الظن وحمل الأمور على أفضل محاملها ما لم يتبين عكس ذلك. وليس الخلاف بيننا وبين حضراتهم فى هذه الناحية؛ بل إننا إنما نكتب على هذا الأساس؛ فالدين يدعو إلى التقدير والاحترام، وإنما الخلاف بيننا فى النتائج التى تترتب على هذا العمل الخطير.

غير العربي يعتقد أن الترجمة قرآن:

يقول حضرات أنصار المشروع: إننا لا نترجم القرآن ترجمة لفظية؛ بل إن ذلك مستحيل لاختلاف الأساليب والمصطلحات، ولكنا نترجم معانيه فقط، ومعنى هذا أن المترجم إنما هو تفسير القرآن لا القرآن، ويريدون أن يضعوا النص القرآني العربي فى ناحية، والنص الفرنجي فى ناحية؛ على اعتبار أن هذا النص الفرنجي يقابل معاني هذا القسم العربي.

ونحن نقول: مهما حاول حضراتهم أن يُبعدوا الصلة بين هذا المترجم الفرنجي وبين النص العربي فهو سيعتبر عند غير العربي قرآنًا سيتلقاه على أنه قرآن، وسيفهمه على أنه قرآن، وسيتلقى منه تعاليم القرآن ومقاصد القرآن، وسيؤكد هذا المعنى فى نفسه أمران: أولهما: أنه على نسق القرآن وترتيب سوره وآياته. وثانيهما: وضع النص العربي فى مقابلته.

وإذا جاز أن يقتنع العربي المعاصر بأن هذا المترجم غير القرآن لأنه لا يعرف القرآن إلا عربيًا، ويعتقد أن قدسية القرآن فى عربيته مع قرب عهده بزمن الترجمة؛ فهل يستطيع أنصار المشروع أن يقولوا: إن غير العربي سيعتقد هذه العقيدة، وإن الأجيال القادمة ستدرك هذا البعد كما يدركه المعاصرون، وهم يرون النصين المتجاورين، ويرون التصديق من شيخ العلماء فى مصر زعيمة العالم الإسلامي؟ اللهم لا.. ومن هنا يظهر الفرق فى الخطورة بين ترجمة معاني القرآن الكامل على ترتيبه العربي وبين ترجمة معاني بعض آياته أو موضوعاته على غير نسقه.

الأدلة والنصوص يتطرق إليها الاحتمال:

يتمسك القائلون بالترجمة بنصوص إن صحت كلها -وفيها غير الصحيح- فليست نصًا فى الموضوع الذى نحن فيه.

فتجويز أبى حنيفة رضى الله عنه  الصلاة بالفاتحة بالفارسية شىء، وتقديم معانى القرآن بالفرنجية على نسقه العربي إلى غير العرب شىء آخر، وادعاء أن سلمان ترجم الفاتحة للفرس حتى على فرض ثبوته -وهو غير ثابت- لا يدل إلا على جواز ترجمة الفاتحة بذاتها للمسلمين الذين لا يتكلمون العربية لاضطرارهم إليها فى الصلاة مؤقتًا حتى يتعلموا، وادعاء أن الرسول  صلى الله عليه وسلم أرسل بكتبه وفيها الآية الكريمة: }قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران: 64] مع رسل يعرفون لغة المرسل إليهم وأنه  صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يترجموا لهم هذه الكتب فيه زيادة عن المعروف؛ إذ إن الرواية تعطى مجرد الإرسال ولم تتعرض لشخص حامل الكتاب، بل إن من الروايات ما يعطى أن الذى كان يقوم بالترجمة تراجمة هؤلاء الملوك أنفسهم، وعلى فرض وجود ذلك؛ فهو لم يخرج عن الصورة السابقة من ترجمة بعض الآيات، ولا يقال: إذا جازت الترجمة لمعنى آية فإنها تجوز لغيرها ضرورة أن ما ثبت لأحد المثلين يثبت للآخر؛ لأن الخطر إنما يخشى من تقديم الصورة الكاملة لكتاب الله على نظمه ونسقه.

وإذن فكل هذه النصوص لا تتصل بموضوعنا ولا تنطبق عليه.

ويتمسك المحرمون للترجمة بأمثال قوله تعالى: }قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِى عِوَجٍ [الزمر: 28] وقوله تعالى: }إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف: 2] ونحوها، ولقائل أن يقول: إن المترجم ليس قرآنًا فى حقيقته؛ فهو لا يصطدم بهذه الآيات، ويتمسكون كذلك بأن رسول الله  صلى الله عليه وسلم أرسل كتبه إلى الملوك بالعربية، ولو جازت الترجمة لفعلها  صلى الله عليه وسلم، وقد يقال: إنه  صلى الله عليه وسلم قد يكون ترك ذلك لمعنى غير التحريم كما ترك أكل الضب لمعنى غير التحريم، ويتمسكون كذلك بالمعروف عن الأئمة -رضوان الله عليهم- وفيهم مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وهى مع احترامها وجلالتها لم تخرج عن أنها الاجتهاد والرأي، ودعوى الإجماع متعذرة.

وإذا كان ذلك كذلك؛ فاعتماد أحد الطرفين على النصوص وحدها فيه مجال للنظر، وإنما ترجح كفة أحدهما بالنتائج.

فى مجالات الدعوة مندوحة عن الترجمة:

قال المناصرون للفكرة: إن العالم الآن فى حاجة إلى تعرف الإسلام، والسكوت عن الدعوة تقصير، ولا يمكن القيام بها إلا بترجمة معاني القرآن، وقالوا: هناك ترجمات كثيرة تشتمل على أخطاء يجب لتصحيحها أن يكون هناك ترجمة أصلية، وقالوا: لا بد من انتهاج خطة جديدة فى الدعوة؛ لأن الخطة السالفة تكاد تكون حلمًا من الأحلام، فإذا كان أسلافنا قد استطاعوا فى الماضي أن يحملوا الأمم على أن تتعرب فنحن لا نستطيع ذلك، وإذن فلا بد من نقل معاني القرآن إلى ألسنة الناس.

ذلك مجمل ما يدلون به من أسباب لمناصرة المشروع والدعوة إليه، ونقول لهم: أما عن تعميم الدعوة ووجوبها فنعم، وأما أنها لا تكون إلا بترجمة القرآن فلا نوافقكم عليه؛ بل قد يكون غير هذه الوسيلة أجدى منها، وإن القرآن ليسمو بترتيبه الرباني عن أمزجة العصور وأهواء الأمم، فلو وضع لهذه الأمم كتاب عصري مرتب على حسب أذواقهم فى التأليف والتبويب والتنسيق يبين مقاصد القرآن ومحاسن الإسلام مدعمة بآيات كريمة، وترجم هذا الكتاب إلى اللغات، وانتشر فى الأمم لكان أجدى وأدعى إلى إدراك هذه القلوب الجديدة لمحاسن الإسلام ومواطن الجمال فيه، وأبعد من أن يتناول كتاب الله بالنقد والتجريح من قوم لم يدركوا أسراره. وأما عن الترجمات الخاطئة فلا بأس من التنبيه عليها سواء كان ذلك بإصدار بيان مستقل أو بتذييل رسائل الدعوة بالرد على هذه الأخطاء كما يرد على غيرها، وبذلك ندرأ هذا الخطر إلى حد ما: وترجمة معاني القرآن الرسمية لا تأتى بأكثر من هذه الفائدة؛ فمن الطبيعي أنه ليس معنى وجودها انعدام غيرها، وليس معنى نشرها أن يقتنيها كل من عنده تلك الترجمات الخاطئة. وعلى هذا فستظل هذه الترجمات وسيظل أثرها فى بعض الرؤوس كما هو، وربما ازداد عددها لأن الباب فتح للمترجمين على مصراعيه،

 وأما عن تغيير الأساليب فى الدعوة فليس محصورًا فى ترجمة القرآن، بل نشر الرسائل بلغات القوم هو من هذا التغيير وفيه الكفاية من ناحية، وهناك من الوسائل ما لا يمكن الاستغناء عنه أبدًا، وبدونه لا يمكن أن تنفع دعوة. ومن هذه الوسائل شخصية الداعي والظروف التى تحمل على اتباعه، وما دام المسلمون ضعافًا مستعبدين فستظل الدعوة ضعيفة، وإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.

وإذن فمن أهم الوسائل فى نجاح هذه الدعوة -بل لعله أهمها- أن يعمل المسلمون على تحرير أوطانهم، واستعادة عزتهم ومجدهم، وتقوية أنفسهم؛ وحينئذ يستجيب الناس لندائهم وتلقى دعوتهم من النجاح فى تعريب الأمم ما لقيت دعوة أسلافهم، وإذا وصلوا إلى ذلك فقد أصبحوا فى غنى عن ترجمة معاني القرآن، وسارعت الأمم الأخرى إلى تفهم القرآن العربي ودراسته.

 وهكذا نرى أن الأسباب التى اعتمد عليها أنصار المشروع لا توجبه ولا تؤيده، فضلا عن الإسراع به، وضياع الأوقات فيه، وتكلف النفقات الباهظة من أجله.

أضرار الترجمة المتوقعة أكثر من الفوائد المنتظرة

أما الأسباب التى توجب عدم إنفاذه فكثيرة، وإليك بعضها:

‌أ-      مهما حسنت النية فى هذا الأمر فهو هجوم بصفة رسمية على كتاب الله يخرق سياج الحرمة، ويفتح الباب لمن أراد العبث، ونحن فى عصر أهواء وفتن مات فيه الوازع، وضعف فيه القائم وعمّت الفوضى، وركب كل إنسان رأسه، وزاحم الجهلةُ العلماءَ بالمناكب، ولأن يظل هذا الباب مغلقًا خير من أن يفتح فيولج بحسن قصد أو بسوء قصد، وقد علَّمتنا التجارب أن الإقدام على الأمر اليسير يكون ذريعة إلى الإقدام على كثير، ولسنا نخاف على القرآن تغييرًا أو تبديلا؛ فقد تكفل الله له بالحفظ، ولكنا نعلم مع هذا أن الزمن لا بد أن يعمل عمله.

 ولعل من حفظ الله للقرآن أن يرفعه إذا أعرض الناس عنه، ولعل من رفعه أن يستبدل الناس به سواه وهم يظنونه كتاب الله، ولسنا نغرق فى التشاؤم، ولكنا نضع فى حسابنا احتمالا جائزًا فى المستقبل مهما كان بعيدًا.

‌ب-    إن الصلة بين الأمم المسلمة غير العربية كالهنود والأفغان وبين الأمم المسلمة العربية من جهة، وبين تلك الأمم وبين ثقافة الإسلام من جهة أخرى تعتمد فى وجودها على القرآن العربي الكريم، ويستطيع أن يدرك هذا المعنى واضحًا كلُّ من جمعته الظروف ببعض إخوانه من أبناء هذه الأمم؛ فيرى كيف تكون الآية العربية من كتاب الله رابطة روحية تهش لها قلوب الجميع، ويفقهها الجميع، ويتفاهم على أساسها الجميع؛ فإذا ترجم القرآن إلى اللغات الأخرى انقطع هذا الخيط بين المسلمين فى أقطار الأرض.

وإذا علمنا أن معظم شعوب الإسلام الآن تحت حكم الفرنجة، وهؤلاء المستعمرون الأجانب يحاولون بكل سبيل أن يقطعوا الصلة بين الشعوب الإسلامية المحكومة وبين اللغة العربية، كانت ترجمة القرآن على نسقه وترتيبه تسهيلا لمهمة هؤلاء المستعمرين، وتمهيدًا للوصول إلى غرضهم، وحجة فى أيديهم يتقدمون بها إلى المتبرمين بثقافتها.

‌ج-     إننا الآن مغلوبون للغرب، وللمغلوب ولع بتقاليد الغالب، والغرب يعمل دائمًا على إحياء ثقافته بيننا، وقد أثرت كل هذه الحوادث فى مجتمعنا الإسلامي، وبلغ الإعجاب بلغات الغرب فى نفوس أبنائنا حدَّا كبيرًا؛ بل تغلغل فى كثير من البيوت حتى لا تسمع فيها كلمة عربية، وكأنما اقتطع هذا البيت من جسم الأمة المسلمة ليصير زائدة مشوهة فى جسم أمة أخرى. وكثير من المتعلمين لا يقرأ عن الإسلام فى كتاب الفرنجة، ولا يصله بلغته إلا قراءة القرآن عربيًا كما أنزله الله، هذا الجمع -وهو كثير- إذا وجد القرآن مترجمًا بين يديه فسيدع الناحية العربية إلى غيرها من النواحي الأجنبية؛ فنكون بذلك قد ساعدناه على التقصي من جامعته والخروج على لسانه.

وقد يقال: إن هذا مما يرجح كفة الترجمة استدراجًا لمثل هذا النوع من الناس؛ فنقول: إن هذا الاستدراج إنما يأتى بالإكثار من رسائل الدعاية، وتهذيب الكتب الإسلامية، والعناية بالأدب العربي، وتعليم اللغة العربية. ونحن -أنصار المشروع- نعلم أن تنكُّر هذا الشباب للغته مرض يجب أن يعالج، والعلاج لا يكون بتقوية الجراثيم بل بمحاربتها، ونحن حين نقدم إلى أبنائنا المثقفين العصريين القرآن بمعانيه الفرنجية نزيد جهلهم بلغتهم، ونساعدهم على البعد عنها، ونقوى جراثيم المرض فيهم؛ فنخسر جمهورًا من المسلمين قبل أن نكسب واحدًا من غيرهم.

‌د-     نعتقد أن من الحكم السامية لعموم بعثة النبى  صلى الله عليه وسلم أن تساعد النبوةُ الإنسانيةَ فى بلوغ الوحدة العالمية التى يسير نحوها العالم، ولا بد أن يصل إليها إن قريبًا وإن بعيدًا، ومن أهم مقومات هذه الوحدة اللغة؛ فكأن الحق -تبارك وتعالى- يريد أن يكون القرآن لغة عالمية بين الناس، وإذا جاز لقوم أن يعتقدوا أن فى وسعهم إيجاد لغة عالمية هى "الإسبرانتو"؛ فكيف يبعد أن يعتقد المسلمون أن القرآن هو اللغة العالمية التى يجب عليهم أن يعملوا لتعميمها بين الناس، فتتحقق بذلك الحكمة العالية من عموم بعثة النبى  صلى الله عليه وسلم؟.

هـ-نعلم أن العقول تختلف فى فهم القرآن الكريم باختلاف العصور والأزمان، ولا سيما ما يتعلق منه بالأحكام الكونية، وعلى ذلك فسيأتي اليوم الذي تكون فيه هذه المعاني المترجمة لا تنطبق على ما يعلمه الناس فى عهدهم المستقبل، وتكون بما لها من صفة رسمية حجة على معاني القرآن؛ فهل أعد أنصار المشروع عدتهم لملاحقة النظريات والآراء الحديثة، وتغيير ترجمتهم هذه كلما جد جديد؟

أفضل وسائل الدعاية وخطتنا:

وإذا تقرر هذا فرأْيُنا فى المشروع ألا تكون هناك ترجمة أبدًا للقرآن أو تفسيره على ترتيب السور والآيات، وإذا كان ولا بد من الدعاية عن طريق القرآن فليكن ذلك بتلخيص المقاصد والكتابة عنها.

بقى بعد هذا أن نقول: إن الجائز فى نفسه قد يكون حرامًا لغيره، فإذا كان السؤال الذى قدم إلى حضرات أصحاب الفضيلة العلماء ينتج جواز الأمر فى نفسه؛ فإن النتائج المترتبة عليه تنتج تحريمه لغيره، وفضيلتهم أعرف الناس بما نريد أن نقول.

ووضع التفسير العربي إلى جانب التفسير الفرنجي هو النتيجة المنطقية التى عليها نص السؤال، ولا ندرى كيف استدرك فضيلة الأستاذ الأكبر على فضيلة الشيخ عليش تمسكه بوضع التفسير العربي إلى جانب التفسير الفرنجي، ورأى وضع النص العربي للقرآن الكريم، وإذا جاز للسائل أن يتحفظ.. فكيف لا يجوز للمجيب هذا التحفظ؟ وإذا كانت الترجمة الفرنجية لمعاني القرآن لا لألفاظ القرآن.. فكيف نضع إلى جانبها الألفاظ التى لا تمت إليها بصلة، ونقصى عنها ما هو أصل لها، إلا أن يكون المراد بذلك إيهام أن هذه ترجمة ألفاظ القرآن، وهو وسيلة لكل ما ذكرنا من الأخطار؟

حبذا لو تركت المشيخة والوزارة هذا الأمر، وسلكت غيره من سبل الدعاية الموفقة، فسدت الذرائع، وابتعدت عن الشبهات، فإذا أبى القوم إلا ما قرروا، فوصيتنا إلى الذين يريدون المحافظة على كتاب الله أن يكونوا عمليين، فينهضوا بتحفيظ القرآن ونشره بين من يأخذون بفكرتهم ليقضى الله أمرًا كان مفعولا(16).

 

حكم التجنس بجنسية أجنبية

ورد على صديقنا السيد حسين السقاف بالأزهر الشريف خطاب من بعض أصدقائه اليمنيين المقيمين بإنجلترا، يسأل فيه عن حكم التجنس بالجنسية الإنجليزية شرعًا. ومما ورد فى هذا الخطاب:

"سنت الحكومة الإنجليزية قانونًا لمن أحب الإقامة فى ديارها أو فى ممتلكات التاج البريطاني، ومن بنود هذا القانون: أن راغب الإقامة عليه أن يتجنس بالجنسية الإنجليزية، وإذا تجنس بهذه الجنسية فإن من واجباته حينئذ أن يحلف يمين الولاء للحكومة الإنجليزية، وأن يطيع أوامرها أيًّا كانت، وأن يحارب من حاربها ولو كان من جنسه أو من دينه، أو لا يبرح أرضها إلا بأمر منها، وأن يعرض صورته فى جريدتين سيارتين ليكون ذلك بمثابة تصديق على شخصيته.

 فإلى معشر العلماء الأجلاء نرفع هذا البيان رجاء إفادتنا بحكم هذا التجنس شرعًا، مع العلم بأن من لم يقبل هذا التجنس لا يمكن أن يعمل داخل البلاد، وربما أخرج منها".

وقد أحضر إلينا صورة من هذا الخطاب ليرى رأى جريدة الإخوان فيما جاء فيه، وقد عرضناه على فضيلة الأستاذ المرشد العام، فأجاب بما يأتى:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى أهله وصحبه وعترته إلى يوم الدين، وبعد.. فقد قرأت خطاب الإخوان اليمنيين الخاص بالتجنس بالجنسية الإنجليزية، وبيانًا لذلك أقول والله المستعان:

مجرد تجنس المسلم بأية جنسية أخرى لدولة غير إسلامية كبيرة من الكبائر توجب مقت الله وشديد عقابه، والدليل على ذلك ما رواه أبو داود عن أنس قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: "من ادعى لغير أبيه أو انتمى لغير مواليه؛ فعليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة"، والآية الكريمة تشير إلى هذا المعنى، وهى قول الله -تبارك وتعالى-: }لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران: 28]؛ فكيف إذا صحبه بعد ذلك واجبات وحقوق تبطل الولاء بين المسلمين، وتمزق روابطهم، وتؤدى إلى أن يكون المؤمن فى صف الكافر أمام أخيه المؤمن، وأن خيرًا للمسلم الحق أن يدع هذه الديار وأمثالها إن تعذرت عليه الإقامة فيها إلا بمثل هذه الوسيلة وأرض الله واسعة }وَمَن يُهَاجِرْ فى سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فى الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً [النساء: 100]، والله أعلم(17).

 

حكم المتجنس بجنسية أجنبية شرعًا

إلى علماء المسلمين، جاءتنا هذه الفتيا من إخوان كرام 

ونحن نرد عليها قيامًا بواجب الإسلام

سادتنا أهل الفضل علماءنا الأعلام، بارك الله فى حياتكم ونفع المسلمين بعلمكم..

أما بعد.. فإنه لا يخفى على حضراتكم أن دول الاستعمار قد اشتد تكالبها على استعباد المسلمين وإذلالهم، وكان فى مقدمة هذه الدول دولة إيطاليا؛ فقد احتلت طرابلس الغرب فى سنة 1329هـ، وكان من جورها على الطرابلسيين وإذلالها إياهم أن جنستهم بالجنسية الإيطالية فى أول ديسمبر سنة 1938م، والآن تريد أن تجبرهم على الموافقة على هذا الأمر؛ فتهدد الموظف بعزله إن لم يتجنس، وتهدد التاجر بسحب الرخصة منه ومنعه من مزاولة التجارة، وتكلف بعض أذنابها ليهددوا الناس بانتقام الحكومة من كل من يمتنع من التجنس، وهكذا تسعى لإرغام الناس على الموافقة على قانون التجنيس بكل طريق.

وقد شرح الله صدور فريق من الطرابلسيين، فرفض الموافقة رفضًا باتًا غير ناظر لما يترتب عليه من العواقب الوخيمة، ووافق فريق من المتزلفين لإيطاليا ممن أضلهم الله على علم لخبث فى نفوسهم وجبن صوره لهم خور عزائمهم، جاعلين بما تبديه إيطاليا من وعيد وتهديد مسوغًا لما ارتكبوه من جريمة. وقد أخذ هذا الفريق الموافق يشيع فى الناس أنه لا يوجد فى الشريعة الإسلامية ما يمنع المسلم من التجنس بالجنسية الإيطالية، وقد استفحل شر هذا الفريق، ووجدت دعوته الخبيثة منفذًا من طريق قسوة الإيطاليين وصرامة أحكامهم إلى بعض العقول الضعيفة.

والمسلمون فى طرابلس ينتظرون من علماء المسلمين بفارغ الصبر بيان حكم تجنيس المسلم بالجنسية الإيطالية، وما يجب على المسلم عمله إذا دعى إلى التجنس بهذه الجنسية، وما يترتب على هذا التجنس من أحكام النكاح والمعاملات والتوارث والدفن، وما يجب على المسلمين عامة إزاء المسلم الذى يدعى إلى التجنس بهذه الجنسية ولا يقدر الدفع عن نفسه.

والطرابلسيون فى انتظار جوابكم السديد؛ ليكون عونًا لهم على المضي فى خير الطرق، جزاكم الله خير الجزاء.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم "وبعد"..

فالذي نعلمه من دين الله -تبارك وتعالى- أن التجنس بجنسية غير إسلامية لا يجوز فى دين الله -تبارك وتعالى-، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه؛ فعليه لعنة الله لا يقبل منه صرفًا ولا عدلا"، والتجنس بجنسية غير إسلامية يدخل تحت الشطر الثاني من الحديث الشريف؛ فإن رضى المتجنس بالدخول فى جنس الكفار، ورأى أن ذلك أفضل من قوميته الإسلامية.. فهو كفر صراح وخروج عن الدين، وإن لم يرض بذلك، ولكنه قبله وهو يستطيع الخلاص منه؛ فهى كبيرة من أفظع الكبائر.

وعلى هذا تترتب بقية الأحكام الواردة فى السؤال؛ فالقسم الأول لا يزوج ولا يتزوج المسلمون منه، ولا يرثهم ولا يرثونه، ولا يصلى عليه ولا يدفن فى مقابرهم، ويفرق بينه وبين زوجه، وهكذا من بقية الأحكام التى تلحق الثروة، والقسم الثاني يعاقب على قبوله عقوبة شديدة، ويكون جزاؤه جزاء مرتكب الكبيرة، وكفى به إثمًا.

ولقد عرض علينا مثل هذا السؤال بالنسبة لتجنس بعض التونسيين بالجنسية الفرنسية فذكرنا نحوًا من هذا، وقد أفتى بنحوه علماء الإسلام، والكفر ملة واحدة، مَنَّ الله على المسلمين بالحرية وقرب يوم الإنقاذ، وصلى الله عله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(18).

 

حقوق الأولياء رضوان الله عليهم

ورد علينا هذا الخطاب من الأستاذ الفاضل صاحب التوقيع.

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله..

حضرة صاحب الفضيلة المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين.

سيدى المحترم أوجه لفضيلتكم سؤالا خاضت فيه الأقوال، وتضاربت فيه الآراء؛ حتى أصبح حديثَ الناس فى المساجد والطرق والمجالس، والكل فى حيرة شديدة ونزاع مستمر نخشى عاقبته إن لم تتكرم بالإفادة عنه والجواب عليه على صفحات مجلتكم الغراء فى أقرب عدد؛ منعًا لما يترتب على هذا من سوء الحال، والسؤال هو:

1-     هل للولي كرامة بعد موته؟ وهل تكون من جنس كراماته فى الدنيا أم تختلف؟ وما كيفية الاختلاف إذا فرض؟

2-     هل يجوز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فى حال الدعاء أو بغيره من الأنبياء والصالحين؟

3-     هل يجوز أن يقول الإنسان: "أغثني يا رسول الله"؟

4-     ما قولكم فى الحديث الذي يقال عنه، وهو: "توسلوا بجاهي؛ فإن جاهي عند الله عظيم"؟ وهل هو صحيح؟

5-     ما قولكم فى الموالد التى تعمل للأولياء؟ هل فيها حرمة فى الدين؟

أرجو الإجابة على هذه الأسئلة، خصوصًا التوسل منعًا للشبهات، وحسمًا للنزاع القائم بين أهل بلدنا من جراء ذلك، وإذا كان الظرف لا يلائم، والمسألة تحتاج التأخير، فأرجو أن تجيبوا عن التوسل فقط بعبارة موجزة على هذه الورقة مؤقتًا حتى ننشر الجواب على المنبر، ونفهم العامة حتى ينشر باقي الجواب على صفحات المجلة، وأهالي البلدة فى انتظار الجواب قبل يوم الجمعة لإعلانه على المنبر، ولحضرتكم مزيد الاحترام.

لا أريد بتأكيد هذا إيقاظ فضيلتكم نحو الواجب الديني، وإنما أريد به إخماد فتنة قائمة فى البلد بسبب هذا الموضوع قبل أن يستفحل أمرها.

 وختامًا تقبل تحياتي.

محمد عبد النبى

وكيل جمعية الإخوان بميت سلسيل

وقد أجاب عنه الأستاذ بما يأتى:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

إلى إخواننا فى الله تعالى بميت سلسيل دقهلية، وإلى القراء الكرام وكل محب لخير الإسلام و نبى الإسلام.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد.. فأحب أن ألفتكم قبل الجواب عن هذه الأسئلة إلى أمور هامة:

أولها: أرجو أن تلاحظوا أن الخلاف فى فروع الدين أمر طبيعي، ولا يمكن أن يجتمع الناس فى الفرعيات على رأى واحد أبدًا، وقد يكون الدليل النقلي واحدًا ويختلف الأئمة -رضوان الله عليهم- فى استنباط الحكم بحسب ما يفيضه الله على قلب كل منهم من الفهم والإدراك، وهذه آية للوضوء يستخرج منها الشافعي رضى الله عنه مائة مسألة، ولا يستخرج منها غيره هذا المقدار.

والإخوان يعلمون أن الأئمة -رضوان الله عليهم- متعددون، ولكلٍّ رأيه فى الدين مع وحدة الأصول ووحدة العقيدة، بل إن الإمام الواحد قد يختلف فى فتواه فى وقت عنه فى وقت آخر، وهذا الشافعي رضى الله عنه يفتى فى الجديد بغير ما أفتى به فى القديم، وهكذا.

وهذا باب واسع دقيق؛ فليعلمه الإخوان تمام العلم، الخلاف لا بد منه ولا عيب فيه، ولكن العيب والإثم فى التعصب للخلاف، وخير للإخوان أن يتساهل بعضهم مع بعض، وأن يحترم بعضهم رأى بعض، وألا يجرح بعضهم بعضًا؛ فكلنا مسلمون والحمد لله، ونحب أن تتحد كلمتنا على خصومنا لا أن تفترق على أنفسنا.

وثانيها: أن الجدل فى المسائل الدينية سبَّبَ كثيرًا من النكبات، وقد كرهه  صلى الله عليه وسلم كراهة شديدة، ونهى عنه نهيًا مؤكدًا، وفى هذا الحديث كفاية وتذكرة: "عن أبى الدرداء، وأبى أمامة، ووائلة بن الأسقع، وأنس بن مالك  رضى الله عنه قالوا: خرج علينا رسول الله  صلى الله عليه وسلم يومًا ونحن نتمارى فى شىء من أمر الدين، فغضب غضبًا شديدًا لم يغضب مثله، ثم انتهرنا فقال: مهلا يا أمة محمد، إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ذروا المراء لقلة خيره، ذروا المراء فإن المؤمن لا يمارى، ذروا المراء فإن الممارى قد تمت خسارته، ذروا المراء فكفى إثمًا ألا تزال مماريًا، ذروا المراء فإن الممارى لا أشفع له يوم القيامة، ذروا المراء فأنا زعيم بثلاثة أبيات فى الجنة: فى رياضاها ووسطها وأعلاها لمن ترك المراء وهو صادق، ذروا المراء فإن أول ما نهاني عنه ربى بعد عبادة الأوثان المراء"، والمراء: الجدل فى شئون الدين، والحديث رواه الطبراني فى الكبير.

لهذا أنصح الإخوان الكرام وأرجوهم ألا يقعوا تحت طائلة هذا الوعيد الشديد، وألا يخالفوا نبى الله صلى الله عليه وسلم بالمداومة على الجدل والمراء؛ ليترك كل إنسان لأخيه رأيه؛ فإن أعظم مصيبة فى الدين الفرقة والخلاف، وحسبنا أن نتحد على أن الله واحد، ومحمدًا رسوله، والقرآن حق؛ فمن كان كذلك فهو أخ نحبه ونجله ونعرف له حق إخائه، وفى هذا الكفاية.

ثالثها: إن هذه المسائل وأضرابها مثار خلاف بين المسلمين من قديم العصور، ولم يتحد السابقون فيها على رأى مع شدة بحثهم وخلوص نياتهم وتفرغهم للبحث واهتمامهم بشأن الدين؛ فكذلك المتأخرون سيظلون مختلفين فيها، فما لم يتسامح بعضهم مع بعض ويسلم بعضهم لبعض فهى الفتنة إلى يوم القيامة؛ فخير لنا أن ندع فيها الخلاف، يبين كلٌّ رأيَه؛ فإن اقتنع أخوه فبها، وإلا تركه وما يريد من غير أن يعتقد فيه خروجًا على الدين، أو إثمًا أو عصيانًا؛ فإن له شبهة ودليلا، وكفى.

ونحن حين نفتى فى هذه الشئون نبين ما هدانا الله إليه فى هذه المسائل واعتقادنا فيها بحسب ما وضح لنا من الأدلة، ولا نُلزم أحدًا اعتقاد عقيدتنا، ولا نزكى أنفسنا، بل ربما كنا مخطئين ونحن لا نشعر؛ فمرحبًا بمن يدلنا على مكان النقص أو يرشدنا إلى مواطن الخطأ، نقرر رأينا ونحترم رأى غيرنا، ولا نجرح من خالفنا، وتجمعنا دائرة الأخوة الإسلامية العامة.

بعد أن بينا هذا للإخوان الكرام نتناول المسائل التى جاءت بكتاب الأخ واحدة واحدة والله المستعان:

1-     الكرامة للولي بعد الوفاة: اختلف فيها الناس من قديم، بعضهم يثبت وبعضهم ينفى، والذي نعتقده أن الكرامة ثابتة للولي بعد وفاته كما تثبت له فى حياته.

ودليلنا العقلي: أن الكرامة ليست لحياة الولي، ولكنها لمنزلته، والمنزلة بعد الوفاة كما هى قبلها، وربما تزيد، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن فاعل الكرامة ليس الولي ولكنه الله، والله موجود فى كل حال فلا محل لانتفاء الكرامة بعد الموت.. هذا من جهة العقل والقياس.

وأما النقل فقد ثبت فى حديث البخاري رضى الله عنه ، فى غزوة الرجيع أن عاصم بن ثابت رضى الله عنه حين امتنع عن الأخذ بأمان الكفار وقاتلهم حتى قتل رضى الله عنه أرادوا أن يحتزوا رأسه أو أن يقطعوا من جسده؛ لأنه كان قد قتل بعض عظمائهم، فحماه الله منهم بأن أرسل مثل الظُّلَّةِ من الدَبْرِ (النحل والزنابير)، فهبت فى وجوههم ومنعته منهم؛ فلم يقدروا على التمثيل به.

ولا شك أن هذا من إكرام الله له  رضى الله عنه بعد وفاته؛ ولذلك كان عمر  رضى الله عنه  حين يذكر هذه القصة يقول: "يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته كما حفظه فى حياته".

ودليل آخر، وهو ما رواه ابن سعد فى الطبقات عن أبى سعيد الخدري رضى الله عنه : "كنت ممن حفر لسعد قبره (يعنى سعد بن معاذ رضى الله عنه ) فكنا نشم رائحة المسك"، ولا شك أن هذا من إكرام الله لسعد رضى الله عنه بعد وفاته.

ومن هنا قلنا بثبوت الكرامة بعد الوفاة كثبوتها فى الحياة بشرط صحة الخبر وصدق الرواية.

2-     جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والصالحين: ونحب أن نحدد معنى التوسل الذي نتكلم عنه هنا؛ فنقول: "هو أن يتقرب العبد فى دعائه الله -تبارك وتعالى- إلى الله بذكر عبد من عباده الصالحين؛ كأن يقول: اللهم إنى أتوسل بحب فلان أو بجاه فلان أو بحق فلان أو بمنزلة فلان أو بفلان أن تفعل كذا وكذا".

هذا التوسل بهذه المعاني موضع خلاف أيضًا، أجازه قوم ومنعه آخرون، ولكل حجته ودليله. ومن الغريب أنك ترى بين المانعين منه بغير الرسول صلى الله عليه وسلم شيخ الإسلام العز بن عبد السلام مع أنه ممن أخذ عن الصوفية -رضوان الله عليهم- واتصل بالشاذلي، وكان معاصرًا له، على حين أنك ترى بين المجوزين الإمام الشوكاني مع أنه سلفي متشدد.

فالمانعون يرون أن ذلك لم يحدث فى زمن الصحابة -رضوان الله عليهم- والاتباع أولى. والمجوزون يستدلون على ذلك بحديث الأعمى، وقد رواه كثير من المحدثين، منهم النسائي والترمذي وغيرهما. ونحن مع هذا القسم بشرط أن تتوفر العقيدة بأنه لا تصرُّف إلا لله، ولا فعل إلا له سبحانه وتعالى.

وقد استدل الشوكاني فى كتابه "الدر النضيد" على جواز التوسل بأن التوسل فى الحقيقة إنما هو بميزة العبد الصالح لا بذاته؛ فهو من التوسل بالأفعال وهو جائز، ونقول: إن التوسل لازم حب العبد للصالحين، وحب العبد للصالحين عمل صالح؛ فرجع الأمر إلى التوسل بالعمل الصالح، وهو مجمع على جوازه.

3-     قول الإنسان: "أغثني يا رسول الله": ذكر أسماء الصالحين للتبرك لا بأس به فيما نعتقد، وقد أخرج ابن السنى فى كتاب "عمل اليوم والليلة" فى باب ما يقول الرجل إذا خدرت رجله أن ابن عمر -رضى الله تعالى عنهما- لما خدرت رجله قال: "يا محمدًا" فقام فمشى، وروى مثل ذلك عن ابن عباس -رضى الله عنهما- أنه علَّم رجلا أن يقول هذا إذا خدرت رجله، وليست هناك أية شبهة فى ذكر أسماء الصالحين للتبرك أو التلذذ، وأنت تقول فى الصلاة: "السلام عليك أيها النبى" فهو نداء لا إثم فيه، بل هو من القربات، ذلك فى ذكر الأسماء أو المناداة بها لمثل هذا الغرض، ومنه نشيد الإخوان المسلمين: 

يا رسول الله هل يرضيك أنا      إخوة فى الله للإسلام قمنا

بقى طلب المعونة منه صلى الله عليه وسلم أو من غيره من الصالحين. أما فى حالة الحياة وفيما فى حدود قدرة المخلوقين فجائز لا شية فيه، وأما بعد الوفاة أو فيما هو من عمل الخالق -سبحانه وتعالى- فممنوع لما فيه من الشبهة والذريعة، ولا نقول بالشرك؛ فإن الشرك عظيم، ولكن نقول: يجب أن يُعلَّم قائل هذا، ونرشده إلى تركه، وفى هذا الكفاية.

4-     "توسلوا بجاهي؛ فإن جاهي عند الله عظيم": هذا الأثر أو نحوه من مثل: "إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي؛ فإن جاهي عند الله عظيم"، أو "إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور" أو "...فاستغيثوا بأهل القبور"... كل ذلك غير صحيح، ولم يُروَ فى كتاب من الكتب المعتمدة، ولا عن إمام من الثقات.

5-     حكم الموالد: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يُتخذ قبره الشريف عيدًا، فقال: "لا تتخذوا قبري عيدًا"؛ فالاجتماع حول قبر غيره صلى الله عليه وسلم منهى عنه.

أما الاجتماع لإحياء ذكرى الصالحين فهو مستحب، بشرط أن يكون الاجتماع محتويًا على ما يرضى الله -تبارك وتعالى-، أما إذا اشتمل على المعاصي والمنكرات فهو حرام قطعًا.

ويتلخص من هذا أن الاجتماع حول القبور فى مواسم معينة ليس من الدين، وإحياء الذكريات الصالحة بما يرضى الله -تبارك وتعالى- من الدين؛ فخير للناس أن يتحروا أيام المواسم الفاضلة، ويحيوها بذكر الصالحين وسيرهم، ووجه العبرة فى هذه السير.

وبعد.. فذلك ما اتضح لنا، وفوق كل ذى علم عليم، }وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ [الأحزاب: 4]، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(19).

 

عجل السيد

وجاءنا من أحد القراء الفضلاء هذا الخطاب:

السلام على فضيلتكم ورحمة الله وبركاته "وبعد"..

فقد قرأت فى مجلة الشهاب الغراء (العدد الثالث) ما ذكرتموه فى "حكمة التسمية"، وقد استوقفت نظري كلمة "عجل السيد" بعد عبارة: "ولقد استمر ظل هذه العقائد الفاسدة ممتدًا حتى وصل إلى بعض المجتمعات الإسلامية، وكنا نسمع إلى وقت قريب: عجل السيد".

فأرجو الإفادة عن "عجل السيد" هذا.. هل هو معبود كما يفهم من سياق حديث فضيلتكم، أم نذر كما أفهم من قبل؟ رجائي الإفادة للأهمية، ولفضيلتكم الشكر الجزيل.

"الشهاب": وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته "وبعد".. فشكر الله للأخ تتبعه للموضوع ورغبته فى الاستزادة من الإيضاح، وجزاه خيرًا، وليس عجل السيد معبودًا ولا نذرًا؛ فأما إنه ليس معبودًا فلأن الذين أطلقوه لم يقصدوا بإطلاقه أن يعبدوه، ولا أن يعبده الناس من دون الله، وأما إنه ليس نذرًا فلأن النذر الشرعي لا يكون إلا لله؛ فلا يصح أن يقال: نذرت للولي ولا للنبى ولا لغيرهما، ولكن يقال: نذرت لله أن أتصدق على الفقراء بلحم عجل، أو بمبلغ من المال، أو نذرت لله أن أصوم أو أصلى، أو نذرت لله إن حصل كذا أن أفعل كذا من أنواع الطاعات المشروعة، والذين يطلقون "عجل السيد" لا ينذرونه على هذه الصورة؛ فهو ليس نذرًا شرعيًا من هذه الوجهة.

وإذا لم يكن معبودًا ولا نذرًا فما هو إذن؟ والجواب أنه عمل خاطئ أراد به فاعله التقرب إلى الله بإظهار محبته لأحد من اعتقد أنهم أولياء لله، فعبر عن عاطفته هذه بأن ترك هذا العجل على أن يكون ذبيحة فى وقت ما للفقراء، فأخطأ فى النذر وفى طريقة الصدقة، وأشبه بتصرفه الخاطئ هذا ما كان يصنع مشركو الجاهلية فى الأنعام والذبائح والقرابين من إطلاقها باسم آلهتهم المزعومة، وتحديد صفات وأسماء لها ما أنزل الله بها من سلطان، وقد رد القرآن عليهم عملهم هذا، فقال فى سورة الأنعام: }وَجَعَلُوا للهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا للهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللهِ وَمَا كَانَ للهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الأنعام: 136]، وقال فى سورة المائدة: }مَا جَعَلَ اللهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ [المائدة: 103].

ومن واجب المؤمنين أن يتنزهوا عن كل هذه البقايا؛ فمن شاء النذر فليجعله لله خالصًا وليتصدق به على من شاء }وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ [البينة: 5]، والله أعلم(20).

 

علاج الرياء

ورد علينا هذا الكتاب لفضيلة المرشد العام:

سيدى الأستاذ، سلام عليك

لقد بحثت عن علاج للرياء فلم أجد إلا الحديث: "اللهم إنى أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم".

وإنني أدعو الله بهذا الدعاء وبغير هذا الدعاء فى كل سجود من صلاتي، ولكن لا أجد تقدمًا فى حياتي النفسية.. فهل وصلت لعلاج عملى فى جهاد نفسك تدلني عليه؟ إن كان كذلك فاكتب الجواب فى مجلة الإخوان ويجزيك الله عنا أحسن الجزاء؛ فإن هذا الداء يمنعني من الجد فى الأعمال الجهرية، ومع أن الغزالي يقول: إن ترك الأعمال لخوف الرياء هو عين الرياء ومدخل من مداخل الشيطان؛ فإنني أعتقد أنه قال هذا حثًّا على الاجتهاد، ولا أقتنع به؛ لأنه يمكنني أن أجده فى الأعمال السرية.

سيدي الأستاذ، إننى أعتقد -إن خطأ أو صوابًا- أننى إن عملت فسأنتج، ولكن خوفي من الرياء وكثرة ما قرأت عنه يمنعني من العمل، فأرجو الجواب بالتفصيل.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

جندي من الإخوان المسلمين

فأجاب حضرته: 

بسم الله الرحمن الرحيم .. 

الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، أيها الأخ الكريم، وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، وحبذا لو كان فى الناس كثير مثلك يتهم نفسه ويحاسبها ويراقبها ويتعرف أدواءها، ويتطلب لها الدواء؛ إذن لصحت النفوس، ولتطهرت الأرواح، ولأفلحت الأمة، والله -تبارك وتعالى- يقول: }وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا [الشمس: 7-10]، وهكذا كان سلفنا الصالحون -رضوان الله عليهم- يتهم كل منهم نفسه، ويدأب على محاسبتها حتى تستقيم له على نهج الصواب، والعجب ممن يهتم لألم جسمه وسقم بدنه ويهمل روحه؛ فلا يتلمس لها علاجًا، ولا يتطلب دواء. وما دمت أيها الأخ العزيز تطلب الدواء لنفسك فستصح إن شاء الله، وستصل إلى درجة من الكمال الروحي، تحمد معها غب السري إن شاء الله، ولأتحدث معك بعد ذلك فى الموضوع، والله المستعان.

يا أخي، كل داء ينحسم بقطع أسبابه والقضاء على جراثيمه، فإذا عرفت جراثيم المرض وعرف الدواء النافع فى قتلها؛ فقد أفلح الطبيب وصح العلاج، وجرثومة هذا المرض الوبيل -عافاك الله- طلب المنزلة عند الناس، والرغبة فى حسن احترامهم وتقديرهم، وقد جرب أن قتل هذه الجرثومة يكون بأمرين:

أولا: أن يظل الإنسان يقنع نفسه بعظمة الله -تبارك وتعالى- وقدرته وكمال صفاته وواسع علمه ودقيق مراقبته، والوسيلة إلى هذا الإقناع الذكر والفكر حتى تتربى فى النفس ملكة حسن مراقبة الله -تبارك وتعالى- وتقدير هيبته وعظمته، وأنه -تبارك وتعالى- المتصرف، ولا متصرف سواه ولا فعال معه، وإنما الخلق جميعًا أثر إيجاده ومدد فيضه، وهو الموجود الواجب الوجود }هُوَ الأوَّلُ وَالآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ [الحديد: 3].

وثانيًا: وإلى جانب تربية هذا الشعور فى النفس ينمى فيها شعورًا آخر هو تصغير شأن الخلق وتهوين أمرهم عليها، وإقناع النفس بأنهم لا تصرف لهم ولا حول ولا قوة، والكل فقير إلى نعمة الله ورحمته: }يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ [فاطر: 15].

والوسيلة إلى ذلك دوام التفكير، وإمعان النظر فى حقائق الأمور؛ فمن فكر بثاقب النظر لم ير فى الكون إلا الحق -تبارك وتعالى- فعالا مدبرًا حكيمًا قادرًا.

فإذا اقتنعت النفس بهذه العقيدة، وربا فيها الشعور بعظمة الخالق وصغر شأن الخلق تضاءل الشعور بالرياء، ولا يزال يتضاءل بنسبة قوة الشعور الأول حتى يفنى، وحتى لا يشعر الإنسان بغيره مع ربه.

ولا أكتمك يا أخي أن غريزة الرياء وحب المحمدة غريزة متأصلة فى النفوس قوية العروق والوشائج فى الأرواح، لها على النفس سلطان أى سلطان، ومع هذا فكل غريزة مهما قويت يمكن تهذيبها والتغلب عليها وتحويلها إلى ناحية الخير؛ فلا يزال العبد بنفسه يقنعها بأن محمدة الناس لا شىء، ومحمدة الحق هى كل شىء حتى تعنو له وتَمْتثل؛ فيكون قد حول مجرى غريزته إلى الحقيقة الصحيحة، وماذا فقد من وجد ربه؟ وماذا وجد من فقد ربه؟ اللهم لا شىء.

وذلك المطلب يا أخي -وإن عز- يسير على من يسره الله عليه، وما تعسر مطلب أنت طالبه بربك، وما تيسر مطلب أنت طالبه بنفسك؛ فاستعن بالله وألح فى الدعاء، ولا تيأس فستجد الفائدة، ولا تترك تلاوة الحديث الوارد فى علاج الرياء، وهو: "اللهم إنى أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم" ففيه خير كثير إن شاء الله، وإياك والقنوط فإنه من مداخل الشيطان، وتأمل قول الله تعالى: }قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ [النساء: 23] فهاجم الشيطان، ولا تجادله ولا تقف معه؛ بل أوقفه أمام الواقع من الأمر، واعمل وأنتج، والله يأخذ بيدك.. 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله لقلبي ولقلبك السلامة والعافية، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(21).

 

استخدام شعر الخنزير والبقر

حضرة صاحب الفضيلة محمد العسيلي وكيل جمعية الإخوان بشبين، نفعنا الله به.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد.. ما قول فضيلتكم فى الفرش التى يستعملها النقاش فى مهنته مع العلم بأنها مصنوعة من شعر الخنزير وشعر البقر؟ وما حكم الله فى شيادته ومشغولاته التى يقوم بطلائها فى جميع فرشه؟.

وتفضلوا بقبول فائق الاحترام،،

محمود عيسى عبد الظاهر

محول لحضرة صاحب الفضيلة مدير جريدة الإخوان المسلمين فى أقرب عدد ممكن..

وتفضلوا بقبول فائق الاحترام،،

محمد البيلي بشبين القناطر

الجواب: 

مذهب الإمام مالك رضى الله عنه أن شعر الخنزير طاهر مطلقًا حتى لو جز من ميتة، وشعر البقرة من باب الأولى، وعلى ذلك فَيَسَعُ النقاشَ أن يستخدم هذه "الفرش" على [هذا] الرأي، ولا حرج عليه، والله أعلم(22).

 

فتاوى الجريدة

حضرة صاحب الفضيلة رئيس تحرير جريدة الإخوان المسلمين حفظه الله ونفعنا بعلمه.. آمين.

أحييكم يا سيدى بتحية الإسلام، وأرجو الله أن يمد فى عمركم، ويبارك لكم فيه حتى تروا ثمرة جهادكم فى دين الله؛ فتسروا برؤية المسلمين وقد اعتصموا بحبل الله جميعًا عاملين بتعاليم دينهم كأول ما بدأ.

وبعد.. فقد دفعني ميلي إلى معرفة أحكام الدين إلى استفتائكم فى أمور ثلاثة:

الأول: هل حقيقة ما يقال من أن قليل الربا حلال، أما المحرم فهو الربا الفاحش بقوله تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً [آل عمران: 130]؟.

قليل الربا وكثيره محرم:

بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه.

أما عن الجزء الأول من السؤال وهو الخاص بالربا؛ فالذي نعتقده أن الربا كله حرام قليله وكثيره؛ لأن الله -تبارك وتعالى- عمم ولم يخصص فى قوله تعالى: }وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة: 275]، وفى قوله تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ [البقرة: 278].

ولقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك فى حجة الوداع فقال: "ألا وإن كل ربا موضوع، وأول ربا أبدأ به ربا عمى العباس بن عبد المطلب"، والاحتجاج بآية "آل عمران" لا يصح؛ فإنما جاءت لبيان الواقع عندهم؛ إذ كانوا يأكلون الربا أضعافًا مضاعفة، فحرم بها عليهم ما يفعلون، وحرم بغيرهم كل صورة للربا.

ولا يعترض على هذا بفساد النظام الاقتصادي الحالي وارتكازه على الربا؛ فليس معنى انتشار الفساد أن تنغمس الناس فيه، ولكن عليهم أن يعملوا لمقاومته وعلاجه، وذلك إيجاز له تفصيل، ولعلنا نعود إليه مرة أخرى إن شاء الله.

الثاني: اليانصيب وشراء أوراقه:

حكم اليانصيب:

وأما عن الجزء الثاني فاليانصيب حرام كذلك، وشراء أوراقه وبيعها حرام؛ إذ إنه ليس إلا صورة من صور الميسر التى حرمها القرآن الكريم؛ بل إن ميسر العرب كان خيرًا من ميسر هذه الأيام؛ فما كان الرابح عندهم ينتفع بربحه، ولكن كان يتصدق به وبورقه على الفقراء، ومع هذا فقد حرمه الإسلام لما فيه من الغبن والبغضاء.

وبعد يا أخي، فهذه كلها عُقد اجتماعية عقدها الضعف، ولا تحلها إلا القوة؛ فعدوا أنفسكم فى كل شىء تعلموا طريق العلاج الصحيح، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الثالث: التأمين على الحياة وهل يحله الشارع الحكيم.

حكم التأمين على الحياة:

وأما عن الجزء الثالث وهو الخاص بالتأمين عن الحياة؛ فالذي نعتقده فيه أنه حرام كذلك؛ لأنه من شرط التعاقد أنه إذا توفى المؤمن قبل نهاية المدة استحق المبلغ كله، كما أنه إذا تأخر عن دفع قسط فى موعده أو أراد عدم الاستمرار فى الدفع ضاع عليه ما دفعه. وقد علمنا كيف دفعت هذه الشروط بعض الجشعين إلى ارتكاب جريمة القتل فى سبيل الحصول على قيم التأمين؛ ذلك فضلا عما فيه من ضعف الثقة بالله، وتربية التواكل، وتطعيم الناشئة بشعور خفى من عدم الاعتماد على النفس(23).

 

حكم التأمين على الحياة

حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ المحترم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد.. فنرجو التكرم بنشر حكم الله فى التعامل مع شركات التأمين على صفحات النذير. ولفضيلتكم الشكر.

محمد إبراهيم

المدرس بالهندسة التطبيقية

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

وبعد.. فالذي أعلمه من أحكام ديننا الحنيف فيما يتعلق بشركات التأمين بصورتها المعروفة أن التعامل معها على هذه القواعد حرام، وذلك أن المؤمن يدفع الأقساط المتفق عليها فى مواعيدها، فإذا انقطع عن الدفع ضاع عليه كثير مما دفعه، وهذا أول وجه من وجوه التحريم. وإذا مات قبل الوفاء أخذ المبلغ المتفق عليه كاملا، وهذا وجه ثان من أوجه التحريم أيضًا. وإذا لم يمت أخذ المبلغ مع الفائدة، وهذا وجه ثالث. وإذا اقترض من الشركة (على بوليصة التأمين) أقرضته بفائدة كبيرة أو صغيرة وهو ربا على كل حال. وإذا أراد تصفية حسابه بعد مدة من الزمن صفت معه على هذا الحساب على قواعد الربا والفائدة؛ لكل ذلك أعتقد أن التعامل مع هذه الشركات حرام شرعا، وعلى من يعتقد الحل أن يأتينا بوجهه ودليله، والله أعلم(24).

 

حول فتوى شركات التأمين على الحياة

ورد علينا من بنى سويف الخطاب الآتي:

حضرة صاحب الفضيلة أستاذنا الشيخ حسن البنا، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد.. فعلى أثر فتوى فضيلتكم فى حكم الشرع الحنيف نحو شركات التأمين على الحياة تقدمت إلينا صورة الفتوى المرفقة بهذا على أنها صادرة من الشيخ محمد عبده. أرجو التكرم بعد الاطلاع عليها الإفادة برأي فضيلتكم والتنبيه بنشر الموضوع على صفحات المجلة تعميمًا للفائدة، سيما وأن هذه الفتوى متداولة بين أيدي المسلمين بواسطة شركات التأمين فى جميع أنحاء القطر.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته – سكرتير الإخوان المسلمين

هذه صورة فتوى شرعية صادرة من حضرة صاحب الفضيلة المرحوم الشيخ محمد عبده مفتى الديار المصرية، كان بتاريخ 1صفر سنة 1321هـ نمرة 137 متتابعة درجة 23 وجزء 3 فتاوى، حررت بناء على طلب الجواب المقدم منه لحضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبد المجيد سليم مفتى الديار المصرية حالا المؤشر عليه من فضيلته بقوله "تعطى" نصها: 

"سأل جناب" فى رجل يريد أن يتعاقد مع جماعة (شركة الجريشام مثلا) يدفع لهم حالا من ماله الخاص على أقساط معينة ليعملوا فيه بالتجارة، واشترط معهم أنه إذا أقام بما ذكر، وانتهى أن الاتفاق المعين بانتهاء الأقساط المعينة، وكانوا قد عملوا فى ذلك المال، وكان حيًا؛ فيأخذ ما يكون له من المال مع ما يخصه من الأرباح، وإذا مات فى أثناء تلك المدة فيكون لورثته أو لمن له حق الولاية فى ماله أن يأخذوا المبلغ تعلق مورثتهم مع الأرباح.. فهل مثل هذا التعاقد الذى يكون مقيدًا لأربابه بما ينتجه له من الربح جائز شرعًا؟ نرجو الإفادة.

أجاب:

لو صدر مثل هذا التعاقد بين ذلك الرجل وهؤلاء الجماعة على الصفة المذكورة كان ذلك جائزًا شرعًا، ويجوز لذلك الرجل بعد انتهاء الأقساط والعمل فى المال وحصول الربح أن يأخذ -ولو كان حيًا- ما يكون له من المال مع ما خصه فى الربح.

وكذا يجوز لمن يوجد بعد موته من ورثته أو لمن له ولاية التصرف فى ماله بعد موته أن يأخذ ما يكون له من المال مع ما أنتجه من الربح، والله أعلم.

هذه صورة طبق الأصل تحريرًا فى 18رجب سنة 1347هـ / 30-12 سنة 1928م

محمد حسن بخيت كاتب إفتاء الديار المصرية، "روجعت" عبد السلام محمد عليش أمين إفتاء الديار المصرية.

وقد عرضناها على الأستاذ المرشد، فأجاب حفظه الله بما يأتى: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

قرأت هذه الفتيا، ويلاحظ فى نص السؤال أنه لم يُبيِّن موقف الشركة والمودع فيما إذا مات قبل أن يسدد الإنسان، والمعروف أن الشركة تعطى الورثة المبلغ كله، وهذا هو بيت القصيد، والعامل الوحيد فى التعامل والتحريم معًا، ويلاحظ كذلك فى السؤال أنه لم يبين موقف المتعاملين فى حالة الخسارة بل افترض حالة واحدة هى حالة الربح.

كما يلاحظ فى الجواب أن المفتي اشترط للجواز شروطًا ثلاثة هى: انتهاء الأقساط، ثم العمل، ثم حصول الربح، وهذه الثلاثة لا تتحقق فى كيفية المعاملة المعروفة عن شركات التأمين، وحينئذ لا تخرج هذه الفتوى عن أنها مغالطة من السائل لا تغير من واقع الأمر شيئًا، ولا أزال على رأيي من تحريم التعامل مع هذه الشركات، والله أعلم(25).

 

فتاوى الجريدة

حضرة الأستاذ القدوة الشيخ حسن البنا.. أرجو الإجابة على ما يأتى مشكورين:

1-     ما أجلُّ عملٍ يَتقرَّب به إلى ربه مسلمٌ يريد أن يهب نفسه لله تعالى، وليس من العلماء ولا من الأغنياء؟

2-     ما هى الشروط والمؤهلات العلمية وغير العلمية التى تتوفر فيمن يريد أن يعمل كَمُبشِّر إسلامي؟

3-     هل الأولى بمن يتصدى للدعوة إلى دين الله أن يدعو المسلمين للتمسك بتعاليم الدين وقد كثر فيهم الداعون، وتحجرت قلوبهم، أم يدعو غير المسلمين وقد قل فيهم الداعون بحق وقويت فيهم العزيمة والاستعداد؟

محمود جاد سليم

بور سعيد

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم.. والحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..

و"بعد".. فإلى الأخ الفاضل الجواب على أسئلته، وإني لأرجو أن تكون حافزًا له ولغيره إلى الله والعمل؛ فإن كثيرًا من الناس يسألون، ويبحثون، وينقبون؛ فإذا اطمأنت عقولهم سكنت مشاعرهم، وهدأ ثائرهم، وانتهى الأمر عند هذا الحد، ونحن فى حاجة إلى النهوض والعمل، وإلى أن يساهم كل قادر بحسب مقدرته فى النهضة الإسلامية العامة التى نرجو أن يسدد الله خطاها إلى الخير، وأن يقود بها الإنسانية إلى الإسلام والفلاح.

أجل عمل يُتقرَّب به إلى الله:

قد يكون أجل عمل يتقرب به مثل ذلك الكريم إلى الله -تبارك وتعالى- أن يجتهد فى تعلم الضروري من أحكام الإسلام مما يُصلح عقيدته وعبادته، ثم يقبل على عبادة الله -تبارك وتعالى- بأداء أمر الله واجتناب ما نهى عنه، مع تحرى السنة الصحيحة فى ذلك، ويُكثر من الدعاء بنصرة الإسلام وإعزاز وإصلاح حال المسلمين، ويجتهد فى أن يؤثِّر بقوة روحه فى محيطه فيقنع من يستطيع إقناعه من المسلمين بفوائد الاستقامة ومضار المعصية، ويترقب الساعة التى تتقدم فيها كتيبة مخلصة داعية لإحقاق الحق ومناصرة الإسلام؛ فيكون مع الرعيل الأول فيها، يحيا معه ويموت معه.

شروط المبشر الإسلامي ومؤهلاته:

أما الشروط والمؤهلات التى يجب أن تتوفر فيمن يريد أن يعمل كمبشر إسلامي فهى: 

إخلاص النية، وتوطيد العزم على احتمال المصاعب، وتحمل الأذى، ومسامحة الخلق، والتواضع للناس وسعة الصدر معهم، وسعة العلم بأحوال "المجتمعات" والطوائف الإسلامية؛ ليدخل إلى كل طائفة بعلاجها الصالح إنفاذًا لقوله تعالى: }ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل: 125].

وأن يكون ذا مورد مالي يكسب منه قوته حتى لا يتهم باحتراف الوعظ والتبشير.

وأن يوطد العزم على المثابرة والأناة؛ فإن نتائج الدعوة لا تظهر إلا بطول الصبر، ومن ظن أن الناس يكونون عند أمره لأول دعوة فهو واهم، وبعد ذلك كله توفيق الله إياه.

بين دعوة المسلمين وغير المسلمين:

أعتقد أننا فى حاجة إلى الأمرين معًا، وكلاهما من واجب الدعاة إلى الإسلام، ولا بد من تكوين معسكرين قويين؛ يوجَّه أحدهما إلى إصلاح حال المسلمين، ويوجَّه الآخر إلى دعوة غيرهم، فإذا لم يكن إلا معسكر واحد فإصلاح المسلمين أولا، ثم دعوة غيرهم، والجميع غير متعذر ولو باختلاف الوسائل؛ فيدعو المسلمين إلى الصلاح بلسانه مثلا، ويدعو غيرهم بقلمه، والله المستعان.

ولا يمنع من دعوة المسلمين تحجر قلوبهم وكثرة الداعين فيهم؛ فإن الداعي الحق لا زال قليلا، وفى قلوب المسلمين رغم هذا التحجر خير كثير، ولا زال الشعور الإسلامي بحمد الله سليمًا، على حين أنهم ما داموا فى خمول فهم عقبة فى سبيل دعوة غيرهم إلى الإسلام، والله نسأل أن يلهم الأمة الرشد، ويوفقها لما يحب ويرضى، والسلام(26).

 

حكم الاتجار فى الدخان

حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ حسن أفندي البنا المرشد العام لجمعيات الإخوان المسلمين بالقاهرة، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد..

قرأنا بالعدد من مجلة الإسلام فتوى لحضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبد الرحمن خليفة تتضمن حرمة بيع الدخان وشربه؛ بدعوى أنه يخلط فى بلاد النصارى بالخمر وشحم الخنزير وبعقاقير أخرى، وهذا تعليل بعيد عن المعقول، ولم يقله غير الأستاذ على ما نزعم، ولكن بالرغم من أن الأستاذ قد بالغ فى فتواه ولم يحور فيها تحويرًا يتمشى وروح العصر، رأينا أحد أصدقائنا يقلع عن هذه التجارة فارًّا من الإثم الذى خوفته منه هذه الفتوى رغم ما كان له من مركز سام فى التجارة، ونحن نعلم أن الشرع لا يحب أن يكون الإنسان عالة ولا غير عامل فى يوم من الأيام، وهذا الصديق اليوم لا عمل له.. وإذا خطونا خطواته وأبطلنا هذه التجارة؛ ففيم نتجر وأسباب الاتجار مكدسة وفيها تزاحم مشين؟

فأرجو من فضيلتكم أن تفتونا فى هذه المسألة على صحيفة الإخوان فتوى تلاحظون فيها أن نزج بنصف مليون من تجار الدخان المسلمين فى البطالة؛ ليكونوا عالة فى يوم من الأيام ببطلان هذه التجارة، ويوسعون بذلك المجال للأجنبي باستغلال هذا الصنف دون غيره.

والله نسأل أن يسدد خطانا.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

محمد أحمد شحاتة

عضو جمعية الإخوان المسلمين بالمنزلة

فتوى المرشد العام:

بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد..

فقد قرأت كتاب الأخ الفاضل؛ فعليه السلام ورحمة الله وبركاته، وإليه ملاحظاتنا على خطابه، وإن شاء أسماها الفتوى فى موضوع هذا الخطاب، }وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ [الأحزاب: 4]..

أولا: الذى أعلمه فى حكم الدخان فقهيًّا على اعتباره لم يكن على عهد رسول الله  صلى الله عليه وسلم والسلف من هذه الأمة؛ فهو أمر حادث تطبق عليه الأحكام؛ فيكون مباحًا إذا استوى انعدام النفع والضرر، ويكون حرامًا إذا ترتب عليه ضرر صحى أو مالي أو نحوه، ويكون مكروهًا إذا ظن هذا الضرر ولم يتحقق، ويكون متعينًا إذا كان لدواء مثلا، وحينئذ فإصدار حكم عام واحد على الدخان لا يتفق مع هذه القواعد؛ فهو فى حق بعض الناس حرام، وفى حق بعضهم مكروه وهكذا، وإذا كان كذلك وكان هذا حكم تعاطيه ارتفعت الحرمة فى التجارة فيه؛ إذ لم يثبت أن تعاطيه حرام فى كل الأحوال.

وأما تعليل الحرمة بخلطه بما ذكرتم، نقلا عن الأستاذ المفتي الأول؛ فأنا شخصيًّا لم أر هذه الفتيا، والذي أعلمه أن الدخان نبات لا يخلط بشىء من هذا.

ثانيًا: ألست معى أيها الأخ الفاضل فى أن معظم الأحوال التى يتعاطى الناس فيها هذا الدخان تضر ولا تنفع؟ وأنه كثيرًا ما سبب هذا لبعضهم الأمراض، ولبعضهم الضيق المالي، ولبعضهم سوء الخلق، فضلا عن أنه لا فائدة فيه مطلقًا إلا لبعض المرضى.. هذا من جهة، ومن جهة أخرى أليست أمتنا وثروتنا أولى بهذه الأموال التى تنفق فى شرب الدخان؟ وإذا كان يستفيد من الدخان بعض تجارنا فالفائدة للأجانب فيه أكثر وأكثر، وليس معنى هذا إضراب التجار المسلمين عن تجارته؛ بل معناه أن من الواجب التفكير فى السبيل التى تنقذ هؤلاء التجار وتنقذ معهم هذا الشعب من أضرار الدخان.

وخلاصة هذا القول أن نعلم أن جانب التحريم فى الدخان أرجح، وعلينا أن نفكر فى خير الوسائل لإنقاذ الأمة تجارها وشعبها منه بدون ضرر.

ثالثًا: إن صديقكم هذا الذي ذكرتموه يستحق كل احترام لهذا التأثر الديني العظيم وهذه الغيرة الصادقة، ولئن بدا من كتابكم أنكم تلومونه لومًا شديدًا إلا أنه يستحق كل تقدير لهذا الإيمان الفياض، وكنا نحب أن يبقى فى عمله حتى يدبر الله له عملا آخر؛ فلا يكون عالة ولا متعطلا.

رابعًا: الذي يتضح لنا فى موقف التجار المسلمين فى هذا ألا يدَعوا الغرض للأجنبي وحده كما ذكرتم، وألا يتعطلوا ويبطلوا، وفى الوقت نفسه يعملون وتعمل الحكومة معهم والشعب على الخلاص من بلاء الدخان؛ فإن كان فبها، وإلا فشأنه شأن غيره من أحوالنا التى تحتاج إلى جهاد كبير وعناء عظيم، والله المستعان فى تسديد الخطى وإلهام الرشد، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(27).

 

حكم الدخان والتنباك

الأستاذ رئيس تحرير المنار الأغر السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

"وبعد".. فقد اختلف العلماء فى حكم "شرب الدخان" ما بين محرم ومجوز؛ فما القول الحق فى ذلك؟ وما دليل كل من الفريقين فيما ذهب إليه؟ أفتونا ولكم من الله المثوبة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ديروط المحطة قبلى

أنور الصناديقى

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله..

"وبعد".. فالدخان شجرة لم تعرف فى عهد النبى  صلى الله عليه وسلم ولا فى القرون الإسلامية الأولى، ولم يعرف استخدامها هذا الاستخدام تدخينًا أو مضغًا إلخ، والقاعدة العامة فى المحدثات من هذه الأمور أن يحكم عليها بآثارها ونتائجها؛ فما كان منها نافعًا استحب وطلب الانتفاع به، وما كان منها ضارًا كره وحرم بقدر ضرره، وما جرى مجرى العادة ولم تعرف له فائدة ولا ضرر؛ فهو على الإباحة الأصلية، وهذا وجه اختلاف العلماء فى شرب الدخان.

ومن الذين قالوا بحرمته من استدل بحديث أبى داود أن النبى  صلى الله عليه وسلم نهى عن كل مسكر ومفتر، قالوا: والدخان مفتر؛ فإن من شربه على غير اعتياد شعر بدوار وفتور؛ فهو حرام بالنص، ومن قال بالإباحة نازع فى هذا الأثر ولم يسلم بما ذهبوا إليه من أنه يحدث الفتور.

وقد أورد صاحب "الروض النضير شرح المجموع الكبير" بحثًا طيبًا قد يتصل بهذا المعنى عند الكلام على أنواع المسكر فى الجزء الثالث، كما أن للإمام الشوكاني فتيا فى هذه المسألة، ولعل من تمام الفائدة أن نذكر هذين البحثين، ثم نقفى عليهما بما ترى أنه يتفق مع الحق فى هذه المسألة.

قال صاحب الروض النضير: "فائدة" قال فى البدر التمام: وكذا يحرم ما أسكر، وإن لم يكن مشروبًا كالحشيشة وغيرها.

وقد جزم النووي وغيره، وصرح بذلك الإمام المهدى فى الأزهار بأنها مسكرة، وجزم آخرون بأنها مخدرة وليست بمسكرة، قال ابن حجر: وهي مسكرة لأنها تحدث ما يحدث الخمر من الطرب والنشوة، وإذا سلم عدم الإسكار فهى مفترة. وقد أخرج أبو داود أنه نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر، قال الخطابي: المفتر كل شراب يورث الفتور والخدر فى الأعضاء. وحكى القرافي وابن تيمية الإجماع على تحريم الحشيشة، قال: ومن استحلها فقد كفر، قال: "وإنما لم يتكلم فيها الأئمة الأربعة؛ لأنها لم تكن فى زمنهم، وإنما ظهرت فى آخر المائة السادسة وأول المائة السابعة، حين ظهرت دولة التتار".

 وذكر المازري قولا أن النبات الذى فيه شدة مطربة يجب فيه الحد، وكذا ذكر ابن تيمية فى كتاب "السياسة" أن الحد واجب فى الحشيشة كالخمر، قال: لكن لما كانت جمادًا وليست شرابًا تنازع الفقهاء فى نجاستها على ثلاثة أقوال؛ فى مذهب أحمد وغيره وقال ابن البيطار وإليه انتهت الرياسة فى معرفة خواص النبات والأشجار: إن الحشيشة -وتسمى القنب- توجد فى مصر مسكرة جدًا إذا تناول الإنسان منها قدر درهم أو درهمين، ومن أكثر منها أخرجته إلى حد الرعونة، وقد استعملها قوم فاختلت عقولهم، وأدى بهم الحال إلى الجنون، وربما قتلت. قال بعض العلماء: وفى أكلها مائة وعشرون مضرة دينية ودنيوية، وقبائح خصالها موجودة فى الأفيون؛ بل وفيه زيادة مضار.

وكذا قال ابن دقيق العيد فى الجوزة أنها مسكرة، ونقله المتأخرون من الحنفية والشافعية والمالكية واعتمدوه.

وحكى القرافي عن بعض فقهاء عصره أنه فرق فى إسكار الحشيشة بين كونها ورقًا أخضر فلا إسكار فيها، بخلافها بعد التحميص فإنها تسكر، قال: "والصواب أنه لا فرق؛ لأنها ملحقة بجوزة الطيب والزعفران والعنبر والأفيون والبنج وهي من المسكرات المخدرات"، وذكر ذلك ابن القسطلانى فى "تكريم المعيشة"، وقال الزركشي: إن هذه المذكورات تؤثر فى متعاطيها بالمعنى الذي تدخله فى حد السكران؛ فإنهم قالوا: السكران الذي اختل كلامه المنظوم، وانكشف سره المكتوم. وقال بعضهم: هو الذى لا يعرف السماء من الأرض، ولا الطول من العرض. ثم نقل عن القرافي أنه خالف فى ذلك، والأولى أن يقال: إن أريد بالإسكار تغطية العقل فهذه كلها صادق عليها معنى الإسكار، وإن أريد بالإسكار تغطية العقل مع نشوة وطرب فهى خارجة عنه؛ فإن إسكار الخمر يتولد عنه النشوة والنشاط والطرب والعربدة والحمية، والسكران بالحشيشة وغيرها يكون فيها ضد ذلك؛ فيتقرر من ذلك أنها تحرم لمضرتها للعقل، ودخولها فى المفتر المنهى عنه، ولا يجب الحد على متعاطيها؛ لأن قياسها على الخمر قياس مع الفارق مع انتفاء بعض أوصافه. أ هـ.

 وقوله "كالحشيشة وغيرها" يَدخل فيه نوع من القات الموجود فى بلاد اليمن والحبشة، يكون منه اختلاط العقل وتغيره، ومن بعضه خروج آكله عن حيز الاعتدال فى طبيعته. وقد روى فى ذلك حكايات؛ فما بلغ منه هذا التأثير حرم تناوله، ويؤدب من تعمده بعد علمه بالتحريم، وكذلك القدر المخرج عن الاعتدال أيضًا من الزعفران والأفيون والعريط وكل نبات مساو لها فى الصفة والتأثير، والله أعلم.

وجاء فى رسالة إرشاد السائل إلى أجوبة المسائل للشوكاني:

السؤال الحادي عشر: عن شجرة التنباك.. هل يجوز استعمالها على الصفة التى يستعملها كثير من الناس الآن أم لا؟ "أقول: الأصل الذى يشهد له القرآن الكريم والسنة المطهرة هو أن كل ما فى الأرض حلال، ولا يحرم شىء من ذلك إلا بدليل خاص كالمسكر والسم القاتل، وما فيه ضرر عاجل أو آجل كالتراب ونحوه، وما لم يرد فيه دليل خاص فهو حلال استصحابًا للبراءة الأصلية، وتمسكًا بالأدلة العامة كقوله تعالى: }خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة: 29]، }قُل لاَّ أَجِدُ فِى مَا أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ [الأنعام: 145]، وهكذا الراجح عندى أن الأصل فى جميع الحيوانات الحل، ولا يحرم شىء منها إلا بدليل يخصصه كذي الناب من السباع، والمخلب من الطير، والكلب أو الخنزير وسائر ما ورد فيه دليل يدل على تحريمه.

 إذا تقرر هذا علمت أن هذه الشجرة التى سماها بعض الناس التنباك، وبعضهم التوتون لم يأت فيها دليل يدل على تحريمها، وليست من جنس المسكرات، ولا من السموم، ولا من جنس ما يضر آجلا أو عاجلا. فمن زعم أنها حرام فعليه الدليل، ولا يفيد مجرد القال والقيل، وقد استدل بعض أهل العلم على حرمتها بقوله تعالى: }يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف: 157]، وأدرج هذه الشجرة تحت الخبائث بمسلك من مسالك العلة المدونة فى الأصول. وقد غلط فى ذلك غلطًا بينًا؛ فإن كون هذه الشجرة من الخبائث هو محل النزاع، والاستدلال بالآية الكريمة على ذلك فيه شوب مصادرة على المطلوب، والاستخباث المذكور إن كان بالنسبة إلى من يستعملها ومن لا يستعملها فهو باطل؛ فإن من يستعملها هى عنده من الطيبات لا من المستخبثات، وإن كان بالنسبة إلى بعض هذا النوع الإنساني؛ فقد وجد منهم من استخبث العسل وهو من أطيب الطيبات، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأكل الضب، وقال: "أجدنى أعافه"، فأكله بعض الصحابة بمرأى ومسمع منه صلى الله عليه وسلم. ومن أنصف من نفسه وجد كثيرًا من الأمور التى أحلها الشارع من الحيوانات وغيرها أو كانت حلالا بالبراءة الأصلية وعموم الأدلة، فى هذا النوع الإنساني من يستخبث بعضها، وفيهم من يستطيب ما يستخبثه غيره؛ فلو كان مجرد استخباث البعض مقتضيًا لتحريم ذلك الشيء عليه وعلى غيره لكان العسل ولحوم الإبل والبقر والدجاج من المحرمات؛ لأن فى الناس من يستخبث ذلك ويعافه، واللازم باطل؛ فالملزوم مثله؛ فتقرر بهذا أن الاستدلال على تحريم التوتون لكون البعض يستخبثه غلط أو مغالطة. أ هـ. كلام الشوكاني فى هذه المسألة.

والمعروف أن الدخان يسبب أضرارًا صحية كثيرة نتيجة التسمم "النيكوتينى"، ومن هذه الأضرار -كما قال الأطباء- ازدياد ضربات القلب وعدم انتظامها، وسوء الهضم، وتهييج الغشاء المخاطي للشعب الرئوية؛ فيورث السعال المزمن، وسوء حركة التنفس؛ فلا يمكن للشخص إجهاد نفسه من غير أن يعتريه الإنهاك، وضعف النظر عادة يكون من بعض هذه النتائج، وربما أدى إلى عمى جزئي، وكذلك تصاب الدورة الدموية بآفات أهمها سرعة حركة القلب وتصلب الشرايين، وقد يورث ذلك القلب ضعفًا مستمرًا يؤدى إلى السكتة القلبية بغير ألم أو سابقة إنذار. وكما تحدث هذه الأضرار الصحية بالتدخين تحدث كذلك بالمضغ؛ بل هى فى المضغ أشد وأوضح لشدة تأثير النيكوتين الذي يتخلف معظمه فى الفم بالمضغ، وقد حدثت الوفاة لبعض الناس الذين مضغوه، وكذلك توفى رجل أراد تهريب الدخان من الجمرك بأن خبأه تحت ملابسه ملاصقًا لجلده، والتدخين يرفع ضغط الدم، وينبه العصب الرئوي المعدي؛ فيهبط القلب، وهذا هو سبب الأرق بعد الإكثار من التدخين.

وهو بعد هذه الأضرار الصحية إسراف فى المال بغير سبب؛ فهو إضاعة له وتبذير، وقد نهينا عن التبذير وإضاعة المال، وقد أثبتت الإحصائيات أن المدخن ينفق فى الدخان أربعة أمثال ما يصرفه فى الملبس، وهو عبث فارغ لا فائدة ترجى من ورائه، والعاقل بَلْهُ المؤمن ينزه نفسه عن أن يضيع وقته فى العبث؛ فهو ضار ولا شك، وقد نفى الإسلام الضرر والضرار، وقد يقال: إن هذه الأضرار جميعًا إنما تحدث حين الإفراط لا حين الاعتدال فيه والتقليل منه؟ والجواب على ذلك أن يقال: وأين ضمان الاعتدال، وقد أثبتت الإحصائيات الدقيقة أن الاعتدال نادر بين المدخنين؟ فسهولة تناول اللفافة، وتحكم العادة، وما يتخيله المدخن من لذة التدخين.. كل ذلك يجره إلى الإفراط، حتى إنه ليشعل اللفافة من الأخرى بشكل ميكانيكي من غير أن تكون فى نفسه حاجة إلى التدخين، وكثير من المدخنين من هالته كثرة أعقاب اللفائف التى استهلكها بعد أن ينتهي من عمله أو وحدته.

وإذا تقرر هذا فالذي يظهر لى أن تعاطى الدخان تدخينًا بأية كيفية أو مضغًا أو سعوطًا بأية كيفية كذلك حلال بأصله؛ إذ الأصل فى الأشياء الإباحة، حرام لغيره؛ وهو ما ترتب عليه من الإضرار، والقليل منه يلحق بالكثير سدًا للذريعة، ومنعًا للقدوة الفاسدة. وأما التداوي بتعاطيه فجائز بالقدر الذي يتم به الغرض، ومثله فى هذا التنباك والقات وما جرى مجراها.

ولهذا أنصح للمدخنين من المسلمين أن يقلعوا عن هذه العادة، ولو بالتدريج، وللذين لم يعتادوا هذه العادة أن يحذروها ما استطاعوا.

ذلك ما ظهر لى فى هذه المسألة، وأنا على استعداد للرجوع عنه إذا ما نبهت إلى غيره مما هو أولى بالاتباع }وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ [الأحزاب: 4].

فائدة لغوية:

يطلق بعض الناس على "الدخان": الطباق، والمعروف لغة أن الطباق نبت برى تتغذى به الظباء وأبقار الوحوش، وقد ورد ذكره فى شعر أبى العلاء؛ فهو يقول فى وصف غانية وتشبيهها بالظباء:

ومن العجائب أن حليك مثقل             وعليك من سرق الحرير لفاق

وصويحباتك بالفلاة ثيابها        أوبارها وحليها الأوراق

لم تنصفي غذيت أطيب مطعم           وغذاؤهن الشث والطباق(28)

 

الزكاة ومجاهدي فلسطين

سيدي الأستاذ المرشد العام للإخوان المسلمين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، أرجو التكرم بإفتائي هل يجوز دفع الزكاة إلى مجاهدي فلسطين الأمجاد تحت قول الله تعالى: }وَفِى سَبِيلِ اللهِ [التوبة: 60]؟ ثم ألتمس أن يكون جواب فضيلتكم على صفحات جريدتنا الغراء؛ فلعل فى نشر الجواب خيرًا كثيرًا ودعاية طيبة لأسبوع فلسطين الشقيقة نصرها الله ورعاها، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أحمد أحمد سليمان

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله ومن والاه..

أما بعد.. فإن من الجائز صرف جزء من زكاة المال لمجاهدي فلسطين البواسل ودليله الآية الكريمة، ويوزع جزء على فقراء البلد ومساكينه، ونقل الزكاة هنا جائز كذلك للضرورة القائمة وهي حاجة المجاهدين إلى المال، وفى صرف جزء من الزكاة فى هذا الوجه ثواب عظيم ومغنم جسيم، فليحرص على ذلك من شاء أداء هذا الركن الهام من أركان الدين، وليورد من زكاة ماله إلى لجان الإعانات لتتصرف فيه التصرف الشرعي المناسب له. والله أعلم(29).

 

هل يجوز للأخ المسلم أن يعمل فى النيابة أو فى المحاماة؟

يعاني الإخوان المسلمون كثيرًا من الصعاب، ويجدون حرجًا كبيرًا فى القيام بتعهداتهم وتنفيذ مبادئهم، فى البيئة التى يعيشون فيها، وهى بيئة تكاد تكون بعيدة كل البعد عن نظام الإسلام وتعاليم الدين القيم؛ فكم من مشقة يتحملها الأخ المسلم عندما يريد أن يقضى حاجياته من تاجر مسلم، ولا يرضى بغيره بديلا!!

 ومشكلة اليوم اعترضت أحد الإخوان الذين تخرجوا هذا العام فى كلية الحقوق، وقد تقدم بها إلى فضيلة المرشد العام فى خطاب رجاه فيه أن يتفضل بالرد على سؤاله على صفحات النذير، وقد تكرم فضيلته بإجابة عملية ستكون دستورًا لكل أخ مسلم يقع فى نفس الظرف، وهانحن ننشر فيما يلى نص خطاب الأخ المستفسر، ورد المرشد:

سيدى الأستاذ الكبير، سلامًا واحترامًا، وبعد..

 فإنى من الأشخاص المعجبين بكم وبمبادئكم الإسلامية وإخلاصكم وصدق دعوتكم، وإني أتمنى من الله تعالى أن يكتب لكم النجاح، ويوفقنا جميعًا لإعلاء شأن الإسلام وأحكامه.

سيدي العظيم، لقد نجحت هذا العام فى ليسانس الحقوق، وعندما فكرت فى مستقبلي تذكرت أن القوانين المصرية فيها جانب كبير جدًا يخالف ما جاء به الإسلام، فتصورت كيف يجوز لى وأنا المسلم المؤمن بكتاب الله، وبكل ما جاء فيه أن أتولى عملا قضائيًا، سواء أكان فى النيابة العمومية أم فى المحاماة، وأطبق فيه قوانين تخالف الإسلام وما جاء به من الأحكام القانونية، وما توعد به من العذاب كل من يحكم بغير ما أنزل الله؟

ماذا أفعل يا سيدى لكى أوفق بين أمر الله وبين ما تراه من مخالفة القوانين المصرية لأحكام الإسلام؟

سيدي وأستاذي العظيم، هل أكون قد ارتكبت ذنبًا وإثمًا إذا ما عملت فى النيابة العمومية أو المحاماة؟ هذا السؤال يدور بفكري دائمًا، وإني أرجو من سيدي الجليل أن يفتيني فى هذا حتى يطمئن قلبي، وأرجو أن تجيب فضيلتكم عن سؤالي هذا على صفحات النذير. جزاكم الله خير الجزاء.

أخ مسلم

وهذا نص الرد بعد الديباجة:

وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، قرأت كتابك، فأكبرت فيك هذا الاستمساك القوى بدينك، وهذا الحرص العظيم على إصابة الحق، والعمل على مناصرة الشريعة، وتلمس طريق الخير فى الدنيا والآخرة، وحقًا يا أخي إن القوانين المصرية بما فيها من نصوص تخالف أحكام القرآن تجعل مركز رجل القضاء وأسرته فى حرج عظيم.

 ومن واجب الحكومات الصالحة أن تدفع هذا الحرج من نفوس شعبها وموظفيها، وبخاصة فى ناحية لا ينفع فيها ولا يجدى إلا نقاء الضمير وارتياح النفس. فالله نسأل الله أن يلهم الحكام الرشد ويوفقهم إلى الخير.

أما ما سألت عنه فإن القوانين كما قلت: فيها ما يوافق الإسلام وأحكامه وهو الغالب، وفيها ما يخالف النصوص الإسلامية وأحكام القرآن، ويكون جميلا جدًا أن تكون محاميًا أو قاضيًا أو وكيلا عن النائب العام؛ فتبِين فى كل هذه المواقف عن وجهة نظرك، وتتوقف رسميًا عن الترافع أو النظر فى هذه المخالفات، حينئذ يكون موقفك حجة إيجابية وصوتًا ينادى بوجوب إعادة النظر فى هذه القوانين. أما السلاح السلبي سلاح المقاطعة والابتعاد فى هذا الوقت فأظنه لا يجدي، وأعتقد يا أخي أنك حين تزاول عملا قضائيًا على أساس هذه القاعدة فإنك مأجور لا آثم؛ فسر فى طريقك، والله معك، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته(30).

 

"بين طائفتين من المؤمنين"

حول آيات الصفات وأحاديثها ومذهب السلف والخلف

سيدى الأستاذ محرر المنار الأغر، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد..

 فلعلكم قرأتم ما دار من الحوار بين كتاب مجلة الإسلام ومجلة الهدى النبوي حول آيات الصفات وأحاديثها، ومذهب السلف والخلف؛ فما وجه الحق فى هذا الخلاف؟ وهل يجوز شرعًا أن يتقاذف الفضلاء من المسلمين بهذه التهم على صفحات الجرائد السيارة، وأن تذاع مثل هذه البحوث على العامة؟ وهلا يمكن أن تعملوا على التوفيق بين الفريقين حتى تنصرف القوى إلى ما يعود على المسلمين بالخير، أفيدوا مأجورين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

محمد حلمى نور الدين

بتفتيش ري الجيزة

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله، والصلاة على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه..

1-     قرأت ما دار بين الكتاب الفضلاء على صفحات المجلتين المذكورتين، وكثير من حضراتهم أصدقاء لنا، وكلهم يعمل لخدمة الدعوة الإسلامية، ويرجو للمسلمين النهوض من كبوتهم والإقالة من عثرتهم مخلصًا من قلبه. والحق أنى أنا شخصيًا لا أفهم معنى لإثارة هذا الموضوع فى وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى الوحدة والتآزر على إحياء تعاليم الإسلام فى نفوس المسلمين.

إن الفريقين مؤمنان أعمق الإيمان بأن ما جاء من هذه الآيات وما صح من الأحاديث التى تعرضت لصفات الباري -عز وجل- كلها حق لا جدال فى صدقها ولا خلاف؛ فقوله تعالى: }الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5]، و}يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: 10]، }كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ [القصص: 88]، }وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام: 18]، وكل ما نحا هذا المنحى من الآيات والأحاديث التى تثبت صحتها فنيًا كل ذلك موضع إيمان وتصديق وتسليم من الفريقين كليهما.

الفريقان كذلك مؤمنان أعمق الإيمان بأن قوله تعالى: }لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] وقوله تعالى: }وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 4] كل ذلك حق لا مرية فيه؛ فلا يشبه الباري أحدًا من خلقه فى شىء من صفاته، ولا يشبهه أحد من هؤلاء الخلق كذلك، وحقيقة ثالثة يؤمن بها الفريقان أيضًا، وهى أن ذات الباري -جل وعلا- وصفاته فوق متناول إدراك العقل البشرى الصغير الذى يعجز عن معرفة حقائق ما حوله من عالم الحس، فضلا عن عالم الروح، فضلا عن الملأ الأعلى، فضلا عن ذات الله -جل وعلا- وصفاته.

وأسوق هنا قول شارل ريشيه المدرس بجامعة الطب فى فرنسا سابقًا فى مقدمة كتاب الظواهر النفسية: "لماذا لا نصرخ بصوت جهوري أن كل العلم الذي نفخر به إلى هذا الحد ليس إلا إدراكًا لظواهر الأشياء، وأما حقائقها فتفلت منا ولا تقع تحت مداركنا، إن حواسنا من القصور والنقص على حال يكاد معها يفلت من شعورها الوجود كل الإفلات".

بل قول الله -تبارك وتعالى- وهو أصدق القائلين: }وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلا [الإسراء: 85].

هذه الحقائق المقررة والمسلم بها من الطرفين تجعل الخلاف لا معنى له؛ فماذا على كل منهما لو قال: "استوى الله على عرشه استواء تعجز عقولنا عن إدراك حقيقته مع علمنا بأنه لن يكون كاستواء الخلق"؟ وبذلك نرد علم الحقائق لله -تبارك وتعالى-، ونصيب بذلك الحق كل الحق؛ لأن الحق هو أننا فى هذا جهلاء أتم الجهل. وماذا علينا لو سلكنا هذه الطريقة فى كل ما ورد على هذا النحو؟ "فيد الله التى ذكرها فى كتابه صفة من صفاته تعجز عقولنا عن إدراك حقيقتها مع علمنا التام بأنها لن تكون كأيدينا" وهكذا.

وقد أرشدنا الله سبحانه وتعالى إلى الواجب فى مثل هذه المعاني، ووضع لنا أساس النظر فيها، فقال: }هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الألْبَابِ [آل عمران: 7]؛ فتأمل قوله تعالى: }وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران: 7]؛ لتعلم هل لنا أن نخوض ونفيض أم أن الرسوخ فى العلم أن نقول: آمنا به كل من عند ربنا؟

استطراد:

لقد أتى على المسلمين حين من الدهر فى عصر الانتقال الأول حين نقلتهم حوادث السياسة والاجتماع من دور الجهاد العملي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم والأئمة الراشدين المهديين من بعده؛ حيث كان هَمّ المسلم إذ ذاك أن يؤدى فريضة ربه، ويراقب دخيلة نفسه، ويقيم من نفسه حارسًا يحاسبه على كل عمله، ثم يمضي فى البلاد مجاهدًا فى سبيل الله، يعرض روحه على الموت فى اليوم ألف مرة؛ فلا يظفر إلا بالحياة العزيزة، وينشر لواء الله فى العالمين حتى يدركه الأجل؛ فيودع الدنيا شهيدًا سعيدًا. حين انتقل المسلمون من هذا الدور إلى دور الاستمتاع بمظاهر دنياهم الجديدة، والإقبال على تنظيم ملكهم الواسع، والاستفادة من ثمار هذه الحضارات والمدنيات التى اتصلوا بها، ودخلت عليهم آثارها من كل مكان؛ عمرانية واجتماعية وثقافية وعلمية، فترجموا العلوم الأجنبية، وتوسعوا فى البحث فيها، ومزجوا كثيرًا منها بتعاليم الدين السمحة السهلة؛ فسلكوا بدينهم مسلكًا فلسفيًا قياسيًا، وقد جاءهم فطريًا ربانيًا نبويًا فوق العلوم والفلسفات، يخاطب الفطرة من غير وساطة، ويجذب القلوب بما فيه من جمال وروحانية وصدق توجيه فى هذا الدور. 

 وفى وسط هذه المعمعة انقسم علماء الإسلام إلى معسكرين:

 معسكر يدعو إلى تطبيق نظريات الدين على نظريات الفلسفة والمزج بينهما، وبذلك يصطبغ الدين بآراء الفلاسفة؛ فيذهب عنه جلال النبوة، وروعة الوحى، وسماحة الفطرة، وتتقيد الفلسفة بقداسة الدين وجلال العقيدة؛ فتنزل بذلك عن أخص خصائصها، وإنما الفلسفة تفكير دائم متواصل، فيه الخطأ وفيه الصواب، وفيه الشك وفيه اليقين، والخطأ فيها سلم للإصابة، والشك عندها باعث من بواعث الإيمان، وهذا المعسكر أطلق على نفسه أو أطلق الناس عليه ألقابًا كثيرة؛ فهم "أهل الرأي"، وهم "أهل القياس"، وهم "النظار"، وهم "المتكلمون"، على تفاوت بينهم فى هذه الألقاب وفى مدى تطبيق هذه الآراء.

 ومعسكر يدعو إلى أن يظل الدين بعيدًا عن كل هذا، يؤخذ من منابعه الأولى كتاب الله وسنة رسوله، ويرجع فى بيانه وتفصيله إلى الطريقة التى فهمه عليها السلف الصالح -رضوان الله عليه-، وليتناول العقل بعد ذلك ما شاء من البحوث، ولتجرِ الفلسفة على أى غرار شاءت، وليخطئ العلماء الكونيون أو يصيبوا، ولكن فى ثوب نظري بحت، قياسي بحت، لا يتناول عقائد الناس، ولا يمس عبادتهم، ولا يقرب الحقائق الدينية المقررة المكفولة بتسليم العقل بأحقيتها وصدقها. وأطلق هذا المعسكر على نفسه أو أطلق الناس عليه "أهل الحديث" أو "السلفيون" أو "أهل السنة" أو "أهل الأثر"، على تفاوت كذلك فى هذه الألقاب وفى مدى الأخذ بهذه الفكرة. ولا شك أن الحق مع هؤلاء، ولا شك أن المسلمين لو سلكوا هذا السبيل، ولم يشتغلوا بهذا الجدل، ولم يصبغوا فطرة دينهم بهذه الصبغة، ودرجوا على ما كان عليه النبى  صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ لكان لهم فى ذلك الخير كل الخير، ولنجوا من انقسامات وفتن كانت من أهم الأسباب لزوال عظمتهم، وتوزيع ملكهم ومجدهم. ولا شك أن كل عاقل يهمه أن يعود للإسلام مجده وعظمته الآن يدعو المسلمين إلى الأخذ بهذا الرأي؛ وهو ما نعمل عليه، وندعو إليه، ونسأل الله المعونة فيه، وفتح مغاليق القلوب لفهمه وفقهه.

كان الأخذ والرد والجذب والشد قويًا عنيفًا بين الفريقين منذ نجم قرن هذا الخلاف، وأنت خبير بأن خلافًا كهذا فى صدر الإسلام أو قريبًا منه، ولما يمض على المسلمين بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم أكثر من قرن من الزمان، وهو يتصل بالعقيدة، وهى أغلى ما يدافع عنه الإنسان.. لا بد أن يصحبه من مظاهر العنف الشيء الكثير وذلك ما كان؛ فقد تنابز الفريقان بالألقاب، واشتد بينهما التخاصم حتى وصل إلى التكفير والزندقة، ورمى بعضهم بعضًا بأعظم ما يتصور من التهم، واستخدمت فى ذلك الألفاظ المثيرة.

فأهل الرأي والنظر جهمية معطلة مؤولون حشوية زنادقة، لا يعرفون لهم ربًا، ولا يثبتون له صفة، وأهل الحديث والأثر مشبهون مجسمون جامدون متعصبون، لا ينزهون الله، ولا يقدرون عظمته قدرها، ويضعونه فى صف خلقه.

وألقيت إلى جانب ذلك عبارات شديدة، وأُلفت كتب، وانتصر كل فريق لرأيه، وبدت الحدة فى كل ما قيل وما ألف؛ لأن تلك طبيعة الموقف ومقتضيات الخلاف.

كان ذلك فى هذا الدور الذى ذكرت لك، ثم نقلت إلينا نحن الآن بعض هذه الآثار، والحال غير الحال، والموقف غير الموقف، والفِرَق غير الفرق.

ليس فينا أهل رأى وأهل حديث، وأنا أعلم أن هذا الحكم قد يكون محل خلاف بيني وبين بعض القارئين؛ فها هم يرون فريقين ينتصر كل منهما لفريق.. فما معنى هذا النفي؟

ولكنى أؤكد لحضرات القراء أن طبيعة هذا العصر غير طبيعة العصر الذى شجر فيه هذا الخلاف بين المسلمين، وأن المشاكل والأفكار التى تشغلنا الآن غير تلك المشاكل والأفكار، وأن الخلاف فى هذه المسائل محصور فى نطاق لا يكاد يذكر إلا فى بعض المجالس وفى جدران بعض الهيئات، حتى الأزهر نفسه -وتلك مهمته- مشغول عن هذا الخلاف.

الأمة الآن معسكرات مختلفة، لكل معسكر فكرته التى يدعو إليها وينادى بها؛ فهناك المعسكر الذى يدعو إلى الاندفاع وراء الأفكار والمظاهر الغربية فى كل شىء، وهناك المعسكر الذى يثير المعنى القومي وحده فى النفوس، ويريد أن يجعله أساسًا للنهوض، وهناك المعسكر الذى يأخذ بأعناق الناس وجهودهم إلى المسائل السياسية البحتة التى يراد بها استقرار الحكم فى الداخل، وحفظ الكرامة فى الخارج، ولا يعنيه إلا هذا، وهناك معسكرات غير هذه، ومن ذلك كله معسكر محمدىٌّ قرآنىٌّ يهيب بكل هؤلاء: إن الإسلام يكفل لكم من السعادة والقوة كل ما تريدون فهلموا إليه.

أريد أن أصل من هذا الاستطراد إلى نتيجتين:

 الأولى: أننا ليس بيننا فى حقيقة الأمر خلاف كالذى كان بين الفلاسفة والسلفيين فى القديم؛ فلا معنى لإحياء هذا الخلاف من جديد، ولا معنى للاحتجاج كذلك بما قال هؤلاء وأولئك، وأولى لنا جميعًا أن نترك ذلك الدور بما كتب فيه، وما كان من أهله فى ذمة التاريخ، ونرجع جميعًا فى ديننا إلى المعين الأصلي الذي ما زال وسيظل صافيًا نقيًا لا تكدره الحوادث، ولا ينال منه الزمن، ولا يزعزعه الخلاف؛ ذلك هو كتاب الله وسنة رسوله الصحيحة صلى الله عليه وسلم.

والثانية: أن ننصرف فى صف مؤمن قوى موحد إلى معالجة مشاكل عصرنا، ودعوة الناس إلى محاسن هذا الدين وجلاله، وتقوية معسكرنا معشر المنادين بالإسلام فوق كل المعسكرات؛ حتى يكون له النفوذ الفكري والعملي؛ فيعود للإسلام ما كان له من هيمنة على الأرواح والأعمال.

وبعد.. فذلك رأيي أيها السائل فى موضع الخلاف.

2-     أما هل يجوز للفريقين أن يتقاذفا بهذه التهم على صفحات الجرائد السيارة، وأن تذاع هذه البحوث على العامة؟ فذلك ما لا أقرهما عليه ولا أوافقهما فيه، وفى لين القول وحسن الخطاب مندوحة، وهذه بحوث دقيقة أولى بها أن تكون بين أهل العلم فى حلقهم الخاصة ومجالسهم المحصورة. وأذكر الفريقين بما رواه البخاري فى صحيحه عن على كرم الله وجهه: "حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتحبون أن يُكذَّب الله ورسوله؟".

وما رواه مسلم عن ابن مسعود  رضى الله عنه قال: "ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة"؛ فإن كان ولا بد من الكلام فى هذه المباحث فليكن ذلك فى قول لين، وفى بحث هادئ؛ حتى لا تسرى عدوى الخلاف والتهاتر من الخاصة إلى العوام، وفى ذلك فساد كبير كما هو مشاهد فى البلاد التى تشتد فيها العصبية لبعض الآراء.

 أقول هذا وأنا أعلم ما سيقال حول هذا الكلام من أن العقيدة أساس كل إصلاح، وأن دين الله -تبارك وتعالى- جلى واضح لا خفاء فيه، ولا يليق أن يكتم فيه شىء عن جميع الناس، وبأن هذه خصومة فى الحق وهي جائزة، وهذا هو الغضب لله، وهو فضيلة، وهذا هو الدفاع عن دينه، وهو واجب، وهذا من الجهاد بالقول والقلم، والقعود عنه إثم؛ فكيف يراد منا بعد هذا أن ننصرف إلى إصلاح جزئي والعقيدة فاسدة؟ وكيف يراد منا أن نجعل هذا الكلام خاصًا، ودينُ الله عامٌّ للناس جميعًا؟

وأحب أن أقول لمن يدور بفكره أو على لسانه وقلبه مثل هذا القول: احترس أيها الأخ من خداع الألفاظ ومزالق الأسماء؛ فالعقيدة شىء، والخلاف فى بعض المسائل التى لا يمكن لإنسان أن يعرف حقيقتها شىء آخر، وأحكام الدين التى هى عامة للناس جميعًا شىء، والأسلوب الذى تؤدَّى به وتقدَّم للناس شىء غيرها، والخصومة والغضب للدين شىء، وخلق هذه الخصومة وإثارة الفتن بها شىء ثان، ولم لا يكون هذا من الجدل المنهى عنه، ومن المراء الذى أغضب رسول الله أشد الغضب على المتمارين حتى جعله يقول:

1-     "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم قرأ: }مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا [الزخرف: 58] رواه الترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح.

2-     ويقول: "من ترك المراء وهو مبطل بنى له بيت فى ربض الجنة، ومن تركه وهو محق بنى له فى وسطها، ومن حسن خلقه بنى له فى أعلاها" رواه أبو داود والترمذي والبيهقي وغيرهم، وحسنه الترمذي.

3-     وروى الطبراني فى الكبير عن أبى سعيد الخدري رضى الله عنه قال: "كنا جلوسا عند باب رسول الله صلى الله عليه وسلم نتذاكر، ينزع هذا بآية، وينزع هذا بآية، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما تفقأ فى وجهه حب الرمان، فقال: "يا هؤلاء؟ أبهذا بعثتم أم بهذا أمرتم؟ لا ترجعوا بعدى كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض".

4-     وعن أبى الدرداء وواثلة بن الأسقع وأنس بن مالك رضى الله عنهم قالوا: "خرج علينا رسول الله  صلى الله عليه وسلم يومًا ونحن نتمارى فى شىء من أمر الدين، فغضب غضبًا شديدًا لم يغضب مثله، ثم انتهرنا، فقال: مهلا يا أمة محمد، إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ذروا المراء لقلة خيره، ذروا المراء فإن المؤمن لا يمارى، ذروا المراء فإن الممارى قد تمت خسارته، ذروا المراء فكفى إثمًا ألا تزال مماريًا، ذروا المراء فإن الممارى لا أشفع له يوم القيامة، ذروا المراء فأنا زعيم بثلاثة أبيات فى الجنة: فى رياضها ووسطها وأعلاها لمن ترك المراء وهو صادق، ذروا المراء فإن أول ما نهاني عنه ربى بعد عبادة الأوثان المراء" رواه الطبراني فى الكبير أيضًا. وقد يقال: إن المراء شىء وما نحن فيه شىء آخر؛ فأقول: إن لم يكنه فهو نوع منه، ومن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه، واتقاء الشبهات استبراء للدين، والورع أن تدع ما لا بأس به مخالفة الوقوع فيما فيه بأس؛ فهل بعد ذلك مذهب لذاهب أيها الإخوان. 

3-     وأما العمل على التوفيق بين الفريقين فنعما هو، وما أحبَّه إلى النفس، وما أعظم فائدته، وإنا لمحاولون ذلك إن شاء الله، وأعتقد أن كثيرًا من المختلفين لو التقى بعضهم ببعض، وتركوا طريقة التحاور الكتابي إلى طريقة التفاهم الشفهي لأنتج هذا التعارف خيرًا كثيرًا، ولأدى إلى حل كثير من الخلافات فى هدوء وفى توفير للوقت والمجهود، وحينئذ يستطيع كل رئيس جماعة أن يتقدم إلى جماعته برأي موحد أو بفكرة عامة؛ فيؤدى ذلك إلى الوحدة المنشودة إن شاء الله، وسنترقب الفرصة المناسبة لمثل هذا الاجتماع؛ فنعمل على تحقيقه إن شاء الله، والله حسبنا ونعم الوكيل.

انتقاد المنار حول فتوى آيات الصفات وأحاديثها:

جاءنا من حضرة الفاضل صاحب التوقيع الخطاب التالي، ننشره مع رده فيما يلي:

حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ حسن البنا رئيس تحرير مجلة المنار، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد.. إن احتجاب المنار بموت صاحبه -عليه رحمة الله تعالى- كان من دواعي أسف المسلمين جميعًا بل حزنهم العميق، ولم يكن ذلك طبعًا لأنها مجلة إسلامية فقط، بل كان ذلك لما علمه قراء المنار من الميل مع الحق أينما كان وعدم المبالاة بكائن من كان فى سبيل كلمة الحق وبيانها وإيضاحها، ولا أظنك تجهل مواقف صاحب المنار -عليه رحمة الله- مع كثير من أخص أصدقائه؛ فإنه لم يكن يعرف إلا الحق، ولو أغضب الحق صديقه أو جميع الناس. ولم نعهد فيه -رحمة الله عليه- مداهنة ولا محاباة، وبذلك كان للمنار وصاحبه تلك المنزلة التى تعرفونها فى نفوس جميع أهل الملة المحمدية، فإذا كنتم تريدون السير بالمنار سيرته هذه فلا شك أنها -إن شاء الله تعالى- ستحيى حياتها الأولى، وإلا فاسم المنار وحده لا يغنى شيئًا.

لقد استفتاكم مستفت فيما شجر من الخلاف بين مجلتي الهدى النبوي والإسلام.. فماذا أفتيتم؟ إن رأى المنار فى موضوع الخلاف بين المجلتين معروف مسطور فى أعداد المنار السابقة؛ فهل نفهم من فتواكم هذه أن المنار يتنكر لماضيه، وينسى برنامجه؟ لقد قلتم يا سيدى الأستاذ: إن كلتا المجلتين على الحق!! ولا يعقل فيما نعلم أن يختلف اثنان على أمر واحد ينفيه أحدهما ويثبته الآخر ثم يقال إنهما جميعًا على الحق!! لا.. ليس هذا شأن المنار الذى عرفناه وبكيناه لما احتجب، نرجو أن تصارحونا بالحق فى أى الجانبين هو كما عودنا صاحب المنار إن كنتم تنصرون الحق لله وفى سبيل الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

إمضاء .. قارئ

بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله والصلاة والسلام على نبيه وآله وصحبه ومن والاه، وبعد..

 فعلى حضرة القارئ المحترم السلام ورحمة الله عليكم وبركاته، وكنت أود أن يتكرم بإظهار اسمه حتى نتعارف فى سبيل البحث عن الحقيقة، ولعله -وفقنا الله وإياه- رأى فى ستر اسمه معاونة على خدمة الحق للحق بدون نظر إلى الصلات الخاصة بين المتباحثين؛ فنحن نحسن الظن، ونشكر للأخ الفاضل خطابه، مؤكدين دعوتنا الأولى لجميع إخواننا لانتقاد ما يرونه مستحقًا للانتقاد فى المنار حتى تتعاون الجهود على الوصول للحقيقة، ويسرنا أن نعلن أننا ننتهز مثل هذه الفرصة لنسلك بالنقد الأدبي مسلكًا نبيلا لا هجر فيه ولا إقذاف، ولا تجهيل ولا تضليل، ولنكمل به أنفسنا؛ فإن الكمال لله وحده، والعصمة لأنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم، ومن ادعى لنفسه الكمال أو ظن بها ذلك فهذا عين النقص، ونسأل الله ألا يحرمنا من يبصرنا بعيوبنا ويحملنا على الصواب والسداد.

وإلى الكاتب وإلى حضرات القراء الفضلاء رأينا فيما ورد فى هذا الخطاب:

1-     نسب إلينا الأستاذ الكاتب أننا صرحنا بأن كلتا المجلتين على حق، وبنى على هذا أنه من غير المعقول أن يختلف اثنان على أمر واحد ينفيه أحدهما ويثبته الآخر ثم يقال إنهما جميعًا على الحق، وحضرته لهذا يرجو أن نصارح بالحق فى أى الجهتين هو؟

ولا أدرى من أين جاء حضرته بهذا التصريح الذى نسبه إلينا إن كان قد جاء به من تصريحنا بأن كلا الفريقين فى نظرنا أصدقاء لنا، وممن يتصدون للدعوة إلى الخير؛ فليس معنى هذا تصويب رأى أحد منهما ولا كليهما فى موضوع نزاع بعينه. والذى صرحنا به فى موضوع الخلاف أن كلا الفريقين غير محق، وأن موضوع الخلاف من أساسه لا يصح أن يكون خلافًا، وليس بلازم أن يكون كل مختلفين أحدهما محق والآخر مبطل؛ بل قد يكونان مخطئين جميعًا، وهو ما صرحنا به بوضوح؛ فإن فريقًا تغالى فى التأويل وفريقًا تغالى فى الجمود، ورأى السلف فى ذلك -وهو رأى المنار الذى يشير إليه حضرة الكاتب، وهو رأينا الذى أوضحناه فى مقالنا- أن مذهب السلف ترك الخوض فى هذه المعاني مع اعتقاد تنزيه الله -تبارك وتعالى- عن أمثالها المنسوبة لخلقه، وإمرارها كما جاءت، وتفويض علم حقائقها إلى الله؛ فمن فسر الاستواء بالاستيلاء فقد تورط فى التأويل، وألزم نفسه غير ما ألزمه الله به، ومن فسره بالاستقرار فقد تورط فى التشبيه، وأوهم سامعه جواز نسبة صفات المخلوقين إلى الخالق؛ فإن قال "هو استقرار يليق بجلاله"؛ فهو إذن لم يأت بشىء، والأولى أن يقف عند النص، والحق فى هذا وأمثاله أن يقال: "استوى استواء يليق بجلاله"، مع اعتقاد عدم المشابهة، وتفويض الحقيقة إلى الله، إلا أن تقوم قرينة لا تدفع تصرف اللفظ عن ظاهره؛ فنقف عند حدود هذا الصرف ولا نتجاوزه، كما ذهب إليه السلف فى معية الحق -تبارك وتعالى- بعلمه لا بذاته.

تلك أمور فصلناها وقررناها، ولُمنا الفريقين على أنهما طرقا بحوثًا كهذه بمثل الأسلوب الذى خاضوا به فيها، وبذلك حققنا رجاء الكاتب، وصارحناه أن الحق ليس فى أحد الجانبين.. فأين القصور إذن؟.

2-     هذا من حيث موضوع النزاع، ورأى المنار فيه بالذات، وأظن أن فيما نقلناه فى باب التفسير فى هذه المعاني كفاية، ومن أراد الاستزادة زدناه حتى يعلم أن المنار لا يتنكر لماضيه فى الحق، ولا ينسى برنامجه من الصدع به، ولا يناقض نفسه فى الصواب. 

وبقى بعد هذا أن نذكر حضرة الكاتب ببعض ما فاته معرفته من برنامج المنار الذى سارت عليه فى ماضيها، ونريد أن نسير بها عليه فى حاضرها.

صرح صاحب المنار بقاعدة وأسماها قاعدة المنار الذهبية فقال: "نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه"؛ فمواطن الخلاف يا سيدي يقدم فيها العذر على التجريح وسوء الظن، وذلك ما سنسير عليه إن شاء الله، وقد قضى صاحب المنار حياته وهو يصدع بالتحرر من الجمود، وينعى على أهل التقليد الأعمى الذين يقدمون أقوال الناس التى لم يقم عليها دليل على الأدلة الواضحة بغير برهان بين أيديهم، إلا أن هذا قول فلان وفلان؛ فهل يريدنا حضرة الكاتب على هذا التقليد الذي نعاه صاحب المنار على أهله؟ أم يريدنا متبعين للدليل والحق ندور معه كيفما دار وإن خالفنا صاحب المنار؟ وأظن أن حضرة الكاتب يذكر أن الشافعي كان من خلصاء تلاميذ مالك رضى الله عنهما، وكلاهما فى جلالة قدره ورسوخه فى علمه وتقواه لله بالمنزلة التى لا تتسامى إليها القوادح، ومع هذا فلم يمنع هذا الشافعي أن يخالف مالكًا، وأن يكون له رأيه ومذهبه.

فنحن مع المنار وصاحبه -عليه رحمة الله ورضوانه- فى الأصول الأساسية التى لا خلاف فيها فى منهاج الإصلاح العام وخطته، وفيما وضح الحق فيه واستبان عليه وجه الدليل فى الشئون التى فيها مجال للتفكير والنظر، ولا يمنعنا هذا من أن نخالف صاحب المنار -رحمه الله- فى الأمور التى لم يقم عليها الدليل المقنع فى نظرنا، على أن ندلى برأينا وحجتنا، وندع لكل من أراد التنبيه أن ينبهنا لما فاتنا، والله الموفق للصواب.

انتقاد المنار حول ما نشر فى آيات الصفات وأحاديثها أيضًا:

جاءنا هذا الخطاب بتوقيع مبهم، ونحن نتسامح بنشره إيثارًا لتجلية الموضوع تجلية تامة بحول الله وقوته مع ردنا عليه:

بسم الله الرحمن الرحيم..

حضرة صاحب الفضيلة الشيخ حسن البنا رئيس تحرير مجلة المنار، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد..

 فقد اطلعنا على ما نشر فى العدد الأخير من المنار تحت عنوان "نقد المنار" ردًا على رسالة أحد القراء الكرام، وشجعنا ذلك على الكتابة إليكم فى شىء من الصراحة.

لما اطلعت على عدد المنار الذى بدأتم بإصداره، وبادرنا إلى تصفحه حاك فى نفسى ما جاء فى رسالة القارئ إليكم، وفهمت من كلامكم فيما بين المجلتين (الهدى والإسلام) من الخلاف نفس ما فهمه الناقد، ولعلى أخطأت الفهم أنا أيضًا، إلا أنكم فى ذلك المقال لم تقولوا بخطأ المجلتين، ولم تشيروا إلا إلى إخلاصهما وجهادهما، وكان من العجب فى رأينا ما ذكرتم فى العدد الأخير من خطأ المجلتين فيما ذهبتا إليه.

وبالرجوع إلى أقوال المجلتين ومقالات كُتّابهما ظننا أن فى الحكم بخطأ المجلتين يكاد يكون حكمًا على طائفتين غيرهما؛ فقد أجهدنا نفسنا فى مطالعة المجلتين؛ فلم نعثر على عقيدة تفسير الاستواء بالاستقرار، كما لم يجزم الفريق الآخر بتأويل الاستواء على الاستيلاء وحده.

فلعلكم تأثرتم فى حكمكم هذا بما يقال ويشاع فقط، وهذا ما نرجو أن يكون المنار بعيدًا عنه.

ولذلك نرى إحقاقًا للحق، ووضعًا للأمور فى نصابها أن ترجعوا إلى كلام المجلتين، وتحكموا عليهما بما تقولان لا بما يقول بعضهم على بعض، ولا بما يشاع عنهما بين العامة والدهماء.

وملاحظة أخرى فى العدد الأخير نحب أن تبينوا لنا حقيقتها؛ وهى ما نسبتموه لعلى بن أبى طالب -كرم الله وجهه- فى باب التفسير؛ ذلك الكلام العجيب الذى لا يشبه فى أسلوبه ولا معانيه ما تواتر إلينا من كلامه  رضى الله عنه ؛ ففى أى ديوان من دواوين السنة المعتبرة عند المسلمين وجدتم هذا الخبر؟ أفيدونا رحمكم الله، وإن لم يوجد فى شىء منها؛ فهل ترون أن أمثال هذه "الحواديت" التى مُلئت بها بعض الكتب المجهولة الأصل مثل نهج البلاغة وغيره تصلح للاحتجاج ولتقرير عقيدة إسلامية؟

وإني وإن كان بيني وبين فضيلتكم معرفة، إلا أنى أحب أن أكون إلى حين مستترًا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أحد قراء المنار

ملاحظة: فاتنا أن نذكر لفضيلتكم أن خصوم الهدى النبوي اليوم هم بذواتهم وأقلامهم خصوم المنار وصاحبه، عليه رحمة الله.

الجواب:

هذا الخطاب يتناول أمورًا أربعة:

أولها: أننا فى المقال الأول لم نقل بخطأ المجلتين... إلخ، ونحن نعتقد أن هذا المعنى إن لم يصدر فى كلامنا تصريحًا؛ فقد كان واضحًا كل الوضوح، ونحن نؤثر دائمًا أدب القول والكتابة وعفة اللسان والقلم فى عصر أغفل الكاتبون فيه هذا المعنى، وعلى كل حال فكلامنا فى المقال الثاني قد أوضح ما أبهمه المقال الأول إن كان ثمة إيهام؛ فلا نطيل القول فى أمر قد وضح، والحمد لله.

وثانيها: أن ما نسبناه إلى المجلتين يكاد يكون حكمًا على طائفتين غيرهما.. إلخ، ونحن نقول إن ما كتبناه هو ما فهمناه من مجموع ما كتب الكاتبون فيهما، فإذا لم يكن كذلك فليتكرم حضرة الكاتب علينا وعلى القراء الكرام ببيان ما فهم هو من كلام كل منهما، وبيان وجه الخلاف بينهما، وليؤيد ذلك بنصوص الكاتبين مستوفاة، وليحكم بينهما إن شاء ذلك، ونحن على استعداد لنشر ما يكتب وللرد عليه إن كان فيه ما يستحق الرد وموافقته إن كان مما نرى أنه الحق، على أن يكون هذا آخر ما نكتب فى هذا الباب، نقول هذا ونستحسن لأنفسنا ولحضرة الكاتب وللقراء كذلك أن نغلق هذا الباب من الآن، وخصوصًا بعد أن انصرف الجانبان إلى ما هو أجدى وأنفع، وفيما كتبناه فى بيان ما يجب أن يكون عليه المسلمون فى هذا المعنى كفاية.

وثالثها: استنكار ما نسبناه لأمير المؤمنين على -كرم الله وجهه- فى باب التفسير والتهكم عليه بهذا الأسلوب اللاذع، فغفر الله للكاتب سورة قلمه، وعفا عنا وعنه، ونحب له أن يروض قلمه دائمًا على غير هذا الأسلوب؛ فهو أعف وأبر، ولو أن حضرته التفت إلى أننا إنما سقنا هذا الكلام للبيان والاستئناس لا للاحتجاج والاستدلال وهذه واحدة، ونسبناه إلى نهج البلاغة ولم ننسبه إلى الإمام -كرم الله وجه- وهذه الثانية، وعلقنا فى حاشية المقال بما يستفاد منه أن نسبة هذا الكتاب موضع خلاف بين الأدباء وهذه الثالثة، ولو أن حضرته التفت إلى هذه النواحي الثلاث لأعفى نفسه وأعفانا من هذا التعليق القاسي الذى لا مبرر له.

رابعها: يذكر الكاتب أن خصوم اليوم هم بذواتهم وأقلامهم خصوم المنار وصاحبه عليه رحمة الله، يا سبحان الله!! إن الزمن يا أخي يدور، والمدارك تتطور بدورانه، وإن تجارب الناس ودرجة معرفتهم بالأمور تزداد وتتسع يومًا عن يوم، وإن القلوب بيد الله يصرفها كيف شاء، وإن كثيرًا ممن حمل السيف أمام رسول الله  صلى الله عليه وسلم ودعوته كانوا بعد ذلك من أشد الناس حماسة فى مناصرتها وتفانيًا فى محبته  صلى الله عليه وسلم، وسبحان من أعز الإسلام بقاتل حمزة وجعله قاتل مسيلمة، وأين أنت من خالد وعكرمة، ولا تجعلني أقول لك أكثر من هذا؛ ففى مكان القول متسع، ولكن ما كل ما يعرف يقال، وجميع الناس متفقون على أن الحق لا يعرف بالرجال؛ فهبهم لا زالوا فى خصومتهم.. أفلا نتبع الحق إذا جاء على أيديهم، ونكون أول من يناصرهم فيه؟.

إننى أعتقد أن ما يمر بنا من هذه الحوادث الجسام سيوحد الكلمة، وسيجمع الرأي، ويقرب شقة الخلاف، ويسوى صفوف العاملين للإسلام إن شاء الله؛ فاصبر إن وعد الله حق، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته(31).

 

الأحمدية "القاديانية واللاهورية"

سيدي الأستاذ محرر المنار الأغر حفظه الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد..

 فقد طالعنا فى بعض الجرائد الإسلامية مقالات حول طائفة القاديانية وحول وجود بعض من ينتسبون إليها بالأزهر الشريف لطلب العلم، وأن فضيلة شيخ الأزهر قد ألف لجنة من بعض كبار العلماء للتحري عن مذهب هذه الطائفة، ولم نعلم نتيجة هذا التحقيق بعد.. فنرجو التكرم ببيان موجز عن عقائد هذه الجماعة، وعن الفرق بين القاديانية والأحمدية، وعن نشأتهم، وعن واجب المسلمين بإزائهم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

محمد فهمى أبو غدير

كلية الحقوق

الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..

1-     رأس هؤلاء الجماعة رجل هندي اسمه غلام أحمد، ولد عام 1839م، ومات عام 1908م بقاديان من أعمال بنجاب الهند، ادعى أنه المسيح الموعود به، وأن روح الله قد حلت فيه، وأنه المهدى المنتظر، وأنه أوحى إليه بكثير من اللغات ومنها الإنجليزية، وخلط ذلك بكثير من الدعاوى الفارغة التى تتناقض مع أصول الإسلام كل المناقضة. وقد وجدت السياسة الإنجليزية فيه مطية من مطاياها فى التفريق بين الشعوب، وأغرته وأمدته بالمال والجاه حتى كان قضاة المحاكم الإنجليزية يتساهلون معه فى الأحكام فى القضايا التى رفعت عليه وعلى أتباعه فى جرائم كثيرة، وفى نظير هذه المساعدات من الدولة الإنجليزية أصدر هذا المدعى فتاوى صريحة بسقوط أحكام الجهاد؛ بل وصرح بأن من يرفع السيف فى وجه إنجلترا آثم مرتكب لأكبر الجرائم، وقد وقعت بينه وبين علماء الهند الفضلاء مناظرات ومجادلات عدة، ووقعت بينه وبين صاحب المنار السيد محمد رشيد رضا -رحمه الله- محاورات، وتناول السيد هذا الموضوع فى كثير من أعداد المنار، وترى بعضَ هذه المقالات فى الأجزاء الخامس والسادس والسابع من المجلد الحادي والثلاثين.

 وقد كان من عادات هذا المسيح المدعى أن يدعو مناظريه إلى المباهلة، وأن يجعل موت خصمه قبله دليلا على انتصاره وبالعكس، وقد مات سنة 1905م بعد أن زعم قبل ذلك أن أجله قد انتهى، فمكث بعد هذا الزعم ثلاث سنوات، وقد بنى مقبرة بقاديان، وادعى أن من دفن بها سيدخل الجنة، بشرط أن يتبرع بربع ماله، وأبقى الله فضلاء العلماء الذين قاموا ببيان زيفه وغلطه؛ فما كانت هذه التمويهات لتكون دليلا على حق أو هادمة لباطل، ولكنه الإفلاس من الدليل، وقد قام برياسة جماعته من بعده ابنه بشير محمود، ومقره الآن قاديان من البلاد الهندية، وتنسب الطائفة إلى أبيه، فتسمى الطائفة الأحمدية. 

2-     وقد انقسمت هذه الطائفة الأحمدية إلى فريقين: فريق اعتقد النبوة لغلام أحمد وصدق بكل ما قاله، وهؤلاء هم أحمدية قاديان، ورئيسهم ابنه بشير. وفريق اعتقد فيه أنه مصلح مجدد، وأخذ ببعض مزاعمه دون البعض على حد اعترافهم وقولهم -والله أعلم بحقيقة ما يضمرون- وإن كانت كل أعمالهم تدل على أنه لا فرق بينهم وبين إخوانهم السابقين، وهؤلاء هم أحمدية لاهور، ولسانهم الناطق السير محمد على صاحب ترجمة القرآن، وهو غير مولانا محمد على رحمه الله، وكلام الفريقين بعيد عن أصول الدين؛ فإنه إذا كان غلام أحمد قد صرح بأنه نبى، وأنه يوحى إليه، وصرح بغير ذلك من الطوام والفظائع؛ فهل يغنى شيئًا عن اللاهوريين أن يقولوا إننا نعتقد أنه مجدد؟ وأي القولين يصدق الناس: قول المتبوع الذي يصرح بنبوة نفسه، أم قول التابعين الذين لا يبلغون به هذه المرتبة؟ لو كان هؤلاء صادقين لرجعوا إلى الحق، ولوافقوا جمهور أئمة المسلمين، ولبرئوا إلى الله من هذا الرجل براءة الذئب من دم ابن يعقوب.

3-     والغريب فى أمر هذه الجملة أنها تلبس على المسلمين بأمرين؛ أولهما: نشاط فى الدعوة إلى نحلتها بزعم أنها دعوة إلى الإسلام، وتشجيع الإنجليز وإغراؤهم من وراء ذلك، وإلا فلمَ لا يبرز هذا النشاط قويًا إلا فى بلاد الإنجليز وما يلحق بها؟ والثاني مجادلتهم للمبشرين وهدم مزاعم دعاة النصرانية، وهم فى هذا مهرة مجيدون، وهدم الباطل سهل ميسور، وهم يستغلون هذا الانتصار ليقولوا للمسلمين: إننا أخلص الناس للإسلام، وهاأنتم ترون كيف نهزم دعاة النصرانية. ويخفون عنهم أنهم إن هدموا عقائد النصرانية فهم لا يبنون عقائد إسلامية، ولكن عقائد خيالية، لعل النصرانية خير منها. وفيما يلى نموذج من أقوال رئيس هذه الطائفة فى كثير من المسائل، وفى إسقاط الجهاد، وتحريم رفع السيف فى وجه الإنجليز:

قال غلام أحمد فى رده على صاحب المنار بكتاب أسماه "الهدى والتبصرة لمن يرى"، يذم العلماء لأنهم لم يؤمنوا بمسيحيته الموعودة، ويعلن أن رفع السيف على الإنجليز جرم عظيم:

"وقد أمروا أن يتبعوا الحكم الذي هو نازل من السماء، ولا يتصدوا له بالمراد، فما أطاعوا أمر الله الودود؛ بل إذا ظهر فيهم المسيح الموعود فكفروا به كأنهم اليهود، وقد نزل ذلك الموعود عند طوفان الصليب وعند تقليب الإسلام كل التقليب؛ فهل اتبع العلماء هذا المسيح؟ كلا بل أكفروه، وأظهروا الكفر القبيح، وأصروا على الأباطيل، وخدموا القسوس، فأخذهم القسوس، وشجوا الرؤوس، وأذاقوهم ما يذيقون المجوس؛ فرأوا اليوم المنحوس. سيقول العلماء: إن الدولة البريطانية أعانت القسوس، ونصرتهم بحيل تشابه الجبل الركين لينصروا المسلمين فى جميع العالمين.

والأمر ليس كذلك، والعلماء ليسوا بمعذورين؛ فإن الدولة ما نصرت القسوس بأموالها ولا بجنود مقاتلين، وما أعطتهم حرية أكثر منكم ليرتاب من كان من المرتابين؛ بل أنشأت قانونًا سواء بيننا وبينهم، ولها حق عليكم لو كنتم شاكرين.

أتريدون أن تسيئوا إلى قوم أحسنوا إليكم، والله لا يحب الكافرين الغامطين، ومن إحسانهم أنكم تعيشون بالأمن والأمان، وقد كنتم تخطفون من قبل هذه الدولة فى هذه البلدان، وأما اليوم فلا يؤذيكم ذباب ولا بقة ولا أحد من الجيران، وإن ليلكم أقرب إلى الأمن من نهار قوم خلت قبل هذا الزمان، ومن الدولة حفظة عليكم لتعتصموا من اللصوص وأهل العدوان، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ وإنا رأينا من قبلها زمانًا موحشًا من دونه الحطمة، واليوم بجنتها عرضت علينا الجنة، نقطف من ثمارها، ونأوي إلى أشجارها؛ ولذلك قلت غير مرة: إن الجهاد ورفع السيف عليهم ذنب عظيم، وكيف يؤذى المحسن من هو كريم؟ ومن آذى محسنه فهو لئيم".

هذا كلام المسيح الموعود عن طغاة الاستعمار المنكود؛ فهل يدافع الإنجليز عن أنفسهم فى كل مكان بأكثر من هذا الهذيان؟ اللهم إن هذا هو البهتان. وانظروا إليه كيف ينفى عن الإنجليز مساعدة المبشرين، وهم أعضادهم فى كل وقت لا ينكرون ذلك، ولا يخفون ما هنالك؛ بل يساعدونهم فى كل حين بأوقاف المسلمين، وما أنباء التبشير فى السودان الآن وفى غير السودان من قبل ببعيد عن هذا المسيح الموعود، ولكن الغرض يعمى ويصم.

وقد نشرت مجلة الفتح الغراء فى العدد 664 بتاريخ 10جمادى الآخرة سنة 1358هـ استفتاء لعلماء الهند، جاء به كثير من أقوال هذا المدعى المكفرة مثل قوله: "إنى نبى، وأنا المخصوص بالنبوة فى هذه الأمة" من كتاب حقيقة الوحى صـ391 له.

وقوله: "خاطبني الله بقوله: اسمع يا ولدى" من كتاب البشرى صـ94 له.

وقوله: "كان المسيح متعودًا على الكذب والافتراء" من كتاب ضميمة أنجام آتهم صـ17.

وهكذا من هذه التخريفات، وقد أفتى علماء الهند الفضلاء بكفره لهذه الأقوال الشائنة، وذيلت هذه الفتيا بتوقيعات كثير من الأفراد والطبقات العلمية فى جميع بلاد الهند تقريبًا وفى كثير من بلدان الإسلام.

4-     أما حادثة الأزهر فخلاصتها أن طالبين ألبانيين ممن ينتسبون إلى هذه الطائفة اندرجا فى سلك طلبة القسم العام، وتنبه لهما بعض اليقظين من الطلبة، فأبلغوا أمرهما إلى الجهات المختصة فى الأزهر، فأجرى تحقيق بمعرفة شيخ القسم العام، ثم ألفت لجنة للكشف عن حقيقة هذا المذهب، وقد أمد بعض الغيورين هذه اللجنة بكثير من كتب هذه الطائفة التى تصرح بضلالها ومحالها.

وكلمتنا لحضرات أصحاب الفضيلة علماء الأزهر الأجلاء وعلى رأسهم فضيلة الأستاذ الأكبر أن الأمر أهون من ذلك كله، والحق واضح بين، ووجود هذين الطالبين بين الطلبة فيه خطر محقق، ذلك إلى أنهما سيستخدمان نسبتهما للأزهر وحملهما لاسم طلب العلم فيه استخدامًا خبيثًا فى تأييد نحلتهما الضالة الهدامة، وقد ذاع الأمر الآن فى مصر وفى غير مصر من بلاد الإسلام، وعلى يد هذين الطالبين وأمثالهما ممن يشايعهما فى ألبانيا ذاع السفور والتحلل من عقدة الإسلام، ورأى الأزهر رأى رسمي يتخذه الناس حجة فى كل أقطار العالم؛ فتبعة فتواه فى هذا كبيرة عظيمة، ومسئوليته فى هذا لا يعلم مداها إلا الله.

نرجو أن تضع اللجنة نصب عينها هذه الحقائق، وأن تقذف هذه الفتنة بالحق الواضح، فتدمغها فإذا هى زاهقة، وأن تأخذ بالحزم فتقصى عن حرم الأزهر كل طالب لا خير فيه للإسلام، والله الهادي إلى سواء السبيل(32).

 

استحضار الأرواح

جاءنا من الدكتور محمد سليمان المدرس بكلية الطب ما يأتى:

حضرة الأستاذ الجليل رئيس تحرير المنار الغراء، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد..

 فقد أكثر الناس القول فى موضوع الأرواح ما بين ناف له ومثبت إياه؛ فما القول الحق فى ذلك؟ وهل الأرواح التى ستحضر هى أرواح الموتى أنفسهم؟ وهل يصدق ما يأتى على لسانها من أقوال؟

 أفيدونا مشكورين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المخلص

دكتور محمد أحمد سليمان

الجواب:

يتطلب الجواب على ما تقدم الكلام فى عدة مباحث نلخصها فيما يلى:

أولا: كيف نشأت مباحث الاستحضار فى الغرب؟:

حدث فى سنة 1846 الميلادية فى قرية هيدسفيل من ولاية نيويورك بأمريكا أن أسرة رجل اسمه جون فوكس أزعجتها عدة طَرقات كانت تحدث فى البيت الذي تسكنه، فتجرأت مدام فوكس ذات يوم، وسألت ذلك الفاعل المستتر قائلة: هل أنت روح؟ واتفقت معه على أن يكون علامة الإيجاب بطرقتين، وعلامة السلب طرقة واحدة، فأجابها بطرقتين، ثم ما زالت تسأله وهو يجيب بواسطة الطرق حتى علمت منه أنه روح ساكن كان بهذا البيت، فقام جار له ودفنه فيه، ثم سلبه ماله، ولم تهتد الحكومة إليه، فأسرعت المرأة إلى إنذار البوليس والنيابة، فحضر رجالها، وأخذوا كل حيطة، وتسمعوا الطرقات على طريقة صاحبة البيت، وفهموا منها ما فهمته، وعمدوا إلى الحفر فى المكان الذي دلت عليه الروح، فوجدوا جثة القتيل، وكان من أثر ذلك اهتداؤهم إلى القاتل. 

وظلت الروح بعد ذلك تزور بنتي جون فوكس هذا حتى أنستا بها، وحضرت أرواح أخرى ادعت أنها أرواح موتى آخرين، وتحسنت طريقة التفاهم بينهما وبين هذه الكائنات، فصارت بالحروف الهجائية، وذلك بأن تقرأ إحدى الفتاتين الحروف الهجائية فتطرق الروح عند الحرف المراد كتابته طرقة، فتكتب الفتاة الأخرى ذلك الحرف وهكذا، ثم تجمع الحروف المكتوبة وتقرأ.

وقد رجت الروح الأختين فى أن تعلنا أنهما على استعداد لإشهاد الناس خوارق تثبت لهم وجود الأرواح فى أكبر مكان للمحاضرات فى نيويورك، فأبت البنتان ذلك خشية سوء القالة والاتهام بالشعوذة، وأصرت الروح على ذلك؛ لأنها تريد أن تنتهز هذه الفرصة لتثبت للناس صحة خلود النفس، وقالت: إنها ما تجشمت الاستئناس بهما إلى هذا الحد إلا لهذه الغاية، وأنذرتهما بأنها لن تعود إليهما إن بقيتا على إصرارهما، فلم يسعهما أخيرًا إلا القبول، ولكنهما اشترطا أن يكون بدء العمل فى الصالونات الكبيرة لبعض البيوت، ثم تتدرجان من ذلك إلى قاعة المحاضرات الكبرى، وتم ذلك، فأخذت البنتان تحضران فى بعض تلك الصالونات أمام جمهور من العلماء والمفكرين، فتحدث خوارق عديدة رغمًا عن كل ما يتخذ من الاحتياطات، ثم أعلنتا التحضير فى قاعة المحاضرات الكبرى، فشهد هذه الخوارق جم غفير من الناس، وكثر التحدث بها فى كل مكان.

وكان القاضي "أدموندس" رئيس مجلس الأعيان بأمريكا من أسرع الناس إلى بحث هذه الخوارق، فاعتقد صحتها، وكتب فيها بحثًا مستفيضًا، فحملت عليه الجرائد حملة عنيفة، ففضل أن يستقيل ويخدم البحث على أن يبقى فى وظيفته مقيدًا بتقاليدها، وكان من أكبر العاملين على نشر هذه المباحث.

وتلاه الأستاذ "مابس" معلم علم الكيمياء بالمجمع العلمي، فانتهى أمره بتصديقها، ونشر مباحثه على رءوس الأشهاد، وحذا حذوه الأستاذ "روبرت هير"، وأطال البحث والتنقيب، فظهر له صدق صاحبيه المتقدمين، فوضع كتابًا حافلا أسماه "الأبحاث التجريبية على الظواهر النفسية"، وكان من أثر هذه الكتابات أن انتشرت الفكرة، وتعدت أمريكا إلى غيرها من بلدان العالم الغربي.

ثانيًا: اختلاف الآراء فى صحة هذه البحوث:

كان طبيعيًا أن تختلف آراء الناس فى نتائج هذه البحوث، وأن يكون هناك المصدقون المتشيعون والمنكرون المتشككون، وكان طبيعيًا أن تثير هذه الناحية حربًا كتابية وعلمية، وذلك ما حدث فعلا، وكان من المصدقين بصحة هذه البحوث وصدق نتائجها كثير من أعلام العلم الكوني فى بلدان أمريكا وأوروبا المختلفة، وكثير منهم كتب كتابات فى غاية من القوة والدقة التحليلية؛ مما يدل على اقتناع تام بما يقول، وكثير منهم ألف فيها الرسالات والكتب القيمة، ولم يبالوا بما يتعرضون له من هزء المتقدمين وسخريتهم، وكثيرٌ منهم كان ملحدًا صميمًا، فعاد مؤمنًا بالحياة الروحية كل الإيمان، وهذه نماذج من كتابات هذا الفريق:

1-     العالم الكيماوي "وليم كروكس"، وقد ألف كتابًا دعاه "مباحث على الظواهر النفسانية"، قال فيه: "بما أنى متحقق من صحة هذه الحوادث فمن الجبن الأدبي أن أرفض شهادتي لها بحجة أن كتاباتي قد استهزأ بها المنتقدون وغيرهم ممن لا يعلمون شيئًا فى هذا الشأن، ولا يستطيعون بما علق بهم من الأوهام أن يحكموا عليها بأنفسهم. أما أنا فسأسرد بغاية الصراحة ما رأيته بعيني وحققته بالتجارب المتكررة".

2-     العالم الكبير "ألفرد روسل" وقد وضع فى هذه المباحث كتابين؛ أحدهما "خوارق العصر الحاضر" والثاني "الدفاع عن الإسبرتزم"، وقد قال فى الأول ما نصه: "لقد كنت ملحدًا بحتًا مقتنعًا بمذهبي تمام الاقتناع، ولم يكن فى ذهني محل للتصديق بحياة روحية، ولا يوجد عامل فى هذا الكون كله غير المادة وقوتها، ولكنى رأيت أن المشاهدات الحية لا تغالب؛ فإنها قهرتني وأجبرتني على اعتبارها حقائق مثبتة قبل أن أعتقد نسبتها إلى الأرواح بمدة طويلة، ثم أخذت هذه المشاهدات مكانًا من عقلي شيئًا فشيئًا، ولم يكن ذلك بطريقة نظرية تصويرية، ولكن بتأثير المشاهدات التى كان يتلو بعضها بعضًا على صورة لا يمكن تعليلها بوسيلة أخرى".

3-     العالم الإيطالي الكبير "سيزار لومبروز"، وقد رمى المصدقين بهذه المباحث بالجنون، وكتب عنهم فصولا انتقادية فى مؤلفاته، ثم عاد فبحث هذه الخوارق مع الأستاذ "كاميل فلامريون" الفرنسي والأستاذ "شارل ريشييه" مدير الجريدة العلمية والمدرس بجامعة الطب الباريزية، ثم انتهى به الأمر إلى أن ألف كتابًا قال فى مقدمته: "لم يكن أحد أشد منى عداءًا للإسبرتزم بحكم تربيتي العلمية وميولي النفسية، وكنت أعتبر من البديهيات العلمية أن كل قوة ليست إلا خاصة من الخواص المادية، وأن كل فكر وظيفة من الوظائف المخية، وكنت أهزأ دائمًا من الأخونة المتكلمة، ولكن غرامي بإظهار الحقيقة وتجلية الحوادث المشاهدة قد تغلب على عقيدتي العلمية".

وكثير غير هؤلاء لا يحصيهم العد درسوا هذه المباحث، وتشيعوا لها من الإنجليز والفرنسيين والألمان والأمريكان وغيرهم، وشايعهم على ذلك كثير من الكتاب والأدباء وأصحاب الصحف والمجلات التى اقتنعت بفكرتهم، وتأسست للدفاع عن هذا الرأي الصحف والمجلات الكثيرة فى كل بلد من بلدان أوروبا وأمريكا، وقد انتدبت الجمعية الملكية بإنجلترا لجنة من ثلاثين عالمًا فى الفنون المختلفة عهد إليها بحث هذا الأمر، فعكفت على ذلك ثمانية عشر شهرًا، وعقدت للبحث والتجربة أربعين جلسة، ورفعت تقريرًا مطولا فى مجلد ضخم ترجم إلى أكثر اللغات، وقد جاء فيه:

"عقدت هذه اللجنة اجتماعاتها فى البيوت الخاصة بالأعضاء لأجل نفى كل احتمال فى إعداد آلات لإحداث هذه الظواهر أو أية وسيلة من أى نوع كانت، وقد تحاشت اللجنة أن تستخدم الوسطاء المشتغلين بهذه المهمة أو الذين يأخذون أجرًا على عملهم هذا؛ لأن واسطتنا كان أحد أعضاء اللجنة، وهو شخص جليل الاعتبار فى الهيئة الاجتماعية، ومتصف بالنزاهة التامة، وليس له غرض مادى يرمى إليه، ولا أى مصلحة فى غش اللجنة. كل تجربة من التجارب التى عملناها بما أمكن لمجموع عقولنا أن تتخيله من التحوطات عملت بصبر وثبات، وقد دبرت هذه التجارب فى أحوال كثيرة الاختلاف، واستخدمنا لها كل المهارة الممكنة لأجل ابتكار وسائل تسمح لنا بتحقيق مشاهداتنا، وإبعاد كل احتمال لغش أو توهم، وقد اكتفت اللجنة فى تقريرها بذكر المشاهدات التى كانت مدركة بالحواس وحقيقتها مستندة إلى الدليل القاطع، وقد بدأ نحو أربعة أخماس اللجنة تجاربهم وهم فى أشد درجات الإنكار لصحة هذه الظواهر، وكانوا مقتنعين أشد اقتناع بأنها كانت إما نتيجة التدليس أو التوهم، أو أنها تحدث بحركة غير اعتيادية للعضلات، ولم يتنازل هؤلاء الأعضاء المنكرون أشد الإنكار عن فروضهم هذه إلا بعد ظهور المشاهدات بوضوح لا تمكن مقاومته فى شروط تنفى كل فرض من الفروض السابقة، وبعد تجارب وامتحانات مدققة مبتكرة، فاقتنعوا رغمًا منهم بأن هذه المشاهدات التى حدثت فى خلال هذا البحث الطويل هى مشاهدات حقة لا غبار عليها".

ولقد سرى أثر هذه المباحث الغريبة إلى مصر، فتناولها كثير من الكتاب المعتنين بهذه الناحية بالبحث والكتابة والتجربة، وفى مقدمة هؤلاء الكاتب الأستاذ محمد فريد وجدي الذي تحمس للفكرة أشد التحمس، ولا زالت كتبه أهم المراجع العربية للباحثين فى هذا الشأن فيما نعلم، ومنهم كذلك الشيخ طنطاوي جوهري رحمه الله، والأستاذ أحمد فهمي أبو الخير الذي ما زال يوالى تجاربه الروحية بحماسة شديدة.

ولقد كتب الأستاذ محمد فريد وجدى منذ شهر تقريبًا فى جريدة الأهرام اليومية يسوق إلى القراء نبأ عناية جامعة كمبردج بهذه المباحث، واعتبارها علمًا رسميًا مقررًا يدرس فى الجامعة، وإنشاء قسم خاص بهذه المباحث يتقدم إليه من يشاء من الطلاب إلى شهر مايو من هذا العام 1940 الميلادية.

وإلى جانب هذا الفريق المتحمس قام فريق ينكر صحة هذه الظواهر، ويحملها على خداع الوسطاء، أو تدليس المجرمين، أو انخداع المشاهدين، أو غلبة الوهم والخيال، وقد نقل المقتطف فى بعض مجلداته كلامًا فى هذا عن بعض العلماء الأوروبيين الكونيين كذلك، ومن هؤلاء:

1-     الدكتور "مرسير" من أطباء الأمراض العقلية بمستشفى تشريح كروس ببلاد الإنجليز، وقد ألف كتابًا فى الرد على السير "أوليفر لودج" فيما ذكره عن المباحث النفسية، وقال: إن الاشتغال بهذه المباحث يؤدى إلى اختلال العقل ويعرض أصحابه للجنون.

2-     والدكتور "بوبرنصن" مدير المستشفى الملكي بأدنبرج الذي رمى المشتغلين بهذه المباحث بأن فيهم ضعفًا خلقيًا فى الإرادة يجعلهم مستعدين للتصديق بالإسبرتزم ومناجاة الأرواح وما كان من هذا القبيل.

ولكن المتتبع لهذه الحركة العلمية وخصوصًا بعد مضى هذا الزمن الطويل عليها وهي لا تزال تضم إلى جانبها كثيرًا من أساطين رجال العلم المادي حتى انتهى الأمر باعتبارها علمًا رسميًا يدرس فى جامعة محترمة كجامعة كمبردج.. لا يسعه إلا أن يصدق بكثير من نتائج هذه البحوث، ويؤمن بوجود قوى روحية تظهر حقيقة للذين يزاولون هذه التجارب، ويتعارفون عليها، وليس هناك من حرج عقلي أو ديني على المسلم أن يؤمن بوجود هذه القوة الروحية وظهورها للناس وتخاطبها معهم؛ فإن هذا الكون لا زال مملوءًا بالأسرار المادية والروحية التى لم يصل العقل الإنساني بعد إلى معرفة كنهها وحقيقة أمرها، وهذه الكشوف التى وصلنا إليها من أعجب العجائب التى لو ذكرت للناس من قبل لخيل إليهم أنهم فوق المستحيل، وقد أصبحت الآن فيما بينهم أمورًا عادية صرفه.

ولكن الذي يحتاج إلى إنعام النظر حقًا هو الحكم على شخصية هذه القوى التى تدعى أنها أرواح الموتى، أهي حقًا أرواح الموتى؟ أم هى قوى روحية أخرى تنتحل هذه الصفات؟ هذا هو الأمر الذي يعنينا نحن المسلمين أن نتعرف خلاصة القول فيه، وهو ما سنتناوله بإيجاز..

(2) شخصية الأرواح:

يذهب معظم الباحثين فى هذه النواحي النفسية والمؤمنين بها إلى أن هذه القوى الروحية التى تخاطبهم هى بنفسها أرواح الموتى، ويستدلون لذلك بأمور؛ منها:

1-     تكلم الروح بلغة المتوفى، واستخدامها عبارته المألوفة، وتذكير أهله بحوادث قديمة كانوا نسوها لبعد العهد بها، ولا يدرى بها أحد سواهم.

2-     دلالتها على أوراق ومستندات ضائعة وضعها المتوفى فى تلك الأماكن قبل موته بدون إطلاع أحد عليها.

3-     كتابتها بخطه والتوقيع بتوقيعه والتعبير بأسلوبه حتى ولو كان من كبار الكاتبين؛ بحيث عرض ذلك على الخبيرين فى الخطوط فحكموا بتشابه الخطين والإنشاءين.

4-     ظهورها متجسدة على صورته التى كان بها على الأرض، وتكلمها بصوته ولهجته.

5-     إجماعها فى كافة بقاع الأرض على التأكيد بأنها أرواح الموتى، وأنها ليست من الملائكة ولا من الجن، ولا هى أرواح أخرى ذات طبيعة مجهولة.

6-     حبها لأهلها، وتوصيتها الحضور بهم، وتكليفهم البحث عنهم ومساعدتهم.

 ومع هذه الأدلة فإن كثيرًا من المؤمنين باستحضار الأرواح يرى أنها لم تصل بعد إلى حد اليقين، وليست ملزمة أو محددة لشخصية الروح، وإن كانت ترجح ذلك.

أما نحن فننظر إلى هذه المسألة على ضوء التعاليم الإسلامية الروحية، وذلك يدعونا إلى أن نلخص موقف الإسلام من عالم الأرواح.

موقف الإسلام من الروح:

نستطيع أن نوجز الكلام فى هذا البحث الخطير فى عدة نقط:

1-     الروح مجهولة حقيقتها فهى من أمر الله، ولم يتعرض القرآن ولا السنة لبيان هذه الحقيقة.

2-     الروح هى أصل الحياة، والتفكير والإدراك فى الإنسان وانفصالها عن هذا الجسد هو الموت.

3-     الروح بعد الموت "فى مستقر يعلمه الله تبارك وتعالى"، وهي فى مستقرها هذا إما منعمة إن كانت ممن عمل الصالحات فى حياته الدنيا، وإما معذبة إن كانت ممن ارتكب المعاصي والآثام، أو لم يعرض بالرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم بعد بعثهم.

4-     يجوز أن تتصل الروح وهى فى مستقرها هذا بالأحياء من أهل هذا الكون اتصالا جزئيًا؛ فهى تعلم كثيرًا من شئونهم، ويزيدها سرورًا فى حياتها البرزخية هذه أن تعلم من أهلها خيرًا، ويؤلمها أن تعلم عنهم غير ذلك، كما أنها ترد السلام على من سلم عليها إن كانت من أهل النعيم والصلاح، كما أنها قد تتراءى لهم فى بعض الرؤى والحالات، وقد ورد ذلك فى الأحاديث الصحيحة النبوية.

5-     إن الروح هى فى العالم البرزخي، وبعد أن تجردت من ظلمات هذا الجسد لا سلطان لأحد عليها إلا الله، وهي لا تخبر بغير الحق، ولا تقول إلا الصدق، ولخروجها عن قوانين هذه الحياة الأرضية وبعدها عما فيها من آثام، ولا أعلم أنه ورد فى ذلك نص صريح من كتاب أو سنة؛ بل هو مقتضى الخروج من هذه الدار إلى تلك الدار.

6-     إن كثيرًا من القوى الروحية (أعنى الخفية) الأولى تتصل بهذه الروح فى هذه الحياة الدنيا، وقد تسلط عليها بالوسوسة والإيحاء، وقد تشكل بها بعد هذا الانتقال إلى حياة البرزخ، وقد ورد شىء من هذا فى الأحاديث الصحاح.

هذا مجمل ما يمكن أن يقال فى نظرة الإسلام إلى عالم الروح.

فإذا نظرنا على ضوئه إلى شخصية القوى التى تظهر فى الاستحضار، وعرفنا أن هذه القوى تخبر بأنها فى نعيم، وقد يكون أصحابها معروفين بالكفر أو الإثم فى الدنيا، وهى مع هذا تسوق كثيرًا من الآراء التى تناقض تعاليم الأديان.. رجحنا أن تكون هذه القوى الروحية عوالم أخرى من عوالم الكون غير المادي، تقدر على التشكيل بما تشاء من الصور، وتتصل بالإنسان فى حال الحياة، فتعلم كثيرًا من شئونه، وما يحيط به، ثم تخبر بذلك حين الاستحضار، وليست هى أرواح الموتى الحقيقية، وإلى هذا القول تطمئن النفس.

وبذلك نجمع بين التسليم بوجود عالم وراء عالم المادة، وهو ما ينهدم بوجوده مذهب الماديين من أساسه، ونخلص من الحرج الاعتقادي الذي نقع فيه إذا سلمنا بأنها أرواح الموتى، وحقائق الأمور عند الله.

"وبعد".. فلا شك أن هذا البحث من أدق البحوث وأولاها بالعناية وطول التفكير، وقد اشتجرت فيه الأقلام جيلين من الزمان إلى الآن، ومن واجب العلماء فى الأمم الإسلامية أن يسابقوا علماء الغرب فى هذا المضمار، وأن يكثروا من التجارب الدقيقة لمعرفة حقيقة هذه الأمور بأنفسهم، إنهم حراس أضخم ميراث روحى عرفته الإنسانية، وهم أولى الناس بتعرف حقائق هذه البحوث }وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ [الأحزاب: 4](33).

 

خطيئة آدم

حضرة المحترم رئيس تحرير المنار، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد..

 فأرجو التكرم بإيضاح معنى خطية آدم عليه السلام، وكيف يوسوس إليه الشيطان؟ وكيف يتفق ذلك مع العصمة مع بيان توبته؟ وهل ما يقال من أنه أمر فى الباطن ونهى فى الظاهر صحيح؟ وهل جاءت هذه القصة فى القرآن على سبيل التمثيل كما قال بعض المفسرين؟ وما معنى التمثيل عند من قال به؟

 أفيدونا، أثابكم الله، وغفر لنا ولكم.

محمود عسكر

معلم بملجأ بنها قليوبية

والجواب والله أعلم:

قص الله علينا فى القرآن الكريم قصة آدم -عليه السلام-، وأنه خلقه وسواه ونفخ فيه من روحه، وأسكنه هو وزوجته الجنة، ثم أمره ألا يأكل من الشجرة }وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة: 35]، فوسوس لهما الشيطان، وخدعهما، وأقسم لهما إنه لمن الناصحين، فاغتر بنصيحته، ونسى آدم ما عهد به إليه ربه، فأكلا من الشجرة مع تحذير الله إياه من إبليس وجنوده، ثم علما ما كان من أمرهما، فندما، وألهمهما الله -تبارك وتعالى- صيغة التوبة، فقالا: }رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23]، فقبل الله توبتهما، ولم يؤاخذهما على هذا العصيان إلا بأن أنزلهما إلى الأرض، حيث استعمراها ونسلا فيها، واستمرت الحرب سجالا بين ذريتهما وبين الشيطان إلى يوم يبعثون؛ فمن تبع الشيطان فهو من الآثمين المعذبين، ومن حذره وخالفه فهو من المهتدين الناجين، وسيبرأ هذا الشيطان من أتباعه يوم الدين، ويكون بينه وبينهم ما قصه الله علينا من نبئه فى سورة إبراهيم: }وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِىَ الأمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُوا أَنْفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِىَّ إِنِّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ [إبراهيم: 22-23]، هذا مجمل ما قصه الله علينا فى القرآن الكريم فى مواضع عدة. ومنه تعلم:

1-     أن خطيئة آدم -عليه السلام- هى حسن ظنه بوسوسة إبليس حتى أكل من الشجرة.

2-     وأن توبته إنما كانت بإلهام الله -تبارك وتعالى- إياه أن يدعوه بما جاء فى الآية الكريمة فى سورة الأعراف }قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23]، وقد كان عن هذه التوبة أن غفر الله له وتاب عليه كما قال -تبارك وتعالى-: }ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طه: 122].

أما كيف يوسوس له إبليس؟ فذلك لأن قبول النفس البشرية للوسوسة أمر جِبلِّى خلقي فيها، والوسوسة تصل إلى النفس الإنسانية، وإن كان الشيطان بعيدًا عنها، كما يصل الصوت البعيد على تموجات الهواء أو ما هو أرق منه، ولهذا لا تقدح الوسوسة نفسها فى العصمة؛ فكل بنى آدم قابلون لها معرَّضون إليها بأصل الخلقة، وإنما يعصم عن ذلك من عصم منهم برعاية إلهية، وحفظ رباني من الله -تباك وتعالى- مع حسن الاحتراز ودوام اليقظة والبصر، وسد مداخل الشيطان إلى القلب، وتضييق مجاريه، وشغل القلب بذكر الله -تبارك وتعالى- }إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا [الإسراء:65]. على أنه قد ورد أن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم، ولا مانع من أن يكون إبليس قد دخل الجنة بعد أن طرد منها مخالفًا بهذا الدخول أمر الله -تبارك وتعالى- عاصيًا له، وما زال يزين له الأكل من الشجرة "ويفت فى الذروة والغارب، ويمنيه بمعسول الأماني، ويرفؤه بالقول اللين حتى تمكن من نفسه وأنساه أنه عدوه الذي حذره الله منه أشد الحذر".

وأما كيف يعصى آدم وهو نبى والأنبياء معصومون من الوقوع فى الذنوب؟ فقد أجاب كثير من الناس عن ذلك بوجوه:

الأول: أن يكون ذلك منه على سبيل النسيان، وسمى خطيئة أو معصية وغواية لعلو منزلته وعظيم تقريب الله إياه وكبير فضله عليه، وكلما قرب العبد من ربه وعلت منزلته كلما كان ذلك أدعى إلى اليقظة وتمام التذكر والانتباه.

وقد صرحت الآية بلفظ النسيان، ويؤيد هذا قراءة "فنُسّى" بالتشديد، على أن المراد فأنساه إبليس أمر الله -تبارك وتعالى-، وبهذا قال بعض المفسرين، وإن كان الجمهور على أن نسى هنا بمعنى ترك لا بمعنى سها.

والثاني: أنه تأول فيما فعل بأنه فهم أن المراد بالأمر والنهى الإرشاد فقط لا الإلزام، كما حمل الفقهاء الأمر بكتابة الدَّين على أنه أمر إرشاد لا أمر إيجاب، ولا إثم فى تركه، ويرد على هذا تصريح القرآن بالظلم المترتب على قربان الشجرة فى الآية الكريمة }وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة: 35].

والثالث: أن ما حصل من الذنب صغيرة، ويرد على هذا أن القول بعدم عصمة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- من الصغائر قول مرجوح، ويرد عليه كذلك تصريح القرآن الكريم بأن هذه المخالفة عصيان وغواية ترتب عليها عقاب وتوبة وإخراج من الجنة.

والرابع: أن ذلك كان قبل النبوة المستلزمة للعصمة من المعصية، وإلى هذا ذهب أبو بكر بن فورك، قال: "بدليل ما فى آيات طه من ذكر المعصية قبل ذكر الاجتباء والهداية"، وهو كلام حسن لولا أن ورود الأمر والنهى من الله -تبارك وتعالى- لآدم بدون واسطة من أمارات النبوة ودلائلها، وقد كان ذلك قبل الأكل قطعًا. ومن جهة أخرى فإن النفس أميل إلى أن الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- معصومون من المعصية على كل حال، وإن لم يكن ذلك رأى جمهور علماء العقيدة، وإن لم ينعقد الإجماع إلا على العصمة بعد النبوة.

والخامس: أن الله -تبارك وتعالى- أمر آدم بعدم الأكل من شجرة، وأراه إياها، فظن آدم أنه منهى عن هذه الشجرة بعينها لا بجنسها، فأكل من شجرة أخرى من جنسها، ولم يأكل من التى انصب عليها النهى بالذات، وهذا تأويل حسن وإن كان عليه مسحة التحايل.

وهناك تصوير تطمئن إليه النفس، وذلك أن يقال: إن حقيقة المعصية مخالفة أمر الله -تبارك وتعالى- قصدًا، وحقيقة الطاعة هى امتثال أمر الله -تبارك وتعالى- قصدًا كذلك؛ فمناط المؤاخذة أو المثوبة فى الطاعة والمعصية النية والقصد، مصداق قوله تبارك وتعالى: }لَن يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ [الحج: 37].

ولا شك أن آدم -عليه السلام- حين أكل من الشجرة لم يكن يضمر معنى المخالفة، ولم يكن يسر نية العصيان؛ بل لعله كان يتحرى بذلك المبالغة فى طاعة الله -تبارك وتعالى- بأنه سيصير ملكًا خالدًا دائم الطاعة والعبادة لربه، وقد خدعه قَسَم إبليس له، فآخذه الله بهذا الانخداع مع سابق التحذير، وإلى هذا المعنى أشار ابن قتيبة، فقال: "أكل آدم من الشجرة التى نهى عنها باستزلال إبليس وخدائعه إياه، والقسم له بالله إنه لمن الناصحين حتى دلاه بغرور، ولم يكن ذلك عن اعتقاد متقدم ونية صحيحة"، ويؤيد ذلك أن آدم لم يتفطن إلى أنه أخطأ إلا بعد أن عاتبه ربه كما قالت الآية الكريمة: }وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ [الأعراف: 22]، وحينئذ ألهمهما التوبة، فجأرا إلى الله تبارك وتعالى: }قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23]، وهذا المعنى واضح مفهوم فى سياق الآيات كلها تقريبًا.

وقد آخذه الله على هذا التأثر بوسوسة الشيطان وخدعه مؤاخذة شديدة حتى تاب على حد القاعدة المعروفة: "حسنات الأبرار سيئات المقربين".

وما يقال من أنه أمر فى الباطن ونهى فى الظاهر كلام مردود ولا دليل عليه، والأخذ به هدم للتكليف فى الحقيقة، وقد جاء فى كلام بعض الصوفية شىء من هذا فى التفريق بين معصية الولي والفاسق، وأفضل ما قالوه فى ذلك أن الولي لا يقصد المعصية، ولا يفرح بها، ولا يصر عليها، وهذا كلام لا غبار عليه، وأما ما زاد عليه فغلو لم يقم عليه دليل. وأما القول بأن هذه القصة وردت فى القرآن الكريم على سبيل التمثيل فهو قول مردود كذلك، والآيات الكريمة صريحة فيما وردت له لا تحتمل التأويل، وإذا جاز لنا أن نتأول هذه الآيات مع صراحتها ووضوحها؛ فقد صار ذلك ذريعة للخروج بالقرآن كله عن معانيه الواضحة، وهذا مذهب لا يدع من نحلة الباطنية شيئًا، وليس هناك ما يقتضى العدول عن الظاهر.

وقد ادعى بعض المتعلمين الذين تشربت نفوسهم المعارف والعلوم الفرنجية أن ظاهر هذه الآيات يصطدم بالنظريات العلمية الحديثة التى جاء بها "دارون" وأمثاله من علماء الحيوان والبحث فى أصل الأنواع، وهذا كلام لا تدقيق فيه، ودعوى لا صحة لها؛ فإن "دارون" نفسه لم يدَّعِ أن الإنسان فرع عن غيره من الحيوان، سواء أكان هذا الحيوان قردًا أم غيره.

كان دارون يدرك تمام الإدراك أن نظريته لا تفسر وجود الأنواع تفسيرًا نهائيًا يثلج الصدر، ويعترف بأن هناك عوامل خفية لا يعرفها اشتركت مع ناموس الانتخاب الطبيعي فى تنويع الأحياء؛ فقد قال فى كتابه "أصل الأنواع": "أنا مقتنع بأن ناموس الانتخاب الطبيعي كان العامل الرئيسي لحدوث التنوعات فى الأنواع، ولكنه لم يكن العامل الوحيد فى إحداث ذلك التغيير"؛ فهو هنا يشير إلى أمرين هامين: الأول أن ناموس الانتخاب الطبيعي فى رأيه السبب الرئيسي لحدوث التنوعات فى الأنواع لا فى حدوث الأنواع نفسها، والثاني أنه ليس الناموس الوحيد فى ذلك. وقد كتب دارون إلى المستر "هيات" يقول له: "اسمح لى بأن أضيف إلى هذا بأني لست من قلة العقل بحيث أتصور بأن نجاحي يتعدى رسم دوائر واسعة لبيان أصل الأنواع"؛ فأين هذا من غلو قليلي العقول من جامدي مقلدة الفرنجة؟ على أن هذا ليس كل ما فى الأمر؛ فقد هب كثير من العلماء الغربيين يخطئون نظرية دارون تخطئة تامة، وينقضونها من أساسها، ويؤلفون فى ذلك الكتب الضافية، ويدللون على ذلك بأدلة علمية يعتقدون صحتها كل الاعتقاد، وإليك بعض الشواهد من كلام هؤلاء الناس أنفسهم:

1-     قال الأستاذ "فون باير" الألماني، وهو من أقطاب الفيسيولوجيين والحفريين والبيولوجيين، وأستاذ علم الأميريولوجيا (علم الأجنة) فى كتاب أسماه "دحض المذهب الداروني" بالنص: "إن الرأي القائل بأن النوع الإنساني متولد من القردة السيماتية هو بلا شك أدخل رأى فى الجنون قاله رجل على تاريخ الإنسان، وجدير بأن ينقل إلى أخلاقنا جميع الحماقات الإنسانية مطبوعة بطابع جديد، يستحيل أن يقوم دليل هذا الرأي".

2-     وقال الأستاذ "فيركو" الألماني موافقًا الأستاذ "دوكانزفاج" الفرنسي فى كتابه "النوع الإنساني" بالنص: "يجب على أن أعلن بأن جميع الترقيات الحسية التى حدثت فى دائرة علم الأنثروبولوجيا (علم التاريخ الطبيعي للإنسان) السابقة على التاريخ لجعل القرابة المزعومة بين الإنسان والقرد تبعد عن الاحتمال شيئًا فشيئًا؛ فإذا درسنا الإنسان الحفرى فى العهد الرابع وهو الذى يجب أن يكون الإنسان فيه أقرب إلى أسلافه نجد إنسانًا مشابهًا لنا كل الشبه؛ فإن جماجم جميع الرجال الحفريين تثبت بطريقة لا تقبل المنازعة بأنهم كانوا يؤلفون مجتمعًا محترمًا للغاية، وكان حجم الرأس فيهم على درجة يعتبر الكثير من معاصرينا أنفسهم سعداء إذا كان لهم رأس مثله. وإذا قابلنا مجموع الرجال الحفريين الذين نعرفهم للآن بما نراه فى أيامنا هذه استطعنا أن نؤكد بكل جرأة بأن الأشخاص ناقصي الخلقة هم بين الرجال العصريين أكثر منهم بين الرجال الحفريين، ولا أتجاسر أن أفترض بأننا فى اكتشافاتنا الحفرية لم نصادف غير أصحاب القرائح السامية من أهل العهد الرابع، والعادة أننا نستنتج من تركيب هيكل عظمى حضري تركيب معاصريه الذين عاشوا معه فى وقت واحد، ومهما كان الأمر فيجب على أن أقول بأنه لم توجد قط جمجمة قرد تقرب حقيقة من جمجمة الإنسان، على أنه يوجد بين الإنسان والقرد خط انفصال نهائي آخر؛ فإننا لا نستطيع فقط أن نعلم الناس بأن الإنسان يتولد من القرد أو من أى حيوان آخر؛ بل لا نستطيع أن نعتبر ذلك من الأمور العلمية".

3-     وقال الأستاذ "إيلى دوسيون" من العلماء الفيسيولوجيين عن مذهب دارون فى كتابه "الله والعلم" ما يأتى: "بعد أن قاوم المذهب الداروني عشرين سنة تلك المكافحة الحقة التى قصده بها خصومه قضى عليه قضاء غريبًا بأن يهلك تحت ضربات أشد أشياعه غيرة عليه"، ثم ذكر بعد ذلك ما كتبه "هربرت سبنسر" فى هدم ناموس الانتخاب الطبيعي، وما كتبه "ويسمان" فى هدم ناموس انتقال الصفات والخصائص المكتسبة، وقد كانا عماد مذهب دارون.

هذا قليل من كثير جدًا جدًا من أقوال العماء الأوروبيين فى كتبهم ومجلاتهم فى نقض رأى يعتقده جامدو مقلدة الأوروبيين عندنا كل شىء فى العلم الحديث، ويتشدقون فى الكلام عنه والذهاب إليه، وليس ذلك كل ما فى الأمر؛ بل تغالى بعض العلماء الأوروبيين فأخذ يحاول إثبات عكس هذا المذهب.

فهل يحق لنا أمام كلام كهذا -مهما تغالينا فى قيمته علميًا فهو لم يخرج عن أنه فرض من الفروض العلمية- أن نؤول كلام العليم الخبير ونصرفه عن الظاهر إلى التأويل والتمثيل؟!.

ويعجبني كلام تقدم فى هذا المعنى فى تفسير المنار فى سورة البقرة عند قوله -تبارك وتعالى-: }وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّى جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: 30]، جاء هناك ما نصه: "كما أخطأ من قالوا إن الدليل العقلي هو الأصل، فيرد إليه الدليل السمعي، ويجب تأويله لأجل موافقته مطلقًا، والحق كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن كلا من الدليلين إما قطعي وإما ظني؛ فالقطعيان لا يمكن أن يتعارضا، وإذا تعارض ظني من كل منهما مع قطعي وجب ترجيح القطعي مطلقًا، وإذا تعارض ظني مع ظني من كل منهما رجحنا المنقول على المعقول؛ لأن ما ندركه بغلبة الظن من كلام الله ورسوله أولى بالاتباع مما ندركه بغلبة الظن من نظرياتنا الضئيلة التى يكثر فيها الخطأ جدًا؛ فظواهر الآيات فى خلق آدم مثلا مقدم فى الاعتقاد على النظريات المخالفة لها من أقوال الباحثين فى أسرار الخلق وتعليل أطواره ونظامه ما دامت ظنية لم تبلغ درجة القطع". أ هـ.

على أنه أورد بعد ذلك وقبله كلامًا طويلا فى الآيات، وذكر الرأي القائل بالتمثيل على أنه رأى الخلف، ورأى الأخذ بالظاهر ونسبه للسلف، وأكد فى عدة مواضع أنه يقول بهذا الأخير، ونسبة القول بالتمثيل للخلف قول فيه نظر؛ فمن المقصود هنا بالخلف؟ ومن الذي قال منهم بهذا الرأي؟ سؤالان يحتاجان إلى الجواب. على أن الذى يعنينا أن نتفق على الاعتقاد بأن الآيات على ظاهرها، وأن القصة حقيقة واقعة كما قصها الله -تبارك وتعالى- علينا فى كتابه }وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ [الأحزاب: 4]. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(34).

 

حكم الصلاة فى النعلين

هل يصح تأدية الصلاة فى الأحذية ومعاملتها معاملة الخفين؟ وإن صح ذلك فما هى شروطه؟ وهل جميع المذاهب تجيزه؟

 أفيدونا مشكورين، وسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

شبين القناطر – إسماعيل محمد سالم

فى هذا السؤال أمران: حكم الصلاة فى النعلين، وحكم اعتبارهما خفين يجوز المسح عليهما.

فأما عن الأمر الأول فالصلاة فى النعلين الطاهرين جائزة بإجماع المذاهب؛ لورود الأحاديث الصحيحة بذلك؛ فعن أبى مسلمة سعيد بن زيد قال: "سألت أنسًا أكان النبى  صلى الله عليه وسلم يصلى فى نعليه؟ قال: نعم" متفق عليه. 

وقد ورد ذلك فى كثير من الأحاديث الصحيحة. وهل الصلاة فى النعلين من العزائم والمستحبات، أم هى من الرخص والتيسيرات، أم هى من المباحات فقط؟ أقوال واردة لاختلاف الأدلة، وممن ذهب إلى الاستحباب الهادوية، وروى عن عمر  رضى الله عنه  بإسناد ضعيف أنه كان يكره خلع النعال، ويشتد على الناس فى ذلك، وكذا عن ابن مسعود، وقال ابن بطال: الصلاة فى النعال والخفاف من الرخص -كما قال ابن دقيق العيد السيد- لا من المستحبات؛ لأن ذلك لا يدخل فى المعنى المطلوب من الصلاة، وهو وإن كان من ملابس الزينة إلا أن ملامسة الأرض التى تكثر فيها النجاسات قد تقصر عن هذه الرتبة، وقال القاضي عياض: الصلاة فى النعلين رخصة مباحة فعلها النبى  صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضى الله عنهم، وذلك ما لم تعلم نجاسة النعل، وممن كان لا يصلى فى النعلين عبد الله بن عمرو وأبو موسى الأشعري.

وكل هذا إذا كانتا طاهرتين أو لم تعلم النجاسة عليهما، أما إذا كانتا نجستين فالإجماع على خلعهما ما لم تطهرا؛ لما أخرجه أبو داود من حديث أبى سعيد الخدري رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فخلع نعليه، فخلع الناس نعالهم، فلما انصرف قال: "لم خلعتم نعالكم؟ فقالوا: يا رسول الله رأيناك خلعت فخلعنا، قال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثًا، فإذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعليه فلينظر فيهما فإن رأى بهما خبثًا فليمسحه بالأرض ثم ليصل فيهما".

وهل تطهران بالدلك بالأرض أم لا بد من التطهير بالماء؟ فى ذلك تفصيل؛ قال القاضي عياض من المالكية: إن علمت النجاسة وكانت متفقًا عليها لم يطهرها إلا الماء، وإن كانت مختلفًا فيها كأرواث الدواب وأبوالها ففى تطهيرها بالدلك بالتراب قولان؛ الإجزاء وعدمه، وأطلق الأوزاعي والثوري إجزاء الدلك لحديث أبى داود عن أبى هريرة  رضى الله عنه  مرفوعًا "إذا وطئ أحدكم الأذى بخفيه فطهورها التراب"، ويرى أبو حنيفة إجزاء الدلك إلا فى البول ورطب الروث، ويرى الشافعي ألا إجزاء إلا بالغسل بالماء، وعند الحنابلة هذه الأقوال جميعًا، ومن متمات هذا البحث أن يلفت النظر إلى هذه الأمور:

1-     إذا تعذر خلع النعلين لمانع قهري كما يكون ذلك للضباط والجنود ومن فى حكمهم فعلى المفتي أن ييسر الأمر عليهم، ويجيز لهم الصلاة فى النعلين، ويحملهم على أيسر الأمور، وحسبهم الدلك بالأرض.

2-     يلاحظ فى صلاة النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالنعال أن المسجد لم يكن فيه فرش حينذاك، وأن العرف قد جرى على البساطة التامة، وأن النجاسات المغلظة لم تكن قد أحاطت بحياة الناس هذه الإحاطة، وأن كثرة الممشى فى الرمال كفيلة بالتطهير، وأن الأمر لا يعدو أن يكون رخصة جائزة؛ فالتشبث بهذا المظهر بحجة أنه إظهار سنة مهملة فيه نظر، والأولى إيثار الخلع، وخصوصًا وقد تغيرت كل هذه الاعتبارات جميعًا، والله أعلم.

 وأما عن الأمر الثاني وهو اعتبار النعل كالخف فى جواز المسح عليها فلا مانع من ذلك بشروطه؛ وهي أن يكون لبسهما على طهارة ووضوء تام، وأن تكون النعل ساترة للرجل مع الكعبين خالية من خرق يمنع المسح، والله أعلم(35).

 

ما رأى الفقه الإسلامي فى هذا الاقتراح؟

حضرة صاحب الفضيلة المرشد العام لجمعيات الإخوان المسلمين، السلام عليكم ورحمة الله، وبعد..

 فلما كان يهم كل مسلم غيور على دين الله أن يرجع المسلمون إلى حظيرة دينهم وبخاصة أن يقيموا شعيرة الصلاة التى هجرها السواد الأعظم من الأمة. ولقد جرت الأمة على سنة إيقاظ المسلمين لتناول طعام السحور فى شهر رمضان؛ فإن كنتم ترون أن هذه بدعة حسنة فما أحرانا أن نطلب إلى جماعة من الإخوان المسلمين فى جميع البلاد التى لها بها شعب أن يذكر رجال مخلصون منهم بالصلاة وقت السحور وقبيل الفجر، وحبذا لو أذن كل منهم من سطح منزله أو من نافذة بيته فى هذا الوقت تذكيرًا بالصلاة عملا بقوله تعالى }وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 55].

محمود عبد السلام

رئيس جماعة الوعظ والدعوة الإسلامية

الإخوان: جاءنا هذا الاقتراح متأخرًا، فرأينا أن ننشره فى هذا العدد على أن ننشر التعليق عليه فى العدد القادم، إن شاء الله(36).

 

ما رأى الفقه الإسلامي

فى الأذان فى البيوت والإيقاظ لصلاة الصبح؟

قرأت فى العدد الحادي عشر اقتراح الأخ المفضال محمود أفندي عبد السلام أن نطلب إلى جماعة الإخوان المسلمين فى جميع البلاد التى بها شعب أن يذكر رجال مخلصون منهم بالصلاة قبيل الفجر، وأن يكون ذلك بأن يؤذن كل منهم على سطح منزله أو من نافذة بيته.

فأما التذكير بالصلاة قبل وقتها فإن بعض المتفقهين يظن أنه بدعة؛ إذ لم يؤثر ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو إحداث لعمل لم يكن موجودًا من قبل، والمحدثات بدع تجب محاربتها والقضاء عليها. 

ويبدو أن فى هذا الزعم شيئًا كثيرًا من المبالغة والغلو والخروج عن التطبيق الصحيح؛ فلم لا يكون هذا من باب المعاونة على الخير، وهى عمل مستحب بين المسلمين إن لم يكن واجبًا؟ ولم لا يكون من باب الأمر بالمعروف؟ على أن الحاجة فى ذلك صارت ماسة لاستحكام الغفلة وتكاسل الناس عن الصلاة فى أوقاتها، والشرط فى البدعة التركية أن يتركها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع وجود المقتضى وانتفاء المانع، والمقتضى موجود الآن على أن التذكير بالصلاة عمل سابق؛ فقد كان بلال يدعو رسول الله  صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة، وكان المؤذنون ينادون الأمراء إليها، وكان بعض الخلفاء الراشدين ينادى الناس ويدعوهم لأدائها كذلك؛ فالتذكير بالصلاة وبخاصة الإيقاظ لصلاة الصبح يبدو لى أنه عمل مستحب يحبذه الفقه الإسلامي ويحض عليه، وأنه قربة إلى الله -تبارك وتعالى-، وأنه من الدلالة على الخير والدعوة إليه والتعاون فيه.

أما الأذان لذلك قبل الصلاة فى الصبح؛ فقد اختلف فيه العلماء؛ فأبو حنيفة ومحمد والثوري والهادي والناصر والقاسم وزيد بن على أنه لا يجوز كبقية الصلوات، واستدلوا لذلك بأن بلالا أذن قبل طلوع الفجر، فأمره النبى  صلى الله عليه وسلم أن يرجع فينادى، إلا أن العبد قد نام، فرجع، فنادى، إلا أن العبد قد نام رواه أبو داود والترمذي، وقال الجمهور: يجوز الأذان قبل الفجر مطلقًا فى رمضان وغيره خلافًا لابن القطان؛ فإنه خصه برمضان، واستدلوا بحديث ابن عمر وعائشة أنه  صلى الله عليه وسلم قال: "إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم" رواه الخمسة وأحمد، وهذا الأذان الأول يكتفى به للصلاة عند الشافعية والحنابلة، وعند المالكية قولان أرجحهما عدم الاكتفاء به.

وقد وضح من هذا أن الجمهور على جواز هذا الأذان، وهو وإن كان مخالفًا لما عليه الناس الآن مع أن بعضهم يرى فى ذلك لبسًا على الكثير؛ فإن الأصوات والأشخاص غير معروفة فى هذه الأوقات كما كانت معروفة من قبل، إلا أن هذا لا يمنع من إحياء هذه السنة، وإحياء السنة من أفضل القربات إلى الله -تبارك وتعالى- كذلك.

وعلى هذا فالذي أوصى الإخوان به أن يعملوا بهذا الاقتراح الطيب، وأن يتفقوا فيما بينهم فى الأحياء والبلاد المختلفة على تنظيم تنفيذه، كل جماعة بحسب ظروفها الموضعية، وفى ذلك -إن شاء الله- ثواب عظيم، وتشجيع على طاعة الله كبير، وفقنا الله وإياهم للخير، وهدانا جميعًا سواء السبيل(37).

 

المراسلة والمناظرة والنقد

الوضوء من حمل الميت

جاءنا هذا الخطاب الكريم من الأخ الدكتور مصطفى عبد الله مفتش صحة طنطا..

رئيس تحرير مجلة الشهاب الغراء، السلام على فضيلتكم ورحمة الله وبركاته، وبعد.. 

 فقد قرأت بالعدد الثاني من المجلة فى الباب الثاني من قسم "الرواية والإسناد" فى الحديث الشريف فى موضوع "بين المتن والإسناد" أن ابن عباس -رضى الله عنهما- رد حديث أبى هريرة رضى الله عنه الذي نصه "من حمل جنازة فليتوضأ".

وحجته فى ذلك أنه لا يلزم الوضوء من حمل عيدان يابسة، وإني كطبيب صحى وقائي أرى أن فى اتباع هذا الحديث والعمل به وقاية عظيمة من كثير من الأمراض المعدية؛ إذ لا يخفى أن نسبة عظيمة من الوفيات سببها الأمراض المعدية، والجثة وإن غسلت جيدًا لا يبعد أن تنفجر فى أثناء حملها، ويسيل منها شىء على الأعواد الخشبية التى يحملها الناس فيتلوثون منها، وهنا يكون احتمال العدوى شديدا لا يزيله إلا الوضوء، وفى نظري أن الحديث الشريف متمم للحديثين الشريفين اللذين نصا على غسل من غسل ميتًا وعلى وضوء من حضر الغسل؛ وذلك للوقاية من الأمراض التى قد تحدث من التلوث بإفرازات الميت. وبهذه المناسبة أرى أن يقتصر الحكم على صحة الحديث على تمحيص الإسناد ومعرفة حال الرواة؛ لأن الدين الإسلامي ينتظم جميع الأمم كما ينتظم جميع الأزمنة؛ فما لا نراه مفيدًا الآن قد يكون ألزم ما يكون فى المستقبل، وصدق الله العظيم إذ يقول: }وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107]، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

"الشهاب": جزى الله الأخ الدكتور مصطفى عبد الله عن السنة خير الجزاء؛ فقد فتح بخطابه هذا بابا من أبواب البحث والنظر جم الفائدة، ودافع عن دقة النظرات الإسلامية هذا الدفاع الفني الطيب، فشكر الله له.

أما عن الموضوع نفسه: فالحديث رواه الترمذي وأبو داود والنسائي وابن حبان عن أبى هريرة بلفظ "من غسل ميتًا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ"، ومن طريق ثان عن النبى صلى الله عليه وسلم "مِنْ غُسْلِها الغُسل، ومن حَمْلِها الوُضُوء"، وقال الترمذي: حديث حسن، وقال النووي -رحمه الله- فى شرح المهذب: قد ينكر عليه قوله: إنه حسن بل هو ضعيف، وقد بين البيهقي وغيره ضعفه، قال البيهقي رحمه الله: الروايات المرفوعة فى هذا عن أبى هريرة غير قوية، قال: والصحيح أنه موقوف عليه، وقال على بن المديني والإمام أحمد: لا يصح فى هذا الباب شىء، وقال ابن المنذر: ليس فى الباب حديث يثبت، وقال الحافظ فى التلخيص: قد حسنه الترمذي، وصححه ابن حبان، ورواه الدارقطني بسند رواته موثقون، وقد صحَّح الحديث أيضًا ابن حزم، وذكر الماوردي أن بعض أصحاب الحديث خرج لهذا الحديث مائة وعشرين طريقًا، قال الشوكاني -رحمه الله-: والحاصل أن الحديث كما قال الحافظ هو لكثرة طرقه فى أسوأ أحواله أن يكون حسنًا؛ فإنكار النووي على الترمذي تحسينه معترض، قال الذهبي: هو أقوى من عدة أحاديث احتج بها الفقهاء.

وقد اختلف الفقهاء فى الحكم الفقهي المتصل بهذا الحديث؛ فروى عن على وأبى هريرة وهو أحد قولي الناصر والإمامية أن الغسل واجب من غسل الميت لهذا الحديث ولحديث عائشة رضى الله عنها عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يغتسل من أربع؛ من الجمعة والجنابة وغسل الميت" رواه الدارقطني البيهقي وأبو داود، الأمر على الندب لحديث "إن ميتكم يموت طاهرًا فحسبكم أن تغسلوا أيديكم" أخرجه البيهقي وحسنه ابن حجر، ولحديث "كنا نغسل الميت فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل" أخرجه الخطيب من حديث عمر، وصحح ابن حجر أيضًا إسناده، وقال النووي: إنه لا فرق فى هذا بين غسل الميت المسلم والكافر؛ فيسن الغسل من غسلهما، ومذهب الإمام أحمد -رحمه الله- أن من غسل ميتًا ينتقض وضوؤه فيجب عليه الوضوء، ويستحب له الغسل.

وهذا كله فى حكم الغسل من تغسيل الميت، وأما الوضوء من حمله فلم يقل به أحد من الفقهاء إلا ابن حزم فى المحلى؛ فإنه قال بوجوبه، وقال الخطابي فى معنى من حمله فليتوضأ: أى يكون على وضوء ليتهيأ للصلاة على الميت، وفيه نظر.

ولعل أعدل المذاهب فى هذا استحباب الغسل من غسل الميت واستحباب الوضوء من حمله جمعًا بين الأدلة جميعًا.

وما جاء فى الخطاب من الإشارة إلى الوضوء على من حضر الغسل لم أقف له على دليل، ولم أر فيه نصًا لأحد من الفقهاء، إلا أنه قد جاء فى مختصر البرني أن الشافعي نص على أن الوضوء يسن من مس الميت وقاله الأصحاب، ونقله إمام الحرمين عن المراوزة. أ هـ ملخصًا من الفتح الرباني على مسند الإمام أحمد.

والخلاصة أن الحكم المستفاد من الحديث موافق كل الموافقة للإرشادات الصحية الواجبة، وصدق الله العظيم }يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ [الأعراف: 157].

كما أن ما ذهب إليه الدكتور من اقتصار الحكم على الأحاديث بميزان تمحيص الإسناد ومعرفة حال الرواة هو القاعدة ولا شك، ولكن ذلك لا يمنع من النظر فى المتون أيضًا، ولا يخلو حال المتن حينذاك من أربعة أمور: أن يوافق العلوم النظرية المقطوع بصحتها موافقة تامة فيسلم حكمه تسليمًا تامًا، أو أن يكون المقصود به خارجًا عن دائرتها ولا يصطدم مع حقائقها فيسلم به كذلك، أو أن يخالفها فى ألفاظ يمكن تأويلها وحمل المقصود منها على ما عرف من الحقائق التى لا تقبل الشك فيؤول، أو أن يخالف هذه الحقائق مخالفة لا تقبل تأويلا، فيبحث حينئذ عن علله الفنية أولا، ثم يحمل أخيرًا على أن الرواية إنما كانت بالمعنى لا باللفظ فجاءت المخالفة عن هذا الطريق.

ومن تمسك بهذه القواعد أنصف دينه وعقله معًا، والله ولى الهداية والتوفيق(38).

 

هل من توبة؟

سيدي المحترم فضيلة الأستاذ المرشد العام، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وبعد..

 معذرة إذ أقتطع جزءًا من وقتكم الثمين حين أعرض عليكم رسالتي هذه:

أنا شاب شاركت الشباب لهوهم، وشاطرتهم عبثهم، طالما مشت أقدامي إلى مواطن الريب، وفى طرق الغواية، شاءت نفسي الدنيئة ألا تترك وليمة الحياة دون أن يكون لها نصيب منها. لقد جعل بيني وبين الخير ستار كثيف، كانت حياتي سلسلة من المعارك، كان يقودها إبليس ولا أدرى ما الحكمة فى أنه كان ينتصر فيها دائمًا، لو كان الشيطان والنفس شيئين ملموسين أمامي إذن لاستطعت أن أنتقم وأتخلص منهما، ولكن ما الحيلة؟ إن للشباب نزعات للشر وميلا مع الهوى، وإنهم مهما فعلوا فلن يبلغوا الكمال، ولن تستقيم أمورهم هكذا قيل لى يا سيدي فهل هذا صحيح؟ هل يمكن لشاب مثلى بلغ الحادية والعشرين أن يسير فى طريق الحياة الصحيحة التى تكتنفها الفضيلة وتحوطها تقوى الله؟

وأخيرًا هل من دواء ناجع لديك يا سيدي يشفى سقمي؟ وهي يقبل الله توبتي؟ أرشدني إلى الطريق المستقيم، إن نفسي لتسول لى أن أنتحر وأتخلص من الحياة لأني أخشى أن يستمد عصياني وحينئذ الموت خير لى.

سيدي، اتخذتك هاديًا فاهدنى، ومرشدًا فأرشدني، سل الله لى المغفرة والهداية، ومنتظر الرد على صفحات مجلتكم الغراء فى العدد القادم إذا تكرمتم.

وختامًا شكرًا لكم، وتفضلوا بقبول أسمى وفائق احترامي، ح . م.

الجواب:

وعليك سلام الله ورحمته وبركاته.

قرأت خطابك، ولست يا عزيزي بأول شاب سلك هذه السبيل، ولست كذلك آخر من سيسلكها؛ فهكذا خلقنا الله العزيز الحكيم ليبتلينا بالشر والخير فتنة، ثم مردنا بعد ذلك إليه }فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7-8].

ولكن الكثيرين من الشباب يا عزيزي استطاعوا أن يعيشوا فى مثل سنك ودونك وفوقه أطهارًا أبرارًا فى جو من الطهر والفضيلة والتقوى والنقاء، وليس بصحيح ما قيل لك من أن هذه الحياة الفاضلة متعذرة أو عسيرة على الشباب؛ بل أؤكد أنها أيسر بكثير مما يظن الناس، وأن من الممكن اليسير كل اليسير أن يعيش شاب مثلك فى الحادية والعشرين حياة صحيحة طيبة تكتنفها الفضيلة، وتحف بها معاني تقوى الله العلى الكبير فاطمئن.

أما أن يقبل الله توبتك فلم لا، وهو التواب الرحيم، وهو الذى كتب على نفسه الرحمة }أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأنعام: 54]، }وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [الشورى: 25]، وهو الذى ينادى عباده فيقول: }يَا عِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ [الزمر: 53-54]، وقد جاء فى الحديث الصحيح: "إن العبد إذا أذنب فذكر الله واستغفر قال الله للملائكة: أعلم عبدى أن له ربًا يغفر الذنب ويقبل التوب؟ أشهدكم أنى قد غفرت له"، وذلك مصداق الآية الكريمة }الَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران: 135-136].

والدواء يا عزيزي سهل لذيذ أن تصحب أهل التقوى والصلاح والاستقامة، وتبتعد ما استطعت عن أصدقاء اللهو والعبث، وأن تشعر نفسك دائمًا أن عين الله لا تغيب عنك طرفة عين؛ فهو معك أينما كنت، وأن تقضى وقت فراغك فى عمل نافع صالح لبدنك أو دينك، وأن تؤدى فرائض دينك فى خشوع وتبتل، وتلح بعد ذلك فى الدعاء أن يهديك الله سواء السبيل، واضعًا نصب عينيك قول الله العلى الكبير لنبيه صلى الله عليه وسلم: }وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى وَلْيُؤْمِنُوا بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة: 186].

"وبعد".. فإنى أعتب عليك أن تفكر فى الانتحار أو أن يتطرق إلى قلبك اليأس، إنك يا عزيزي رجل، والرجولة أقوى من كل هذه الأعراض، لا تهن ولا تحزن، وخذ بعزيمة فى الدواء والاستشفاء، والله أسال لى ولك كمال التوفيق، وتمام الهداية، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته(39).

المصادر

  1. مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 3 – صـ23، 24 – 6ربيع الأول 1352هـ / 29يونيو 1933م.
  2. مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 9 – صـ15، 16 – 18ربيع الآخر 1352هـ / 10أغسطس 1933م.
  3. مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 10 – صـ15، 16 – 25ربيع الآخر 1352هـ / 17أغسطس 1933م.
  4. مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 13 – صـ10 : 15 – 17جمادى الأولى 1352هـ / 7سبتمبر 1933م.
  5. مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 17 – صـ4 : 9 – 20رجب 1352هـ / 9نوفمبر 1933م.
  6. مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 16 – صـ10– 13رجب 1352هـ / 1نوفمبر 1933م.
  7. مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 16 – صـ10، 11 – 3رجب 1352هـ / 1نوفمبر 1933م.
  8. مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 20 – صـ9 : 14 – 12شعبان 1352هـ / 30نوفمبر 1933م.
  9. مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 24 – صـ4 – 11رمضان 1352هـ / 28ديسمبر 1933م.
  10. مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 26 – صـ20 – 25رمضان 1352هـ / 11يناير 1934م.
  11. مجلة الإخوان المسلمين – السنة الثانية – العدد 2 – صـ15، 16 – 26محرم 1353هـ / 11مايو 1934م.
  12. مجلة الإخوان المسلمين – السنة الثانية – العدد 3 – صـ24,23 – 3صفر 1353هـ / 18مايو 1935م.
  13. مجلة الإخوان المسلمين – السنة الثانية – العدد 36 – صـ21 – 10ذو القعدة 1353هـ / 14فبراير 1935م.
  14. مجلة الإخوان المسلمين – السنة الثالثة – العدد 30 – صـ30 – 8شعبان 1354هـ / 5نوفمبر 1935م.
  15. مجلة الإخوان المسلمين – السنة الثالثة – العدد 4 – صـ22 : 27 – 4صفر 1354هـ / 7مايو 1935م.
  16. مجلة الإخوان المسلمين – السنة الرابعة – العدد 2 – صـ1 : 5 – 29محرم 1355هـ / 21أبريل 1936م.
  17. مجلة الإخوان المسلمين – السنة الرابعة – العدد 4 – صـ11 – 14صفر 1355هـ / 5مايو 1936م.
  18.         مجلة النذير – السنة الثانية – العدد 8 – صـ19، 20 – 20صفر 1358هـ / 11أبريل 1939م.
  19. مجلة الإخوان المسلمين – السنة الرابعة – العدد 4 – صـ14 : 17 – 14صفر 1355هـ / 5مايو 1936م.
  20. مجلة الشهاب – السنة الأولى – العدد 4 – صـ71 : 72 – 1ربيع الآخر 1367هـ / فبراير 1947م.
  21. مجلة الإخوان المسلمين – السنة الرابعة – العدد 5 – صـ17، 18 – 21صفر 1355هـ / 12مايو 1936م.
  22. مجلة الإخوان المسلمين – السنة الرابعة – العدد 37 – صـ17 – 8شوال 1355هـ / 22نوفمبر 1936م.
  23. مجلة الإخوان المسلمين – السنة الرابعة – العدد 45 – صـ15، 16 – 5ذو الحجة 1355هـ / 16فبراير 1937م.
  24. مجلة النذير – السنة الثانية – العدد 6 – صـ2 – 6صفر 1358هـ / 28مارس 1939م.
  25. مجلة النذير – السنة الثانية – العدد 9 – صـ17، 18 – 27صفر 1358هـ / 18أبريل 1939م.
  26. مجلة الإخوان المسلمين – السنة الرابعة – العدد 46 – صـ15، 16 – 19ذو الحجة 1355هـ / 2مارس 1937م.
  27. مجلة الإخوان المسلمين – السنة الخامسة – العدد 5 – صـ7 – 9ربيع الآخر 1356هـ / 18يونيو 1937م.
  28. مجلة المنار – المجلد الخامس والثلاثين – الجزء التاسع – صـ11 : 16 – جمادى الآخرة 1359هـ / أغسطس 1940م.
  29. مجلة النذير – السنة الأولى – العدد 19 – صـ14 – 9شعبان 1357هـ / 3أكتوبر 1938م.
  30. مجلة النذير – السنة الثانية – العدد 23 – صـ19، 20 – 7جمادى الآخرة 1358هـ / 25يوليو 1939م.
  31. مجلة المنار – المجلد الخامس والثلاثون – الجزء الخامس – صـ19 : 26 – غرة جمادى الآخرة 1358هـ / 18يوليو 1939م.
  32. مجلة المنار – المجلد الخامس والثلاثين – الجزء السادس – صـ35 : 41 – غرة رجب 1358هـ / 1أغسطس 1939م.
  33. مجلة المنار – المجلد الخامس والثلاثون – الجزء السابع – صـ16 : 27 – ربيع الأول 1359هـ / أبريل 1940م.
  34. مجلة المنار – المجلد الخامس والثلاثون – الجزء الثامن – صـ17 : 24 – ربيع الآخر 1359هـ / مايو 1940م.
  35. مجلة المنار – المجلد الخامس والثلاثون – الجزء العاشر – صـ13 : 15 – شعبان 1359هـ / سبتمبر 1940م.
  36. مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 11 – صـ15 – 17محرم 1362هـ / 23يناير1943م.
  37. مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 13 – صـ10 – 29صفر 1362هـ / 6مارس 1943م.
  38. مجلة الشهاب – السنة الأولى – العدد 3 – صـ82 : 84 – 1ربيع الأول 1367هـ / يناير 1947م.
  39. مجلة الإخوان المسلمين – السنة الثالثة – العدد 56 – صـ6 – 21ربيع الآخر 1364هـ / 4أبريل 1945م.
المقال التالي رؤية الإمام البنا في الاصلاح الاجتماعي من خلال آيات القرآن
المقال السابق الدستور في فكر الإمام حسن البنا