الإمام حسن البنا يكتب أين السبيل .. التربية القويمة

إعداد موقع الإمام حسن البنا

إن كل فرد مسلم مسؤول مسؤولية كاملة و تامة عن نفسه أمام الله عز وجل ، مسؤول عن حاله وعمله و ما أدى من واجبات تجاه نفسه و أمته .

وعلى هذا كان لابد لهذا الفرد المسلم من تربية ذاتية (فردية) لنفسه مستمدة من كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة و السلام ، لأنه بدون هذه التربية الفردية لنفسه تصبح هذه النفس هالكة.

 

تربية

عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأصبحت يومًا قريبًا منه ونحن نسير، فقلت: يا رسول أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار، فقال: «لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه؛ تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت»، ثم قال: «ألا أدلك على أبواب الخير»؟ قلت: بلى يا رسول الله؟ قال: «رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد»، ثم قال: «ألا أخبرك بملاك ذلك كله»؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: «كف عليك هذا» -وأشار إلى لسانه- قلت: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: «ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم».

وعن أبي ذر  رضى الله عنه قال: دخلت على رسول الله  صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله أوصني، قال: «أوصيك بتقوى الله؛ فإنها زين لأمرك كله»، قلت: يا رسول الله زدني، قال: «عليك بتلاوة القرآن، وذكر الله ؛ فإنه ذكر لك في السماء، ونور لك في الأرض»، قلت: يا رسول الله، زدني، قال: «عليك بطول الصمت؛ فإنه مطردة للشيطان، وعون لك على أمر دينك»، قلت: زدني قال: «وإياك وكثرة الضحك؛ فإنه يميت القلب، ويذهب بنور الوجه»، قلت: زدني، قال: «قل الحق وإن كان مُرًّا»، قلت: زدني، قال: «لا تخف في الله لومة لائم»، قلت: زدني [قال]: «ليحجزك عن الناس ما تعلم من نفسك».

عن أبي هريرة  رضى الله عنه أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا». «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ها هنا، التقوى ها هنا، التقوى ها هنا -ويشير إلى صدره- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله».

وعن أسماء بنت يزيد -رضي الله عنها- قالت: قلت: يا رسول الله، إن قالت إحدانا لشيء تشتهيه: لا أشتهيه يعد ذلك كذبًا؟ قال: «إن الكذب يكتب كذبًا حتى تكتب الكذيبة كذيبة».

وعن عبد الله بن عامر  رضى الله عنه قال: دعتني أمي يومًا ورسول الله  صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا، فقالت: ها تعال أعطيك، فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: «ما أردت أن تعطيه»؟ قالت: أردت أن أعطيه تمرًا، فقال لها رسول الله  صلى الله عليه وسلم: «أما إنك لو لم تعطه شيئًا كتبت عليك كذبة».

فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: «إن العبد ليقول الكلمة لا يقولها إلا ليضحك بها المجلس يهوى بها أبعد ما بين السماء والأرض، وإن الرجل ليزل عن لسانه أشد مما يزل عن قدميه».

وبمثل هذا الأدب العالي كان رسول الله  صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه، وهو الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه؛ فهل يتأثر بهذه التربية النبوية العالية الذين يشققون الكلام بالحق أو بالباطل، ويحملون الأقلام ليسجلوا بها على أنفسهم بين يدي الله والناس ما يندى له الجبين، ولا يتفق مع خلق أو دين، وهم مع هذا ينتسبون إلى الإسلام ويقولون: إنهم متبعون لهذا النبي  صلى الله عليه وسلم، أم على قلوب أقفالها؟

اللهم اجعلنا ممن تأدبوا بآداب دينك، وتمسكوا بهدي نبيك ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ﴾ [الزمر: 18](1).

 

حُجة

﴿َتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنعام: 83].

جاء إبراهيم عليه السلام يدعو إلى الله -تبارك وتعالى، ويدعم على الأرض أصول الحنيفية السمحة ﴿مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 161]، والناس حينئذ ما بين عابد كوكب أو وثن أو بشر أو حجر، أو غافل ما يدري سر الحياة، ولا يدرك وظيفته في هذا الوجود، ولا يتعرف الطريق إلى الله، وحمل إبراهيم الدعوة الجديدة، وبعثه الله ليقرر على الأرض أصول مجتمع جديد ودعائم نظام جديد يقوم على الربانية والتوحيد، وكان إبراهيم في هذا الوجود وبهذه الرسالة وحيدًا فريدًا تنكّر له الناس حتى «أبوه»، واسمعه يحاور أباه فيقول: ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾ [مريم: 43-45]، فيقول له أبوه: ﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾ [مريم: 46].

تنكر لإبراهيم كل الناس حتى أبوه، ولكنه كان مؤمنًا فلم يزعجه هذا التنكر، وكان قوي الحجة، واضح البيان، ذرب اللسان، قد آتاه الله حجته، وألهمه رشده، وأوضح له محجته؛ فكانت هذه الحجة وحدها وهذا البيان وحده كل قوته، وانظر إليه يجادل النمروذ في بطلان ما يدعيه من ألوهية، ويكشف له عن عجز هذه البشرية، فيقول له: ﴿رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ [البقرة: 258]، فيقول نمروذ: ﴿أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾ [البقرة: 258]، فيقول إبراهيم: ﴿فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 258].

وانظر إليه يجادل قومه في الشمس والقمر والكواكب، فيلزمهم الحجة، ويفحمهم بالبرهان، ويريهم أن كوكبًا يغيب وقمرًا يتناقص وشمسًا تغرب لا يصح أن تكون آلهة تعبد، في نقاش بديع، ومنطق متسلسل منسق، حتى ينتهي إلى ما يريد من نتيجة ناصعة سافرة ﴿يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 78-79].

وهكذا في كل موقف كان إبراهيم إنما يعتمد على شيء واحد، على المنطق الواضح والحجة البينة والدليل الناصع؛ فيفلح، ويفوز، وينتصر، والعاقبة للمتقين.

وحقنا نحن في الحياة الحرة الكريمة، وفي المساهمة في بناء العالم الجديد على دعائم من القواعد والمواريث العجيبة التي ورثناها نحن وحدنا، ولم يرثها أحد معنا؛ مواريث الحضارات والفلسفات والرسالات، وبقية ما ترك آل موسى وآل هارون وعيسى ومحمد -صلوات الله وسلامه عليهم جميعًا، حقنا في هاتين الناحيتين واضح كفلق الصبح، لا لبس فيه ولا غموض؛ فليست أممنا بالأمم القاصرة التي تضرب عليها الوصاية، وليست شعوبنا بالشعوب المتأخرة أو المتبربرة التي يقودها سواها إلى النور، بعد أن أخذت بيد الدنيا كلها إليه من خمسة آلاف سنة أو يزيد، ولكنه ظلم الإنسان للإنسان، وموجة الطغيان في غفلة الزمان، نرجو أن تفيق من سكرتها الدول القوية؛ فتعمل على أن تقر في الأرض العدالة، فتقر فيها الطمأنينة والسلام، والعدل أساس الملك، والظلم مرتعه وخيم، والأمور كلها بيد الله ﴿للهِ الأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ﴾ [الروم: 4].

وأنتم أيها المؤمنون بحقكم وكرامة أوطانكم لا تهنوا ولا تضعفوا؛ ففي أيديكم أقوى القوى، في أيديكم الإيمان والحق والحجة والدليل، وأكرم بها من عتاد، وفيها الكفاية كل الكفاية، والعاقبة للمتقين، والله غالب على أمره(2).

 

رسالة

﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28].

أما الرسالة فهي رسالة الإسلام الحنيف.. ذكرتها فذكرت السنا والسناء، والبهجة والرواء، والنور والضياء، والعافية والشفاء، والعلاج والدواء، والغنى والثراء، والخير كل الخير في الدنيا والآخرة لمن أراد السعادة والاهتداء، وصدق الله العظيم: ﴿قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [المائدة: 15-16]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا في الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 57]، ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللهِ الذي لَهُ مَا في السَّمَوَاتِ وَمَا في الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ﴾ [الشورى: 52-53]، وصدق رسول الله  صلى الله عليه وسلم؛ إذ يقول: «القرآن غنى لا فقر معه، ولا غنى دونه».

وذكرت سواها من المبادئ والرسائل والأهداف والغايات والمذاهب والدعوات، فرأيت بعد ما بين الأرض والسماء، والظلام والضياء، والصحة والداء، وأين الثريا؟ وأين الثرى؟

وما يستوي وحي من الله منزل وقافية في العالمين شرود؛ بل أصرح من ذلك وأوضح قول العلي الكبير: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ * وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَاءُ وَلاَ الأمْوَاتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن في الْقُبُورِ * إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ﴾ [فاطر: 19-23]، ﴿أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ في النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ في الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا﴾ [الأنعام: 122]، ﴿أَفَمَن يَّمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَّمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [الملك: 22].

وحملة هذه الرسالة في هذا العصر هم هداة الأنام، ودعاة الإسلام من العلماء والأعلام، وهذا الأزهر المعمور الذي أعلى الله مناره، وخلد الإسلام آثاره هو ذلك المصنع العتيد الذي تصاغ فيه العقول المستنيرة بهدى هذه الرسالة، والمعقل المشيد الذي يتربى فيه الأشبال على العلم والفضيلة والنبالة، وإنه ليجر وراءه تاريخ ألف سنة نهض فيها بهذه التبعات، وأدى فيها للعالم الإسلامي أجل الخدمات، وكان للناهلين من معين العلوم الإسلامية الحرم الآمن، يقصدون إليه من كل فج عميق؛ ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله، ويذكروا به عباده.

ألا وإن أحوج ما يكون الناس إلى هذه الرسالة في هذا العصر الذي اضطربت فيه مقاييس الحياة، والتبست فيه على أهلها المسالك، وضلت بهم الأهواء، وضلوا بها عن سواء السبيل، وهي فرصة سانحة لا تعوض للداعين إلى الله -تبارك وتعالى- وإلى الإسلام أن يبسطوا دعوته، ويعلنوا كلمته، ويهتفوا به في الناس، ويطوفوا بتعليمه في أكناف الأرض المتعطشة للري؛ فيكونوا لأهلها كالغيث، ويقعون من نفوسهم وأرواحهم مواقع الماء من ذي الغلة الصادي.

ألا وإن من خصائص حَمَلة هذه الرسالة المخلصين لها الصادقين في حملها أن يتجردوا لله وحده، وأن يقصدوا بعملهم وجهه ، وأن يبرءوا إلى الله وحده من الرياء والسمعة والمحمدة والشهرة ابتغاء مرضاته، وإيثارًا لما عنده ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ﴾ [النحل: 96]، وكيف لا يكونون كذلك وهم يروون للناس ما حفظوا عن رسول الله  صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قال: يا رسول الله، إني أقف الموقف أريد وجه الله، وأريد أن يرى موطني، فلم يرد عليه رسول الله  صلى الله عليه وسلم حتى نزلت الآية: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف:110]؟.

ومن خصائصهم إيثار الآخرة على الدنيا واحتقار مظاهر هذه الحياة الفانية الزائلة الباطلة الغدارة الغرارة القصيرة العمر، الحقيرة الخطر، العسيرة الحساب، وكيف لا يكونون كذلك وهم يقرءون قول الله -تبارك وتعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ في حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ في الآَخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ﴾ [الشورى: 20]، ويروون قول رسول الله  صلى الله عليه وسلم: «بشر هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة والتمكين في الأرض؛ فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب».

وهم لهذا سليمة صدورهم، طيبة نفوسهم، نقية قلوبهم، طاهرة أفئدتهم، تجمعهم أخوة الدعوة، وتضمهم وحدة الرسالة، وتؤلف بينهم ميادين الجهاد، تراهم في الدنيا خير مثال للمتحابين في الله، وفي الآخرة على سرر متقابلين بفضل الله.

فيا أيها الإخوة الأعزة الفضلاء من رجال الأزهر الشريف، علمائه الأجلاء، كبارًا وناشئين، وطلابه الفضلاء، بحراويين وصعيديين، بل مصريين وغير مصريين، إليكم أوجه القول: كونوا يدًا واحدة وقلبًا واحدًا حول راية الإسلام؛ فاليوم يومكم، والعالم ينتظركم، ولله عاقبة الأمور(3).

 

عظة المنبر

[الحق فوق كل شيء]

الحمد لله الذي جعل الحق من مقومات الإيمان والعمران، وأشهد أن لا إله إلا الله، أيد متبعيه من إنس وجان، وأن سيدنا محمدًا صفوة بني الإنسان، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وصحبه أنصار دينه القويم.

أما بعد..

فقد أجمع العقلاء على أن الحق فوق كل شيء، وأنه روح النظام، وبه حياة كل كمال، يهتدي إليه العقل السليم، ويدل عليه النظر القويم، وأنه مرقاة الوصول إلى أرقى درجات المجد والفوز بالمأمول، وعلى أن العلم النقي من مؤيديه، والعقل السني من مريديه، لذا يرتاح إليه القلب المنير، ويطمئن له الضمير الحي البصير، ولهذا قدره الإسلام حق قدره، ونوه به الله في كتابه بما يدل على علو شأنه فقال: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ﴾ [الحجر: 85]، ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ﴾ [إبراهيم: 19]، ﴿وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ﴾ [الإسراء: 105].

وقد أعلى الله من شأنه فجعله من أسمائه، فقال: ﴿فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾ [طه: 114]، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ﴾ [الحج: 6]، ولعظم عنايته به سمي الإسلام دين الحقِّ فقال: ﴿هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ [الفتح: 28]، ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [البقرة: 119]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَّكُمْ﴾ [النساء: 170]، ﴿لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾ [الزخرف: 78].

وقد زاد الله في إعلاء شأنه وخفض الباطل، فقرَّر أن ما سواه ضلال؛ إذ قال: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ﴾ [يونس: 32]، وأعلن الناس بأنه يؤيد الحق وأهله وينصره، ويزهق الباطل ويبطله، فقال: ﴿وَيُرِيدُ اللهُ أَن يُّحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ﴾ [الأنفال: 7]، ﴿لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾ [الأنفال: 8]، ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ [الأنبياء: 18]، ﴿قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ﴾ [سبأ: 49]، ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ [الإسراء: 81].

يا سبحان الله! كيف بعد كل هذا يعدل عن الحق ويعاديه عاقل؛ فيتخبط في ظلام الضلال؟ وكيف ينصر الباطلَ مسلمٌ ليهوي في مهاوي النكال؟ لاسيما إذا انتسب للعلم والدين وَعَدَّ نفسه من المسلمين، يا للعار إذن وياللشنار! ألا تنظروا في صحف سلف المسلمين حقًّا يا أولي الأبصار، فإن رغبتم في ذكر يسير من تاريخهم المجيد فاسمعوا وعوا.

لأن الحق -كما قلنا- فوق كل شيء، عنف رسول الله  صلى الله عليه وسلم مستشفعًا في عظيم وجب حده قائلا: «أوتشفع في حد من حدود الله؟ والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطع محمد يدها» كما قال في مقام آخر: «يا فاطمة اعملي؛ فإني لا أغني عنك من الله شيئًا».

ولأن الحق -يا مسلمون- فوق كل شيء، قال  صلى الله عليه وسلم لأبي ذر الغفاري مؤنبًا له على قوله لزنجي: يا ابن السوداء: «طَف الصاع.. طف الصاع.. ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى أو العمل الصالح»، فوضع أبو ذر الصحابي الجليل خده على الأرض، وقال للزنجي: «ضع قدمك على خدي»؛ استرضاء له ولرسول الله  صلى الله عليه وسلم.

ولأن الحق فوق كل شيء يا عشاق «معلهش» دعا أمير المؤمنين عُمر بن الخطاب عليَّ بنَ أبي طالب ابن عم رسول الله  صلى الله عليه وسلم ليحضر أمامه مع يهودي شكاه إليه، فلما مثُل بين يديه قال عمر لعلي: اجلس يا أبا الحسن، فظهر أثر الغضب على عليّ، فقال عمر له: «أكرهت يا عليّ أن تجلس أمام خصمك؟»، فقال عليّ له: «لا.. ولكنك ناديتني بكنيتي فرفعتني عليه»، والنداء بالكنية تعظيم.

فانظر -يا رعاك الله- إلى صحابي جليل كعليّ يغضب لرفعه على خصمه اليهودي لمخاطبته له بكنيته، وانظر -يا رعاك الله وقل الحق- إلى أي حد وصل أمراء السلف المؤمنين في العدل والحق حتى أنال عمر بن الخطاب غلامًا قبطيًّا حقه من ابن عمرو بن العاص القائد العظيم ووالي مصر، حتى أمر القبطي الصغير بضرب ابن عمرو الأمير أمام أبيه والحاضرين، ثم أنب عمرُ عمرًا بقوله: «يا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟»، وانظر كيف أنه أعلن خطأه بقوله: «أيها الناس، أخطأ عمر وأصابت امرأة»؛ لأنها نبهته وهو في الخطبة لخطئه في مسألة اجتهد فيها برأيه.

وانظروا -أيها المنصفون- صراحة هؤلاء الأمراء الأجلاء وأتباعهم، وجعلهم الحق فوق كل شيء، وقارِنوا بينهم وبين معاصريكم من رئيس ومرءوس، وأنبئوني بالله عليكم: أيكم وأيهم نصر الحق وأيده، وأيكم وأيهم حاربه وبدده، وأيكم وأيهم بذل أقصى جهده في إماتة الحق وإحياء الباطل، وأي الفريقين خير مقامًا وأحسن نديًّا؟

ياللعار والشنار! وياللهول، ولا حول ولا طول! كيف يعبد العبد هواه ويجرؤ على حرب الله؟

إذن ﴿قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾ [عبس: 17]، وما أجرأه على الله، والله وما أفجره، وإذ قد وضح الحق وبان فارجعوا عن غيكم، وأوبوا لرشدكم، واخشوا يومًا تشيب فيه الولدان، ﴿إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ [الحج: 1].

[وفي] الحديث قال  صلى الله عليه وسلم: «لعن الله قومًا ضاع الحق بينهم»، «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله ، ومن خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع، ومن قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال»، «أشد الناس ندامة يوم القيامة من باع آخرته بدنيا غيره»(4).

 

حكمة

﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الألْبَابِ﴾ [البقرة:269]

هذا البيت الحرام بين يدي رسول  صلى الله عليه وسلم، وهاهو يرى فيما يرى النائم -ورؤيا الأنبياء وحي مطاع مصدق- أنه يطوف بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة، ويعتمر آمنًا مطمئنًا، وإذن فلا بدَّ لهذه الرؤيا من تصديق، ولا بد من رحلة إلى مكة المكرمة بعد أن طال بها العهد وشط عنها المزار.

وتقف نجائب رسول الله  صلى الله عليه وسلم وأصحابه على أبواب مكة عند الحديبية، وقد ساقوا الهدي وأهلوا بالعمرة، وتذهل قريش لهذا النبأ، فيأتمرون ويقسمون ألا يدخلها عليهم محمد وأصحابه عنوة، ويوفد إليهم رسول الله  صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان  رضى الله عنه ليفاوضهم في الأمر، وليعلمهم أنهم ما جاءوا فاتحين ولا محاربين، وإنما جاءوا لعمرة ونسك، ولا يحل لهم أن يصدوا أحدًا عن بيت الله، أو يحولوا بينه وبين ما يريد من طواف وسعي، فيحتجزه القوم فترة. 

ويصل نبأ ذلك إلى الرسول  صلى الله عليه وسلم، فيسند ظهره إلى الشجرة، ويتنادى أصحابه إلى البيعة، بيعة الموت والفداء واستخلاص الحق بالدماء، ويفزع ذلك قلوب المتجبرين في مكة، فيطلقون عثمان، ويوفدون الرسل إلى النبي  صلى الله عليه وسلم ليردوه عن قصده، ويتردد هؤلاء الرسل بين القوم والنبي -عليه الصلاة والسلام.

وينتهي الأمر إلى اتفاق ظنته قريش انتصارًا، وظنه الكثير من المسلمين إجحافًا، وكاد يذهب الظن ببعضهم إلى أنه رِضًا بالدنية، ويعجبون كيف يرضاه رسول الله  صلى الله عليه وسلم، ويوافق عليه، ويسميه الله -تبارك وتعالى- فتحًا قريبًا ومغانم ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا في قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا * وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرًا﴾ [الفتح: 18-21].

وكان عمل رسول الله  صلى الله عليه وسلم هو الحكمة التي من يؤتَها فقد أوتي خيرًا كثيرًا.

وبعث رسول الله  صلى الله عليه وسلم بعثًا عليهم عمرو بن العاص، فطلبوا المدد، فأمدهم بأمين الأمة أبي عبيدة عامر بن الجراح، وقدم أبو عبيدة على عمرو، وقد ظن أن النبي  صلى الله عليه وسلم قد أمّره إذ جعله مددًا، واستمسك عمرو بإمارته الأصلية، وقال لصاحبه: «إنما قدمت مددًا ولم تقدم أميرًا»، وكان موقفًا اختلفت فيه الأنظار، ولكلٍّ وجهة هو موليها، وكادت تكون فتنة لولا أن أبا عبيدة  رضى الله عنه حسم الأمر، ووافق صاحبه، وائتمر بأمره، وكانت من أبي عبيدة حكمة من أوتيها فقد أوتي خيرًا كثيرًا.

وأرسل قيصر إلى معاوية والخلاف بينه وبين عليّ على أشده، يعرض عليه أن يمده بجند وعدة، مظهرًا أن ذلك رعاية لجواره إياه، وتقدير لجميل التعامل فيما بينهما، وعربون لصداقة منتظرة، فكتب إليه معاوية يهدده بأنه إن فعل ذلك انضم إلى صاحبه، وأقبل على قيصر يجاهده بجيش يكون أوله عنده وآخره عند عليّ، وكانت حكمة من معاوية رد بها عن الدولة الإسلامية الناشئة عادية التدخل الأجنبي ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [البقرة: 269]. 

وتشدد عمر ومعه طائفة من المسلمين في أمر خالد، وألحوا على أبي بكر  رضى الله عنه أعظم الإلحاح أن يعزله ويحاكمه ويؤاخذه، وأبو بكر أعرف الناس بخالد في كفايته وبلائه وفدائه وكريم جهاده ونادر موهبته؛ فلم يلِن أمام هذه الشدة، وأجابهم بهذه الكلمة «لا أثلم سيفًا سله الله على الكافرين، عجزت النساء أن يلدن مثل خالد»، ومضى خالد مجاهدًا في سبيل الله، تطالعه البشرى ويقدمه النصر، وكانت حكمة من أبي بكر  رضى الله عنه اعترف بها عمر نفسه حين قال: «رحم الله أبا بكر، لقد كان أعرف بالرجال مني»، وحين قال هو نفسه لحاجبه وقد رآه يزجر نساء مخزوم عن البكاء: «دعهن يا أسلم؛ فما بكت البواكي مثل أبي سليمان».

وعزل عمر خالدًا وهو في أوج عظمته، وقد تعلقت بمحبته القلوب والأفئدة، وألفته المواقع والمعارك والبلدان، وعرفته الخيل والليل والبيداء، والبدو والحضر، وأمر أبا عبيدة أن يحاسبه ويشدد عليه الحساب، حتى إن بلالاً ليأخذ بتلابيبه ويطوقه بعمامته ويقوده بين يدي الأمير الجديد، وخالد يرى ذلك فيطيع ويبتسم، ويعود إلى الصف جنديًّا فدائيًّا، يؤدي واجبه بكامل الأمانة والإخلاص، لا يبالي أوقع على الموت أم وقع الموت عليه، وكانت منه  رضى الله عنه حكمة ما بعدها حكمة ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [البقرة: 269].

واقرأ مثل ذلك الكثير من المواقف التي تغلبت فيها الحكمة العملية على الأهواء النظرية؛ فهل تهب علينا من هذه الذكريات نفحة قدسية يجتمع بها الشمل، ويستوي بها الصف، ونهتدي بها سواء السبيل؟ اللهم آمين(5).

 

تجرد

﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: 162-163].

الناس رجلان: رجل يعمل ما يعمل من الخير، أو يقول ما يقول من الحق وهو يبتغي بذلك الأجر العاجل والمثوبة الحاضرة؛ من مال يجمع، أو ذكر يرفع، أو جاه يعرض ويطول، أو لقب ومظهر يصول به ويجول.

﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ [آل عمران: 14].

ورجل يعمل ما يعمل، أو يقول ما يقول؛ لأنه يحب الخير لذاته، ويحترم الحق ويحبه لذاته كذلك، ويعلم أن الدنيا لا يستقيم أمرها إلا بالحق والخير، وأن الإنسان لا تستقيم إنسانيته كذلك إلا إذا رصد نفسه للحق والخير ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: 1-3]، أو لأنه يحب الله ويخشاه ويرجوه، ويقدر نعمته عليه في الوجود والقدرة والإرادة والعلم وسائر ما منحه إياه؛ ففضله بذلك على كثير ممن خلق تفضيلا، وهو يعلم أن الله قد أمر بالخير فقال: ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الحج: 77]، وأوصى بالثبات على الحق فقال: ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ﴾ [النمل: 79]؛ فهو لهذا يرجو ما عند الله، ويبتغي بقوله وعمله مرضاته وحده، وقد يرتقي به هذا الشعور فيرى أن كل ما سوى الله باطل، وكل ما عداه زائل؛ فمن وجده فقد وجد كل شيء، ومن فقد شعوره بربه فقد فَقدَ كل شيء، ﴿هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الحديد: 3]؛ فهو لهذا لا يرى أحدًا غيره حتى يولي إليه وجهه، أو يصرف نحوه حقه وخيره؛ ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الذاريات: 50]، ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾ [النجم: 42].

أو لأنه يعلم أن هذه الدنيا زائلة فانية، وكل ما فيها عرض حقير، وخطر يسير، ومن ورائه حساب عسير، وإن الآخرة هي دار القرار؛ فهو يزهد كل الزهادة في الجزاء في هذه الدنيا، ويرجوه في الأخرى؛ فالمال إلى ضياع وورثة، والجاه إلى تقلص ونسيان، والعمر إلى نفاد وانقضاء مهما طال ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ﴾ [النحل: 96]، ﴿وَالآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [الأعلى: 17]، وهو يرجو المثوبة نعيمًا في الجنة مع ﴿النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء: 69].

ومن الناس قسم ثالث يود أن يأخذ من هذه وتلك، وقلما يستقيم له الأمر؛ فهما ضرتان إن أرضيت إحداهما أغضبت الأخرى، وكفتا ميزان إن رجحت واحدة شالت واحدة، على أن المقطوع به أن من أراد الدنيا وحدها خسر الآخرة، ومن أراد الآخرة حازهما معًا، وصح له النُّـجحُ فيهما جميعًا، ومن خلط بينهما كان على خطر عظيم ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاَهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا﴾ [الإسراء: 18-19].

ومن هنا آثر الصالحون من عباد الله في كل زمان ومكان أن يتجردوا للغايات العليا، ويصرفوا نياتهم ومقاصدهم وأعمالهم وأقوالهم إلى الله -جل وعلا، متجردين لذلك من كل غاية، متخلصين من كل شهوة ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ [البينة: 5].

ومن هنا قرأنا في تاريخنا قصة ذلك الذي عثر على حق من الجوهر الغالي الثمين في القادسية، فقدمه إلى الأمير طائعًا، فعجب من أمانته وقال: «إن رجلاً يتقدم بمثل هذا لأمين، ما اسمك حتى أكتب به إلى أمير المؤمنين فيجزل عطاءك، وينبه اسمك؟».

فقال الرجل: «لو أردت وجه أمير المؤمنين ما جئت بهذا، وما وصل علمه إليك ولا إليه، ولكن أردت وجه الله الذي يعلم السر وأخفى، وحسبي علمه ومثوبته»، وانصرف، ولم يذكر اسمه، وآثر ما عند الله على ما عند الناس. وأمثال ذلك كثير في تاريخنا الزاخر بمعاني التجرد للخير والحق والعمل الصالح ابتغاء مرضاة الله.

فهل تستقيم النفوس على هذا النهج القويم؟ اللهم آمين(6).

 

مفاضلة

﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ في سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة: 24].

لا تسود المبادئ حتى يقوى إيمان أصحابها؛ فتكون أحب إليهم من كل أعراض هذه الدنيا؛ من أنفسهم، وأموالهم، ومتاجرهم، وعشائرهم، وكل ما يحرص عليه إنسان في هذه الحياة، وعلامة هذا الإيمان أن يجاهدوا في سبيل ظهور هذه المبادئ وانتصارها جهادًا تبذل فيه كل هذه الأعراض بذل رضًا وطمأنينة وسماح.

 على ذلك مضت سنة التاريخ، وكتب الأسلاف الصالحون من المؤمنين صحائف من نور، ستظل خالدة أبد الدهر حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وبهذا الإيمان والجهاد والفناء فيهما عن كلِّ ما سواهما انتصر الإسلام وعلت رايته وظهرت كلمته. 

قال ابن مسعود: «قتل أبو عبيدة أباه الجراح يوم أحد»، وأراد أبو بكر أن يبرز لابنه عبد الرحمن يوم بدر ليقتله، وقال: «يا رسول الله دعني أكن في الرعلة الأولى»، فمنعه رسول الله  صلى الله عليه وسلم وقال: «متعنا بنفسك يا أبا بكر»، وقتل مصعب بن [عمير أخاه عبيد بن عمير]، وقتل عمر بن الخطاب خاله العاصي بن هشام بن المغيرة يوم بدر، كما قتل علي وحمزة وأبو عبيدة بن الحارث عقبة وشيبة والوليد، فأنزل الله فيهم الآية الكريمة: ﴿لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [المجادلة: 22].

والمسلم الحق في هذه الحياة: الله غايته، والرسول قدوته، والجهاد وسيلته، والشهادة أمنيته؛ فإذا كان في الحياة شيء من نفس أو أهل أو مال أو عشيرة.. إلخ أحب إليه من الغاية والقدوة والوسيلة؛ فقد فسق عن أمر ربه، واستوجب عقوبة الخارجين عن طاعة مولاه ﴿فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة: 24].

وقد جرت سنة الله -تبارك وتعالى، ورتب القرآن الكريم النتيجة الواقعية التي لا تتخلف على موقف الناس من هذه القاعدة؛ فكل أمة أو جماعة أو شعب أو قبيل قدم مبادئ الحق والخير على عرض الحياة وجاهد في سبيلها، كانت النتيجة الحتمية الواقعية النصر وجميل العرض في الدنيا، والمثوبة وحسن الجزاء في الآخرة.

﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ في سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآَخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 146-148].

وما من أمة أو جماعة أو قبيل آثرت الحياة الدنيا وقعدت عن الجهاد والعمل إلا ضربها الله بالذلة والمسكنة في هذه الحياة، وضاع ما في أيديها من عزتها وسلطانها، وأخذهم الله بعد ذلك بأشد العقوبة: ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ في الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ [المائدة: 24-26].

وطالع تاريخ الإسلام من قبل، وانظر إلى حال المسلمين اليوم تجد المثال الواقعي من حياة هذه الأمة، وصدق رسول الله  صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، ولينزعن الله من قلوب أعدائكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن»، قال قائل: أومن قلة نحن يا رسول الله يومئذ؟ قال: «لا، إنكم حينئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل»، قال قائل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: «حب الدنيا وكراهية الموت».

فيا أيها المسلمون: تريدون دولة ودعوة بمجرد الدعاوى الوطنية أو الأماني الإصلاحية، ولا تحملون ولا تجاهدون ولا تبذلون ولا تستطيعون حتى مجاهرة أعداء الحق والخير بالكراهية والبغضاء! وتريدون بعد ذلك الوصول وتحقيق المطالب والآمال؟ هذا في سنة الوجود مستحيل، ولا وسيلة إلا الإيمان والجهاد، إيمانًا يرفع العقيدة والحق فوق كل شيء(7).

 

مقاطعة

﴿لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [المجادلة: 22].

قدم على رسول الله  صلى الله عليه وسلم بعد أحد رهط من عضل والقارة، فقالوا: «يا رسول الله، إن فينا إسلامًا فابعث معنا نفرًا من أصحابك يفقهوننا»، فبعث معهم ستة، وأمّر عليهم عاصم بن ثابت  رضى الله عنه، وساروا، حتى إذا كانوا بالهدأة بين عسفان ومكة نزلوا سحرًا بالرجيع، فأكلوا تمرًا، وتركوا نواه بالأرض، وكانوا يسيرون الليل ويكمنون النهار، فجاءت امرأة من هذيل ترعى غنمًا، ورأت هذا النوى، فقالت: «هذا تمر يثرب»، وصاحت في قومها: «قد أُتيتم»، فخرج إليهم بنو لحيان في مائتي رجل، منهم مائة رام، وتبعوا آثارهم حتى لحقوا بهم، فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجئوا إلى رابية مشرفة، فتسوروها، وأحاط بهم القوم، وقالوا: «لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا ألا نقتل منكم رجلا، ولكن نريد ألا نصيب بكم شيئًا من أهل مكة»؛ فأما عاصم فقال لأصحابه: «أما أنا فلا أنزل في ذمة مشرك ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [المائدة: 51]، ولكم أن تنزلوا إن شئتم»، فنزل على عهدهم خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة فانطلقوا بهما إلى مكة، وقاتل عاصم ومن معه حتى قتلوا، وقال عاصم عند موته: «اللهم أخبر عنا رسولك»، فاستجاب الله له، فأخبر رسول الله  صلى الله عليه وسلم خبرهم يوم أصيبوا.

وكان من نبأ خبيب أو زيد أنهم باعوهم لبني الحارث بن عامر، فمكث عندهم أسيرًا، حتى إذا أجمعوا على قتله رأته إحدى نسائهم ومعه أحد صبيانهم يداعبه، فصاحت المرأة فزعة وخشيت أن يقتله، فابتسم الأسير الكريم، وأدرك ما يجول بنفسها وهتف بها: «ما كنت لأغدر، ولا شأن لنا بالنساء أو الصبيان»، قالت: «والله ما رأيت أسيرًا خيرًا من خبيب، لقد وجدته يأكل قطفًا من عنب مثل رأس الرجل، وإنه لموثق بالحديد، وما بمكة من ثمرة»، وما كان إلا رزقًا رزقه الله إياه، وخرجوا بخبيب من الحرم ليقتلوه، فقال: «دعوني أصلّ ركعتين» فصلاهما، قيل في موضع مسجد التنعيم، وقال: «اللهم أحصهم عددًا، ولا تبق منهم أحدًا، واقتلهم بددًا -فلم يحل الحول ومنهم أحد حي- اللهم إني لا أجد من يبلغ رسولك مني السلام، فبلغه السلام»، فنزل جبريل فأبلغه إياه، وأنشد قصيدته المعروفة ومنها:

إلى الله أشكو غربتي بعد كربتي          وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي

لقد أجمع الأحزاب في وألبوا              قبائلهم واستجمعوا كل مجمع

ولست أبالي حين أقتل مسلمًا             على أي جنب كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ             يبارك على أوصال شلو ممزع

ولما وضعوا فيه السلاح وهو مصلوب نادوه وناشدوه: «أتحب أن محمدًا مكانك؟»، قال: «لا والله، ما أحب أن يفديني بشوكة في قدمه»، وقيل: إن أبا سفيان قال لزيد بن الدثنة: «يا زيد أنشدك الله، أتحب أن محمدًا الآن عندنا مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك؟» قال: «والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وإني لجالس في أهلي»، قال أبو سفيان: «ما رأيت من الناس أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمد محمدًا».

وأما عاصم  رضى الله عنه فقد أرادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد وهي أم مسافع وجلاس ابني طلحة العبدري، وكان عاصم قتلهما يوم أحد، فنذرت حين أصاب ابنيها لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن الخمر في قحفه وجعلت لمن جاء برأسه مائة ناقة، ولكن هذيلاً لم تستطع أن تصل إلى جثمان عاصم أو تمس شيئًا من بدنه، فقد أرسل الله عليه ظلة من الدّبْر (وهو النحل الكبير)، فكلما قربوا منه ذاقوا من لسعه مُرّ العذاب، فلم يقدروا منه على شيء.

وكان عاصم قد أعلنها على المشركين مقاطعة عامة شاملة ألا يمس مشركًا وألا يمسه مشرك، وعاهد الله على ذلك، فصدقه الله، وكانوا يسمونه «محمي الدبر»، وغاب جثمانه عن أعينهم، فلم يعلموا أين ذهب به، وبلغ خبره عمر  رضى الله عنه فقال: «يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته كما حفظه في حياته».

أيها المسلمون: أول الجهاد المقاطعة، وهكذا فقاطعوا إن كنتم مؤمنين، واحفظوا الله يحفظكم الله.

والله أكبر ولله الحمد(8).

 

طاعة

﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [النساء: 83].

اضطرب أمر بني تميم بعد أن اختار الرسول  صلى الله عليه وسلم الرفيق الأعلى، وجاءتهم سجاح بنت الحارث المتنبئة تزعم أنها من بني يربوع (بطن من بطونهم)، فإن حصل ملك فهو لهم، فزادت أمرهم اضطرابًا، وتقاتلوا فيما بينهم؛ فمنهم من ارتد، ومنهم من منع الزكاة، ومنهم من تردد، ثم توجه وعاد إلى الإسلام، وأعلن الطاعة للخليفة الأول  رضى الله عنه.

وكان ممن منعوا الزكاة مالك بن نويرة اليربوعي سيد بني ثعلبة، فتوجه إليه خالد بن الوليد  رضى الله عنه بعد أن فرغ من أمر طليحة وبني أسد، وكان المسلمون يأتون القوم، فإذا لم يسمعوا أذانًا أغاروا عليهم، فلما قدموا البطاح -مقر مالك وقومه- وارتقبوا الأذان فلم يسمعوه، ولم يروا شيئًا من شعائر الإسلام؛ أغاروا عليهم، وهزموهم، وأسروا مالكًا وبعض رجال معه.

وقف مالك بين يدي خالد يستعطفه، قال مالك: «أنا آتي الصلاة دون الزكاة»، فقال خالد: «أما علمت أن الصلاة والزكاة معًا، لا تقبل واحدة دون أخرى؟»، قال مالك: «قد كان صاحبكم يقول ذلك». فقال خالد: «أوما تراه لك صاحبًا؟ لقد هممت أن أضرب عنقك». ثم تجادلا في الكلام، وكان عبد الله بن عمر وأبو قتادة الأنصاري حاضرين، فكلما خالدًا في أمره، فلم يسمع لهما، فقال مالك: «ابعث إلى أبي بكر فيكون هو الذي يحكم بيننا»، فقال خالد: «لا أقالني الله إن أقلتك».. فالتفت مالك إلى زوجته وكانت بالمجلس، وقال لخالد: «هذه التي قتلتني».. فقال خالد: «بل الله قتلك برجوعك عن الإسلام»، فقال مالك: «أنا على الإسلام»، فقال خالد: «يا ضرار اضرب عنقه»، فضرب عنقه، وجعل رأسه أثفية القدر، وتزوج خالد امرأته بعد ذلك.

ووصل الخبر إلى المدينة يحمله متمم بن نويرة ويصوغه شعرًا من ذوب القلب مشفوعًا برأي أبي قتادة وعبد الله بن عمر، ومن أخذ برأيهما من أصحاب خالد. واستعظم عمر بن الخطاب عمل خالد، وقال لأبي بكر: «قتل خالد مسلمًا بغير حق زكي فاقتله».. قال أبو بكر: «تأول خالد فأخطأ، وما كنت لأقتله»، قال عمر: «فاعزله»، قال أبو بكر: «ما كنت لأغمد سيفًا سله الله على الكافرين، كف لسانك عن خالد يا عمر».

وعلم خالد بما دار حوله في عاصمة الخلافة، فقفل راجعًا إليها حتى دخل المسجد وعليه قباء عليه صدأ الحديد معتجرًا عمامة قد غرز فيها أسهمًا، فقام إليه عمر، فانتزع الأسهم من عمامته فحطمها، ثم قال: «أرئاء؟ أقتلت امرأ مسلمًا، ثم نزوت على امرأته، والله لأرجمنك بأحجارك»، ولا يكلمه خالد حتى لقي أبا بكر، فأخبره الخبر، وأوضح له وجهة نظره، وتقبلها أبو بكر، وأعاده إلى قيادته غير ملتفت إلى اعتراضات المعترضين الذين لم يقفوا على جلية الأمر.

وكفّ عمر لسانه عن خالد، وانتصرت الطاعة على الفتنة، والتأم جمع المسلمين، وجزى الله أبا بكر عن الحزم خيرًا، وجزى الله عمر وابنه وأبا قتادة عن الطاعة أفضل الجزاء، وأثاب خالدًا عن الرأي والمكيدة أفضل ما جازى قائدًا محنكًا مجربًا خبيرًا بالحرب مجاهدًا في سبيلها.

كان خالد يعلم من هو مالك؛ فهو المطاع في عشيرته، المسموع الكلمة فيهم، وهم ألوف كثيرة، وهو كريم يوقد ناره إلى الصباح مخافة أن يأتيه الضيف ولا يعرف مكانه، جلد شجاع غير هياب ولا وجل، وصفه أخوه متمم لعمر فقال: «كان يركب الفرس، ويقود الجمل الثقال وهو بين المزادتين النضوحتين في الليلة القرة، وعليه شملة فلوت معتقلاً رمحًا خطيًّا، فيسري ليلقيه ثم يصبح وكأن وجهه فلقة قمر»، ورأت إحدى نساء بني تميم رأسه وهو أثفية القدر، ووجهه إلى النار فقالت: «حوّلوا وجه مالك عن النار؛ فقد كان والله غضيض الطرف عن الجارات، حديد النظر في الغارات».

ولكنه مع شمائله هذه غير مأمون على دعوة الإسلام، ولا قائم بحقها ولا مهتم بها؛ فقد كان أول من منع الزكاة، وأول من لبى نداء سجاح المتنبئة، وسفك دماء ضبة غير راحم لهم وهم أبناء عمه، بدون إثم ولا جريرة، إلا إنهم خالفوه في الرأي ولم يسلموا لسجاح ما تدعيه من نبوة، وكان يخاطب خالدًا عن النبي  صلى الله عليه وسلم فيقول: «قال صاحبك»، وهو تحت السيف، ويساوم في دينه فيقول: «أؤدي الصلاة دون الزكاة».

كل ذلك وخالد على عزمه غزو اليمامة وقتال مسيلمة وبني حنيفة، وهم قوم أولو بأس شديد كما أثبت الواقع ذلك؛ فكيف يكون الشأن لو ترك خالدًا وراءه رجلاً كمالك غير مأمون العاقبة، ثبت من أمره ما ثبت، وغير بعيد أن ينتهزها فرصة، وينقلب مرة أخرى فيقع خالد وجيشه بين نارين: مسيلمة وبني حنيفة أمامه، ومالك وبني تميم خلفه. 

فالرأي والمكيدة والحرب ما فعله خالد ولا شك، فإن يكن مخطئًا ففي مغفرة الله ونية المرء خير من عمله، وإن يكن مصيبًا فإلى رضوان الله، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

أيها المسلمون: لقد كان لكم في قصصهم عبرة لأولي الألباب، وأولئك الذين هدى الله فعلينا أن نقتدي بهم، وأن نهتدي بهديهم، وأولئك هم النجوم الزواهر بأيهم اقتديتم اهتديتم.

والله أكبر ولله الحمد(9).

 

جلاء

﴿وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ في الدُّنْيَا وَلَهُمْ في الآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ﴾ [الحشر: 3]

حين دخل رسول الله  صلى الله عليه وسلم المدينة صالحه بنو النضير (وهم جيرانها، وسكان ضواحيها من قبائل يهود) على ألا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه، فقبل منهم ذلك، وأظهره الله على المشركين يوم بدر، فزاد مهابة في أعينهم، وقالوا: «والله إنه للنبي الأمي المبعوث في التوراة لا ترد له راية».

وبينما عمرو بن أمية الضمري أحد أصحاب رسول الله  صلى الله عليه وسلم في طريقه إلى المدينة لقي رجلين من بني عامر حسبهما عدوين للإسلام خارجين على نبيِّه ودعوته، ففتك بهما، ودخل المدينة مسرورًا بما فعل، يظن أنه قد أصاب مغنمًا وجاهد في سبيل الله، وتقرب إليه بقتل اثنين من أعدائه، وسرعان ما عض بنان الندم حين علم أن بني عامر من حلفاء رسول الله  صلى الله عليه وسلم لا من أعدائه، وأنه بذلك قد نقض عهدًا، وخاس بذمام.

وتغير وجه رسول الله  صلى الله عليه وسلم -وهو الوفي الأمين- وأهمه الأمر، وقال لصاحبه: «لقد قتلت قتيلين لأدِيَنّهما»، وتعهد  صلى الله عليه وسلم لقومهما بالدية.

وصادف هذا الحادث ساعة عسرة، وضنك من العيش، وقلة من المال؛ فمن أين لرسول الله  صلى الله عليه وسلم بدية الرجلين؟ وتذكر رسول الله  صلى الله عليه وسلم حلفاءه من بني النضير، وهم حلفاء بني عامر أيضًا، وهم في بسطة من المال، وسعة من الرزق، وخفض من العيش، فانفرجت أسارير وجهه، ودعا نفرًا من أصحابه، وذهب معهم إلى ديار بني النضير يستقرضهم دية الرجلين.

نظر حيي بن أخطب سيد بني النضير لرسول الله  صلى الله عليه وسلم مقبلاً، فآذن قومه، وخرج معهم إلى لقائه في حفاوة وتكريم «خير ما جاء بك يا أبا القاسم، لقيت أهلاً ونزلت سهلاً.. فمرحبًا بك»، وأخبرهم رسول الله  صلى الله عليه وسلم الخبر، فقال حيي: «لك ما تريد، واسترح قليلا نجمع لك المال المطلوب»، واستراح رسول الله  صلى الله عليه وسلم بفناء جدار لهم، وذهبوا يجمعون المال كما قالوا، وإذا بهم يأتمرون برسول الله  صلى الله عليه وسلم ليقتلوه، وقد نسوا أن بينهم وبينه من المواثيق والعهود ما يحول بينهم وبين ذلك، وأنه الآن ضيف في دارهم، وأنهم قد وعدوه خيرًا فيما جاء من أجله، وأن الله -تبارك وتعالى- لهم بالمرصاد يحبط ما يدبرون.

وانتدب رجل منهم -هو عمرو بن جحاش- لتنفيذ المؤامرة، فصعد فوق الجدار، وأعد حجرًا ضخمًا ليلقيه على رسول الله  صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيقضي عليهم، وما كان أشد فجيعته حين نظر فإذا رسول الله  صلى الله عليه وسلم قد انصرف على عجل هو ومن معه، وترك دار الغدر والخديعة والمكر تنعى من بناها، وقد آذنه الله -تبارك وتعالى- بصنيع القوم وبصره بما دبروا، وكان ذلك كافيًا لأن يعلن رسول الله  صلى الله عليه وسلم بطلان ما بينه وبينهم من مواثيق ومعاهدات، وأن يطلب إليهم الجلاء التام الناجز السريع من هذه الأرض إلى أخرى يطيب لهم فيها المقام حتى لا يكونوا شوكة دامية في جنب المدينة الناشئة المؤسسة على البر والتقوى والوفاء والسلام.

وأوعز إليهم عبد الله بن أبي رأس المنافقين ألا تفعلوا، ولا تطيعوا محمدًا؛ فإنا سنؤيدكم، وسنشد أزركم، وسنكون معكم ﴿لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [الحشر: 11]، وخدعوا بهذه الوعود؛ فتشبثوا بالبقاء، ولم يجيبوا إلى الجلاء، ونبذ إليهم رسول الله  صلى الله عليه وسلم، وحاصرهم إحدى وعشرين ليلة، حاولوا في أثنائها الغدر به مرة أخرى، فأنجاه الله، وانتهى الأمر بأن نزلوا على حكمه، وسلموا بمطلبه، وأخذوا في الجلاء، ونزلت فيهم سورة الحشر كاملة ﴿وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ في الدُّنْيَا وَلَهُمْ في الآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ﴾ [الحشر: 3]، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ﴾ [آل عمران: 13](10).

 

تثبيت

﴿يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ﴾ [إبراهيم: 27].

آيتان من كتاب الله -تبارك وتعالى- في سورتين منه: في الأنعام وفي هود، ظللت أذكرهما منذ الحديث السابق إلى اليوم، فأحببت أن يشركني الإخوان الكرام في تذوق حلاوتهما وتدبر معانيهما، والعظة الكاملة بما فيهما، ويحق الله الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين.

ذكرت الأولى في سورة الأنعام ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَأِ الْمُرْسَلِينَ * وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا في الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا في السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأنعام: 33-35].

لقي الأخنس بن شريق أبا جهل في بدر في خلوة، فقال له: «يا أبا الحكم ليس هاهنا أحدًا إلا أنا وأنت يسمع ما نقول.. أفتظن أن محمدًا كاذب وما عهدنا عليه كذبًا؟»، فقال أبو جهل: «يا هذا إن محمدًا لصادق، ولكن إذا ذهبت قُصيّ بالحجابة والسقاية والندوة والنبوة.. فما لسائر قريش؟»، فأنزل الله الآية الكريمة: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ﴾.

وكذلك الناس في كل زمان ومكان، هل يظن أحد في هذا الوادي أن دعوة الإخوان التي ترتكز على أصول الإسلام الحنيف وهو دين الدولة والأمة دعوة باطلة أو كاذبة؟ لا، ولكن الأحزاب المستفيدة، والحكومات المتعاقبة، وأهل الجاه والسلطة يكرهون أن تقوم في الناس دعوة تعلم الجاهلين، وتنبه الغافلين، وتأخذ بحق المظلومين من الظالمين، وتقر العدالة باسم الله رب العالمين، ولو عقلوا لعلموا أنهم إن ناصروا دعوة الخير واعتنقوا فكرة الحق، قام سلطانهم على دعائم لا تزول ولا تحول، ولكن هكذا كان، ولله في خلقه شئون.

وذكرت الآية الثانية في ختام سورة هود قول الله -تبارك وتعالى: ﴿وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ في هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ * وَللهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [هود: 120-123].

فقلت: ما أشبه الليلة بالبارحة.. ﴿وَجَاءَكَ في هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، وهل خرجت دعوة الإخوان عن أنها الحق والموعظة والذكرى للمؤمنين؟ فيا أيها الذين لا يؤمنون بها، اعملوا على مكانتكم إنا عاملون، وانتظروا إنا منتظرون.

 ويا أيها الإخوان المسلمون من المؤمنين بدعوة الإسلام والمجاهدين في سبيلها، اعبدوا الله حق عبادته، وتوكلوا عليه في كل شئونكم، وما ربكم بغافل عما تعملون ويعملون، ولله الأمر من قبل ومن بعد، ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم، واثبتوا على هذا الخير اقتداء بنبيكم والمرسلين من قبله -صلوات الله عليهم أجمعين.

ولا أحب أن أطيل عليكم القول؛ فتذهب الإطالة بحلاوة الآيات الغنية عن الشرح والبيان لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد(11).

 

بذل

﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَللهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ﴾ [المنافقون: 7].

انتهز عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين بالمدينة بادرة من بوادر الخلاف والخصومة بدرت بين المهاجرين والأنصار، بعد أن فرغ رسول الله  صلى الله عليه وسلم من أمر بني المصطلق، فراح ينفس عن نفسه غيظه المكتوم، وحقده المكبوت، ويلقي بذور الفتنة والشر والتحريض على الإثم ذات اليمين وذات اليسار، وصاح في قومه: «ما رأيت كاليوم مذلة، أوقد فعلوها؟ عاقرونا في ديارنا، وكاثرونا في بلادنا، ما نحن والمهاجرين إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ، هذا ما فعلتم بأنفسكم، وصنعتم لقومكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم، ونزحوا لغير بلادكم، أولا ترون إلى أنفسكم، جعلتموها دون محمد أعراضًا للمنايا، وأهدافًا للرزايا وطلائع للخيول، ثم عدتم الولد اليتيم والطفل اللطيم، يا قوم لو أردتم الخير لأنفسكم لا تنفقوا على هؤلاء المهاجرين حتى ينفضوا، ولا تلاقوهم الوجوه حتى يظعنوا».

وفي المجلس زيد بن أرقم وهو من خير شباب المسلمين دينًا وحبًّا لنبي الله  صلى الله عليه وسلم، فلم يتركها له حتى ردها عليها قائلاً: «أنت والله الذليل القليل البغيض في قومك المشنوء في عشيرتك، ومحمد في عزٍّ من الرحمن وقوة من المسلمين»، ونقلها إلى رسول الله  صلى الله عليه وسلم ليحسم الداء ويسرع بالدواء حتى لا يستشري هذا السم في أنفس بريئة وأفئدة مؤمنة غافلة، واستكثر مشيخة الخزرج وهم قوم عبد الله ما قال، وظنوا زيدًا مبالغًا أو غير صادق، ولكنه أكد لهم أنه ما وهم ولا كذب ولا بالغ وما شهد إلا بما سمعته أذنه ووعاه قلبه، واستدعى رسول الله  صلى الله عليه وسلم عبد الله فسأله، فما كان منه إلا أن قال: «والله الذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئًا من ذلك، وإن زيدًا لكاذب».

ولم تسترح نفس نبي الله  صلى الله عليه وسلم إلى هذه اليمين وأحد أصحابه يسرون عنه، وقال أسيد بن حضير  رضى الله عنه وهو سيد من ساداتهم: «فأنت والله يا رسول الله تخرجه منها إنْ شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز، ارفق به يا رسول الله، فوالله لقد جاءنا الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، وإنه الآن ليرى أنك قد استلبت منه ملكًا، ونزعت منه رياسة؛ فهو أيضًا من الحسد في همٍّ ناصب وقلب محنق مغيظ».

ولم يمض كبير وقت حتى نزل القرآن الحق بإزهاق الباطل وإحقاق الحق، فأوحى الله إلى نبيه بالسورة الكاشفة ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ [المنافقون: 1]. وتلاها رسول الله  صلى الله عليه وسلم على المسلمين، وقرب إليه زيدًا الصادق الأمين، وعرك أذنه قائلا: «وفت أذنك يا غلام، إن الله قد صدقك وكذّب المنافقين».

وتصدر عبد الله بن عبد الله بن أبيّ  رضى الله عنه وقد وقف لأبيه على باب المدينة، حتى إذا دنا منه صاح به: «وراءك وراءك! والله لا تدخلها حتى تشهد على نفسك بالذلة وبالعزة لله والرسول والمؤمنين»، لولا أن تدخل النبي الرحيم  صلى الله عليه وسلم بين الوالد وابنه مخاطبًا عبد الله الأصغر  رضى الله عنه: «جزاك الله عن رسوله وعن المؤمنين خيرًا، خلِّ سبيله علّه أن يتوب».

واستمر الأنصار يبذلون والمهاجرون يبذلون من الأرواح والمهج تارة، ومن الأموال والنفائس تارة أخرى، لا يبقون على شيء في سبيل دعوة الله، حتى أعلى الله كلمته، وأعز دينه، وكان أحدهم يأتي بماله كله فيسأله الرسول  صلى الله عليه وسلم: «ما هذا؟»، فيقول: «هذا مالي كله»، فيقول: «وماذا أبقيت لعيالك؟» فيقول: «أبقيت لهم الله ورسوله»، وكان الكثير منهم يشاطرون الله مالهم مقلين أو مكثرين؛ فعبد الرحمن بن عوف يبذل أربعة آلاف أوقية من ذهب هي نصف ماله، ويبذل الأراشي معه صاعًا من تمر هو نصف ماله كذلك، ويلمزهما المنافقون أيضًا، فيرد الله عنهما في آية واحدة ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ في الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [التوبة: 79].

وإن الإيمان الذي يدفع بهذه النفوس المؤمنة إلى البذل ما زال -بحمد الله- يحتل نفوس ورثتهم من شباب هذا العصر الذي طغى فيه سيل المادية الجارف، ومهما ترقب المترقبون انفضاض الكتيبة المؤمنة؛ فهي بحمد الله في عزة ومنعة وغنى وثروة ﴿وَللهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ﴾ [المنافقون: 7](12).

 

أسلوب

﴿لاَ يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾ [النساء: 148].

لا يزال أهل الباطل بأهل الحق يناوئونهم ويخاصمونهم ويفتلون لهم في الذروة والغارب ليفتنوهم عن حقهم، وليحيدوا بهم عن طريقهم، ولكن الله الحق لا يزال يثبت أولياءه على حقهم، ويأجرهم، ثم ينصرهم بعد ذلك على أعدائهم.

ولقد حاولت قريش أن تفتن رسول الله  صلى الله عليه وسلم عن الحق المبين الذي أنزله الله عليه، وتحيد به عن الصراط المستقيم الذي هداه الله إليه؛ تارة بالإغراء الذي ما عليه من مزيد، وطورًا بالوعيد والتهديد، وآونة بالملاطفة والملاينة، وأخرى بالمساومة والمخادعة، وهو  صلى الله عليه وسلم لا يستجيب لدعائهم، ولا يستمع لندائهم، وهو في ذلك كله بعين مولاه يسدده ويرشده، ويكلؤه ويرعاه، ويحذره مزالق فتنتهم، ويكشف له عن خبيئة خدعتهم.

وكان من أشدهم على النبي  صلى الله عليه وسلم في ذلك الوليد بن المغيرة وأبو جهل اللذان وقفا للدعوة الهادية بكل طريق؛ اعتزازًا بمكانتهما من قومهما، واعتمادًا على ما منحهما الله من مال وبنين، فوقف القرآن الكريم منهما أحزم المواقف، وصب عليهما من جحيم التبكيت والتوبيخ والنقص أحر القذائف؛ حتى هد كيانهما، وهدم بنيانهما، وتركهما، كأمس الدابر.

وقف الوليد بن المغيرة يحلف لقومه بالباطل مكذبًا محمدًا  صلى الله عليه وسلم، ومتوعدًا إياه تارة، ويحلف لمحمد  صلى الله عليه وسلم ويعده ويمنيه تارة أخرى، ويهمز الدعوة والداعية بالقول الخبيث واللفظ الجارح، ويمشي بالنميمة بين المؤمنين والكافرين على السواء، ويتوعد أبناءه وأقرباءه بالحرمان من خيره وبره وماله ورفده إن آمنوا بمحمد  صلى الله عليه وسلم، ويعتدي بذلك على حرياتهم، ويأثم أشد الإثم بمحاربة دعوة الحق في جفوة وغلظة، مفاخرًا بجاهه، مدلاًّ بماله، معتمدًا على معشره وقبيله، وما زال كذلك حتى دمغه القرآن بهذه القوارع: ﴿وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاءِ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ * أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ * سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ﴾ [القلم: 10- 16]، فعرف الناس من وضيع أخلاقه ما كانوا يجهلون، ووقفوا من حقيقة نسبه على ما لم يكونوا يحتسبون، وانتكس الرأس العالي بالباطل أمام صولة الحق، واستخزى الجبروت الظالم أمام قولة الصدق ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 21].

ولقي أبو جهل ذات يوم النبي  صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالحجر، والدعوة إذ ذاك لا تزال ناشئة حديثة عهد بظهور وإعلان، وأبو جهل حينذاك علم من أعلام الجاهلية الطاغية حتى أطلقوا عليه سيد أهل الوادي، فنهى النبيَّ  صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في قسوة وغلظة، فزجره النبي  صلى الله عليه وسلم زجرًا شديدًا، وانتهره في قوة المؤمن بحقه، الواثق بنصر الله إياه، فدهش أبو جهل، وقال: «تنهرني يا محمد؟ فوالله لأملأن عليك هذا الوادي إن شئت خيلا جردًا ورجالاً مُردًا، وإنك لتعلم أن ما بها ناد أكثر مني»، فأجابه الحق -تبارك وتعالى- عن نبيه  صلى الله عليه وسلم بهذه الآيات الزاجرات الرادعات: ﴿أَرَأَيْتَ الذي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى * كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُو الزَّبَانِيَةَ * كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب﴾ [العلق: 9-19]، فكانت فصل الخطاب.

يقول الإخوان المسلمون: أليس هذا من أسلوب القرآن؟ وهو أدب من أدبه، وهدي من هديه، على المؤمنين أن يعملوا به، وأن يسيروا على نهجه؛ ففيم التسامح والسكوت على من اعتز بناديه، ولج في الباطل، وأوغل فيه؟ ولم لا نحمل أنفسنا ونحملهم على هذه السنة القرآنية فنقذفهم بمثل هذه الزواجر الربانية؟

ألا وإن الجواب عن مثل هذا القول: صبرًا صبرًا أيها الإخوان؛ فما لمثل هذه المحنة الطارئة أعددتم ما أعددتم من قول أو عمل، وإنا لنألم لهؤلاء أكثر مما نألم منهم، وإن الله خيَّر بين العقوبة والصبر، وقرر أن في الأخير الخير، ﴿وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾ [النحل: 126]، وهو العزم والتقوى، أنتم أحق بها وأهلها، ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ﴾ [آل عمران: 186].

والمعركة بيننا وبين القوم وغيرهم لم يحن وقتها بعد، وإنه لقريب، ولن تكون معركة أشخاص وتحالفات، ولكنها ستكون معركة أوضاع ودعوات، ستكون معركة «المصحف»، وسيكون الحكم فيها «كتاب الله» ﴿اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 200].

والله أكبر ولله الحمد(13)

 

حكم

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات: 6]

مما يؤثر في أدب القضاء والحكم قولهم: «إذا جاءك الخصم وعينه مقلوعة فلا تحكم له حتى يأتيك الخصم الآخر فقد تكون عيناه الاثنتان مقلوعتين»، وذلك قول حق صحيح، ولعل معظم أخطاء الناس في أحكامهم إنما تكون من التسرع والتأثر بالمظاهر الخادعة، والألفاظ الخالبة، والعرض المؤثر الأخاذ، ولهذا قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس، إنكم تختصمون إليّ، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض؛ فمن قضيت له بحق أخيه شبرًا فإنما هي قطعة من النار؛ فليأخذ أو ليدع».

وكان لنبي الله داود  يوم يخلو فيه لعبادة ربه، فتسوّر عليه المحراب في هذا اليوم فجأة خصمان بغى بعضهما على بعض، ففزع داود لمّا رآهما، وسألهما حاجتهما، فتقدم المدعي يقول: إن له نعجة واحدة، وإن لأخيه تسعًا وتسعين نعجة، ومع ذلك فإن طمعه يأبى إلا أن يضم الواحدة إلى نعاجه لتتم مائة، وإنه قد صمم على ذلك إن لم يكن بالرضاء والتسليم فبالقول القارص والتوبيخ الأليم ثم بالقوة والغصب، فتأثر داود  بحجة الرجل ووضوح دعواه، وتألم لجشع أخيه وبغيه مع ثروته وغناه، وأصدر حكمه عليه قبل أن يستمع إليه ﴿لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ﴾ [ص: 24]، ولكن سجية القاضي العادل، ورزانة الحكم الفاضل أذكرته ما نسي من استيفاء الإجراءات والاستماع إلى المدعى عليه كما استمع إلى المدعي، فظن أنها فتنة العاطفة قد غلبته على عقله وحكمته، وأناته ورويته فاستغفر ربه وخر راكعًا وأناب، فغفر الله له ذلك، وبشره بالزلفى وحسن المآب، ولفت نظره إلى ما فاته من وجوب ضبط النفس واستيفاء أمر الله، قال: ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً في الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ﴾ [ص: 26]، وتوعد الذين يخالفون عن أمر الله، ويحكمون في الأمور بغير سلطان أتاهم فيضلون الناس عن الهدى والرشاد بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ [ص: 26].

 واقرأ خلاصة هذه القضية مفصلة محكمة في سورة «ص» من قول الله -تبارك وتعالى: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ﴾ [ص: 21] إلى قوله -تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾ [ص: 27]، تر وجه الحق وأدب القضاء والحكم، ودع ما عدا ذلك مما أحاط بالقصة في بعض التفاسير والسير؛ فهذا هو الحق -إن شاء الله، وماذا بعد الحق إلا الضلال، ﴿وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾ [الأحزاب: 4].

وإلى الذين يحكمون على الأشخاص والوقائع حين يستمعون إلى الأدلة أو شبه الأدلة من طرف واحد أوجه القول: إنكم -أيها الإخوان- تظلمون أنفسكم بإخفاء الحقيقة عنها، وتظلمون الحقيقة والمنطق بانحرافكم إلى غير حجة أو برهان.

وتظلمون عقولكم بتعطيلها عن وظيفتها التي خلقها الله لها وميزها بها، وتظلمون بعد ذلك كله غيركم من الناس بمعرفتهم على غير حقيقتهم، ووصفهم بما ليس فيهم، وتخالفون وصية الله لكم إذ يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات: 6].

ولقد جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليّ -كرم الله وجهه- ينم على آخر، وينقل عنه حديثًا سيئًا فأمسك علي  رضى الله عنه بيده، وقال: يا هذا إن شئت جمعت ما بينك وبين صاحبك لأتبين صدق ما تقول، ولست مشكورًا على أية حال حتى ولو صدقت، فإن مثلك ومثله كما قال الأول:

وأنت امرؤ إما ائتمنتك واثقًا              فخنت وإما قلت قولا بلا علم

فأنت من الأمر الذي كان بيننا           بمنزلة بين الخيانة والإثم

وإن شئت أقلتك إياها وعفوت عنك على ألا تعود لمثلها أبدًا، فقال: «أقلنيها أقالك الله يا أمير المؤمنين». فخلى عنه.

ولا شكَّ أن الناس لو أخذوا بهذا الأدب لما جرؤ نمام أن ينقل، ولما تطاول كذاب إلى أن يختلق ويفتري، وانحسم بذلك عن المجتمع فساد كبير، وشرٌّ مستطير؛ فهل يأخذ الناس بذلك؟

نرجو والتوفيق بيد الله(14).

 

خُلق

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119]

على حين فجأة، برز فارس عظيم من فرسان الروم، ووقف بين الصفين، ونادى بأعلى صوته: «أين خالد بن الوليد قائد جيش المسلمين؟ لا أريد أن أتحدث إلى غيره»، وأجاب خالد النداء، وهمز الأشقر حتى حاذى خصمه، وقال: «هأنذا خالد! فماذا تريد؟»، فقال الرومي: «إني سائلك فاصدقني الجواب»! فقال خالد: «ما كذبت مذ عرفت أن الكذب يضر أهله، وإن ديننا لينهانا أشد النهي عن الكذب، فسل عما تريد؟»، فقال: «يا خالد، أصحيح أن الله أنزل على نبيكم سيفًا من السماء فدفع به هذا النبي إليك وسماه سيف الله؛ فأنت لا ترفعه في وجه جيش إلا هزمته، ولهذا اقترن النصر بغرتك، فلم ترد لك راية؟».

وكانت فرصة سانحة للبطل العربي والمسلم لو شاء أن ينتهزها ليهد بها أعصاب خصمه، وليوقع الرعب والهزيمة في صدره، والحرب خدعة، لولا أنه مسلم يقرأ في كتاب الله -تبارك وتعالى: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ [النحل: 105] مع قوله -تعالى: ﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ [آل عمران: 61]؛ فلم يشأ إلا أن يكون صادقًا، وغلبت قوة الإيمان شهوة الخصومة والظفر، فأجاب في صراحة ووضوح: «لا يا هذا، ليس ما بلغكم بصحيح، وليس هناك سيف نزل من السماء، فإنما أنزل على نبينا الكتاب الكريم، وسيف الله لقب شرفني به هذا النبي العظيم على إثر موقعة أبليت فيها البلاء الحسن الجميل، ونحن إنما ننتصر عليكم وعلى غيركم بالإيمان وتقوى الله وطاعته»، وبهت الرومي لهذا الجواب الواضح، وأخذ من نفسه هذا الصدق وهذا الخلق القويم كل مأخذ؛ فلم يكن منه إلا أن قال: «إن دينًا يطبعكم بمثل هذه الخلال الكريمة لعظيم، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله»، ومال مع خالد جنديًّا مؤمنًا يجاهد في سبيل الله مع المجاهدين.

ولقي الحجاج أعرابيًّا في فلاة، فسأله: «يا أعرابي، ما تقول في الحجاج؟»، فقال: «ظالم متعسف، فاسأل الله أن يرفع عنا ظلمه وجوره، وأن يخلفنا منه غيره»، فقال: «ويحك أنا الحجاج»! فقال الأعرابي: «إنك لكذلك، وفوق ذلك ولا كرامة»، فساقه إلى السجن، ولم يكن الرجل ينتظر بعد ذلك إلا حكم الإعدام يقضى به عليه، وإلا خيط رقبته يكفر به عن سيئته في عرف الحجاج والناس، وجاءه أهله يزورونه ويراودونه على أن يتراجع، ويزعم أنه مجنون تصيبه لوثة، فأبى ذلك عليهم أشد الإباء، ودعي أمام الوالي وووجه بهذا الدفاع، فقال: «معاذ الله أن أنكر نعمة العقل وقد حباني بها الله، أو أسلك نفسي مع الكاذبين وقد حماني الله هذا الخلق الذميم، وما شهدت إلا بما علمت، وما نطقت إلا بما عرفت، وليفعل الوالي ما يشاء»، وتأثر الحجاج بهذا الخلق القويم المتين، وأخذ منه الموقف كل مأخذ، فلم يملك إلا أن قال: «يا أعرابي، إن فيك لموضعًا للصنيعة، وقد عفونا عنك لصدقك.. خلوا عنه يذهب حيث يشاء».

وقالوا: إن أحد رواة الحديث أقبل على أحد شيوخه ينهل من ورده ويتلقى عنه، ومكث عنده شهرًا لا ينكر عليه شيئًا من خلق أو دين أو فضل، وإنه ليراه من ذلك كله بالمحل الأرفع، حتى استوثق لنفسه ولعلمه وروايته، إلى أن كان يوم نظر إلى الشيخ يدعو دابته ويشير إلى حجره وليس فيه شيء يغريها بالإقبال بعد الإجفال، فارتاع الراوي لما رأى، واعتبر ذلك كذبًا تسقط به رواية الشيخ ويشك في علمه، ولم يستجز بعد ذلك أن يروي عنه حديثًا واحدًا مما سمع منه، مع ما تقرر في نفسه من فضله ودينه وتقواه، ولكنها شبهة التجوز ذهبت بكل ذلك في لحظة من نهار.

وصدق رسول الله  صلى الله عليه وسلم إذ يقول: «عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذّابًا».

ولن يكون المؤمن كذّابًا أبدًا، وقد قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: «يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب»، وفي رواية: «ثم تلا قول الله -تعالى: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ [النحل: 105]».

وأقبح ما يكون الكذب إذا نصب الكاذب نفسه ليكون موضع ثقة الناس يستمعون إليه ويأخذون عنه، وقد قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: «كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثًا هو لك مصدق وأنت له كاذب».

فبأي وجه يلقى الله أولئك الذين اتخذوا من الأكاذيب بضاعة يتلفون بها عقول الناس وقلوبهم، ويبتزون بها أموالهم ونقودهم.

أيها الكتبة الكذبة، ارحموا أنفسكم من جحيم الافتراء في الدنيا، ومن عذاب الله في الآخرة، وفي الصدق مندوحة، وفي الحق غناء، ولن يقهر الباطل الحق أبدًا، والله يقول: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾ [الأنبياء: 18]، ﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ في اللهِ مِن بَعْدِ مَا اسَتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ [الشورى: 16].

وأنتم أيها المؤمنون العاملون المجاهدون، صبر جميل، والله المستعان على ما يصفون، وعليكم دائمًا بالصدق والصبر؛ فهما حبل النجاة وطريق الوصول إلى الله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119](15).

 

خلق

نزل هرقل ملك الروم إيلياء، فأرسل إلى أبي سفيان بن حرب في ركْب من قريش، وكانوا تجارًا بالشام حينذاك في المدة التي هادن فيها رسول الله  صلى الله عليه وسلم أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه، فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعا بالترجمان فقال: «أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟»، قال أبو سفيان: «فقلت أنا أقربهم»، فقال: «أدنوه مني، وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره»، ثم قال لترجمانه: «قل لهم إني سائل هذا عن هذا الرجل؛ فإن كذبني فكذبوه؛ فوالله لولا الحياء من أن يأثروا عليّ كذبًا لكذبت عنه»، ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: «كيف نسبه فيكم؟»، قلت: «هو فينا ذو نسب»، قال: «فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟»، قلت: «لا»، قال: «فهل كان من آبائه من ملك؟»، قلت: «لا»، قال: «فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟»، قلت: «ضعفاؤهم»، قال: «أيزيدون أم ينقصون؟»، قلت: «بل يزيدون»، قال: «فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟» قلت: «لا»، قال: «فهل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟»، قلت: «لا»، قال: «فهل يغدر؟»، قلت: «لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها، ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئًا غير هذه الكلمة»، قال: «فهل قاتلتموه؟»، قلت: «نعم»، قال: «فكيف كان قتالكم إياه؟»، قلت: «الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه»، قال: «فما يأمركم؟»، قلت: «يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما كان يعبد آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة»، فقال للترجمان قل له: «إني سألتك عن نسبه، فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول قبله، فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يتأسى بقول قيل قبله، وسألتك: هل كان في آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان من آبائه من ملك، قلت: رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا؛ فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله، وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل، وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم، وسألتك: أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين يخالط بشاشة القلوب، وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر، وسألتك: بمَ يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئًا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف؛ فإن كان ما تقول حقًّا فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظن أنه منكم؛ فلو أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه»، ثم دعا بكتاب رسول الله  صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل فقرأه، فإذا فيه:

«بسم الله الرحمن الرحيم

من محمد بن عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين؛ فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، و﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 64]».

قال أبو سفيان: فلما قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب، وارتفعت الأصوات وأخرجنا، فقلت لأصحابي: 

«لقد أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة، إنه يخافه ملك بني الأصفر؛ فما زلت موقنًا أنه سيظهر حتى أدخل الله عليّ الإسلام.

وأبو سفيان حينذاك مشرك لم يدخل الإيمان قلبه، وعدو قاتل الإسلام ونبي الإسلام بالسيف والسنان، بعد القول واللسان، وهو أمام ملك عظيم يلمح تأثره، ويحرص على ألا يكون لهذا النبي منزلة عنده، ولكنه مع ذلك يقول الحق ولا يخرج عن الصدق قيد شعرة، يصف أخلاق النبي  صلى الله عليه وسلم، ويتحدث عن سمات أصحابه، ويصور حقيقة رسالته على وضعها الصحيح السليم، حتى لو أن مكانه أحد المسلمين ما زاد على ما قال شيئًا، ويقول -وقد أجاب جوابًا فيه شيء من التردد حين سأله هرقل: فهل يغدر؟ فكان جوابه: «لا»، وزاد: «ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها»، ويقول الرواة: إن أبا سفيان كان يقول: والله لا زلت أخشى مغبتها بعد».

ذلك لأن أبا سفيان رجل ارتفع برجولته عن صغار الكذب، وعن أدران الزور والبهتان؛ فإن لم يكن حينذاك له دين، ففيه إنسانية ورجولة يعرف لها قدرها وحقها.

فهل يعقل هذه المعاني من الخلق الإنساني الكريم رجال الصحافة الحزبيون، وحملة الأقلام المؤمنون، وهم من بني آدم، ولهم عقائد ومبادئ ودعوات، أم إنهم لا زالوا يحقرون كل هذا من هذه المعاني العالمية حتى آدميتهم؟ نسأل الله لنا ولهم الهداية والتوفيق(16).

 

أدب ومرحمة

دخل ناس من الحرورية (الخوارج) على عمر بن عبد العزيز، فذاكروه شيئًا، فأشار إليه بعض جلسائه أن يرعبهم ويتغير عليهم، فلم يزل يرفق بهم ويتلطف معهم حتى أخذ عليهم السبيل، وخرجوا من عنده راضين، فلما انصرفوا ضرب عمر ركبة رجل يليه من أصحابه، وقال: «يا فلان إذا قدرت على دواء تشفي به صاحبك دون الكي فلا تكوينه أبدًا».

وقال عمر بن عبد العزيز: ما كذبنا كذبة [منذ شددت] علي إزاري، ودخل عليه رجل فرفع صوته، فقال: مه حسب المرء ما أسمع به جليسه من كلامه. وكان إذا خطب على المنبر فخاف فيه العجب قطع، وإذا كتب كتابًا فخاف فيه العجب مزقه، ويقول: «اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي»، وكان يقول: «أحسن بصاحبك الظن ما لم يغلبك».

وقد اجتمع بنو مروان فقالوا: لو دخلنا على أمير المؤمنين فجلسنا إليه فعطفناه علينا وأذكرناه أرحامنا، فدخلوا فتكلم رجل منهم، فمزح، فنظر إليه عمر، فوصل له رجل كلامه بالمزاح أيضًا، فقال عمر: «لهذا اجتمعتم؟! لأخسِّ الحديث، ولما يورث الضغائن؟! إذا اجتمعتم فأفيضوا في كتاب الله، فإن تعديتم فعليكم بمعالي الحديث».

وكان عبد الله بن الحسن يختلف إلى عمر بن عبد العزيز يستعين به على سليمان بن عبد الملك في قضاء حوائجه، وعبد الله إذ ذاك فتى شاب صغير، فقال له عمر: «رأيت ألا تقف ببابي إلا في الساعة التي نرى أنه يؤذن لك فيها علي؛ فإني أكره أن تقف ببابي ولا يؤذن لك»، وجلس عمر إلى ناس، فنسي السلام، ثم ذكر أنه لم يسلم، فقام قائمًا، ثم سلم عليهم وجلس. ومر برجل في يده حصاة يلعب بها وهو يقول: «اللهم زوجنا من الحور العين»، فعدل إليه وقال: «بئس الخاطب أنت.. ألا ألقيت الحصاة، وأخلصت إلى الله الدعاء». وقال ميمون بن مهران: «كنت في سمر عمر بن عبد العزيز ذات ليلة، فقلت له: يا أمير المؤمنين ما بقاؤك على ما أرى؟ أنت بالنهار مشغول في حوائج الناس، وبالليل أنت معنا هاهنا، ثم الله أعلم بما تخلو به، قال: فعدل عن جوابي، ثم قال: إليك عني يا ميمون؛ فإني وجدت لقاء الرجال تلقيحًا لألبابهم».

وأزمع قوم من الخوارج قتاله، وأصروا على ذلك، فكتب إلى قائده يحيى بن يحيى: «أما بعد؛ فإني ذكرت آية في كتاب الله ﴿وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [المائدة: 87]، وإن من العدوان قتل النساء والصبيان؛ فلا تقتلن امرأة ولا صبيًا، ولا تقتلن أسيرًا، ولا تطلبن هاربًا، ولا تجهزن على جريح»، وأتاه رجل فقال: «زرعت زرعًا فمرّ به جيش من أهل الشام فأفسده»، فعوضه منه عشرة آلاف درهم، وأُتي بسارق، فشكا إليه الحاجة، فعذره وأمر له بعشرة دراهم، ولقد قال وهو يخطب: «أيها الناس، لو سنة أحييها أو بدعة أميتها ما باليت ألا أعيش فواقًا»  رضى الله عنه.

أيها الإخوان، هذه طرائف من الأدب والمرحمة، هي نماذج يقتدى بها، ومشاعل يسير المهتدون على ضوئها؛ فخذوا عنها، وأفيدوا منها ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: 90](17).

 

نفاق

﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ في الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾ [النساء: 145]

في أول سورة «البقرة» قدم القرآن نفسه للناس بأنه الكتاب الذي لا ريب فيه هدى للمتقين، ثم تناول صنوف الناس بالنسبة لدعوة الحق؛ فإذا هم ثلاثة أصناف: المؤمنون المصدقون، وقد عرض لأوصافهم في نحو أربع آيات، والكافرون الجاحدون وقد تناولهم بآيتين اثنتين، والمنافقون المخادعون وقد كشف عن سوء أثرهم في ثلاث عشرة آية معززة مؤكدة بمثلين واضحين من أول قوله -تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآَخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ [البقرة: 8-10] إلى قوله -تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 20].

ذلك أن المنافقين أشد خطرًا على أنفسهم وعلى المجتمعات من الخصوم الواضحين الظاهرين، وما توعد الله أحدًا بمثل ما توعد به المنافقين من العذاب الأليم في الدنيا والآخرة ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَعَدَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾ [التوبة: 67-68] في آيات كثيرة أقسى وأشد.

كما أكد القرآن الكريم على المؤمنين أن يكونوا صرحاء واضحين في كل تصرفاتهم حتى مع خصومهم وأعدائهم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119].

والله يقول للرسول  صلى الله عليه وسلم: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾ [الأنفال: 58]؛ فالصراحة قرينة الإيمان -ولا شك- لأن المؤمن قوي بإيمانه؛ فلا حاجة به إلى المداورة والنفاق ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ [آل عمران: 173]، والنفاق والخداع لازم الجبن والضعف والخوف والمهانة جميعًا ﴿لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً في صُدُورِهِم مِّنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾ [الحشر: 13].

وقد يستر المنافقون نفاقهم بالألفاظ المستطرفة، فيسمونه مجاملة أو ظرفًا أو كياسة أو لباقة أو مداراة، وهو صريح النفاق ولبه وصميمه؛ فلا تغني عنهم التسمية شيئًا، وقد يبالغون في الأيمان المغلظة يتقون بها تكذيب الناس إياهم، وتعرفهم خبيئة نفوسهم؛ فلا يزيدهم ذلك إلا افتضاحًا، ويكاد المريب يقول: «خذوني»! ﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [المنافقون: 16].

ولقد فشا النفاق في مجتمعات الناس فشوًا عجيبًا، وسر ذلك تفلت الإيمان من صدورهم، وانقسام العالم كله -أفرادًا وأممًا- إلى فريقين: أقوياء كل همهم استغلال الضعفاء فيخادعونهم بمعسول القول حتى يحصلوا منهم على كل ما يريدون بأبخس الأثمان، وضعفاء يتربصون الدوائر بالأقوياء ليكسروا قيود الاستغلال التي كبلهم بها الأولون، وما دام الوضع كذلك فلن يستقر أمن ولا سلام.

ولقد شكا المصلحون علة النفاق الفردي والنفاق الاجتماعي بين الطبقات يوم كان النفاق محصورًا بين الفرد والفرد، أو بين طبقات الأمة الواحدة، ينافق بعضها بعضًا، يخدع بعضها بعضًا مع اعتقاد الجميع أنها رذيلة يجب الإقلاع عنها والتطهر منها؛ فكيف يكون الحال وقد أصبح النفاق دوليًّا يخطب به في أعلى المنابر، وتردد عباراته في أرجاء الدنيا، مطنطنة بالحرص على السلام، والمحافظة على الحريات، ووجوب مناصرة العدالة، ولو مع الضعفاء، حتى إذا انخدع الناس بهذا القول، واطمأنوا إليه، واتجهوا نحوه، وجدوا أمر هذه الهيئات ﴿كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا﴾ [النور: 39]، ومن أراد صدق هذا القول فليقرأ ما دار في جلسات مجلس الأمن، وما يتردد في أرجاء هيئة الأمم المتحدة في جمعيتها العمومية الآن، وليرجع قليلاً إلى الوراء ليتذكر ميثاق الأطلنطي بحرياته الأربع، وليتذكر قبل ذلك مبادئ ولسن الأربعة عشر؛ ليعلم تمام العلم أن العالم كله لا يزال يدور في فلك من الخديعة والمطامع والنفاق والأهواء.

ولكنا -ونحن القوامون على المثل العليا- لن ننزل إلى هذا المستوى يومًا من الأيام، وسنظل دائمًا صرحاء واضحين؛ فقد نهانا الله أشد النهي، وتوعدنا بالمقت إن لم نكن كذلك ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: 2-3]، ﴿وَإِن يُّرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: 62].

وعلينا ألا نخدع بهذه الدعاوى والأوهام، وأن نعمل جاهدين لنصل إلى ما نريد بأيدينا لا بوعود الناس ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 21](18).

 

إفك

﴿لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ﴾ [النور:12]

هي عائشة الصديقية: أم المؤمنين، وكريمة الصديق، وعقيلة قريش، وزوج رسول الله  صلى الله عليه وسلم.

وهو صفوان بن المعطل السلمي: الشاب الصحابي الجليل، التقي النقي العف الطهور، ولكنها ألسنة المنافقين، وأراجيف المبطلين، وأكاذيب المفترين، وتربص المرجفين؛ تمشي بالنميمة، وتحاول الوقيعة، وتتفنن في الفتنة، وتتناول أعراض البرءاء المطهرين، ولا تدع أديمًا صحيحًا حتى ولو كانت عائشة، وكان صفوان، رضي الله عنهما.

عاد رسول الله  صلى الله عليه وسلم من غزوة بني المصطلق مؤيدًا منصورًا مظفرًا مؤزرًا. الخير في ركابه، واليمن على أعتابه، وفي إحدى المراحل افتقدت عائشة عقدها فلم تجده، فضربت في الفضاء الفسيح تبحث عنه. وأذن المؤذن بالرحيل، وحمل الرجال هودج عائشة على راحلتها يحسبونها فيه، وكان النساء يومئذ خفيفات لم يثقلهن السِّمَن ولم تدركهن البدانة، وانطلق الجيش على اسم الله، وعادت عائشة فلم تجد للقوم أثرًا، وغلبتها عيناها فنامت. وجاء صفوان على أثر ذلك وهو في ساقة الجيش يتفقد الضالة ويرد التائهين، فرأى عائشة في نومها، فاسترجع: «إنا لله وإنا إليه راجعون، ظعينة رسول الله  صلى الله عليه وسلم!!»، واستيقظت النائمة على صوته، فتملكها الخجل، وخمرت وجهها بجلبابها، وأناخ لها صفوان راحلته فامتطتها، وانطلق بها حتى أدرك القوم، وسأل النبي  صلى الله عليه وسلم زوجه فصدقته فصدق. ولم لا وأهل الطهر والنقاء عائشة كريمة المنابت طيبة الأعراق؟

حصان رزان ما تزن بريبة

                وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

عقيلة حي من لؤي بن غالب

                كرام المساعي مجدهم غير زائل

مهذبة قد طيب الله خيمها

                وطهرها من كل سوء وباطل

وانتهى الأمر كأن لم يكن شيء. ولكن عصبة النفاق، وجماعة الفتنة والشقاق، وأدوات الإفك والبهتان، ومطايا الزور والخسران أبت إلا أن تعكر صفاء هذه النفوس المؤمنة، وتتخذ من هذه الحادثة مادة للكذب والإيذاء والتضليل والافتراء، فقال عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين: «والله ما نجت منه ولا نجا منها»، وتحرك بمثل ذلك لسان مسطح، وحسان، وزيد بن رفاعة، وحمنة بنت جحش، وفشت قولة السوء في الناس حتى بلغ الخبر رسول الله  صلى الله عليه وسلم، ووصل إلى مسمع أبي بكر، ولم يبق أحد لم يعرفه إلا عائشة البرة الطهور. 

ومضى رسول الله  صلى الله عليه وسلم مهمومًا مكروبًا يتحرى الأمر ويتحسسه؛ فلم يجد إلا خيرًا، ولم ير من دليل إلا هذه القالة الباطلة الفاشية التي لم تنهض بها حجة، ولم يقم عليها برهان، وسأل ضرتها زينب بنت جحش الصالحة التقية، وسأل خادمتها بريرة المؤمنة الأبية، وسأل أسامة بن زيد  رضى الله عنه؛ فلم يسمع إلا الخير والبراءة والطهر، فخرج إلى الناس مغضبًا يقول: «أيها الناس، ما بال رجال يؤذونني في أهلي، ويقولون عليهم غير الحق؟ والله ما علمت منهم إلا خيرًا، وقد ذكروا رجلا ما علمت منه إلا خيرًا، وما يدخل بيتًا من بيوتي إلا وهو معي».

ولكن قالة السوء ما زالت تنتشر وما زالت تلوكها ألسنة الناس؛ فذهب الرسول  صلى الله عليه وسلم يسأل عائشة آخر الأمر يقول: «يا عائشة، إنه قد كان ما بلغك من قول الناس فاتقي الله؛ فإن كنت قارفت سوءًا مما يقول الناس فتوبي إلى الله؛ فإن الله يقبل التوبة عن عباده».

ولكنها لم تستطع أن تجيب، والتفتت إلى أبيها تقول: «أجب عني رسول الله  صلى الله عليه وسلم»، وإلى أمها تخاطبها بمثل ذلك، وانفجرت مستعبرة باكية تقول: «والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبدًا، والله إني لأعلم لئن أقررت بما يقول الناس، والله يعلم أني منه البريئة، لأقولن ما لم يكن، ولئن أنكرت ما يقول الناس لا تصدقونني، ولكني أقول كما قال أبو يوسف: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ [يوسف: 18]».

وأطرق رسول الله  صلى الله عليه وسلم، ووجم أبو بكر، وتنهدت أم رومان، وترقبت عائشة، واهتز الملأ الأعلى لهول الفرية، ونزل الوحي الحق يطارد الإفك، وأنزل الله على نبيه  صلى الله عليه وسلم في هذه اللحظة الرهيبة عشرة آيات مخلدات في سورة النور: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ * لَوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ * وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ في الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ في مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآَيَاتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ في الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ في الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [النور: 11-21].

فيا أيها الذين تتعمدون الولوغ في أعراض الناس بالباطل، أين أنتم من هذا الذكر الحكيم، والأدب الرفيع، والخلق العالي، والإرشاد السامي؟ وهل يتفق الإيمان بهذا القرآن العظيم مع ما أنتم عليه من هذا الخوض، والله يقول: ﴿فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ * وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ في الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ في مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: 13-14]؟

وأنتم أيها المظلومون بالباطل، لا بأس عليكم فإن الله يقول: ﴿لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ﴾ [النور: 12].

اللهم فقهنا في دينك، ونوِّر قلوبنا بأضواء كتابك، وأرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب(19).

المصادر

  1. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثانية – العدد 312 – صـ2 – 18جمادى الآخرة 1366هـ / 9مايو 1947م.
  2. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الأولى – العدد 198 – صـ1 – 2صفر 1366هـ / 26ديسمبر 1946م.
  3. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثانية – العدد 525 – صـ1 – 5ربيع الأول 1367هـ / 16يناير 1948م.
  4. مجلة الإخوان المسلمين – السنة الثانية – العدد 23 – صـ21، 22 – 2رجب 1353هـ / 12أكتوبر 1934م.
  5. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الأولى – العدد 234 – صـ1 – 15ربيع الأول 1366هـ / 6فبراير 1947م.
  6. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الأولى – العدد 247 – صـ2 – 30ربيع الأول 1366هـ / 21فبراير 1947م.
  7. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الأولى – العدد 253 – صـ1 – 7ربيع الآخر 1366هـ / 28فبراير 1947م.
  8. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثانية – العدد 406 – صـ2 – 13شوال 1366هـ / 29أغسطس 1947م.
  9. جريدة الإخوان المسلمين اليومية - السنة الثانية - العدد 459 - صـ1 - 17ذو الحجة 1366هـ / 31أكتوبر 1947م.
  10. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثانية – العدد 418 – صـ1 – 27شوال 1366هـ / 12سبتمبر 1947م.
  11. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثانية – العدد 597 – صـ1 – 29جمادى الأولى 1367هـ / 9أبريل 1948م.
  12. جريدة الإخوان المسلمين اليومية - السنة الثانية - العدد 400 - صـ1 - 6شول 1366هـ / 22أغسطس 1947م.
  13. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثانية – العدد 324 – صـ1 – 3رجب 1366هـ / 23مايو 1947م.
  14. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثانية – العدد 354 – صـ1 – 8شعبان 1366هـ / 27يونيو 1947م.
  15. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الأولى – العدد 277 – صـ1 – 5جمادى الأولى 1366هـ / 28مارس 1947م.
  16. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الأولى – العدد 306 – صـ1 – 11جمادى الآخر 1366هـ / 2مايو 1947م.
  17. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثانية – العدد 412 – صـ1 – 21شوال 1366هـ / 5سبتمبر 1947م.
  18. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثانية – العدد 424 – صـ1 – 4ذو القعدة 1366هـ / 19سبتمبر 1947م.
  19. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الأولى – العدد 259 – صـ1 – 14ربيع الآخر 1366هـ / 7مارس 1947م.
المقال التالي إجابات الإمام حسن البنا على بعض الفتاوي
المقال السابق الدستور في فكر الإمام حسن البنا