إعداد موقع الإمام حسن البنا
فهم الإمام البنا صحيح الإسلام خاصة فيما يخص معاملة الأخرين وتعامل معهم من منطق الدين الحنيف، وجاءت هذه الرسائل دليلا على ذلك.
رسالة من فضيلة المرشد العام
إلى غبطة البطريرك
(الأنبا يوساب الثاني 1877- 1956)
حضرة صاحب الغبطة الأنبا يوساب بطريرك الأقباط الأرثوذكس
تحية مباركة طيبة. وبعد
فأكتب إلى غبطتكم وأنا معتكف لمرض ألم بي, أذهلني ما يكتب وما يقال اليوم حول وحدة عنصري الأمة المصرية, تلك الوحدة التى فرضتها الأديان السماوية وقدستها العاطفة الوطنية وخلدتها المصلحة القومية ولن تستطيع أن تمتد إليها يد أو لسان، وكما -يا صاحب الغبطة- أن الإسلام فرض على المؤمنين به أن يؤمنوا بكل نبي سبق, وبكل كتاب نزل, وبكل شريعة مضت, معلنًا أن بعضها يكمل بعضًا, وأنها جميعًا دين الله وشرعته, وأن من واجب المؤمنين أن يتوحدوا عليها وألا يتفرقوا فيها ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾]الشورى: 13[، كما أنه دعا المسلمين وحثهم أن يبروا مواطنيهم, وأن يقسطوا إليهم, وأن يكون شعار التعامل بين الجميع التعاون والإحسان ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾]الممتحنة: 8[.
على أن النبى صلى الله عليه وسلم قد اختص قبط مصر بوصيته الطيبة، حين قال: فاستوصوا بقبطها خيرًا فإن لكم عليهم رحما، وأشار القرآن فى صراحة إلى عاطفة المودة المتبادلة بين أهل الدينين فى قوله: ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾]المائدة: 82[.
وما جاء الإنجيل إلا لتقرير روح المحبة والسلام والتعاطف بين الناس، حتى إنه ليدعوهم إلى أن يحبوا أعداءهم، ويباركوا لاعنيهم، ويصلوا من أجل الذين يبغضونهم وبذلك وحده تكون على الأرض المسرة وفى الناس السلام.
هذه الحقائق نؤمن بها ونعمل على أساسها، ويدعو الإخوان المسلمون إليها، وقد بعث مكتب الإرشاد العام إلى شعبه، خلال هذا الأسبوع، بنشرة يذكر فيها الواجب المقدس الذي حتم على كل مسلم أن يعمل ما وسعه العمل على تدعيم هذه الوحدة القومية وتوثيق هذه الرابطة الوطنية.
وإني لشديد الأسف لوقوع مثل هذه الحوادث التى لا يمكن مطلقًا أن تقع من الإخوان المسلمين، أو من أى مسلم أو مسيحي متدين عاقل، غيور على دينه ووطنه وقومه والتي هى ولا شك من تدبير ذوي الأغراض السيئة، الذين يحاولون أن يصطادوا فى الماء العكر وأن يسيئوا إلى قضية الوطن فى هذه الساعات الحرجة، والظروف الدقيقة من تاريخه.
ومن حسن الحظ أنهم لا يوفقون إلى شىء -ولن يوفقوا بإذن الله- ولم يعد أمر هذه الحوادث الصبيانية التافهة التى نأسف لها جميعًا، والتي أرجو أن نعمل جميعًا متعاونين على عدم تكراراها، صيانة لهذه الوحدة الخالدة بين عنصري الأمة وبهذا التعاون المشترك يرد كيد الكائدين، وتعلوا كلمة الوطنيين العاملين المخلصين، وفق الله الجميع لخير ما يحب ويرضى، وهو نعم المولى ونعم النصير.
وتفضلوا يا صاحب الغبطة بتقبل تحياتي واحترامي
القاهرة مستشفى الروضة 17 جمادى الأولى 1366، 9 أبريل 1947.(1)
رسالة من فضيلة المرشد العام
إلى المنياوى باشا
(إبراهيم فهمي المنياوى 1887- 1957)
حضرة صاحب السعادة الدكتور إبراهيم فهمي المنياوى باشا وكيل المجلس الملى
تحية طيبة مباركة "وبعد"
فقد قرأت بأهرام الأمس -وأنا بالمستشفى- بيانكم القيم ونداءكم الحكيم الذى تهيبون فيه بأبناء الأمة أن يعملوا جاهدين على صيانة وحدتهم الخالدة, وإني لأضم صوتي إلى صوتكم فى هذا المقصد الكريم راجيًا أن يقدر أبناء أمتنا العزيزة ما يحيط بها من ظروف دقيقة, فى هذه الساعة الحرجة من تاريخها, وأن يحولوا بكل جهودهم دون وقوع أمثال هذه الحوادث الصبيانية التى لا يقرها دين ولا تتفق مع مصلحة أحد والتي أؤكد لسعادتكم شدة أسفى لوقوعها واعتقادي أنها ليست إلا من تدبير المغرضين الذين يحيكون المكائد لهذا البلد فى الظلام، يريدون أن يصطادوا فى الماء العكر، وأنتهز هذه الفرصة فأعتب على سعادتكم.. العتب محمود عواقبه- فى قولكم "وإنهم مهما اشتدت عليهم وطأة المظالم والاضطهادات فلن يقبلوا أن يحميهم أو أن يرفع الغبن عنهم إلا ملك مصر ودستور مصر وحكومة مصر "فإنى لا أظن أحدًا من المصريين يدور بخلده أن يكون مواطنه موضع ظلم أو اضطهاد. ولن يكون هؤلاء المواطنون الفضلاء إلا موضع تكريم وإعزاز وبر إحسان، وأعود فأشكر لسعادتكم ما ختمتم به نداءكم المخلص من قولكم "بأنه يجب على المصريين أن يفهموا أن السيادة الأجنبية أو التحكم الدولي عرض سيزول، أما الشيء الذي سيبقى، فهو أن أبناء مصر على اختلاف عقائدهم سيحيون ويجاهدون دائما جنبا إلى جنب، ثم يرقدون فى النهاية جنبا إلى جنب فى التربة المصرية"..،
سائلا الله تبارك وتعالى أن يوفق الجميع لخير هذا الوطن العزيز.
ولسعادتكم تحياتي واحترامي!
القاهرة (مستشفى الروضة) 17 جمادى الأولى 1366، 19 أبريل 1947.(2)
الإخوان المسلمون وبطريرك الأقباط
تحية طيبة مباركة
وبعد،
فأتقدم إلى غبطتكم بأجمل عواطف التهنئة بانتخابكم لهذا الكرسي الجليل كما أهنئ كذلك أبناءكم جميعًا سائلاً الله تبارك وتعالى أن يوفق الجميع للخير.
يا صاحب الغبطة:
تعلمون أن دين الإسلام الحنيف قد مد أسباب الألفة وبسط رواق التعاون لمحالفته من أبناء الأديان السماوية الأخرى وفرض على المؤمنين به أن يؤمنوا بكل كتاب نزل وأن يعظموا كل نبي أو رسول سبق وأن يذكروا بالثناء الجميل الصالحين والقديسين من كل أمة ماضية وأوامر القرآن الكريم فى ذلك صريحة لا لبس فيها ولا غموض ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِىَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾]البقرة: 136[.
وجاءت الحركة الوطنية الأخيرة فدعمت هذه الوحدة بين عنصري الأمة لما فيه خير الوطن على أثبت الدعائم. وماتت تلك النغمة التفريقي البغيضة إلى حيث لا رجعة بإذن الله وصارت وحدة هذه الأمة مضرب الأمثال.
ولكنا فوجئنا فى الأيام الأخيرة -وفى هذا الظرف الدقيق الذى يطالب فيه هذا الوطن بحريته بحملة عنيفة لا معنى لها فاندفعت جريدة مصر تثير بقلم الأستاذ سلامة موسى أفكارًا وآراء ما كان لأحد أن يتحدث فيها أو يثرها فى هذه الأيام ولا فى غير هذه الأيام وأخذت تتهم الإخوان المسلمين باتهامات قاسية هم منها براء، كما أخذت تهاجم بعض الأوضاع الإسلامية فى غير تبصر ولا تقدير للأمور، كما سمعنا أن بعض الأساتذة من المحامين الأقباط يجهز كراسات ليجمع عليها توقيعات الطائفة لتأييد مطالب خاصة تذكر الناس بأيام المؤتمر وما كان فيها من فتن وانقسامات.
ولهذا يا صاحب الغبطة، انتهزت فرصة هذه المناسبة الطيبة لأؤكد لغبطتكم ولحضرات المواطنين الكرام أبنائكم جميعًا أن دعوة الإخوان المسلمين وهيئتهم لا تنطوي على أى شىء يشتم منه من قريب أو بعيد كراهية الأقباط أو التعصب ضدهم أو المساس بشئونهم الدينية أو الدنيوية -ولكنها فكرة إسلامية لإصلاح المجتمع الإسلامي على قواعد الدين الذي اعتقده وآمن به.
كما أرجو أن تتفضلوا فتأمروا مشكورين بإيقاف هؤلاء العابثين بوحدة الأمة عند حدهم بما ترون من إجراءات ولغبطتكم عظيم احترام وتقدير -وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.(3)
بالتي هى أحسن
إلى القمص سرجيوس
أرسل أحد القراء الكرام خطابًا إلى قلم تحرير جريدة الإخوان المسلمين يلفت نظرها فيه إلى ما كتبه القمص سرجيوس فى جريدته الأسبوعية تحت عنوان: "هل تنبأت التوراة والإنجيل عن محمد" وتعرض فيه لعلماء الإسلام ورجال الإسلام.
وقد اطلعت على هذا العدد فأدهشني ما رأيت فيه، من تشويه للحقائق، وافتراء على الأبرياء، وجرأة على تحريف الأقوال ومسخ الآراء.
نقل الكاتب عبارة عن صاحب "إظهار الحق" الشيخ الجليل رحمة الله الهندي -رحمه الله- وجعلها محور مقالته وأساس كلمته، وحشا كتابته بأنواع من التهكم وصنوف من الزراية لا يجيزها أدب المناظرة، ولا ترضى بها عفة النقاش، وإذا علمت أيها القارئ الكريم أن هذه العبارة قد مسخها الكاتب مسخًا وحرفها أبشع التحريف واقتضبها اقتضابًا مخلاً كل الإخلال، علمت حق العلم أن مقال الكاتب منهار من أساسه باطل من أصله، وها نحن ننقل لك ما عزاه الكاتب الجريء إلى مؤلف "إظهار الحق"، ثم ننقل لك عبارته الأصلية لترى إلى أى حد خرج هذا الكاتب عن جادة الصواب، وحرف الكلم عن مواضعه.
تقول جريدة القمص سرجيوس فى صدر المقال: جاء فى رسالة يهوذا عدد (14) و(15) قوله: "وتنبأ عن هؤلاء أيضًا أخنوخ السابع من آدم قائلاً: "هو ذا قد جاء الرب فى ربوات قديسيه ليضع دينونة على الجميع، ويعاقب جميع فجارهم على جميع أعمال فجورهم التى فجروا بها، وعلى جميع الكلمات الصعبة". قال صاحب "إظهار الحق": إن المراد بالرب هنا هو محمد، وبقديسيه: الصحابة. وقال: إن لفظ الرب تطلق على فرد من البشر"، انتهى ما نقلته جريدة القمص بنصه، ثم أخذت بعد ذلك تتهكم بالمؤلف وأقواله، وتصليه قارصًا من اللوم والتعنيف مع أن العبارة الأصلية هكذا نقلاً عن إظهار الحق ص(149)، جزء ثانى، طبعة المطبعة العلمية سنة 1315هجرية قال: "البشارة الثانية عشر: نقل يهوذا الحوارى فى رسالته الخبر الذى تكلم به أخنوخ الرسول الذى كان سابعًا من آدم عليه السلام، ومن عروجه إلى ميلاد المسيح مدة ثلاثة آلاف وسبع عشرة سنة على زعم مؤرخيهم، وأنا أنقل عبارته من الترجمة العربية المطبوعة سنة 1844 "الرب قد جاء فى ربواته المقدسة ليداين الجميع، ويبكت جميع المنافقين على كل أعمال نفاقهم التى نافقوا فيها، وعلى كل الكلام الصعب الذى تكلم به ضد الله الخطاة المنافقون" وقد عرفت فى مقدمة الباب الرابع أن استعمال لفظ "الرب" بمعنى "المخدوم"، والعَلم شائع فلا حاجة إلى الإعادة، وأما لفظ "المقدس" أو "القديس" فيطلق فى العهدين على المؤمن الموجود فى الأرض إطلاقًا شائعًا، ثم استشهد بآيات كثيرة من العهدين تثبت ذلك، وقال بعدها: وإذا عرفت استعمال لفظ "الرب" "والمقدس" أو "القديس" فأقول: إن المراد بـ"الرب": محمد صلى الله عليه وسلم، وبالربوات المقدسة: أصحابه. انتهى بنصه.
أفرأيت البون الشاسع بين العبارتين وكيف تعمد الكاتب الاقتضاب، اقتضابًا مسخ كلام الرجل وألبسه غير ثوبه الحقيقي، وعلى ذلك فالأساس الذي بنى عليه المقال كله فرية لا حقيقة لها فما بالك بما تفرع عنها.
ونحن أمام هذا نقول للقمص سرجيوس سواء كان هذا المقال من كتابته أو من كتابة غيره؛ إذ إنه بدون توقيع: إن كاتب هذا المقال ذو لون من لونين كلاهما غير مشرف، فهو إما جاهل بالألفاظ والمعاني والجهل عار ومنقصة، وإما خائن مفتر والافتراء سبة وتضليل، وأقل ما يقال فى مثل هذا العمل: إنه حجة عملية على تحريف أهل الكتاب لكتابهم، فمن حرّف ما بيد غيره أولى أن يحرف ما بيده وصدق الله العظيم: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾[المائدة: 13].
"وبعد" فهذا تعليق وجيز على كلمة رأيناها بجريدة القمص، وإن لنا معه بعد ذلك لحديثًا هادئًا صريحًا نبعث به إليه فى فرصة قريبة إن شاء الله لعله يذّكر أو يخشى.(4)
تحذير الإمام حسن البنا من خطر المبشرين والمنصرين
حوادث التكفير وخطر المبشرين
لابد من صوت قوى لإسماع الصم، وقبلاً نصح الناصحون، ونادى المنادون بخطر التبشير والمبشرين على هذه الأمة الوديعة، ثم ها هو الصوت القوى والدليل المادي، والبرهان الحسى يدوى صداه ويتردد فى أنحاء القطر من أقصاه، إلى أقصاه، وقد برح الخفاء وانكشف الستار عما يرتكبه هؤلاء النزلاء المضللون من الجرائم والمناكر مع أمة أكرمت وفادتهم، وشعب أحسن ضيافتهم، وبلاد آوتهم وضمتهم، فهل سمعت الحكومة الرشيدة هذا الصوت الداوى وقد تكررت الحوادث بلا انقطاع، وظهر منها ما يكفى بعضه لإبعاد هؤلاء النزلاء المفرقين للكلمة، المزلزلين للعقائد، ومصادرة مدارسهم ومشافيهم ومعاهدهم ومكاتبهم وكتبهم، ولها ذلك إن أرادته فإنها مطالبة بالمحافظة على الأمن الذى يعمل هؤلاء المضللون على الإخلال به، مطالبة بالمحافظة على دين الدولة الرسمي الذى يحاربه هؤلاء بشتى الوسائل، مطالبة بالمحافظة على شعبها الوادع الأمين، وحمايته من عدوان المعتدين.
وهل سمعت الأمة التى انخدعت حينًا، وأحسنت الظن طويلاً، وغرها زخرف ما يظهر لها المضللون من قول معسول وتصدق معلول؟ وهل سمع الآباء والأمهات وأولياء أمور البنين والبنات بهذا التكفير والتنصير، والتمويه والتضليل، وخطف الأولاد، وتشريدهم إلى أمريكا وإلى أوروبا وغيرها من البلاد، واستغلال العوز والفاقة فى شراء الضمائر وهدم العقائد؟
وهل سمعت الحكومات الأجنبية التى أكرمت مصر وفادة أبنائها فوجدوا فيها منزلاً آمنًا ومرتزقًا رغدًا، فتحرص هذه الحكومات على مقابلة الجميل بالجميل وحسن الجوار ومتانة الروابط، فتكف هؤلاء المرتزقة بالدسيسة وتردهم إلى بلادهم؟
ألا إن حوادث التكفير قد شاعت وذاعت وعمت القطر وغزت القرى والمدن، وعلم الناس منها ما نشرته الجرائد، ولا يزال الكثير منها فى طي الخفاء، وستظهره قريبًا يقظة الأمة، وحزم الحكومة الموفق.
فى كل عاصمة من عواصم المديريات أو المراكز مركز تبشيري قد أعد العدة لغزو بلاد دائرته بشتى الوسائل، وقد أصبحت هذه المراكز التبشيرية شبكة متصلة تضلل بلاد القطر المصري، محكمة الحلقات متصلة الخيوط، ففي: الإسكندرية وفى أسوان وفى القاهرة وفى بور سعيد وفى طنطا وفى الإسماعيلية وفى دكرنس وفى شبين وفى المحمودية وفى بلبيس فيالق مجهزة من المبشرين تؤدى مهمة التبشير فى هذه المراكز وفى غيرها من الجهات بكل وسيلة من: الإغراء والاستهواء واستغلال البؤس والتمويه والتضليل والتستر بالتعليم والتصدق والمداواة.. والغرض من كل ذلك واحد هو التكفير ولو شئت أن أقص طرفًا من حوادث المبشرين لضاق المقام.
على أن المبشرين أنفسهم لا ينكرون هذا بل يفتخرون به قديمًا وحديثًا، وإلى القراء ما يقوله القسيس "زويمر" عن مبلغ نجاح المبشرين فى دعوتهم: "إن لنتيجة إرساليات التبشير فى البلاد الإسلامية مزيتين: مزية تشييد ومزية هدم، ولا ينبغي لنا أن نعتمد على إحصائيات التعميد فى معرفة عدد الذين تنصروا رسميًا من المسلمين؛ لأننا واقفون على مجرى الأمور، ومتحققون من وجود مئات من الناس انتزعوا الدين الإسلامي من قلوبهم واعتنقوا النصرانية فى طرف خفىٍ".
فالقسيس "زويمر" ينادى منذ سنة 1911م بأنه قد نجح فى تكفير مئات من المسلمين وانتزاع الإسلام من قلوبهم، ويؤكد أن الذين أخرجهم المبشرون من دينهم أكثر من الإحصائيات وأكثر من الحوادث وأكثر مما يعلم الناس.
والمبشرون كذلك لا ينكرون وسائلهم فى تكفير المسلمين، فهذا القسيس "فليمنغ" الأمريكي يذكرها فى صراحة وجلاء فيقول: "وأهم هذه الوسائل العزف بالموسيقى، وعرض الفانوس السحري عليهم -أى: على المسلمين، وتأسيس الإرساليات الطبية بينهم، وأن يتعلم المبشرون اللهجات العامية واصطلاحاتها نظريًا وعمليًا، وأن يدرسوا القرآن ليقفوا على ما يحتوى، وأن يخاطبوا العوام المسلمين على قدر عقولهم، ويجب أن تلقى الخطب عليهم بأصوات رخيمة وبفصاحة، ومن الضروري أن يكون المبشر خبيرًا بالنفس الشرقية، وأن يستعمل التشبيه والتمثيل أكثر مما يستعمل القواعد المنطقية التى لا يعرفها الشرقيون".
ويقول سكرتير مؤتمر المبشرين بالقاهرة فى سنة 1906م: "وإن المبشرين أرادوا أن يكسبوا ثقة الشبان المسلمين المتعلمين بهم، فصاروا يلقون محاضرات فى موضوعات اجتماعية وخلقية وتاريخية لا يستطردون فيها إلى مباحث الدين رغبة فى جلب قلوب المسلمين إليهم، وأنشأوا بعد ذلك فى القاهرة مجلة أسبوعية افتتحوا فيها بابًا غير ديني يبحثون فيها عن الشئون الاجتماعية والتاريخية، وأسسوا أيضًا مكتبة لبيع الكتب بأثمان قليلة، والغرض من ذلك استجلاب الزبائن، ومحادثتهم فى أثناء البيع.
ويقول الدكتور أرهارس (Arhars) طبيب إرسالية التبشير فى طرابلس الشام بعد أن ذكر مجهوداته فى إفساد عقائد مرضاه: "يجب على طبيب إرساليات التبشير ألا ينسى -ولا فى لحظة واحدة- أنه مبشر قبل كل شىء ثم هو طبيب بعد ذلك".
إن المبشرين لا يواربون فى غايتهم، فهم ينادوننا فى صراحة وجلاء بأن مدارسهم ومشافيهم ومكاتبهم ومكتباتهم لا غاية منها إلا أن يكونوا مبشرين قبل كل شىء، أى: هادمين للإسلام مفسدين لعقائد أبنائه، بل إنهم صرحوا بذلك فى تقرير مؤتمر القاهرة فختم سكرتيره كلامه بقوله: ربما كانت العزة الإلهية قد دعتنا إلى اختيار مصر مركز عمل لنا لنسرع بإنشاء هذا المعهد المسيحي لتنصير هذه الممالك الإسلامية.
كان صديقي القاضي الفاضل الشيخ أحمد شاكر قاضيًا بمحكمة الإسماعيلية الشرعية، وأراد أن يدخل كريمته مدرسة البنات الأميرية بها، فاعتذر إليه ناظرها بامتلاء الأماكن وفوات الوقت؛ إذ إن معظم العام الدراسي قد فات، فرأى أن تقضى كريمته بقية العام فى مدرسة المرسلات التابعة للإرسالية الأمريكية للتبشير بالإسماعيلية، واشترط على رئيستها ألا تحضر الطالبة دروس الدين المسيحي، وأوقات الصلاة بكنيسة المدرسة؛ لأن ذلك لا يتناسب مع مركز أبيها الديني، فرفضت الرئيسة هذا الشرط وأجابت فى صراحة: "إن المدرسة إنما أنشئت لخدمة التبشير البروتستانتي، ولا أستطيع الخروج عن هذه الغاية". فكان جميلاً جدًا أن يرفض فضيلته بكل إباء بقاء كريمته لحظة واحدة فى هذه البؤرة التضليلية، وفضل أن تبقى فى المنزل بدل أن تتسمم عقائدها فى مدرسة المرسلات، وذلك واجب كل مسلم يحرص على دينه وأبنائه.
يا حكومتنا الحازمة: الجريمة ثابتة، والمجرم مقر معترف، والعدوان صارخ متتابع على دين الدولة ودستورها وكرامتها وعقائد أبنائها، وفلذات أكبادها، والعقوبة ممكنة لأنها بحق، وللحق صولته مهما قامت فى وجهه الحوائل، فاغضبى غضبة شريفة لله ولرسوله، ولرغبة جلالة المليك المفدى حامى حمى الإسلام و نصيره، تحسني سمعة مصر، وتريحي ضمائر أبنائها المعذبة.
وأنت أيها الشعب الكريم احذر دسائس هؤلاء المضللين وخداعهم، وابتعد عن مدارسهم ومستشفياتهم وملاجئهم وكتبهم، فإن السمك يلتقط الطعم فيعلق به الشص ويؤديه إلى الهلاك.
وأنتم أيها القوم احفظوا الجميل لأهله، ولا تقابلوا إحسان هذه الأمة إليكم بالإساءة إليها، فإن للاحتمال حدًا ينتهي إليه، والضغط يولد الانفجار، والإسلام عند بنيه أغلى من دمائهم وأموالهم.(5)
المسيح برىء من المبشرين
يدعى المبشرون أنهم يبشرون بالمسيح ويكرزون بالإنجيل ويدعون الناس إلى النصرانية، وأنت إذا حققت هذه الدعوى وجدتها تسير طبقًا للقانون الذى تسير عليه دعاويهم كلها، وهو التجديف والتدجيل، والكذب والتضليل، إن المسيح عليه السلام كان سمحًا كريمًا لا يؤذى أحدًا ولا يعتدى على أحد، وكان يوصى بالزهادة فى الدنيا والانصراف إلى التقشف، ويقدس الروحانيات ويحتقر الماديات، والإنجيل ينادى بهذه التعاليم ويؤيدها، ويقول فى كتابه [6 : 24]: "لا تقدروا أن تخدموا الله والمال، لذلك أقول لكم: لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون ولا لأجسادكم بما تلبسون- أليست الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس؟" ويقول فى [19 : 21]: "قال له ياسوع إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبع أملاكك وأعط الفقراء فيكون لك كنز فى السماء" إلى آخر القصة، وكلها وصية بالتجرد من مظاهر الحياة الدنيا وصرف إلى روحانيات فقط- وكل الذين كتبوا مع "متّى" يؤيدون هذه التعاليم ويؤكدونها، فأين سماحة المسيح وعدله من عدوان المبشرين على عقائد الناس وخطفهم لبناتهم وأبنائهم؟ وأين صراحته وإخلاصه بخداعهم ومكرهم؟ وأين الزهادة والتقشف وتقديس الروحانيات التى هى أساس المسيحية مما يجلبه هؤلاء الدعاة، ويزينونه لضحاياهم وفرائسهم فتيانًا وفتيات من حب المادة والإغراء بمظاهر الحياة الدنيا، واستغلال الشهوات والأهواء، واشتراء العقائد والضمائر بالملذات والمطاعم والمشارب، وسجن الأرواح والقلوب فى حدود أعراض هذه الدنيا الزائلة من الأموال والمساكن والملابس؟!
المسيح عليه السلام يقول للشاب الغنى: بع أملاكك واتبعني ولك ثواب الآخرة، وهؤلاء يقولون للشاب أو الشابة: اتبعونا نعطكم الأموال والبيوت والوظائف والمرتبات والأزواج والزوجات.
فأين هؤلاء من المسيح والمسيحية؟
أيها المبشرون: إن كنتم تنشرون المسيحية فقد رأيتم أن المسيحية براء منكم ومن خططكم وأساليبكم المادية الخادعة!
وإن كنتم تبتغون بذلك الرزق والتجارة فأمامكم الشعوب الوثنية قد تجدون فيها مرتعًا خصبًا وعقولاً ساذجة.
وعلى كليهما: فخير لكم أن تعملوا فى غير بلاد الإسلام التى عرف أبناؤها من أنتم وماذا تعملون.(6)
المصادر
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (288)، السنة الأولى، 18جمادى الأولى 1366ﻫ- 10أبريل 1947م، صـ2.
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (288)، السنة الأولى، 18جمادى الأولى 1366ﻫ- 10أبريل 1947م، صـ2.
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (8)، السنة الأولى، 11جمادى الآخرة 1365ﻫ- 13مايو 1946م، صـ3.
- جريدة الإخوان المسلمين: العديد 2، السنة الثانية، 26 محرم 1353ه – 11 مايو 1934م، صـ24-24.
- جريدة الإخوان المسلمين: العدد 3، السنة الأولى، 6 ربيع الأول 1352ﻫ/ 29 يونيو 1933م، صـ1-4.
- جريدة الإخوان المسلمين: العدد 3، السنة الأولى، 6 ربيع الأول 1352ﻫ/ 29 يونيو 1933م، صـ6.