كان الإمام البنا يحب صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ويطالب الجميع بحبهم ويعيب على من يغالي في ذلك أو يرفعهم كمصاف الأنبياء أو القديسين أو يجحف حقهم أو يسبهم.
ولذا كتب بعض سيرهم وذكر فيها مناقبهم وجهودهم في نشر دعوة الله في ربوع الأرض
الإمام الحسين رضي الله عنه
مناقبه:
سيد شباب أهل الجنة، وريحانة النبي صلى الله عليه وسلم وسبطه، أبوه الرسول، وأمه البتول، ووالده على بن أبى طالب، ووالدته فاطمة بنت محمد، وجدته خديجة الكبرى.
نسب تَحْسِبُ العلا بِحُلاهُ قَلَّدَتْها نُجومَها الجوزاء
أبو الأشراف وسلالة عبد المطلب وعبد مناف.
نَمتْه العرانينُ من هاشم إلى النسب الأصرح الأوضحِ
إلى نبعة فرعها فى السماء ومغرسُها سُرَة الأبطحِ
وإن النفس لتتسامى علوًّا، والقلب ليهتز سموًّا حين تمر بخاطره تلك الأسماء النبيلة والألقاب الكريمة التى هى للشرف عنوان وللفضل ميزان، رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد. أحد خمسة أنزل الله فيهم قوله }إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب: 33]؛ فقد روى أحمد والطبراني عن أبى سعيد الخدري رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنزلت هذه الآية فى خمسة؛ فىَّ وفى على وحسن وحسين وفاطمة"، وروى ابن أبى شيبة وأحمد والترمذي وحسنه، وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية كان يمر ببيت فاطمة إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول: "الصلاة أهل البيت }إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب: 33].
وأخرج الحاكم وصححه عن يعلى العامري أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "حسين منى، وأنا من حسين، اللهم أحب من أحب حسينًا، حسين سبط من الأسباط".
وروى ابن حبان وابن سعد وأبو يعلى وابن عساكر عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة -وفى لفظ إلى سيد شباب أهل الجنة- فلينظر إلى الحسين بن على".
مولده ونشأته:
ولد الإمام الحسين رضي الله عنه بالمدينة لخمس خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة، وحنكه جده صلى الله عليه وسلم بريقه، وأذن فى أذنه، ودعا له وسماه حسينًا يوم السابع، وعق عنه بكبش، وقال لأمه: "احلقي رأسه، وتصدقي بزنة شعره فضة"، كما فعلت بأخيه الإمام الحسن رضي الله عنهما.
وكنيته أبو عبد الله، وألقابه كثيرة؛ فهو الرشيد، والطيب، والزكي، والوفي، والسيد، والمبارك.
أساميًا لم تزده معرفة وإنما لذةً ذكرناها
ونشأ بالمدينة فى حجر جده صلى الله عليه وسلم حتى اختار الرفيق الأعلى، ونهل من تلك المناهل الكريمة؛ مناهل الفيض الأعم فروى منها، وصحب أباه رضي الله عنه فى مشاهده كلها طول أيام خلافته، واستقر بعده بالحجاز حتى أخرجته كتب أهل العراق إلى حيث استشهد فى سبيل الحق والعقيدة رضي الله عنه وأرضاه.
أخلاقه:
ورث الإمام الحسين رضي الله عنه عن بيته المجيد النبل والطهر والخلائق الغر؛ فكان السابق فى حلبة الفضائل المجلي فى ميدان المكارم، وحدِّث عن شمائله الزكية وأخلاقه المرضية ما شاء لك الحديث ولا حرج.
فقد وجدتَ مجال القول ذا سَعة فإن وجدتَ لسانًا قائلا فقُل
والذي يتصفح سيرة الإمام الحسين يرى فيها من كرائم الخصال ما يبدو واضحًا جليًّا كالشمس فى رابعة النهار، ومن ذلك:
عزيمته ومضاؤه:
كان رضي الله عنه ماضي العزيمة قوى الشكيمة، وارى الزند حديد الحد، إذا عزم صمم، وإذا أراد أمضى، وإذا علم أن هذه سبيل الحق مضى لا تأخذه لومة لائم، ولا يثنيه قول قائل، خلق ورثه عن أبيه وسنة أخذها عن جده.
سجيةٌ تلك فيهم غير مُحْدَثة إن الخلائقَ فاعلم شرُّها البدعُ
وها أنت تراه حين اعتقد أن المنكر قد فشا بالعراق وقد وُسِّد الأمر إلى غير أهله، خرج بأهله وولده لا يملك إلا نفسه، ولا يعتمد إلا على ربه، يحاول إحقاق الحق وإبطال الباطل، ولم ينفع مع عزمه رجاء أصحابه إياه أن يقعد، ولا محاولة بنى عمومته أن يتلبث.
وإن من الناس من يرى ذلك تصلبًا من الإمام رضى الله عنه وتسرعًا منه لولا أن أهل البيت -رضوان الله عليهم- كانت نفوسهم رخيصة عليهم متى اعتقدوا أن الواجب يدعوهم والحق يناديهم؛ فمن لنا بقوم إذا اعتزموا صمموا، وإذا أرادوا أنفذوا، لا تقعد بهم العقبات، ولا تثنيهم المشاق، }وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ [النساء: 100].
الشجاعة والإباء:
كان رضي الله عنه أبىَّ النفس، شجاع القلب، لا يبالي أَوَقَعَ على الموت أم وقع الموتُ عليه، وهو ابن على بن أبى طالب، وكل إناء بالذي فيه ينضح، وحسبك من شجاعته وإبائه أنه تلقى بصدره جيشًا كاملا تام العدة وفير العدد، فصال فيه وجال، يجود بنفسه، ويذود عن حريمه، ويدافع عن حقه، وفضل الموت مع العزة على الحياة مع الإقرار بالمذلة لخصمه وإعطاء الدنية لعدوه حتى أتاه اليقين.
يجود بالنفس إذ ضن البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود
البلاغة والفصاحة:
كان رضي الله عنه فصيح القول بليغ العبارة، من أهل البيت الذين ينقش كلامهم فى فص الزمان، ويتحلى بعبارتهم جيد الدهر، وتسير بخطبهم الركبان، ويتمثل أحدهم بقول القائل:
وإني لمن قومٍ كرامٍ أعزةٍ لأقدامهم صِيغت رءوسُ المنابر
ومن خطبه رضى الله عنه: "أيها الناس نافسوا فى المكارم، وسارعوا إلى المغانم، ولا تحتسبوا بمعروف لم تعجلوه، واكتسبوا الحمد بالمنح ولا تكتسبوه بالمطل؛ فمهما يكن لأحد عند أحد صنيعة، ورأى أنه لا يقوم بشكرها؛ فالله له بمكافأته بمكان، وذلك أجزلُ عطاءً وأعظم أجرًا، واعلموا أن المعروف يكسب حمدًا ويُعقب أجرًا؛ فلو رأيتم المعروف رجلا لرأيتموه حسنًا جميلا يسر الناظرين، ولو رأيتم اللؤم رجلا لرأيتموه منظرًا قبيحًا تنفر منه القلوب وتغض منه الأبصار، أيها الناس، من جاد ساد، ومن بخل ذل، وإن أجود الناس من أعطى من لا يرجوه، وأعف الناس من عفا عن قدرة، وإن أوصل الناس من وصل من قطعه، ومن أراد بالصنيعة إلى أخيه وجه الله تعالى كافأه الله بها وقت حاجته، وصرف عنه من البلاء أكثر من ذلك، ومن نفَّس عن أخيه كربة من كرب الدنيا نفَّسَ الله عنه كربة من كرب الآخرة، ومن أحسن أحسن الله إليه، والله يحب المحسنين".
ومن كلامه رضى الله عنه: "الحلم زينة، والوفاء مروءة، والصلة نعمة، والاستكثار صلف، والعجلة سفه، والسفه ضعف، والغلو ورطة، ومجالسة أهل الدناءة شر، ومجالسة أهل الفسوق ريبة".
خاتمة:
كذلك كان أهل البيت جميعًا -رضوان الله عليهم- صفحات مشرقة من كتاب الفضيلة الذي ينشده العالم ليتأدب بأدبه ويتحلى بفرائده، وما زال الناس يحتفلون بذكريات أهل البيت الأمجاد؛ فنحب أن نقول لهم: اجعلوا حفلكم بذكرياتهم متفقًا مع شريعة جدهم، ولا تؤذوهم فى رياضهم بمخالفة سنة نبيهم والتخلق بغير أخلاقهم، وإن كنتم تحبونهم حقًّا فاجتهدوا فى تعريف سيرتهم، وقراءة تاريخهم، والسير على منهاجهم، والتمسك بآدابهم وأخلاقهم يكن ذلك دليل الحب الصادق، أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده(1).
القاضي يحيى بن أكثم من خيار رجال الإسلام
فليتق الله الهازلون
نشرت إحدى الجرائد الأسبوعية الهازلة مقالا مطولا بعنوان: "القاضي يحيى بن أكثم يشرب الخمر"، ونقلت تحت هذا العنوان من خرافات القصاص ما ينفر منه العقل والدين والتاريخ والحق، ونشرت فى موضع آخر من هذا العدد كلمة أخرى بعنوان: "القاضي يحيى يعترف بالباطل حبًّا فى الدنيا"، ونسبت إليه حادثة من المحال أن تصدر عنه.
ونحن نقول لهذه الجريدة: إن القاضي يحيى من خيار رجال المسلمين وصلحائهم وثقاتهم؛ فإن كانت هازلة فمجال الهزل فى غير أعراض عظماء الإسلام فسيح عريض، وإن كانت جادة فلتستح من تشويه الحقائق والافتئات على التاريخ إلى هذا الحد، وإن احتجت بالنقل عن بعض الكتب فنحن ننقل هنا ما يقوله المؤرخ الكبير الثقة "ابن خلدون" فى مقدمته عن أمثال هذه الروايات قال: "ويناسب هذا أو قريب منه ما ينقلونه كافة عن يحيى بن أكثم قاضى المأمون وصاحبه، وأنه كان يعاقر المأمون الخمر، وأنه سكر ليلة مع شربه فدفن فى الريحان حتى أفاق وينشدون على لسانه:
يا سيدي وأمير الناس كلهم قد جاز فى حكمه من كان يسقيني
إنى غفلت عن الساقي فصيرني كما تراني سليب العقل والدين
وحال ابن أكثم والمأمون فى ذلك من حال الرشيد، وشرابهم إنما كان النبيذ، ولم يكن محظورًا عندهم، وأما السكر فليس من شأنهم، وصحابته للمأمون إنما كانت خلة فى الدين، ولقد ثبت أنه كان ينام معه فى البيت، ونقل من فضائل المأمون وحسن عشرته أنه انتبه ذات ليلة عطشان، فقام يتحسس ويلتمس الإناء مخافة أن يوقظ يحيى بن أكثم. وثبت أنهما كانا يصليان الصبح جميعًا؛ فأين هذا من المعاقرة؟! وأيضًا فإن يحيى بن أكثم كان من علية أهل الحديث، وقد أثنى عليه الإمام أحمد بن حنبل وإسماعيل القاضي، وخرج عنه الترمذي كتابه الجامع، وذكر المزنى الحافظ أن البخاري روى عنه فى غير الجامع؛ فالقدح فيه قدح فى جميعهم، وكذلك ما ينبذه المجان بالميل إلى الغلمان بهتانًا على الله وفرية على العلماء، ويستندون فى ذلك إلى أخبار القصاص الواهية التى لعلها من افتراء أعدائه؛ فإنه كان محمودًا فى كماله وخلته للسلطان، وكان مقامه من العلم والدين منزهًا عن مثل ذلك، ولقد ذكر لابن حنبل ما يرميه به الناس، فقال: سبحان الله سبحان الله، ومن يقول هذا؟ وأنكر ذلك إنكارًا شديدًا، وأثنى عليه إسماعيل القاضي، فقيل له: ما كان يقال فيه، فقال: "معاذ الله أن تزول عدالة مثله بتكذيب باغ وحاسد"، وقال أيضًا: "يحيى بن أكثم أبرأ إلى الله من أن يكون فيه شىء مما كان يُرمَى به من أمر الغلمان". ولقد كنت أقف على سرائره فأجده شديد الخوف من الله، ولكنه كانت فيه دعابة وحسن خلق فرمى بما رمى به، وذكره ابن حبان فى الثقات، وقال: "لا يشتغل بما يحكى عنه؛ لأن أكثرها لا يصح عنه". أ هـ(2).
من أيامنا البيض
على أسوار إيلياء
الأمراء الأربعة:
بينما كانت جيوش الإسلام المظفرة تغزو الفرس، وتنتقل فى جوانب الإمبراطورية العظيمة من نصر إلى نصر، اعتزم الخليفة الأول رضوان الله عليه غزو الروم كذلك فعقد الألوية الأربعة من أمراء المسلمين العظام، ووجههم إلى الشام يستفتحون بها هجومهم على الإمبراطورية الرومانية، وكان هؤلاء القواد الأربعة:
1- أبو عبيدة عامر بن الجراح، ووجهته حمص، ومركز قيادته الجابية، وهو الأمير العام.
2- يزيد بن أبى سفيان، ووجهته دمشق.
3- شرحبيل بن حسنة، ووجهته إلى وادي الأردن.
4- عمرو بن العاص، ووجهته فلسطين، وعليه أن يكون مددًا لمن سبقه إن احتاجوا إليه.
وصية:
وينقل المؤرخون كثيرًا من وصايا أبى بكر لقواده، ومن أجمعها ما ذكره الواقدي أن أبا بكر أوصى به عمرو بن العاص، ولئن كانت رواية الواقدي فى كتابه "فتوح الشام" ليست مما يعتد به إلا أن ما جاء فى هذه الوصية ليس غريبًا ولا بعيدًا مما ثبت فى الروايات الصحيحة من وصايا الصديق رضى الله عنه لقواده، ولقد أعجب المؤرخون من الفرنجة بهذه الوصية، وترجمها الكثير منهم مثل جبون وأيرفنج، قال الواقدي: "دعا أبو بكر عمرو بن العاص فسلمه الراية وقال: قد وليتك هذا الجيش؛ فانصرف إلى فلسطين، وكاتِبْ أبا عبيدة وأنجده إذا أرادك، ولا تقطع أمرًا إلا بمشاورته، اتق الله فى سرك وعلانيتك، واستحيه فى خلواتك؛ فإنه يراك فى عملك، وقد رأيت تقدمتي لك على من هم أقدم منك سابقة وأقدم حرمة؛ فكن من عمال الآخرة، وأرد بعملك وجه الله، واسلك طريق إيلياء حتى تنتهي إلى أرض فلسطين، وإياك أن تكون وانيًا عما ندبتك إليه، وإياك والوهن، وإياك أن تقول: جعلني ابن أبى قحافة فى نحر العدو ولا قوة لى به، واعلم يا عمرو أن معك المهاجرين والأنصار من أهل بدر؛ فأكرمهم واعرف حقهم، ولا تتطاول عليهم بسلطانك، ولا تداخلك نخوة الشيطان فتقول: إنما ولأني أبو بكر لأنى خيرهم. وإياك وخدائع النفس، وكن كأحدهم، وشاورهم فيما تريد من أمرك، والصلاة ثم الصلاة، أذن بها إذا دخل وقتها، واحذر من عدوك، وأمر أصحابك بالحرس، ولتكن أنت بعد ذلك مطلعًا عليهم، وأطل الجلوس بالليل إلى أصحابك، وأقم بينهم واجلس معهم، واتق الله إذا لاقيت العدو، وقدم قبلك طلائعك فيكونوا أمامك، وإذا وعظت فأوجز، وأصلح نفسك تصلح لك رعيتك، وإذا رأيت عدوك فاصبر ولا تتأخر؛ فيكون ذلك منك فخرًا، وألزم أصحابك قراءة القرآن، وانههم عن ذكر الجاهلية، وما كان فيها؛ فإن ذلك يورث العداوة بينهم، وأعرض عن زهرة الدنيا حتى تلتقى بمن مضى من سلفك، وكن من الأئمة الممدوحين فى القرآن إذ يقول الله تعالى: }وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ [الأنبياء: 73].
تجمع ووحدة وانتصار:
وعلى ضفاف اليرموك تجمع القواد الأربعة حين علموا بما جمع لهم هرقل من جند الروم باقتراح عمرو بن العاص، وأدركهم خالد بن الوليد مدادًا بأمر أبى بكر رضى الله عنه بعد أن قام بمغامرته الجريئة فى اختراق بادية السماوة، ورآهم يقاتلون متساندين كل قائد يحرك جنده بغير قيادة موحدة تحركهم جميعًا، وقد اعتزم الروم لقاءهم، فخطبهم خطبته المشهورة، وقال: "إن هذا يوم من أيام الله، لا ينبغى فيه الفخر ولا البغى، أخلصوا جهادكم، وأريدوا الله بعملكم؛ فإن هذا اليوم له ما بعده، ولا تقاتلوا قومًا على نظام وتعبئة وأنتم على تساند وانتشار؛ فإن ذلك لا يحل لكم ولا ينبغى، وإن من وراءكم لو يعلم علمكم لحال بينكم وبين هذا؛ فاعملوا فيما لم تؤمروا به بالذي ترون أنه الرأي من واليكم ومحبته"، قالوا: "فهات؛ فما الرأي؟"، قال: "إن أبا بكر لم يبعثنا إلا وهو يرى أنا سنتياسر، ولو علم بالذي كان ويكون لما جمعكم، إن الذى أنتم فيه أشد على المسلمين مما قد غشيهم، وأنفع للمشركين من أمدادهم، ولقد علمت أن الدنيا فرقت بينكم؛ فالله الله؛ فقد أفرد كل رجل منكم ببلد من البلدان لا ينتقصه منه أن دان لأحد من أمراء الجنود، ولا يزيده عليه أن دانوا له، إن تأمير بعضكم لا ينتقصكم عند الله، ولا عند خليفة رسول الله، هلموا فإن هؤلاء قد تهيئوا، وهذا يوم له ما بعده، إن رددناهم إلى خندقهم اليوم لم نزل نردهم، وإن هزمونا لم نفلح بعدها فلنتعاور الإمارة؛ فليكن عليها بعضنا اليوم، والآخر غدًا، والآخر بعد غد؛ حتى يتأمر كلكم، ودعوني إليكم اليوم".
واستمع القواد لرأى خالد، وأمّروه، وعبأهم أحسن تعبئة، والتقى الجمعان على ضفاف اليرموك، وهوى الروم فى "الواقوصة"، وانتهى الأمر بنصر عزيز لم تقم بعده لجند الروم بالشام قائمة، حتى إن هرقل لما بلغته أنباء الهزيمة المنكرة وهو دون حمص ارتحل مودعًا سورية بكلمته المشهورة: "سلام عليك يا سورية، سلام من لا يراك بعد"، وكان ذلك خلال سنة 13 ثلاث عشرة هجرية، وجاء مع نهاية الفتح نبأ وفاة أبى بكر، وعزل خالد، وتولية أبى عبيدة، وخلافة عمر بن الخطاب، وقف خالد من ذلك موقفه الرائع الذى لا ينساه له التاريخ أبدًا، وقال قولته المشهورة: "الحمد لله الذى قضى على أبى بكر الموت، وكان أحب إلىّ من عمر، والحمد لله الذى ولى عمر، وكان أبغض إلى من أبى بكر، ثم ألزمني حبه".
إلى فلسطين:
وتوجه عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة إلى بيسان، فصالحوا أهلها وأمنوهم، ثم إلى طبرية كذلك، وكان على فلسطين وال روماني يسميه العرب "أرطبون"، ويسميه الفرنجة "أريطون".
فقصد إليه عمرو، وكتب إلى عمر يستمده، فقال عمر فى ذلك: "رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب"؛ فانظر عما تنفرج، والتقى القائدان فى أجنادين، ودارت رحى الحرب التى انتهت بهزيمة الروم وانسحاب أرطبون إلى "إيلياء" أو بيت المقدس؛ حيث أخذ يحصنها، ويقوى أسوارها، ويعدها للدفاع. وبانتصار عمرو فى أجنادين استطاع بعد ذلك الاستيلاء على يافا ونابلس وعسقلان وغزة وعكا والرملة وبيروت ولُد والجبلة حتى وصل إلى بيت المقدس.
على أسوار إيلياء:
نصب "أرطبون" منجنيقاته على أسوار بيت المقدس، وأخذ يقذف الجيش المحاصر بحجارتها، ويسبب له كثيرًا من المتاعب، وعمرو يفاوضه ويطاوله رجاء أن يفتح المدينة المقدسة صلحًا لمكانتها وحرمتها، وفضل بيت المقدس فيها، ودام هذا الحصار أربعة أشهر، وأخبار انتصارات المسلمين وهزيمة الروم وفتح مدن الشام وحصونها حصنًا بعد حصن تتري على حامية المدينة؛ ففتَّ فى عضدها، وتصل باليأس إلى قلوبها حتى أيقنت وأيقن معها أهل البلد بانقطاع المدد، واستحالة الدفاع، وأنهم مأخوذون لا محالة، وكتب إليهم أبو عبيدة يدعوهم إلى الإيمان بالله وبرسوله، أو الدخول فى طاعة المسلمين، ودفع الجزية؛ فاستجابوا لدعوة الصلح، وأرادوا أن يستوثقوا لأنفسهم ومدينتهم؛ فاشترطوا أن يكون هذا الصلح مع عمر خليفة المسلمين نفسه، وصادف ذلك عزم أمير المؤمنين على زيارة الشام، فأجابهم عمرو إلى ما طلبوا، وكتب إلى عمر بذلك، فتجهز وخرج إلى الشام لأول مرة فى خلافته، وكتب إلى أمراء الشام أن يستخلفوا على أعمالهم، ويوافوا بالجابية، فلقوه بها، وكان أول من لقيه يزيد بن أبى سفيان، وأبو عبيدة بن الجراح، وخالد بن الوليد على الخيول، عليهم الديباج والحرير، فلما رأى عمر ذلك كبر عليه أن يرى القوم فى مثل هذه الزينة والزخرف، وهم قريبو عهد برسول الله صلى الله عليه وسلم، وخاف عليهم أن يكونوا قد افتتنوا بالدنيا وزينتها، فنزل عن دابته، وأخذ الحجارة، ورماهم بها، لا يحجزه عنهم ما لهم من مكانة شامخة، وقال: "سرع ما لفتم عن رأيكم، إياي تستقبلون بهذا الزى، وإنما شبعتم منذ سنتين، سرع ما ندت بكم البطنة، تالله لو نعلتموها على رأس المئتين لاستبدلت بكم غيركم"، فقالوا: "يا أمير المؤمنين، إنها يلامقة، وإن علينا السلاح"، قال: "فنعم إذن"، ونزل الجابية، وجاء أهل إيلياء، وأخبروه أنهم نواب الصلح، وأن أميري الجند الرومي قد لحقا بمصر؛ فصالحهم عمر على إيلياء وحيزها والرملة وحيزها، وكتب لهم بذلك كتبًا، وكتب لأهل إيلياء كتابًا هذا نصه: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها، وسائر ملتها، لا تُسكن كنائسهم ولا تُهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيزها ولا من صليبهم، ولا من شىء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطى أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوت -وفى رواية اللصوص- فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن وعليه مثل أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلى بِيَعَهم وصلبهم؛ فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وعلى صلبهم حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان -هكذا كتب التاريخ بغير تعيين فلان هذا أو بيان المقصود منه- فمن شاء منهم قعد، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله؛ فإنه لا يؤخذ منهم شىء حتى يحصد حصادهم، وعلى ما فى هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذى عليهم من الجزية"، شهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبى سفيان، وكتب وحضر سنة 15هـ.
وشخص عمر إلى بيت المقدس، وسار حتى دخل كنيسة القيامة، وحان وقت الصلاة، فقال للبطرك: "أريد الصلاة"، فقال له: "صل موضعك"، فامتنع وصلى على الدرجة التى على باب الكنيسة منفردًا، فلما قضى صلاته قال للبطرك: "لو صليت داخل الكنيسة أخذها المسلمون من بعدى، وقالوا: هنا صلى عمر"، وكتب لهم ألا يجمع على الدرجة للصلاة ولا يؤذن عليها، ثم قال: "أرنى موضعًا أبنى فيه مسجدًا"، فدله على ردم كانت الروم دفنت فيه بيت المقدس فقال عمر: "أيها الناس، اصنعوا كما أصنع"، وجثا فى أصل الردم، وحثا التراب فى قبائه، وعمل بنفسه فى إزالته، واقتدى به المسلمون؛ فسوى لحينه، وأمر ببناء المسجد، وجعل قبلته فى صدره وصدق الله العظيم: }الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج: 41](3).
المصادر
- جريدة الإخوان المسلمين - السنة الثانية - العدد 14 - صـ19 : 21 – 28ربيع الآخر 1353هـ / 10أغسطس 1934م.
- مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 24 – صـ17، 18 – 11رمضان 1352هـ / 28ديسمبر 1933م.
- مجلة الشهاب - السنة الأولى - العدد 2 - صـ63 : 67 - 1صفر 1367هـ / 14ديسمبر 1947م.