إعداد موقع الإمام حسن البنا
سادت فى فترة الثلاثينيات والأربعينيات أفكار وتيارات شتى حملها العلمانيون من الغرب وسعوا لتطبيقها كما هي على دول الإسلام، وهي الدعوات التى تطرح الدين وتتخذ روابط أخرى، فنجد بعضهم ينادى بالقومية بمعناها المذموم وهو التعصب للجنس والدم، وينزع بعضهم إلى إحياء الحضارات البائدة كالفرعونية فى مصر، والدعوة إلى الوطنية بمعناها الضيق، وهم بذلك متجهون صوب الغرب يأخذون منه كل ما عنده دون تمحيص أو انتقاء لجيده من رديئة.
وفى المقابل تعلو أصوات أخرى تولى وجهها شطر الإسلام وتدعو إلى الأخذ بمبادئه وتعاليمه كليًا وجزئيًا دون النظر إلى ما عند الغرب من حسنات.
وبين كل أولئك يقف بعض العلماء والدعاة والمفكرين والعقلاء الذين يدعون إلى العودة إلى الإسلام وتطبيق تعاليمه وأحكامه وآدابه وتشريعاته فى كافة مناحي الحياة مع إمكانية الاستفادة بما عند الغرب بما لا يتعارض مع مبادئ الإسلام ونصوصه وآدابه، لاسيما فى جانب العلوم الحديثة التى تعد أهم مقومات الحضارة الغربية المادية.
السبيل إلى الإصلاح فى الشرق
تسود العالم الشرقي حال من الفوضى والاضطراب فى جميع مظاهر حياته الفكرية والاجتماعية والسياسية، وتلك وإن تكن طبيعة عصر الانتقال الذي يجتازه العالم الشرقي الآن ومظهر النهضة الحديثة التى تتمخض بها أممه، إلا أنها تجعل المركز حرجًا يخشى أن ينتج عنه وأد الشرق فى ربيع حياته، والقضاء على الإسلام ولما يتمتع العالم بجنى ثمراته وحكم نظراته، ما لم تكن الحكمة والسداد رائد قادة الشعوب الشرقية ومفكريها.
وكثير من أهل العقول الراجحة فى الشرق الآن يعتقد أنه إن ظلت هذه الحالة المضطربة تسود الفكر الشرقي، ولم يعمل قادته على التخلص منها بتعيين غاية توجه إليها قوى هذه الشعوب المتيقظة، وتنصرف نحوها جهودها، فستكون العاقبة وبالاً على الشرق وأهله والإسلام وبنيه، وتنتهز الأصبع الأجنبية المستعمرة التى تتستر بقفاز رقيق، وتتحين الفرص لتنشب أظفارها الحديدية فى جسم الشرق البضّ، فتقلبه كما يشاء لها الهوى والتقلب، وقد يكون خير السبل لإصلاح الشرق وتخلصه من ورطته الفكرية أن يوجه زعماؤه وقادته جهود الأمم إلى غاية منتزعة من روح الشرق، ملائمة لمزاج أهله لا تنحصر فى التقليد لأوروبا ولا لغيرها، بل قوامها إنهاض الشرق من كبوته، واستخدام قواه الكامنة فى الإصلاحات العلمية والاقتصادية والمدنية، التى يكون من ورائها قوة الشرق المادية والأدبية.
إلى هذه الأمور الثلاثة يجب أن تتوجه عناية الزعماء فى الشرق: العلم والاقتصاد والحقوق السياسية، أما العادات، وأما العقائد والأديان، وأما الآداب ومظاهر الحياة الاجتماعية الأخرى، فهذه لا سبيل إلى نقلها من أمة إلى أمة إلا بفعل الزمن وحده، والأوامر والمراسيم والنظم والقوانين والقهر والجبروت، فكل ذلك لا يفيد إلا هياج الخواطر وثوران النفوس، ولا يغنى من الإصلاح الحقيقي شيئًا، ثم ندمر هذه النظم القاهرة أمام جبروت الشعوب وسلطان الزمن.
اليابان سارت فى طريق إصلاح حكيم مبنى على العلم والاقتصاد، فارتقت وتقدمت وغزت أمم الغرب فى خصائصها ومظاهر حياتها وقوتها، وتبع ذلك -بفعل الزمن وحده- ما تستدعيه الحال من تحور فى العادات والتقاليد.
وتركيا والأفغان سارتا فى طريق متهوّر أهوج فأرهقت الحكومة الأولى شعبها فى دينه ودنياه، وحملته من عذاب الاستبداد نارًا مستعرة يبدو دخانها خلال هذه المؤامرات المتتالية على الحكومة، وتظهر أبخرتها فى الزلازل النفسية التى تتمخض بها المدن التركية، وإن كنا لا نعلم من ذلك إلا قليلاً، وانتهت مناورة الحكومة الثانية بتلك الثورة الفظيعة الماحقة التى تخشى أن تكون وبالاً على الأفغان والشرق.
يا زعماء الشرق، حنانيكم فالأمر جلل. يجب أن نفرق بين ما يؤخذ وما يترك، فليست مظاهر الحياة الأوروبية كلها صالحة ملائمة لمزاج الشرق. فليكن قائدكم فى الاختيار المنفعة وصالح المجموع لا الهوى والشهرة ومصلحة طائفة خاصة، ويجب أن نجعل لتاريخنا وحضارتنا وماضينا نصيبًا من التقدير والإجلال، فلا نفنى فى غيرنا من الأمم، ولا ننكر فضلاً سجله التاريخ لأسلافنا ولهج الزمان بذكره وعرفته لهم الأمم جمعاء، وكان دعامة من دعائم المدنية الحالية.
اجعلوا الشرق جسمًا قويًا متماسكًا يثب إلى الحياة والرقى على رجليه، ولا تجعلوه مقعدًا مشلولاً يمشى بأعضاء غيره، فإنكم لا تأمنون أن يلقيه فيتحطم هيكله ويتهشم بناؤه.
يجب أن نلاحظ نفسيات الشعوب والجماعات، وضرورة التدريج فى إدخال ما يجب أن ندخله من النظم والإصلاحيات، وأن نلاحظ أن المدنيات لا تؤخذ من نهاياتها، وإنما تنقل من أصولها ومبادئها، وأن هذه المظاهر التى يحاول زعماؤنا بثها فينا وانتشارها بيننا لم تكن فى أوروبا إلا عن دواع وأصول لم تتوفر فى الشرق ولا تتوفر فيه أبدًا.
بقى أمر هام أود أن أهمس به فى آذان قادتنا ومفكرينا، ذلك أن أسألهم عن سر عدائهم للإسلام ولنظمه، وموقفهم منها موقف المتحسب المتوجس، وما الذى يمنعهم من أن يجعلوه أساسًا يقيمون به صرح ما يريدون، ويعلم الله والباحثون من العلماء أن الإسلام بروحه وقواعده دين تجديد وثقافة، وشعاره: ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾[الإسراء: 85] مردفة بقوله تعالى: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْمًا﴾[طه: 114].
والعجب أنه مع نصوع الحقائق ووضوحها لا نزال نرى فريقًا من قصار النظر فى الأقطار الشرقية خاصة يرمون الإسلام بما هو منه براء، ويتوهمون فيه قيودًا ثقيلة من الجمود تقيد الفكر وتمنعه الحرية والبحث، ويقيسونه بتلك النظم العتيقة الكنسية التى لم تقم نهضة أوروبا إلا بتحطيمها والقضاء عليها، وتراهم لذلك يستخدمون الألفاظ التى تداولها المؤرخون لمسميات ذاك العصر، فيقولون: رجال الدين، الرئاسة الدينية، والنظر الديني الضيق، والسلطة الروحية، وغير ذلك من العبارات، ولعل هذا اللبس اللفظي هو الذى جعلهم يتورطون فى تشبيه النظم الإسلامية بغيرها من النظم.
وواجبنا إزاء ذلك أن نرفع عن أعين من يريد الحقيقة من هذه الطائفة حجاب الوهم، ونوضح له هذا العبث اللفظي وخداع العناوين التى وضعها مؤرخو أوروبا لذلك العهد، وأن نوضح لهم أن نظم الإسلام ليست من تلك القيود فى شىء، بل هى دعائم المدنيات وبواعث النهضات.
وعلينا بعد ذلك أن نجعل هذا الإسلام المتمكن فى نفوس أهله أساسًا للنهضة الشرقية الحديثة، وبذلك تصطبغ نهضتنا بصبغة شرقية مجيدة تجذب نحوها أفئدة الشعوب وتعيد للشرق مجده المسلوب وعزه المغتصب.
وقد يتخيل بعض الزعماء الذين يبتعدون عن الإسلام فيمن يسمونهم رجال الدين معارضة لإصلاحهم وعقبة فى طريق نهوضهم، فيودون لذلك أن يبتكروا هذا الطريق ويسلكوا إلى النهوض من طريق غيرهم، فليعلم هؤلاء أن هذا الصنف من رجال الدين لا يوجد فى علماء الإسلام الآن والحمد لله، وإن كان ظهر فى بعض العصور تحت تأثير الحوادث والدسائس، فقد أخذ فى الاختفاء وحل محله عنصر حى قوى فهم الإسلام على حقيقته، وتشرب بروحه السامية ومبادئه العالية، فكان بمعزل عن الجمود الممقوت والتشبث المذموم.
وهذا العنصر -والحمد لله- كثير فى البلاد الإسلامية الشرقية، ومثله حية قائمة أمام أنظار الجميع، وهو يود من صميم فؤاده أن يؤيد زعماء النهضات وقادة الفكر الشرقي، ويتفق معهم على وضع الأساس الصالح لبناء مستقبل الشرق.
فلم لا يسعى كل من الطرفين فى إزاحة هذا الستار الرقيق من الأوهام الذى يحجب كليهما عن الآخر، ويسيران متكاتفين بالأمم الشرقية إلى غاية الكمال؟
ومن أوجب الواجبات وأول وسائل النجاح -ولاسيما فى ظروف حرجة كالتي تحيط بالشرق الآن- أن توحد جهود الأمة وتوجه قواها جمعاء إلى ما فيه خيرها وسعادتها.
أما أن تقف قوة ضد قوة، وتستخدم طائفة للقضاء على أخرى، وتنتهج خطة للإصلاح لا يكون وراءها إلا الثورة، فلا يقدرون مقتضيات الأحوال، ولا يلتفتون إلى سنن الكون وقواعد الاجتماع، ولا يصغون إلى أصوات الألم المنبعثة من قلوب الشعوب الدامية.
أما أن يتخذ زعماء الشرق أداة لتنفيذ المآرب والأغراض، وملهاة يلهو بها ساسة أوروبا وعواهلها، وكعابًا تنقلها أصبع الغرب على رقعة الشرق كما تشاء وهم غافلون، يبيتون لهم المكائد وينصبون لاصطيادهم من الشرك.
فذلك كله أو بعضه مما يعرقل سير النهضة الشرقية، ويؤخر ثمارها، ويحول دون نضوجها إن لم يقض عليها، ولن نجنى منه إلا قلقًا واضطرابًا لا يغنيان من الحق شيئًا، ذلك إلى ما يعقبه من رد الفعل الذى يبدل فائدة النهضة بالضرر وخيرها بالشر.
تلك كلمة أتوجه بها إلى كل من يعنيهم أمر الشرق المحبوب ويهمهم مستقبله، ناضحة بمرارة الهمّ ومضاضة الألم الذي يتولاني كلما ذكرت الشرق المجيد وما ينتظره من الكوارث إن دامت به الحال على ما نرى من الفوضى والخلل، وأهم ما أقصد إليه فى هذه الكلمة -وأرجو أن تكون موضع عناية القادة، ومحل بحوث المفكرين- أمور:
1- أن تحدد غاية أساسية توجه إليها قوى الشرق.
2- أن تكون تلك الغاية ملائمة للمزاج الشرقي متفقة مع روحه العامة الذاتية.
3- أن تستند النهضة إلى الإسلام فى نظمه وروحه ومبادئه.
4- أن نعنى بالمهم من المظاهر: كالعلم، والاقتصاد وندع السفاسف التى لا تقدم ولا تؤخر: كالعادات، والآداب التواضعية.
5- أن نوحد جهود أبناء الأمة الواحدة ثم الأمم الشرقية جميعًا فى السعي لتحقيق أماني الشرق.
6- أن نحترس فى نقل ما نأخذه عن الأجانب، فلا نأخذ إلا ما ينفعنا حقيقيًا.
ذلك ما أريد أن أنبه إليه الأفكار، وألفت نحوه شبابنا الذين غفلوا عن مستقبل بلادهم، ومصير دينهم، وأهملوا البحث والتقصي، وخدعوا بتمويه الأعداء، فأعجبوا بآرائهم، وجاروهم فى أهوائهم، والله خير حافظًا لديننا وبلادنا(1).
لا القومية ولا العالمية .. بل الأخوة الإسلامية
يجد مبدأ القومية من زعماء الأمم وقادة الشعوب من يناصره ويقدسه ويبثه بكل وسيلة فى نفوس الناس، ويضع المناهج والبرامج لينشأ الجيل القادم جيلاً مقدسًا لقوميته معتزًا بعصبيته، فهيتلر ينادى فى أمته: ألمانيا فوق الجميع، ومصطفى كمال ينادى فى أمته: تركيا فوق الجميع، وموسولينى ينادى أمته: إيطاليا فوق الجميع، ولا يقفون عند النداء، بل يستخدمون التاريخ والذكريات، والقوة إذا احتاج الأمر فى تثبيت هذا المبدأ فى نفوس شعوبهم.
ويرتفع مع هذا صوت الفلاسفة وعلماء الاجتماع وبعض السياسيين يوضحون للناس خطر التمسك بمبدأ القومية، وضرورة التشبع بمبدأ العالمية ونسيان فكرة الوطن الخاص، والعنصرية الجنسية.
ومصر -التى تعودت تقليد الغرب، والإعجاب بنظمه وبرامجه- تقف على مفترق هذين الطريقين، فتارة تسمع فى جرائدها من يحبذ القومية، وأخرى تسمع من يهيب بها إلى العالمية، ويدلى كل منهما بأدلته وبراهينه.
اسمعوا يا قوم، أما مبدأ "العالمية" فهو وإن كان مبدأ الإنسانية والسلام والخير العام، إلا أن أمم الغرب وحكومات الاستعمار جعلته شبكة تصطاد بها ضعاف العقول، وتكسر به حدة المقاومة عند الشعوب المظلومة حتى تكون لقمة سائغة لها، وما دامت الأمم الغربية تعتقد فى أمم الشرق الحطة والجهالة والذلة والمهانة، وتترفع عن الاختلاط بها، وتظن أنها من طينة غير طينتها، وكل ما تريده منها أن تمتص دمها، وتنتفع بخيراتها، وتستخدم أبناءها فى قضاء شهواتها السياسية ومآربها الاستعمارية، ما دامت أمم على هذه الروح الفاسدة مع ما بينها هى نفسها من التباغض والتحاقد، فإن مبدأ العالمية عند الشرقيين من أخطر المبادئ على حياة أممهم.
وأما مبدأ "القومية" فهو مبدأ خطر كذلك لا ينتج إلا الشرور والآثام والحروب والتخاصم والتنافس والتزاحم، فإذا كانت كل أمة تدعى أنها سيدة الجميع وتعمل للوصول إلى هذه السيادة، فمتى تهدأ الثورات أو يسود السلام؟ وها نحن نرى نتائج تمسك أمم بهذا المبدأ فى مؤتمراتهم التى لم يفلح واحد منها حتى الآن، ذلك إلى أنه غير طبيعي؛ لأن العالم يسير إلى الوحدة والاتصال، وكل ما صادم الطبيعة لابد أن يزول.
فكلا المبدأين بالنسبة لمصر وللشرقيين ضار غير ملائم لهم، فالعالمية مع جمالها النظري قضاء عليهم، والقومية مبدأ خاطئ من أساسه، فإذا وفقنا إلى تربية النشء وتكوين نفوس الأمة على مبدأ يضمن لنا حب الخير العام والسلام والعمل لفائدة الأمم جميعًا، وذلك كل ما فى العالمية من جمال، ويضمن لنا -مع هذا- التمسك بعزتنا والدفاع عن حوزتنا، والذود عن أوطاننا ومقدساتنا -وذلك كل ما فى القومية من فائدة- كنا قد وصلنا إلى خير كثير، وأخذنا من كلا المبدأين فائدته، وتجنبنا ضرره، وبرئنا من وصمة التقليد، وفضلنا الغرب الذى تلعب به الأهواء والشهوات، ودللنا بعملنا هذا على أسمى معنى من معانى الاستقلال النفسي.
ولا أدرى لماذا نذهب بعيدًا وهذا المبدأ بين أيدينا أرشدنا إليه العزيز الحكيم فى كتابه الكريم، وهو الذى يعلم مصالح عباده، ويرشد خلقه إلى أقوم السبل فى حياتهم المادية والروحية معا، ذلك المبدأ الذى يجب أن ينشأ عليه أبناؤنا، وتتربى عليه نفوسنا، هو مبدأ "الأخوة الإسلامية"، الأخوة الإسلامية التى قررها القرآن الكريم فى قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾[الحجرات: 10]، وقررها النبى صلى الله عليه وسلم فى قوله: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام ماله ودمه وعرضه" رواه الستة إلا النسائي، وورد بها كثير من الآيات والأحاديث.
إننا إذا تمسكنا بهذا المبدأ قويت رابطتنا النفسية، وقويت رابطتنا بالأمم الشرقية، وعصمتنا العقيدة من الاستكانة للغاصب، والخنوع للذل والاستعباد.
وقد يقول قائل: إن الأمة الواحدة من أمم الإسلام تضم عناصر مختلفة تدين بغير دين الإسلام، فلا يوجد بين أفرادها إلا الجنسية القومية.
والجواب على ذلك: إن سماحة الإسلام تجعل بره وصلته تتسع لأبناء قومنا وإن كانوا على غير ديننا كما قال تعالى: ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[الممتحنة: 8]، بل إن تعاليم الإسلام تقضى على أبنائه أن يكونوا مع أهل التعاقد معهم سواسية، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم.
إننا إذا جعلنا مبدأ الأخوة الإسلامية هو مبدأ التربية عندنا وأساس مناهجنا ونظمنا خدمنا أنفسنا، وخدمنا العالم الذي يسير إلى الإسلام بخطوات واسعة، وخدمنا الحضارة والمدنية اللتين لن تجدا دينًا يتمشى معهما ويكمل ما نقص من مظاهرهما غير الإسلام، وبنينا الجيل القادم على أقوى دعامة، وأمتن أساس، فلنكن شجعانًا فى التحرر من نير التقليد الأجنبي ولو مرة واحدة(2).
مصر عربية .. فليتق الله المفرقون للكلمة
يريد الدكتور طه حسين أن يجعل الأمة العربية ضمن الأمم التى غزت مصر، فأذاقتها صنوفًا من العدوان وألوانًا من العذاب، حتى تغلبت مصر فالتهمت العرب فيمن التهمت من الأمم من فرس ويونان وترك وفرنسيين وإنجليز ورومان.
وتلك فكرة لا ينفرد بها الدكتور طه وحده، بل نادى بها من قبله الأستاذ سلامة موسى، وحمل لواءها كل من يحمل ضغنًا على العربية وحفيظة على الإسلام، ومن الأسف أن خصوم هذا البلد الطيب أهله قدروا على تزيين هذه الفكرة بنعوت جميلة وألفاظ زائفة استخدمها هؤلاء الحانقون على العرب والإسلام، فزينوها بدورهم لكثير من الشبان، فوقعوا فى حبالتها، وأخذوا يهرفون بها، ومما يؤلم أنها راجت حتى على كثير من الرجال ولم تظل فكرة خيالية، بل برزت إلى حيز الوجود فى مظهرين هامين لا تزال الأمة على ذكر من المناقشة التى دارت حولهما، وهما تمثال نهضة مصر وضريح المغفور له سعد باشا.
هذه الفكرة التى يحمل علمها بعض الكتاب فى مصر بحسن نية أو بسوء نية خطأ محض، خطأ تاريخي وخطأ اجتماعي وخطأ فى جانب القومية المصرية لا يغتفر، وهي فكرة دسها الأجانب للقضاء على قوة الشرق ووحدته.
فأما أن الفكرة خطأ تاريخي؛ فلأن حكم التاريخ مضى بأن الاستعمار العربي لا يقاس بغيره من استعمار الأمم؛ لأن استعمار الأمم إنما يقصد به الفتح والغنيمة واستبداد الأمة الفاتحة بالأمة المغلوبة، أما الاستعمار العربي فهو استعمار ثقافي إرشادي روحى مهمته تمثيل الشعوب، وصبغها بالصبغة العربية الإسلامية حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، فالعرب أمة طَوّعها الله لهداية العالم، ولنشر القرآن العربي بين ربوعه، وإيصال الهداية المحمدية إلى كافة البشر ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾[البقرة: 143]؛ ولهذا كان الفاتح العربي مثال الوفاء والعدالة، لا تمضى عليه فترة قصيرة حتى يمتزج بالأمم التى افتتح بلدانها فيكون منها وتكون منه، وهناك تمحى الفوارق والأنساب والعصبيات، ولا تبقى إلا الأخوة حول القرآن العربي واللسان العربي والهداية المحمدية.
هذا ما يقوله التاريخ ويؤيده الواقع، فإن مصر وطرابلس وتونس والجزائر والمغرب الأقصى لم تر الحكم العربي إلا بهذه الصبغة، بل الأندلس على قصر مدة العرب فيها ازدهرت بالحضارة العربية، واصطبغت بالصبغة العربية، وسرى فيها لسان العرب وعاداتهم، وما كنت ترى فارقًا بين الفاتحين والسكان الأصليين، ولو استمر حكم العرب فى الأندلس إلى الآن لكان من شبه جزيرة أيبيريا جبهة عربية فى غرب أوروبا لا تقل غيرة وحماسة للعروبة عن العراق والشام.
على أن التاريخ يحدثنا بوحدة فى الدماء واللغات بين سكان جزيرة العرب وسكان وادى النيل فى القديم والحديث، ولا ننسى أن كثيرًا من سكان الصعيد وسكان الشرقية والبحيرة والفيوم يعلمون إلى الآن أنسابهم العربية، وينتمون إلى قبائل عريقة فى العروبة، وذلك تعبير مجمل له تفصيل لمن أراد الاستقصاء.
وأما أن هذه الفكرة خاطئة اجتماعيًا؛ فلأن الأمة إنما تتكون قوميتها من لغتها ودينها وعاداتها وثقافتها وما إلى ذلك من مظاهر الحياة، فهل يرى الدكتور طه وغيره أن لمصر لغة غير اللغة العربية، وأن لها دينًا غير الدين الذي حمل لواءه العرب؟ وهل يرون أننا نستطيع أن نتخلى عن اللغة العربية والقرآن العربي والشعور العربي، ونحل محل ذلك كله لغة ودينًا وثقافة تختص بمصر والمصريين؟ وما هى يا ترى هذه اللغة، وما هذا الدين، وما تلك الثقافة؟ لعل القوم يقصدون الهيروغليفية ودين أبيس وآمون وهورس وفتاح.
يا قوم اتقوا الله وخذوا فى سبيل الجد، ودعوا هذا العبث، فإن الأمة فى حاجة إلى أن تصرفوا جهودكم فى معالى الأمور إن كنتم تستطيعون.
وأما خطأ الفكرة من ناحية القومية المصرية؛ فلأن تمسكنا بالقومية العربية يجعلنا أمة تمتد حدودها من الخليج الفارسي إلى المحيط الأطلسي، بل إلى أبعد من ذلك، ويبلغ عددها أضعاف أضعاف الملايين المحصورة فى وادي النيل، فأي مصري يكره أن تشاطره هذه الشعوب التى تظلها العربية شعوره وآماله وأفراحه وآلامه؟!
إن من يحاول سلخ قطر عربى من الجسم العام للأمة العربية يعين الخصوم الغاصبين على خضد شوكة وطنه، وإضعاف قوة بلاده، ويصوب معهم الرصاصة إلى مقتل هذه الأوطان المتحدة فى قوميتها ولغتها ودينها وآدابها ومشاعرها ومطمحها.
على كل منا أن يعتقد أنه حارس للأرض التى نشأ عليها يذود عن حياضها، ويطالب بحقوقها، ويعمل لإعزازها، فهو مصري أو عراقي أو شامي بالنسبة لهذه الأرض، وعليه كذلك أن يعتقد أنه عضو فى جسم أمة عظيمة وحد بينها اللسان والدين والشعور والمطمح.
تلك هى الأمة العربية، فهو عربى بهذه القومية، ولقد جَلا هذه الحقيقة الكاتبان الكبيران الأستاذ عبد القادر حمزة والأستاذ محب الدين الخطيب بما لا يدع زيادة لمستزيد، وحيا الله ذلك الشباب المتوثب الرابض على جنبات العرين العربي فى مصر وفلسطين وسوريا والعراق(3).
رسالتان
أما أولاهما فهى: "مهمة المسلم ورسالة الإسلام"
كثير من الناس يُدعون إلى اعتناق المبادئ والتسليم بها والانتصار لها، فيجيبون الدعوة فى لهجة المقتنع وإيمان الواثق المطمئن، حتى إنك لترى فى وجوههم وألسنتهم مظاهر الاستعداد البالغة، وآيات الحماسة الواضحة، حتى إذا طالبتهم هذه المبادئ التى اعتنقوها بالعمل لها والجد فى سبيلها وأداء حقوقها تقاعدوا عن ذلك وتجاهلوه؛ لأنه عمل، ولأنه جهاد، والعمل والجهاد يستدعيان العناء والتضحية، وهما شديدان على النفوس، قاسيان على من لم يتعودهما من الناس، وإنك لتجد هذا المتقاعد عن واجب مبدئه، الغافل عن مقتضيات عقيدته لا يزال يصف مبلغ إعزازه لها وتفانيه فى سبيلها كأنه يخادع بذلك نفسه أو يخادع الناس.
من هذا الصنف كثير من مسلمي هذا العصر، بل كثير جدًا سلموا بمبادئ الإسلام وأعلنوا إعزازهم لعقائده واستمساكهم بتعاليمه واستعدادهم للعمل له، ثم إذا حاسبتهم بموازين الإسلام الصحيح رأيت البون شاسعًا ومسافة الخلف واسعة بين القول والعمل، وهم بعد ذلك يظنون أن مجرد الدعوى يكفيهم بدون إقامة الدليل.
للإسلام رسالة واضحة جلية، ونشر هذه الرسالة بين العالمين هو مهمة المسلمين، ولن يكون المسلم كامل الإسلام صحيح الإيمان إلا إذا قام بقسطه الأوفى فى نشر هذه الرسالة وإبلاغها للناس.
الإسلام دين عام للبشر، وقانون واضح مفصل يشتمل على كليات النظم التى يجب أن تسير عليها الإنسانية لدنياها وآخرتها، تلك عقيدة لا خلاف فيها بين أحد من المسلمين أشارت إليها الآيات الكريمة فى قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا﴾[النساء: 174]، وقوله تعالى: ﴿هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الألْبَابِ﴾[إبراهيم: 52]، وأخيرًا فى قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾[سبأ: 28].
والمسلمون هم حراس هذا الدين، وهم المطالبون أمام الله تبارك وتعالى بتعميمه ونشره بين الناس أجمعين، ولا يكفى أحدهم أن يكون مستمسكًا بآداب الإسلام عاملاً بتعاليمه فى نفسه فقط، بل عليه أن يقوم بقسطه فى تعريف الناس واجبهم نحو الإسلام، وفى ذلك يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾[البقرة: 143]، فالرسول صلى الله عليه وسلم شهيد علينا، ومبلغ رسالة ربه لنا، وأستاذ لمن تلقوها عنه من أصحابه الغر الميامين، وأمته من بعده شهداء على الناس مبلغون لهم رسالة ربهم التى جاء بها نبيهم، أساتذة لمن يتلقاها عنهم من الناس، فكل مسلم فى الأرض يجب عليه أن يشعر بأنه يحمل قسطًا من الجهاد فى سبيل البلاغ العام الذى جاء به نبيه صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم والسنة المطهرة وسيرة النبى صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه وتابعيهم من بعدهم، كلها صور رائعات ترى فيها المسلمين جيشًا واحدًا فى سبيل نصرة الحق ونشر الدعوة، وكل مسلم جندي فى هذا الجيش يجب عليه أن يقوم بقسط الجندي المخلص المتفاني.
ولهذا ندب الله المسلمين إلى العمل فى آيات كثيرة حسبك أن تقرأ منها قول الله تعالى: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ اللهِ﴾[التوبة: 41]، ولأمر ما جعل الله نفس المسلم وماله ملكًا لهذه الغاية، ووقفًا على انتشار الدعوة، واشتراهما منه بثمن غال كريم ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾[التوبة: 111]، وما دام فى الأرض شخص واحد لم يسلم ولم يدخل فى طاعة المسلمين فالأمة جميعًا مسئولة بين يدى الله تبارك وتعالى عن سكوتها على هذا الشخص وإهمالها لشأنه لأنه ضال، وقد كلفها الله هدايته فلم تقم بحق هذا التكليف.
فهم السلف الصالحون مهمتهم وما ندبهم الله إليه فرأيتهم وقد نفروا كما أمرهم الله، فملأوا الدنيا دينًا وتقى وإنصافًا وعدلاً وعلمًا ونورًا وقناعة وغنى وسعادة ورخاء، وسل التاريخ ينبئك، وما شهدت الإنسانية عصرًا كعصرهم، ولا استضاءت بنور كنورهم، أولئك الذين هداهم الله فبهداهم اقتده.
ذلك لأن رسالة الإسلام وتعاليمه هى المنقذ للبشرية، والمشيد للإنسانية، والعلاج النافع لكل أدوائها وأمراضها، فلا رسالة تدعو إلى السلام والوحدة والحب والأخوة والتسامح والإنصاف وبناء نظام الحياة الدنيا على أدق القواعد، وأكثرها مسايرة لطبائع البشر، وإسعاد الروح بالسمو بها إلى أرقى مدارج السمو، وقد أثبت التاريخ صدق ذلك وأيده بالوقائع التى لا سبيل إلى جحودها أو إنكارها.
وأما الرسالة الثانية، فتلك رسالة الأوروبيين وهداية المدنية الحديثة للناس أجمعين.
فقد طلعت أوروبا على الناس بقوتها وبطشها وفضتها وذهبها وفتنتها ونسائها ومعارفها وعلومها ومخترعاتها ومكتشفاتها، ومظاهر حياتها المادية الصاخبة المزخرفة بحواشي الترف والنعيم، وملأ دعاتها الدنيا صياحًا وجلبة أن قد ظهر النور، ومضت عصور الجهالة، وانقضت عهود الضلالة، وبقى على الناس أن يؤمنوا بأوروبا ونظمها، وأمريكا ونظرياتها، وعليهم أن يخضعوا لهذا الأستاذ الجديد الذى يريد أن ينقذ العالم من براثن الشقاء إلى بحبوحة السعادة، وبهذه الدعاوى مكن الأوروبيون لأنفسهم فى بلاد لم يكونوا لينالوا منها لو لم تنخدع لهم.
ولقد فتن زخرف هذه الدعوى كثيرًا من العقول، واستولى على كثير من القلوب، وملك على الأمم الشرقية عواطفها ونفوسها فاندفعت فى تياره وجرت فى غماره وشادت بآثاره.
ولكن رحمة الله بالبشر لم تدع هذه الفتنة حتى تعم البشرية وتهلك بها الإنسانية، فأظهر للناس عجزها وأعلن إفلاسها. نعم، إن المدنية الأوروبية قد أعلنت عجزها عن قيادة البشر وإفلاسها فى إسعاد الشعوب، وها هى صروح عظمتها تندك صرحًا فصرحًا، وأصولها تنهار أصلاً فأصلاً.
فسدت مبادئ القوم السياسية فهم بين ملكية مهددة وجمهورية زائفة وديكتاتورية مقنعة أو استبدادية ساخرة، وفسدت قواعدهم الاقتصادية فها هى الأزمة تأخذ بخناقهم وتمسك بتلابيبهم، وهم عن علاجها عاجزون وفى مؤتمراتهم فاشلون، واختلت معاهداتهم الدولية وتسرب إليها التعطيل والتأويل والتغيير والتبديل، وانتقضت أسسهم الاجتماعية فلكل أمة أساس تسير عليه، ولكل دولة نظام تدعو إليه، وانحطت غاياتهم العلمية، فالعلم الذى هو أساس سعادة البشر وأصل هناءتهم قد اتخذ سلاحًا لتدميرهم وسبيلاً لإهلاكهم، وماذا أقول لك وأنت ترى وتسمع فى الصحف اليومية كل يوم ما يعلن عجز القوم وإفلاسهم؛ ذلك لأن العلة الحقيقية مستترة وهم لا يريدون أن يعترفوا بها، فدعهم يتخبطون، لابد من نهاية لهذا الحال، فإما حرب ضروس تطهر نفوسهم، وتذهب درن قلوبهم، وتعرفهم أين الحق ليتبعوه، وأين الباطل ليتجنبوه، وتهيئ للكتيبة الإسلامية المغلوبة فرصة القوة والظهور، إن أحسنت انتهاز الفرص وإما اهتداء إلى منهج الحق وطريق الصواب وهو أبعد الاحتمالين.
والذى يعنينا من ذلك أنها فرصة سانحة للمسلم الصادق أن يتقدم بمبدئه ويعلن للناس رسالته وينادى فى العالم بتعاليمه؛ لأنها دواء الإنسانية والمنقذ من مشكلات البشر الفردية والدولية.
أيها المسلم، قد هيأ الله لك الفرصة فلا تضيعها، واعتقد أنك بذلك تخدم الإنسانية بإهداء الإسلام إليها أكثر مما تخدم الإسلام بانتشاره بينها.
أيها المسلم، إن الإسلام لابد أن يسود البشر؛ لأنه العلاج الوحيد للعالم، فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض، وإن لم يكن ذلك بك فسيكون بغيرك ممن يحبهم الله ويحبونه ويجاهدون فى سبيله ولا يخافون لومة لائم، فاجتهد فى أن تكون ممن يحمل قارورة الدواء للإنسانية المريضة، فيحمل له تاريخها أحسن الجميل، ويثيبه الله أجزل الثواب.
أيها المسلم، لا تستبعد هذه الغاية، ولا تستصغر نفسك فى هذه المهمة؛ فإن أحلام الأمس حقائق اليوم، وأحلام اليوم حقائق الغد ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى﴾[الأنفال: 17]، و﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾[البقرة: 249].
أيها المسلم، إن الله قد أوضح لك الرسالتين فى كتابه فقال تعالى فى الرسالة الأوروبية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾[آل عمران: 149]، وقال فى الرسالة الإلهية: ﴿بَلِ اللهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾[آل عمران: 150]، ثم بشرك بأنه سينصرك بالرعب وسيؤيدك بالتوفيق والتسديد فذلك قوله تعالى بعد هاتين الآيتين: ﴿سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾[آل عمران: 151]، فإن كنت مصدقًا بالقرآن الكريم فتقدم برسالة دينك غير هياب ولا وَجِل، والله معك يسمع ويرى، ولا تُضع الفرصة سدى، وإن كنت غير ذلك فخير لك أن تكون صريحًا(4).
قومية الإسلام
يظن الذين لا يعلمون مبادئ الإسلام ويأخذون بما يرون من مظاهر أهله أنه دين ذلة وخمول وضعف واستكانة، وأنه يتنافى مع العزة القومية والكرامة الوطنية.
فأحب أن أقول لهؤلاء الظانين: على رسلكم، فإن الإسلام دين عزة وكرامة ومنعة وشرف، وإن دينًا يقول كتابه القدسي: ﴿وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ﴾[المنافقون: 8] ويقول رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم: "من أعطى الذلة من نفسه طائعًا غير مكره فليس منى" لجدير بأن يسمى دين العزة والكرامة غير مدافع.
وإن دينًا يضع إلى جانب التسامح والعفو عند اقتضائهما القصاص والعدل فى مواطنهما فيقول كتابه الكريم: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ﴾[المؤمنون: 96] فى موضع، ويقول: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾[البقرة: 194] فى موضع آخر، لدين تام التشريع، كامل النظام، قويم المبادئ، كافل لحاجات الأمم.
وإن الرسول صلى الله عليه وسلم الذى كان يقول لأصحابه فى وصاة أحدهم: "صل من قطعك، وأحسن إلى من أساء إليك، وقل الحق ولو على نفسك" هو الرسول الذى أنشده نابغة بنى جعدة قوله:
ولا خير فى حلم إذا لم يكن له بوادر تحمى صفوه أن يكدرا
فقال: صدقت لا يفضض الله فاك، حتى إذا سمع قوله:
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
لم ينكر عليه هذا التسامي بالكرامة، والاعتداد بالشرف والرفعة، بل هش له وبش وقال فى لهجة المسرور المتهلل: فأين المظهر يا أبا ليلى؟ فقال: الجنة يا رسول الله، فقال: إن شاء الله.
ألا فليعلم أولئك الذين فهموا الإسلام على غير وجهه أن الإسلام دين الإنسانية الخالد، ودستور البشرية الكامل، وصفوة الصفوة من القوانين والنظم التى يتوقف عليها سعادة البشر.
ولا أزيدك بالإسلام معرفة كل المروءة فى الإسلام والحسب
وبعد؛ فنريد أن نتفهم موقف الإسلام من مبدأ القومية الذى يسود أفكار الناس اليوم، ونتعرف القومية التى يدعو إليها ويعزز من شأنها.
ها أنت ترى قومًا يفهمون من القومية عصبية الدم وعنصرية الجنس، فيجعلون ذلك أساس وحدتهم ورمز جامعتهم، ويحوكون مطالبهم من خيوط هذه الوحدة وتلك الجامعة، ونسوا أن الناس لآدم وآدم من تراب، وأنت إذا سموت بالجنس فقد وصلت إلى مصدر الأنواع قبل الاشتقاق فرأيت الكل أكفاء، وإن قلت: إن البيئات الطيبة والحوادث الكونية جعلت لكل أمة خواصها ومميزاتها العنصرية. قلت لك: إن الرقى الفكري والتقدم النفسي، وهذا التقلب البادي من الإنسان على عناصر الطبيعة وقواها سيؤدى بالناس إلى تقدير هذه الصلة فيما بينهم، وجعلها يومًا من الأيام مبدأ لهم وجامعة تجمعهم، وذلك ما ينادى به علماء الاجتماع الآن.
وها أنت ترى قومًا آخرين يفهمون من القومية الحدود الجغرافية والرقعة الأرضية فيجعلون ذلك مطمح أنظارهم وقبلة آمالهم، وهؤلاء قد تقيدوا بغير قيد وارتبطوا بغير رباط، فما كانت الأرض إلا عرضة المد والجزر تتسع وتضيق مع الظروف والحادثات.
إن الذين ينادون بالعنصرية الجنسية لا يفيدون العالم شيئًا، وهم فى الوقت نفسه يذكون نار الأحقاد والخصومات فى وقت يرجو العالم فيه الهدوء والسلام، والإسلام لا يقرهم على هذا المذهب من الآراء، بل يناديهم كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾[الحجرات: 13].
وإن الذين ينادون بالقومية الجغرافية لا يفيدون العالم شيئًا كذلك، وهم فى كثير من الظروف ينقضون مبدأهم مع غيرهم من الأمم التى تضعف قوتها عن قوتهم، فيحاولون أن يدمجوا حدودها فى حدودهم ويجعلوا أرضها من أرضهم، وقد نبههم الإسلام إلى هذا المعنى بالآية الكريمة ﴿إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾[الأعراف: 128].
وإذن على أى شىء يريد الإسلام أن يجتمع الناس، وأي شىء يريد أن يكون معقد رابطتهم ورمز جامعتهم ومحور أخوتهم؟؟
خذ القرآن بيمينك، والسنة المطهرة بيسارك، وضع سيرة السلف أمام عينيك، تر من كل ذلك أن للإسلام قومية وجامعة ووحدة ورابطة حول "العقيدة والمبدأ".
وبيان ذلك أن الإسلام دين شامل جاء للإنسانية بكل ما تحتاج إليه من النظم والقوانين الكلية، ووصف لها طريق السعادة فى بيان ووضوح، وأمر الناس جميعًا بفقه هذه القوانين والأحكام والأخذ بها، وناداهم بقوله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِى مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[الأنعام: 153]، ثم إن الإسلام يجعل أبناءه جميعًا أخوة متحدين متساوين فى الحقوق والواجبات، حتى وصلت إلى قلوبهم هذه العقيدة، وأمرهم بأن يكونوا جيشًا متحدًا مهمته إبلاغ الناس هذه المبادئ وتلك التعاليم، وعليهم أن يضحوا بكل شىء حتى النفس والمال وكل عروض الحياة الدنيا فى سبيل هذا البلاغ؛ فذلك قول الله تعالى: ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِى سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِىَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾[التوبة: 24].
فكل من دخل فى هذه العقيدة فهو واحد من الأمة التى يربطها الإسلام، ويفرض على كل أفرادها الذياد عنه، والأخذ بناصره، والمناداة بحقه، وكل قطعة أرض ارتفعت فيها راية الإسلام فهى وطن لكل مسلم يحتفظ به ويعمل له ويجاهد فى سبيله. وعلى المسلمين بعد ذلك واجب آخر أن يجاهدوا ليكون الناس جميعًا مسلمين ويكون الدين كله لله، ويعملوا لتكون الأرض كلها إسلامية ترفرف عليها راية الإسلام، ويدوى فى جنباتها مؤذن الإسلام، ونسمع فى كل نواحيها "الله أكبر".
ليس هذا عن عصبية لقوم، أو نعرة لجنس، أو غضبة لأرض، ولكنه جهاد لإنقاذ الإنسانية جميعًا، وعمل لتحرير العالم كله من ربقة الأهواء ونير الأغراض التى تورث الحقد والبغضاء، وتنتج الخلاف والشقاء، ونصرة لمبدأ "الحب والأخوة" الذى هو سر سعادة الوجود.
هذا الشعور السامي النبيل يدفع إلى خدمة الوطن والعشيرة بكل ما تملك من نفس ومال؛ لأنك ستخدم العالم كله وهما أقرب العالم إليك، فهل رأيت أسمى وأقدس من هذه القومية؟!(5)
لابد من هذا لكل أمة تريد النهوض
هى ثلاثة أمور لابد منها لكل أمة تريد النهوض:
أن تتعرف أعداءها لتحذرهم، وأن تهتدى إلى أحبابها لتستخلصهم، وأن تضع المنهج الحازم الحكيم للنهضة لتسير عليه، فلا تلتوى بها الطريق.
والأمة التى لا تعرف أعداءها، تقع فى خديعتهم وتقول بعد ضياع الفرصة: "أكلت يوم أكل الثور الأبيض".
والأمة التى لا تعرف أحبابها تضعف قوتها بيدها وتندم حيث لا ينفع الندم.
والأمة التى لا تضع منهج نهضتها تتخبط فى سيرها، فلا تتقدم خطوة واحدة، وقد تتأخر خطوات كثيرة.
وهذه الأمة المحبوبة المفداة تسير الآن إلى النهضة سيرًا حثيثًا، وتبدو فى كل مظاهر حياتها دلائل الفتوة والحياة، ولكنك ترى إلى جانب ذلك ما يخيفك على مستقبل هذه النهضة من جهلها بأعدائها واستسلامها لهم، وغفلتها عنهم، ومن جهلها بأحبائها، ونفورها منهم، وابتعادها عن الثقة بهم والإخلاص لهم، ومن تراخيها فى تحديد نقاط المنهج الذى تسير عليه، وتوضيح الهدف الذى ترمى إليه.
أذكر أن الجامعة الأمريكية أقامت حفلاً فى يوم من الأيام، كان من خطبائه الأستاذ جفري الذي أساء إلى الإسلام وعرّض بنبي الإسلام فى دروسه وكتبه، فأجاب دعوة الجامعة فى هذا الحفل كثير من كبار المصريين وعظمائهم، وفيهم التقى الصالح والمسلم الغيور.
ولا يزال أبو العطاء الجالندهرى وعبد الجليل سعد، وأمثالهما من دعاة القاديانية والبهائية وغيرهما عند كثير من الناس مبشرين إسلاميين!
وذكرت إحدى الصحف أن عضوًا فى جمعية إسلامية عاملة ظل عضوًا فى جمعية الشبان المسيحيين زمنًا طويلاً، وغير ذلك من المثل كثير نحن فيه أحد رجلين إما جاهلون بأعدائنا، وإما ضعفاء حتى عن التحكم فى عواطفنا ومسالكنا الشخصية.
وكثير من المصلحين ولا أحب أن أعرض لأسمائهم مرموق من الأمة بعين الحذر والاشتباه، وأقسم أن أحدهم ينفق قوته وقوت أولاده فى خدمة أمته، وقد يبيت طاويًا، ويصبح بيته خاويًا وهو بذلك جد سعيد، بل إن أحدهم ليذكر ما وصلت إليه الأمة فيتحدر دمعه كسحب الغمام، ويقضى ليله ساهرًا مفكرًا والناس نيام، ويتفطر فؤاده أسى وأسفًا والخليون هجع، ثم هو بعد ذلك عند الناس نفعى غشاش!
وإنما كان هذا التناقض فى الأمة عن أحد أمور منها: الاغترار بالظواهر وسهولة الانخداع والاستسلام فكل من ظهر بمظهر يتفق مع ميولنا وأغراضنا فهو حبيب تجوز علينا حيلته وتنطلي خديعته وإن كان وراء مظهره الداء الدوى، وكل من ظهر بمظهر يتجانف مع أهوائنا فهو عدو يحذر وخصم يهدم وإن كان وراء مظهره الحب الدفين والإخلاص الكمين، فما أحوجنا إلى بعد النظر وعمق التفكير وصحة التقدير وترك الحكم بالظواهر والنفوذ إلى الحقائق، وأن يقوم منا من يميز لنا بين العدو والصديق.
وشيء آخر ذلك هو تأصل خلق المجاملة ولو بغير حق فى نفوسنا، فترى أحدنا عظيم الخجل شديد الحياء من أن يقول للمخطئ: أخطأت، أو أن يقابل عدوه بمظهر من مظاهر العداء، بل هو دائمًا يعوّل على الإنكار القلبي وهو أضعف الإيمان، وأخلاق المؤمنين غير ذلك فهم مطالبون بأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، ويقيموا ميزان العدل، ويأطروا أهل الباطل على الحق أطرًا.
ثم إنك إذا قابلت قادة الفكر فى هذه الأمة وربابنة النهضة فيها ثم سألت كلاًّ منهم عن رأيه فى المسلك الذى يوصل إلى الغاية لرأيت تباينًا عجيبًا وتناقضًا غريبًا، بل إنك لو سألت فى ذلك أفراد الناس لأدهشك ما ترى من بعد الشقة بين الآراء والأفكار.
هذه الحيرة فى الهدف وذلك الاختلاف فى الوسائل تضعف قوة الأمة وتذهب ريحها وتفرق جهودها، بل تجعلها متعاكسة يبطل كل منها الآخر فلا تصل إلى شىء أبدًا.
لهذا كان من أول واجباتنا أن نحدد المنهج تحديدًا دقيقًا مضبوطًا، ثم نزن الناس بميزانه، فكل من أعان عليه فهو حبيب له كل ما للأحبة من مجاملة واحترام، وكل من عطله أو ناوأه فهو عدو له كل ما للعدو من لدد وخصام، وهل الإيمان إلا الحب والبغض؟(6)
المنهج
المنهج الذي ينهض بأمة من الأمم يجب أن تتوفر فيه شروط عدة حتى يؤدى مهمته؛ ليكون أقرب الطرق للوصول إلى الغاية، لابد أن يكون واضحًا سهلاً محدود الغايات والمرامي، ولابد أن يكون عمليًا لا يعتمد على الخيال، ولابد أن يكون شاملاً يعبر عن أماني الأمة وعواطفها، وخلجات نفسها، ويصور آمالها ومطالبها، ولابد أن يكون محوطًا بصفة من القداسة تدفع إلى المحافظة عليه والتضحية فى سبيله، ولابد أن يكون بعد ذلك معينًا على جمع كلمتها ومساعدًا على ضم صفوفها وتوحيد وجهتها. إذا تمكنت أمة من وضع منهج تتوفر فيه هذه الشروط فهى واصلة لا محالة إلى ما تبتغى من أقرب الوسائل وأخصر السبل.
ومن فضل الله تبارك وتعالى على هذه الأمة المحبوبة أن منّ عليها بهذا المنهج تامًا كاملاً موفور الشروط مكتمل الوسائل والغايات، ذلك المنهج الإلهي هو "القرآن الكريم".
لو كشفت غشاوة الأهواء والأغراض، وانزاح كابوس التقليد والضعف عن صدر هذه الأمة قادتها وجمهورها، لتأكدت تمام التأكد أن المنهج الوحيد الذى يحقق آمالها وأمانيها إنما هو القرآن، بل أقول وأنا ممتلئ عقيدة: لا سبيل بغيره أبدًا، فقد أحكمت الحوادث غلق كل باب يقوى معنوية هذه الأمة إلا القرآن الكريم الذى جعله الله ميزان العدالة فى الأرض، وكتب له الخلود إلى يوم الدين.
القرآن الكريم منهج سهل محدود، واضح المرامي والغايات، مستفيض فى الأمة يحفظه الصغير والكبير ويعلمه الشيخ والشاب، وهو عملى لا يعتمد على الخيال ولا يهتم بتنسيق النظريات الوهمية، ولكنه ينادى الناس جهارًا: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[التوبة: 105]، ويعالج النفوس والمشاكل بالعمل لا بالقول، وبالتكاليف لا بالأحلام.
وهو شامل لكل أماني الأمة فهو يشعرها بعزتها وكرامتها فى قوله تعالى: ﴿وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ﴾[المنافقون: 8]، ولا يقف منها عند هذا الحد، بل يتسامى بها إلى أبعد من ذلك مكانة وأعز رفعة وأعلى مقامًا فيقول: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾[البقرة: 143]، وأية أمة تطمع فى أعلى من هذه المنزلة منزلة الأستاذية العامة فى العالم كله، تعلم أهله وتقيم ميزان العدالة فيه وتحطم صروح الظلم والمنكرات؟ وهو يحفظ عليها مقوماتها وخواصها ومميزاتها كاملة غير منقوصة، ويحذرها أن تنتقص منها المقدمات فيقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتِّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾[آل عمران: 118].
ثم يضع لها القواعد فى العبادات والمعاملات والقوانين والأخلاق والصحة والاجتماع والعلم والتعلم، بل والمطعم والمشرب، بل فى كل شئون الحياة.
ثم هو يوحد بين عناصرها ويؤلف بين طوائفها فيضع لهم هذا الميزان المضبوط الدقيق ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾[الممتحنة: 8-9].
وهو بعد ذلك كله محوط بجلال القداسة، محفوف بالعناية الربانية، مفدى عند الجميع بالأموال والأنفس والثمرات.
ذلك منهج أهداه الله إلينا والناس يحارون فى وضع المناهج وتعرف الخطط ويقاسون من مرارة التجارب ونتائجها ما يقاسون من عناء وبلاء وفشل وتضحيات.
فيا قومنا هلموا إلى منهج الحق وطريق الهداية ولسان الصدق والصراط السوى الذى إن اتبعتموه لن تضلوا بعده أبدًا، فإن أبيتم إلا أن تتخبطوا فى دياجير الحيرة وتضيعوا الوقت فى التجارب الفاشلة والمناهج القائلة فإن الله سيقتص منكم وسيأتي بمن ينفذ منهجه ويسير على كتابه غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم، وما أقول لكم إلا ما قال النبى الصالح من قبل: ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِى وَأَطِيعُوا أَمْرِي﴾[طه: 90]، فإن أبيتم إلا البعد عن كتاب الله والتجافي عن منهجه ﴿فَسَوْفَ يَأْتِى اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾[المائدة: 54](7).
من الوصي؟
يزعم الغرب أنه بما وصل إليه من حضارة ومدنية وعلو فى الحياة الدنيا قد صار وصيًا على العالم يتحكم فى شعوبه ويسيطر على شئونه، ويتخذ ذلك وسيلة لقضاء ما تريد أممه من المطامع والأغراض، وساعده على هذه المزاعم ما وصل إليه علماؤه من كشف لبعض قوى الكون جعل فى مقدوره أن ينعم بترف الحياة مما لم يتح لغير أممه، ذلك إلى غفلة الأمم الشرقية ووقوعها فى سبات عميق.
غرتنا نحن الشرقيين هذه المناهج فركنا إليها واطمأنا بها وألقينا بأنفسنا فى أحضان المدنية الغربية، وصارت كل أمة تعمل "لتكون قطعة من أوروبا"، فإذا ما وصلت إلى شىء من مظاهر الحياة الأوروبية فاخرت به غيرها، وجعلته مقياس رقيها وتقدمها، وغلونا فى ذلك حتى احتلت العادات الأوروبية، والأفكار الأوروبية، والزخارف الأوروبية عقولنا وبيوتنا، وامتدت إلى نفوسنا وأخلاقنا وعواطفنا، وسار إلى جانب هذا الاحتلال الفكري والاجتماعي سلطان آخر عمل على تثبيته وتقويته بقدر ما عمل على القضاء على ما لنا من خواص ومقومات ومميزات والسير بنا فى طريق التمثل والفناء.
وأمام هذه المظاهر الخلابة غفلنا عما ينطوي تحتها من الخطر على كياننا، ونسينا معها مهمتنا وكرامتنا وعزتنا ومقدساتنا، وسلمنا للغرب ما يريد منا طائعين أو مكرهين رَغبًا أو رهبًا، فكان عن ذلك كله ما نقاسى من مصائب وويلات.
وها هى ذى المدنية الأوروبية التى اعتز بها أهلها حينًا من الدهر وزينوها للناس بكل أنواع الزينة تنهار صروحها وتندك، ولا يستطيع أهلها أن يقيموا بناءها المنهار، أو يمسكوا صرحها المتداعى رغم ما يبذلون من جهود ويعقدون من مؤتمرات.
الثورات المتعاقبة القوية. الفضائح المالية الاقتصادية التى لوثت سمعة كثير من عظمائهم. الأزمة المستحكمة التى وقعوا فيها وأوقعوا العالم معهم. المجاعة الروحية التى يذوقون ألمها، ويقاسون مضاضتها، المفاسد الخلقية التى استفاضت فى مجتمعهم حتى أغرقته. كل هذه مظاهر الإفلاس وآيات انهدام صرح هذه المدنية التى شيدها الغرب على المادة والمتعة، وأهمل فيها جانب الخلق والروح، وهما أقوى العوامل فى حياة الأمم وأروع مظاهر الإنسانية.
أيها المسلم، انقشعت الغشاوة وقام الغربيون أنفسهم يحاولون تغيير الحال، ويريدون التخلص مما فرضته عليهم مواضعات مدنيتهم وقوانينها من حدود ومناهج، فهل انقشعت الغشاوة عن أعيننا أيضًا أم لا نزال مخدوعين؟
حدد النظر أيها المسلم وابحث عن الحقائق ولا تلهينك هذه الزخارف، وأنا على يقين أنك بعد هذا البحث ستعود شخصًا آخر يتعرف مهمته ويعمل لأدائها.
ولعل هذه فرصة مناسبة أتحدث إليك فيها عن مهمتك، وعن السبيل إلى أدائها فى كلمات موجزة، وسل التاريخ يفصل لك ما أجملت.
بعث الله نبيك محمدًا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين وكافة للناس بشيرًا ونذيرًا، وبعث معه دينًا قيمًا فيه النظام الشامل والقانون المحكم والدستور الكافل لسعادة الأمم ورفاهتها وصلاحها فى الحياة وبعد الحياة، وفرض هذا الدستور على كل مسلم أن يتطوع للعمل على أن يكون هذا القانون هو نظام البشرية جميعًا، وبين له بيانًا لا يدع زيادة لمستزيد، إن عليه فى ذلك أن يقدم نفسه وماله وما يملك فإن قصر فى ذلك فهو آثم، وضمن للمسلمين إن أنفذوا ذلك سيادة الأرض، أو بعبارة أدق: هداية الأرض وإرشاد العالم.
فهم المسلمون ذلك من الإسلام فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم فهبوا معه ينفذون أمر الله الذي أنزله إليهم، ويجاهدون مع نبيهم صلى الله عليه وسلم فى سبيل إبلاغ هذه الرسالة، وقلوبهم تهزج بأهازيج السرور والنصر والفرح لما انتدبهم الله تعالى له من إنقاذ البشرية، وألسنتهم تترجم عن هذا الشعور السامي النبيل بهذه العبارة الفطرية الحلوة:
نحن الذين بايعوا محمدًا على الجهاد ما حيينا أبدا
حتى أثنى الله تعالى عليهم بقوله: ﴿لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾[التوبة: 88-89].
وجاء المسلمون من بعدهم فتبعوهم بإحسان وفهموا الدين كما فهمه سلفهم فعرفوا مهمتهم، وعلموا أنهم ورثة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مهمته، وخلفاؤه فى أداء رسالته، والقائمون عنه لإنقاذ العالم وإسعاد الإنسانية وتعميم الإسلام بين ربوعها، فهبوا هم الآخرون يعملون ويجاهدون عملاً وعلمًا وحربًا وسلمًا، فكان عن ذلك فى دمشق وبغداد وقرطبة والقاهرة دول ثابتة الدعائم شامخة الذرى، وحضارة قوية الأصول ومدنية سامقة الفروع، وحياة يجول فيها النعيم الروحي والمادي، وترف عليها أزاهر السعادة مصداق قول الله تبارك وتعالى ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[النحل: 97].
يوم كنا أوصياء على العالم كان ينعم بالحرية الصحيحة والعدالة المنصفة والسعادة الشاملة؛ ذلك لأن المسلم إذا فتح بلدًا أو غزا أرضًا فإنما يفعل ذلك وهو يعتقد من قرارة نفسه أنه إنما فعله ليسود المبدأ الذي يسوى بين الناس لا لتسود الأشخاص ولا العناصر، فإذا دخل أهل هذا البلد فى الإسلام كان لهم ما للفاتح وعليهم ما عليه لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى.
ثم شاخت الأمة الإسلامية القوية الزعيمة فتسلط عليها من كانوا بالأمس تلامذتها، وغمروها بمظاهر قوتهم فكانت عن ذلك فكرة التقليد الأوروبي القائمة التى نسينا فيها مهمتنا، وحرم العالم بتقصيرنا نعمة التمتع بشمس الإسلام المشرقة، وقد نلنا بذلك من أنفسنا ما لم ينل منا الأعداء.
والآن أيها المسلم وقد أدال الله لدولتك، وأثبتت الحوادث حق الخلود لشريعتك، وتهيأ العالم لمهمتك، هل ستظل غافلاً مفرطًا حتى تضيع الفرصة السانحة، أم ستستيقظ لأداء الرسالة الذى أوجبت على نفسك القيام بأدائها منذ نطقت بكلمة الإسلام واعتنقت تعاليم الإسلام؟(8)
ناحية واحدة لا تكفي
الأمة التى تجتاز دور انتقال خطير والتي تريد أن تركز حياتها المستقبلة على أساس متين من أسس الرقى والتقدم، وتنتفع ببوادر النهوض واليقظة -كأمتنا- الآن لا يكفيها أن تعالج ناحية واحدة من نواحي الإصلاح، بل لابد لها من أن تتناول كل النواحي بالتقويم والتجديد حتى يقوى بعضها بعضًا؛ فالناحية الاجتماعية والناحية الاقتصادية والناحية الخلقية والناحية الأدبية الفنية والناحية الفكرية العلمية والناحية السياسية والقانونية كلها فى حاجة إلى أن يشملها منهاج المصلح إذا شاءت الأمة أن تظفر بنهضة متناسقة لا اضطراب فيها ولا قصور.
وقد أثرت عوامل الانتقال فى كل هذه النواحي فى الأمم الشرقية، فواجب المصلحين أن يعنوا بها جميعًا، وألا تشغلهم ناحية عن ناحية.
إن النظم الاجتماعية فى الشرق الآن مضطربة متذبذبة لا شرقية ولا غربية، فنظام الأسرة ونظام المدرسة ونظام العادات والآداب العامة حتى المقابلة والمحادثة والتزاور والتحية وأكبر من ذلك وأصغر لا قاعدة لها ولا أساس تجرى عليه فيها، فهناك المتدين المتشدد، وهناك الإباحي المتهتك، وهناك المبالغ فى المحافظة على العادات الموروثة والتقاليد، وهناك الهازئ الساخر بها، وليس فى البلد "عرف اجتماعي عام" يقف كل واحد عند حده ويحدو الناس إلى فكرة أساسية مشتركة تملى عليهم نظامًا متحدًا تصطبغ به الأمة وتمتاز.
وإن الناحية الاقتصادية عندنا علة العلل؛ فالديون الأهلية تأخذ بخناق الأفراد والأسر الكبيرة ونظم البنوك ومواد القانون التجاري وإباحة الربا كلها شواظ من نار مسلط على التجار والزراع والملاك والوارثين يقضى على ما ورثوا، وينقل ذلك كله إلى اليد الأجنبية، ويثقل كاهل البلاد بعبء فادح، وإن مما يدمى القلب أن تعلم أن الدَّين الأهلي لو وزع على أرض مصر المنزرعة لخص الفدان الواحد منها ما يزيد على سبعين جنيهًا فى المتوسط، ومعنى هذا أن أرض مصر المزروعة كلها دين لغير المصريين، أو ملك لهم بعبارة أخرى.
والشركات الأجنبية والبضائع الأجنبية والكماليات الأجنبية والخمور الأجنبية والنساء الأجنبيات والسماسرة الأجانب عوامل مدمرة للثروة الوطنية، وهي عقبة كئود فى سبيل النهوض الاقتصادي، وسبب كبير فى كثرة العاطلين من الأيدي القادرة على العمل، وفى استنزاف الصُّبابة التى تبقى بأيدي الوطنيين من المال أو العقار.
أما الناحية الخلقية فقد انهدمت أصولها فى النفوس، وتحطمت قواعدها وقوانينها، وضل الناس طريق الخلق الفاضل فى كل بيئة وكل مجتمع وكل مكان، وأصبحت ترى مظاهر هذا الاضطراب الخلقى والفساد النفساني فى كل مظهر من مظاهر حياة الأمة.
أنفة وكبرياء من الرؤساء والمسئولين على الفقراء والمستضعفين حيث يحمد التواضع واللين، وذلة وصغار من هؤلاء المتكبرين أمام المعتدين الجبارين حيث تمتدح العزة وتحمد الكرامة وتكون الشجاعة فى الحق أفضل ما تتحلى به إنسانية إنسان، وتهتك وإباحة ومجون وخلاعة ولذائذ وشهوات ومتع وسهرات حيث يجر كل ذلك الوبال على رءوس الوادعين الآمنين الفضلاء، الذين تحجزهم فضيلة أنفسهم عن غشيان المنكر أو اقتراف المآثم وغش وخداع وكذب وجبن وخور وخلف وأثرة وأنانية وإهمال وتضييع، وقل غير ذلك كثير مما فشا بيننا وذاع فينا وقضى على فضائلنا الشرقية وأخلاقنا النبيلة، التى كانت كل عدتنا وسر عزتنا وأس قوتنا وجمال حياتنا وحصن منعتنا وإنما الأمم الأخلاق، وإن أعداءنا قد نالوا منا بضعف أخلاقنا أضعاف ما نالوا بقوتهم وجبروتهم ونارهم وحديدهم، وإنهم كذلك قد تمكنوا من أمرنا بقوة أخلاقهم أكثر مما مكنت لهم فى ديارنا قوتهم المادية، تلك حقائق إن لم يرها بعض الناس اليوم فسيراها غدًا يوم يكون تاريخ الاجتماع هو الحكم الفصل.
وإن الناحية التعليمية الفكرية فيها هذا الاضطراب نفسه؛ فنحن بين محافظ شديد المحافظة لا يبغى بالقديم بديلاً، وبين متحلل إلى أقصى حدود التحلل يريد التجديد فى كل شىء، وبين متوسط يحاول التوفيق ولا يجد سبيله، ولابد من ميزان يزن كل شىء ويأخذ من كل شىء أحسنه، ويحمل الأمة على سياسة معينة توصلها إلى هذا الحسن الجميل.
وقد أغنتنا الصحف السيارة عن الإفاضة فى شأن الناحية السياسية، وكلنا بأمرها جد عليم.
هذا تصوير مختصر مصغر لأثر طور الانتقال فى مظاهر حياة أمتنا.
وإنك لتعجب حين ترى اهتمام المصلحين والرؤساء وجهود القواد والزعماء ومن ورائهم تيار الأمة العامة قد اتجه كل ذلك إلى ناحية واحدة لا يفكر فى غيرها إلا لمامًا ولا يعرض لسواها إلا اضطرارًا، تلك هى الناحية "السياسية"، فالناس جميعًا لا يعنون بغير شئون السياسة، ولا يتحركون إلا باسم السياسة، ولا يفكرون إلا فى الإصلاح السياسي، وكلما حدثت إنسانًا فى بقية شئون الأمة كان جوابه: إن البلاء السياسي أصل هذا الفساد، فمن الواجب أولاً أن نقضى على هذا الوباء السياسي، ثم بمجرد انتهاء قضيتنا انصرفنا إلى بقية الإصلاحات، ثم يدلى لك بحججه وبراهينه.
هذا كلام وجيه فى جملته وله حظه من النظر والفكر، وحقيقة إن أصل البلاء هذا الوباء السياسي الذي بلينا به، ولكن هذا القائل نسى أن خصم الأمة السياسي لم يتمكن من سياستها هذه السياسة إلا بعد أن أضعف أخلاقها، وكبلها بالقيود الاقتصادية الثقيلة، وذبذب أفكار أبنائها وعقائدهم وتركهم فوضى لا يعرفون جهة يوجهون إليها آمالهم، ولا مطمحًا تسمو نحوه نفوسهم، ونحن إذا أردنا أن نعمل للخلاص دون علاج هذه الحال طال بنا الأمد، وكنا فى كل مرة خاسرين، وكان هو الرابح، والتجارب تؤيد ذلك.
فمن خدمة القضية السياسية والعمل لها بل أكاد أقول: إن هذا هو الطريق الوحيد المنتج أن نعالج نواحي الإصلاح الأخرى ونضع لها دواء ناجعًا حاسمًا فى الوقت الذي يعمل فيه السياسيون للناحية السياسية الصرفة، فنتقدم خطوات فى كل ميدان.
ومن الغريب أن هذه الخطة -خطة تربية المناعة الخلقية، وفك القيود الاجتماعية والاقتصادية عن عنق الأمة- كانت السياسة التى اتجهت إليها نية زعيم كبير من زعماء الشرق الذين لهم فى نفوس أبنائه أكبر الأثر فى أخريات أيامه، وقد عرف عنه أنه جمع معاونيه الرسميين وغير الرسميين وأدلى إليهم بهذه الخطة الحازمة الحكيمة، ولولا أن القضاء عاجله لمس الناس آثارها واضحة جلية فى كل مناهجه.
خلاصة هذه الكلمة أن انصراف الأمة جميعًا إلى ناحية واحدة هى الناحية السياسية وإهمال بقية النواحي ليس من الحكمة فى شىء، ولسنا نقول بذلك: أهملوا قضيتنا السياسية -وهي مطمحنا، ولا دعوا الغاصبين يعبثون بحقوق البلاد المقدسة. كلاَّ فما إلى ذلك قصدنا، ولكنا نقول: ضعوا للنهضة منهاجًا شاملاً يصلح الأخلاق والاجتماع والفكر والاقتصاد، ويحقق آمال الوطن، ويسير بالأمة إلى الكمال.
ولعلنا إن فتشنا عن هذا المنهج لم نجده فى غير القرآن الكريم، وفى غير مبادئ الإسلام القويم، فإلى "منهج القرآن" أيها الزعماء والمصلحون(9).
طريقان
فى مصر نهضة ويقظة ودور خطير من أدوار الانتقال، ومصر فى هذا الدور على مفترق الطرق، وبعد أن تنكرت دعوة الإصلاح فيها للفكرة الإسلامية حينًا من الدهر أخذت تعود رويدًا رويدًا وتقرب من سياج الإسلام الميمون المبارك، ولست بصدد أن أتعرض هنا لفكرة الإصلاح العامة، أو النهضة العامة، ولكن أريد أن أتناول مظهر الإصلاح الإسلامي فى نهضتنا الحديثة، وطريقي المصلحين الذين يدعون فى هذا البلد بل فى الشرق كله إلى الإسلام.
انقسم الدعاة إلى فريقين: فريق جعل الإسلام أساسًا فعمد إلى الأصول الإسلامية يتفهمها، والنظريات الإسلامية يدقق فيها، وقواعد الإسلام الصحيح يستجليها ويخلصها مما شابها من آثار الحوادث والأيام، وعماده فى ذلك كتاب الله وسنة رسوله وفقه السلف الصالحين، وهم أعرف الناس بهذا الدين، جعل هذا أساسًا يرتكن إليه وترتكز دعوته عليه، ومقياسًا يقاس به كل ما عداه من مظاهر النهوض وآثار اليقظة، فإن اعترضته المدنية الأوروبية ومطالب العصر الجديد طبقها على هذا الأساس وقاسها بهذا المقياس، فما وافقه أخذ به وما خالفه أخذه بالتحوير والتغيير والتهذيب والتشذيب حتى يعود صالحًا لهذه القواعد، متناسبًا مع روح الإسلام وأصوله وعقائده، فإن استعصى على التهذيب وأبى إلا أن يناقض هذه الأصول ويشذ عليها حذر الناس منه ونفرهم عنه، وأبان لهم عن أضراره، وذكرهم بقول الله تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾[آل عمران: 149-150].
هذا الفريق من الدعاة أصاب كبد الحقيقة، ودعا إلى الإسلام بحق، وناصر دين الله، ولم ينخدع ولم ينحرف ولم تلعب برأسه الزخارف والأهواء، وهذا الفريق يقاسى عنتًا وشدة، ويجد أمامه عقبات ثقالاً فإن التيار يعاكسه ولا يوافقه، وموجة الشهوات تطغى عليه، وريح الزخرف الباطل تهب أمامه نكباء فتحول دون السفينة والسير، ويزيد ذلك عنتًا أن قومنا -سامحهم الله- تفرقوا فى دينهم، وأصيب كثير منهم فى أفهامهم فلبسوا الدين كما يلبس الفرو مقلوبًا، واختلط عليهم الأمر فلم يعرفوا ما يأخذون وما يدعون وكل حزب بما لديهم فرحون، وكل فتاة بأبيها معجبة.
وهذا الفريق صابر محتسب مجاهد فى سبيل عقيدته، عامل ما وجد إلى العمل سبيلاً فى مناصرتها؛ لأنه لا سبيل إلى نهوض الشرق إلا بهذا الإسلام الذى جعله الله هدى ونورًا، وهذا الإسلام عقيدة أقرها كتاب الله، وجعلها مهيمنة على النظم، قوامة على الشرائع، لا تحوير فيها ولا تبديل.
وهذا الفريق قليل قد يرى فيه الناس جمودًا، وقد يرى فى دعوته جفافًا؛ لأنه ينظر إليها بمنظار المتحلل الذى نسى المقصد الأسمى فى دين الإسلام، ولكنهم مع هذا ماضون فى خطتهم متوكلون على ربهم، شعارهم قول الله تعالى: ﴿وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾[إبراهيم: 12].
وفريق ثان من رجال الدعوة إلى الإسلام أيضًا أو ممن ينادون بهذه الدعوة طالت بهم الطريق، وعز عليهم الوصول إلى الغاية، ونالت منهم عقبات السير، وأخذت بأبصارهم زخارف مدنية الغرب، وغيرهم زبرجها، وضعفت فى نفوسهم المنعة الإسلامية؛ لتأثر ببيئة، أو قلة من محصول علمي، أو بعد عن روح الإسلام الصحيح، أو لغير ذلك من الأسباب، فجعلوا مدنية الغرب أساسًا يشكلون الإسلام على غرارها، ويطيعون قواعده ونظراته وأحكامه فى قوالبها، فما وافق هذه المدنية من الإسلام شادوا به وطنطنوا بفضله، واكتسبوا بذلك عطف الجماهير، ودعموا به ما ذهبوا إليه من الظهور بمظهر الذياد عن حمى الإسلام. وما استعصى من قواعد الإسلام ونظرياته على هذه المدنية وأبى أن ينطبق على قواعدها وأصولها قسروه على ذلك قصرًا، وقهروه قهرًا، وزادوا فيه أو ونقصوا، وغالطوا أفهامهم وأفهام الناس معهم، ووجدوا فى التأويل مندوحة أو شبه مندوحة، واتخذوا منه تكأة لما يريدون حتى يخرجوا من ذلك كله بإسلام أوروبي، [أو بأوروبية شبيهة بإسلام أو بعبارة أدق]، ثم تكون نتيجة جهادهم هذا أن يحللوا كل ما جاء به الغرب بنوع من أنواع الفتاوى والتمحلات، عماده التأويل والجور عن قصد السبيل.
وهذا الفريق يرى خدمة للإسلام، ويدعى أنه يماشى بذلك روح العصر، وأنهم هم العلماء العصريون بحق، أليسوا قد أوجدوا إسلاميًا عصريًا لا يتناقض مع مدنية الغربيين التى تغزو العالم الآن وتجلب عليه بذهبها وفضتها ونسائها ومتعتها وشهواتها لذائذها؟
وهذا الفريق يجد من ضعاف النفوس ومن ذوى الحظ القليل من البصر بدين الله من يصدق دعواهم، ويحصر زعامة الدعوة الإسلامية العصرية فيهم، ويسير على غرارهم، ويظن أن هؤلاء هم رسل العصر الجديد لإنقاذ الإسلام وأبناء الإسلام وتشريع الإسلام.
خذ مثلاً: وقف هذان الفريقان أمام تشريع الإسلام فى الربا، فأما الأولون فقالوا: حرم الإسلام الربا قليله وكثيره، ودقيقه وجليله، وأطلق التحريم فى ذلك فقال: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾[البقرة: 275]، وقال: ﴿وَذَرُوا مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَا﴾[البقرة: 278]، وقال: "كل ربا حرام", وروح الإسلام تؤيد هذا التحريم وتنادى به، ومدنية أوروبا الاقتصادية قامت على غير هذه النظرة، فنحن لا نعبأ بهذا ولا نلين فى ديننا لنجاري خصومنا، وعلينا أن نعمل حتى يؤيد الله كلمته وينصر دعوته.
وأما الآخرون فقد سلموا لهذه المدنية بنظريتها، وأخذوا يتلمسون التأويل لمجاراتها، فاستتروا بالأضعاف المضاعفة تارة، وبالفضل والنسيئة تارة أخرى، وبالضرورة والحاجة مرة ثالثة، وبغير ذلك من الألفاظ يديرونها على غير وجهها، ويقصدون بها غير ما وضعت له.
ومثلاً آخر: تشريع الإسلام فى الحدود إنما بنى على عقوبة الفاعل وزجر غيره؛ وهو لهذا يشتد ويقسو فى نوع من الجرائم لا يصلح فى علاجها إلا الشدة، ولا يزجر الناس عنها إلا القسوة، فيفتى بقطع يد السارق ورجم الزاني وجلده، ويقول فى ذلك الآيات المعروفة، وقد قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم يد المخزومية ولم يقبل شفاعة، وأمر برجم ماعز ولم يحاب فيه أحدًا.
والفريق الأول يرى أنه تشريع يجب أن يؤخذ كما هو، وأن يطبق كما طبقه السلف من قبل، ويعتقد أن فى ذلك صلاح الإنسانية، كما يؤيد ذلك الواقع فى البلاد التى تأخذ بهذا التشريع، ولكن مدنية الغرب أخذت فى ذلك باللين نزولاً على إرادة الشهوات ورياء لإنسانية كاذبة خادعة، فيريد الفريق الثاني أن يحابى هذا التشريع المدني، وأن يحاول التأويل والتعليل فيما أمر الله به وأخذه رسوله عنه.
وثم مثل كثيرة ترى فيها مسلك الفريقين يؤيد ما قدمت لك.
فأما الفريق الأول فهو على نور من ربه أخذ بعروة وثقى لا تنفصم عراها ولا يخيب من استمسك بها، فإن استطاعوا أن يقنعوا الناس فيها، وإن استشهدوا فى هذا السبيل فنعمت النهاية تحن إليها نفوسهم وتشتاقها أرواحهم، وقد أدوا الأمانة وصدقوا الله عهده.
وأما الفريق الثاني فقد خدع عن حقه وغلب على أمره، وإنك لتراهم يسيرون اليوم فى طريق فإذا رجعت عنه مدنية الغرب رجعوا خلفها، وحوروا ما وضعوا من أصول، ونقضوا ما أسسوا من قواعد، فهم كل يوم أمام أساس جديد، وإن مدنية أوروبا الآن تتحطم أصولها، وتتهدم قواعدها، وتنتقض على نفسها، ويتبرم بها أبناؤها، وهذه نظراتها السياسية قد هدمت بأيدي الدكتاتوريين، ونظراتها الاقتصادية قد حطمتها تلك الأزمة الخانقة التى يرزح تحت عبئها الناس، ونظراتها الاجتماعية قد عبثت بها المبادئ الجديدة المتطرفة من نازية وشيوعية وفاشيستية، وضج من هول آثارها الفلاسفة والمصلحون. فماذا يريدون سادتنا المتعبدون بمدنية الغرب بعد ذلك؟
يا قومنا أجيبوا داعى الله، وآمنوا به، واجعلوا الإسلام، والإسلام الصحيح، إسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الغر الميامين أساسًا لنهضتكم، فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض(10).
أمة فى ميدان الجهاد
ليست أمة أولى من أمم الشرق الإسلامي بأن تكون فى ميدان الجهاد، فقد دنت الآونة، وأزفت الآزفة، ولا ندرى لعل الساعة تكون قريبًا، فقد جاء أشراطها، وهذه نذرها تتوالى سراعًا وتمر تباعًا، وهي فرصة قد تكون لنا وقد تكون علينا، فهى إن انتهزناها وأحكمنا الانتفاع بها لنا نغسل فيها عار العبودية، ونتنسم نسيم الحرية، ونرد بها حقًا مغصوبًا ومجدًا مسلوبًا، وهي إن بغتتنا على غرة وأخذتنا ونحن فى غفلة علينا تعركنا بثقالها ويكون عليها غنمها ولغيرنا غرمها.
فأمم الشرق فى مركز حرج دقيق وليس أولى منها باليقظة والتبصر والحذر والاستعداد، فكل أمة من أمم الشرق أمة مجاهدة، ولقد زعموا أننا كذلك فهل هذا صحيح؟
أستطيع أن أتصور المجاهد شخصًا قد أعد عدته، وأخذ أهبته، وملك عليه الفكر فيما هو فيه نواحي نفسه وجوانب قلبه، فهو دائم التفكير، عظيم الاهتمام على قدم الاستعداد أبدًا، إن دعى أجاب وإن نودى لبى، غدوه ورواحه وحديثه وكلامه وجده ولعبه لا يتعدى الميدان الذى أعد نفسه له، ولا يتناول سوى المهمة التى وقف عليها حياته وإرادته يجاهد فى سبيلها، تقرأ فى قسمات وجهه، وترى فى بريق عينيه، وتسمع من فلتات لسانه ما يدلك على ما يضطرم فى قلبه من جوى لاصق وألم دفين، وما تفيض به نفسه من عزمة صادقة وهمة عالية وغاية بعيدة، ذلك شأن المجاهدين من الأفراد والأمم، فأنت ترى ذلك واضحًا جليًا فى الأمة التى أعدت نفسها للجهاد، تلحظه فى مجالسها وأنديتها، وتراه فى أسواقها وشوارعها، وتستشعره فى مدارسها وبيوتها، وتستجليه فى شبابها وشيبها ونسائها ورجالها، حتى ليخيل إليك أن كل مكان ميدان وكل حركة جهاد.
أستطيع أن أتصور هذا؛ لأن الجهاد ثمرة الإدراك يولد الشعور وينفى الغفلة، والشعور يبعث على الاهتمام واليقظة، والاهتمام يؤدى إلى الجهاد والعمل، ولكل ذلك آثاره ومظاهره.
أما المجاهد الذى ينام ملء جفنيه، ويأكل ملء ماضغيه، ويضحك ملء شدقيه، ويقضى وقته لاهيًا لاعبًا عابثًا ماجنًا فهيهات أن يكون من الفائزين، أو يكتب فى عداد المجاهدين.
والأمة التى ترى كل حظها من الجهاد كلمات تقال، أو مقالات تكتب، ثم إذا فتشت قلوب القوم وجدتها هواء، وإذا خبرت اهتمامهم بالأمر رأيته هباء، وانغمسوا فى غفلة لاهية ونومة عابثة، فمحالُّهم وأنديتهم ومجامعهم وبيوتهم لا ترى فيها إلا لهوًا ومجونًا وعبثًا ودعابة ولعبًا وتسلية وقتلاً للوقت فى غير فائدة، كل هم أحدهم متعة فانية، أو لذة زائلة، أو ساعة مرحة، أو نكتة مستملحة، فهذه الأمة إلى الهزل أقرب منها إلى الجد، بل لا حظ لها فى الجد أبدًا.
فأين نحن الآن من ميدان الجهاد؟ إن أردت أن تعرف فارقب الشواطئ والمصايف والمرابع والمخارف والقهاوى "والبارات" والمراقص "والصالات" والمجامع والمنتديات فهناك المجاهدون.
يا قومنا اسلكوا سبيلاً غير هذه، أو فدعوا علم الجهاد فسوف يأت ﴿اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ﴾[المائدة: 54](11).
سؤال؟
"ما السبب فى أننا نرى الشعوب المسلمة مستعمرة ذليلة، ونرى ما استقل منها أخذ يندفع فى طريق الخروج على التقليد والأخذ بما يسمونه التفرنج"؟ هذا هو السؤال الذي وجهه إلىّ صديق أعلم عنه التمسك بدينه والغيرة على أمته، ألقاه فى لهجة تنم عن ألم دفين ويأس من صلاح حال المسلمين، وما عرفت عنه من قبل إلا قلبًا مفعمًا بالأمل مغمورًا بالرجاء.
فأما أن المسلمين الآن مستعمرون أذلاء فليس لتعاليم دينهم فى ذلك جريرة، وعلم الله وشهد التاريخ أنهم يوم تمسكوا بها سادوا وشادوا وعمروا الأرض وأناروا للإنسانية طريق الفلاح، وأسعدوا الدنيا بحضارة لم تزل وستظل بهجة الحياة وحديث الدهر وعنوان الفضيلة، بعد ذلك تنكروا لدينهم وجهلوه وأهملوه ولبسوه كما يلبس الفرو مقلوبًا، وأمامك الإسلام بتعاليمه القرآنية وسماحته الفطرية وغرره النبوية، وأمامك ما يعيث به هؤلاء القوم ويسمونه إسلامًا أتراه يمت إلى الإسلام الصحيح بصلة قليلة أو كثيرة؟ خذ أى تشريع وتشريع الإسلام القويم وانظر بعد ذلك هل كان حظ قومنا منه إلا أنهم درسوه وحللوه وقسموه وحددوه وذرعوه وشبروه ثم تركوه وفارقوه؟ ومن ظريف المفارقات المبكية أن تدخل معهدًا من معاهد طلب العلم الديني فى مصر فترى الطلبة يتذكرون دروسهم، وفيهم من يتذكر أحكام الصلاة فيؤذن للوقت وتقام الصلاة وهم جلوس يتذكرون أحكام الصلاة؟! فحظ هؤلاء وأمثالهم من الإسلام أنهم درسوا الإسلام أما أنهم أسلموا فذلك ما لا أستطيع أن أسلمه لهم ولأمثالهم.
الإسلام دين يتسامى بنفس المسلم إلى أعلى حدود الكرامة، ويجعل له السيادة والعزة، فهل فهم المسلمون هذا وعملوا به، أم استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير فصار إسلامهم ذلاً ومهانة وضعفًا واستكانة؟
الإسلام ينادى بالجهاد فى سبيل الحق ويبوئ المجاهدين مقام درجات الدين، فصرفه المسلمون عن معانيه السامية إلى معانيه الدنية، وقنعوا من الجهاد بجهاد النفس كما وضعوا لأنفسهم لا كما أمرهم الله أن يكونوا..
الإسلام خلق وفضيلة وإيمان ورجولة فأين أخلاق المسلمين من تعاليم هذا الدين؟ يطول بى القول إذا أوردت لك ما يمر بك الدقيقة تلو الدقيقة من مفارقات القوم وخروجهم على ما سن لهم هذا الدين الحنيف من أخلاق.
كل خير فى تعاليم الإسلام، فيوم كان المسلمون مسلمين كانوا سادة، ويوم نبذوا هذا الإسلام وشرعوا لأنفسهم ما لم يأذن به الله وصلوا إلى ما هم فيه وسيظلون كذلك حتى يعودوا إلى دينهم ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾[الرعد: 11]، وصدق رسول الله القائل: "إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه حتى ترجعوا إلى دينكم".
وأما أن الشعوب التى استقلت اندفعت فى طريق نبذ التقليد والأخذ بالتفرنج فذلك لجهل قادة النهضة بتعاليم الإسلام وبعدهم عنها، ولرغبتهم فى تقليد الأمم الغربية ومسايرتها، ولضعفهم عن الوقوف أمامها والاعتزاز بما تراه هى حربًا عليها؛ ولأن كثيرًا منهم لا يمت إلى الشرق إلا بصلة المولد، وكثير منهم حرم حتى هذه الصلة، وإنما هم شرقيون مولدًا تربوا فى أحضان الغرب وكرعوا من بؤرة ثقافته وعاداته وأخلاقه وأفكاره، ثم رمى بهم الشرق فكانوا أشد عليه من الأجانب، ولأن المتدينين الذين صادفوا هؤلاء كان كثير منهم سبة على الدين، ومعوانًا لهؤلاء على هدمه ومحاربته فى أشخاصهم وأشخاص أعمالهم التى لا تمت إلى الإسلام الصحيح، فهؤلاء المجددون أحد رجلين: إما ماكر بالإسلام على علم، وإما مخدوع؛ لأنه يجهل تعاليم الإسلام، وكلاهما خطر.
وهم وإن ظهروا بمظهر القوة فى بادئ نهضاتهم فسيكون لذلك الأمر ما بعده، وسيكشف الزمن ما فى ذلك من تزييف.
لو أتاح الله لهؤلاء القادة من يبصرهم الرشد، ويزعهم عن التورط فى مثل هذه المهاوى السحيقة، وتريثوا وأخذوا يسيرون بأمتهم فى طريق تجديد إسلامي صحيح يعود بها إلى كتاب الله وسنة ورسوله لكان لهم فى العالم الآن شأن آخر، ولضمنوا لأنفسهم ولأمتهم نهضة موطدة الأركان ثابتة الدعائم، ولقدموا للإنسانية أجل خدمة تلهج بها الأجيال، وينير سناها ما بين المشرق والمغرب، ولكن حمى الاندفاع شديدة، وسورة التقليد غالبة، وسلطان الشهوات جبار، والأهواء تتجارى بأصحابها كما يتجارى الكلب بصاحبه، وهى تجربة قاسية ستكشف عن مر الثمر، وسيأتي اليوم الذى يعود فيه إلى نصابه، ويأبى الله إلا أن يتم نوره(12).
الإسلام والجندية والقوة
تحتاج الأمم الناهضة إلى القوة وطبع أبنائها بطابع الجندية، ولاسيما فى هذه العصور التى لا يضمن فيها السلم إلا الاستعداد للحرب، والتي صار شعار أبنائها جميعًا: القوة أضمن طريق لإحقاق الحق.
والإسلام لم يغفل هذه الناحية، بل جعلها فريضة محكمة من فرائضه، ولم يفرق بينها وبين الصلاة والصوم فى شىء، وليس فى الدنيا كلها نظام عنى بهذه الناحية لا فى القديم ولا فى الحديث كما عنى بذلك الإسلام فى القرآن وفى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته، وإنك لترى ذلك ماثلاً واضحًا فى قول الله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾[الأنفال: 60]، وفى قوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ﴾[البقرة: 216].
وهل رأيت منشورًا عسكريًا فى كتاب مقدس يتلى فى الصلاة والذكر والعبادة والمناجاة كهذا المنشور الذى يبتدئ بالأمر المنجز فى قوله تعالى: ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ﴾[النساء: 74]، ثم يبين الجزاء بعد ذلك: ﴿وَمَن يُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾[النساء: 74].
ثم يتلو ذلك باستثارة أنبل العواطف فى النفوس وهى استنقاذ الأهل والوطن فيقول: ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيرًا﴾[النساء: 75].
ثم يوضح لهم شرف غايتهم ودناءة غاية عدوهم ليبين لهم أنهم يجودون بثمن غال هو الحياة على سلعة غالية تستحقه وتربى عليه وهى رضوان الله، على حين يقاتل غيرهم لغير غاية فهم أضعف نفوسًا وأقوى أفئدة فذلك قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾[النساء: 76].
ثم يندد بالذين جبنوا عن أداء الواجب، وأخذوا التكاليف السهلة وتركوا تكاليف البطولة، ويبين لهم خطأ موقفهم هذا، وأن الإقدام لن يضرهم شيئًا، بل سيكسبون به الجزاء الكبير، والإحجام لا يغنيهم شيئًا، فالموت من ورائهم لا محالة، فيقول بعد الآيات السابقة مباشرة: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلاَ أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآَخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً * أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾[النساء: 77-78].
بربك أى منشور عسكري فى هذه القوة وفى هذا الوضوح، يبعث فى نفس الجندي كل ما يريد القائد من همة وعزم وإيمان.
وإذا كان قوام الحياة العسكرية فى عرفهم أمرين هما النظام والطاعة فقد جمعها الله فى آيتين من كتابه فقال تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾[الصف: 4]، كما قال تعالى: ﴿فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ﴾[محمد: 20-21].
وإنك إذا قرأت ما جاء به الإسلام فى إعداد العدة، واستكمال القوة، وتعليم الرمي، ورباط الخيل، وفضل الشهادة، وأجر الجهاد، وثواب النفقة فيه، ورعاية أهله، واستيعاب صنوفه لرأيت من ذلك مالا يحصيه الحصر، سواء فى الآيات الكريمة، أو الأحاديث الشريفة، أو السيرة المطهرة، أو الفقه الحنيف ﴿وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَىْءٍ عِلْمًا﴾[الأعراف: 89].
عنيت بذلك الأمم الحديثة فبنت أنفسها على هذه القواعد، ورأينا أساس فاشستية موسولينى، ونازية هتلر، وشيوعية ستالين أساسًا عسكريًا بحتًا، ولكن الفرق بين ذلك كله وبين عسكرية الإسلام فرق عظيم؛ فإن الإسلام الذى قدس القوة هذا التقديس هو الذى آثر عليها السلم فقال تبارك وتعالى بعد آية القوة مباشرة: ﴿وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾[الأنفال: 61]، وهو الذى حدد مظاهر النصر فقال تعالى: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾[الحج: 40-41]، وهو الذى وضع أساس القانون الدولي الحربى فقال تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾[الأنفال: 58]، ولأمر ما كانت وصية الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده لقواد جنودهم أروع مظاهر الرحمة والرفق: "لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا"، "ولا تقتلوا امرأة ولا طفلاً ولا شيخًا كبيرًا، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تعقروا بعيرًا إلا للأكل، ولا تتبعوا مدبرًا، ولا تجهزوا على جريح، وستمرون على أقوام ترهبوا فى الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له".
كذلك كانت العسكرية فى الإسلام "بوليس العدالة، وشرطة القانون والنظام"، أما عسكرية أوروبا الآن فقد علم الناس جميعًا عنها أنها "جيش الظلم وجند المطامع"، فأي الفريقين خيرٌ مقامًا وأحسن نديًا؟(13)
ليس الفاعل الحقيقي هو آخر من شهد الحادثة
فعلينا أن نتعاون على إصلاح ما تلف
ثم نفتش عن المسئول بعد ذلك
الواجبات فى هذا العصر ثقيلة ولا نستطيع أن نصل إلى الإصلاح المنشود إلا بالتعاون المخلص النزيه الذي تمده العزيمة القوية، وتؤازره المثابرة الدائمة. فى مصر وفى الشرق كله ميادين فسيحة للعمل، ومظاهر كثيرة للضعف والفساد يجب القضاء عليها. هذا التفكك فى العقائد، والتحلل فى الأخلاق، والإباحية فى الأعمال، وهذه المشكلات الاجتماعية الكثيرة، والأزمات الاقتصادية المتوالية كلها فى حاجة إلى عناية وعلاج وعمل دائم للإصلاح.
المفروض أن المسلم يجب أن يكون سيدًا فى كل شىء، وأن يكون أستاذًا لغيره، ومصلحًا لسواه، وقائدًا للعالم كله إلى الخير، وهذا مقتضى قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾[البقرة: 143]، فهذه القيود السياسية والاقتصادية، وهذا الأسر والتغلب الاجتماعي والفكري والثقافي كل ذلك فى حاجة إلى تحطيم حتى يتحرر المسلمون، وتعود إليهم منزلتهم التى فرضها الله لهم دوليًا واقتصاديًا واجتماعيًا وفكريًا، والتي لا تعود بالكلام والأماني أبدًا، ليس هذا بالأمر الهين أمام المنافسات العالمية الخطيرة، وفى هذا الدور الذى لا يزال الشرق فيه لين العظام، مهيض الجانب أمام جبروت الغرب وطغيانه، ولكن ليس معنى هذا أن نيأس ونسلم فإن العاقبة لنا والمستقبل يدعونا ولابد أن نعمل.
لاحظت أن الناس يحاولون دائمًا أن يلقوا عبء التقصير وتبعة هذا الفساد على جانب واحد ويهملون بقية الجوانب، وبناء على هذا الاتهام يوجهون كثيرًا من الجهود إلى الخصومة، ويصرفون كثيرًا من الوقت فى الجدل والنقد، وقلما يلتفتون إلى النصيحة المثمرة التى تنتج التعاون المخلص على تذليل العقبات، فأحب أن أوجه هذه الكلمة المتواضعة إلى كل من يهمه خير هذه الأمة من الهيئات والأفراد، علينا أن نلاحظ أن الفاعل الحقيقي ليس هو آخر من شهد الحادثة فقد يكون ذلك الشاهد أبعد الناس عن التهمة الموجهة إليه، وقد تكون هذه الحادثة نتيجة أسباب وعوامل تضافرت جميعًا على وقوعها قبل حدوثها بوقت طويل، وقد يكون هذا الشاهد عاملاً من مئات العوامل التى أنتج تواليها وتعاقبها هذا الأثر، يتهم كثير من الناس حكومة أو هيئة أو فئة من الناس بأنهم أسباب هذا الفساد كله، ويحملون عليهم عبئه ونتائجه، ويقذفون فى ذلك بأبشع الألفاظ وأقسى العبارات، فهل حقيقة نستطيع أن نحمل حكومة أو هيئة نتيجة فساد طال أمده، وتعاونت عليه هذه القرون، وتضافرت فى إيجاده عوامل الاجتماع والسياسة والاقتصاد، أجيالاً تغيرت فيها الحكومات وتعاقبت فيه الدولات، قد يقال: إن الحكومة القائمة هى أقدر الهيئات على الإصلاح لو أرادته، وذلك حق ولكن ليس معناه: أن نحملها تبعة الفساد القائم، ونحن جميعًا ومعنا شطر من الماضي المثقل بالحوادث الجسام نحمل هذه التبعة، بل معناه: أن نتعاون نحن وإياها على الإصلاح، فإن التعاون على الإصلاح أجدى من ضياع الوقت فى التفتيش عن المسئول، وللتاريخ بعد ذلك حكمه العادل.
ولا يتفق مع نهضة هذا الوطن وتبعاته وما ينتظر من أبنائه، أن نلجأ فى مثل هذا الوقت إلى استخدام الهيئات وابتكارها وخلقها لأغراض خاصة غير الأغراض الحقيقية الجدية التى يجب أن تشغل بال العاملين فى هذا العصر، فإن ذلك فضلاً عن أنه لا يتفق مع كرامة النهضة المرجوة، ومع ضمير الغيورين على خير هذا البلد، فإنه يضر بالهيئات العاملة -بحق- البعيدة كل البعد عن مظان الاتهام والريبة. واجب الحكومة فى هذا العهد أن تجمع ولا تفرق، وأن تنتفع بتوجيه كل الهيئات الصالحة إلى الخير، وأن تضن بالجهد والمال والتفكير على مقاومة جهود تحمل بذور الفناء فى تكوينها الأساسي، ولتدعها للزمن فهو كفيل بحسن توجيهها، وواجب الهيئات فى هذا العهد أن تتنزه عن شهوة الهدم للهدم، وعن الأغراض والأهواء، فإن العبء ثقيل وساعة الخطر قريبة وبوادره محدقة، وواجب الأفراد أن يجتهدوا فى إصلاح أنفسهم وما يستطيعون من بيئتهم، وأن يكونوا جندًا للإصلاح، وأينما دعا داعيه، فما أحوجنا إلى التعاون المخلص القوى النشيط(14).
لابد من أن نستكمل استقلالنا
الاجتماعي والاقتصادي والثقافي
وإلا فما ثمرة الاستقلال السياسي
لا أَعْرِض فى هذه الكلمة لاستقلالنا السياسي لا تنقصًا من قيمته ولا إهمالاً لشأنه، ولكن لأن قضيته بين يدي قضاة كثيرين يتداولونها ويدرسونها، ولأن الوقت الذي يصدر فيه الإخوان حكمهم فى هذه القضية لم يحن بعد، وسواء أكان هذا الاستقلال السياسي الذي حصلنا عليه كاملاً أم منقوصًا، مستوفيًا شروطه وأركانه أم لم تتم فيه هذه الشروط والأركان، فليس ذلك موضوع بحثنا اليوم.
ونحن نعتقد أن احتلال الأعداء للأموال والأولاد والرؤوس والنفوس أبعد فى الأمة أثرًا، وأشد عليها خطرًا، وأطول أمدًا من احتلال الدواوين والثكنات والقلاع والمعسكرات، وبعبارة أخرى: إن العدو إذا كان حظه من الأمة أضعاف قوتها الحربية يومًا ما، وفرض القيود السياسية عليها حينًا من الدهر، فسيأتي عليها اليوم الذى تقوى ويضعف، وتنتفض مطالبة بحقوقها غاضبة لحريتها فتحرر، ولكن إذا كان حظه منها أن يحتل أرواحها وأفكارها وينسيها مقوماتها ومميزاتها فإنها ستفنى فيه طائعة ويعز عليها بعد ذلك أن تجد نفسها بين الأمم، ومن هنا قال الاجتماعيون بخطورة الاحتلال الروحي، وأنه أقوى على هضم الشعوب وابتلاع الأمم من الاحتلال العسكري السياسي.
ونحن الشرقيين نقف من الغرب موقفًا متناقضًا غريبًا فبينما نبذل كل شىء ونجاهد ليلاً ونهارًا فى سبيل الحصول على استقلالنا السياسي، إذا بنا نستعجل فى شغف ولهفة احتلال الغرب الاجتماعي والروحي والفكري، ونلقى بأنفسنا فى أحضانه مسرورين.
هل نحن مستقلون فى مظاهر حياتنا الاجتماعية؟ الجواب: لا، إننا مقلدون بكل معنى الكلمة، مقيدون فى ذلك من هذا التقليد الغربي بأثقل القيود، مسرفون فى الإعجاب بهذه القيود المزخرفة إلى حد تضيع فيه كرامتنا، وتتحلل مميزاتنا وقومتينا، ويفنينا فى غيرنا فناء لا حياة بعده.
أدخل بيوت الرؤساء والكبراء وأعيان هذه الأمة المصرية المسلمة ووجهائها وكبار موظفيها من رئيس مصلحة فصاعدًا بل ونازلا، فهل ترى فى هذه البيوت كلها إلا مظاهر أوروبية، وعادات غربية، ولغة أجنبية، وخدمًا لا يمتون إلى مصر ولا ينتسبون إليها بنسب، وأولادًا من بنين وبنات فى مدارس الأعاجم ومعاهد الأعاجم؟! وفى هذه البيوت الأعجمية الغربية تتربى مصر العظيمة الحاكمة، مصر فى أعلى طبقات بنيها وأفلاذ كبدها، ومن هذه البيوت سيخرج الوزراء والحكام والموظفون العظام.
وكل الشعب يقلد ذواته وأعيانه وأولى الأمر فيه، ومظاهر الاستعمار الاجتماعي والاحتلال الاجتماعي تطغى وتستشرى حتى تعم الصغير والكبير، هل هذا لأننا أمة ليست لها مقومات اجتماعية، وليست لها مميزات سجلها التاريخ وزكتها الحوادث؟ لا، ولكن لأننا نسينا هذه المقومات إعجابًا بزخرف المدنية الغربية ولذاتها وشهواتها هذا من الوجهة الاجتماعية.
أما عن الوجهة الاقتصادية فاسمع لغة الأرقام، وحسبك أن تنعم النظر فى هذه الحقيقة لتعلم إلى أى حد نحن مستقلون اقتصاديًا. للأجانب فى مصر رءوس أموال تقدر بأكثر من أربعمائة مليون جنيه، ومصر تزرع ستة ملايين من الأفدنة، فكل فدان حينئذ مطالب بتسديد ستين جنيهًا وأكثر. لو شئنا أن نستقل اقتصاديًا فهل يفي ثمن أفدنتنا بهذا المقدار؟ دع الديون الأهلية وفوائدها، ودين الحكومة وملحقاته، وانظر من الذي يتحكم فى الأسعار والأسواق والأعمال والشركات كل هذا فى يد غيرنا ونحن له فيه تبع.
هذا الفقر المالي والقيود الاقتصادية التى تكبل مصر وتضغط على تقدمها الاقتصادي عبء ثقيل لا يحتمل، ولابد من النظر فى النهضة الاقتصادية حتى نتحرر من هذه القيود.
نحن لا نقول بعدم التعاون مع الأجانب فى رخاء مصر وإسعادها، ولكن الذى نريده ويجب أن نعمل [له هو] إعادة الأمور إلى نصابها، فيكون أهل الوطن هم الأصل، هم المحور الذى تدور عليه الأعمال، وغيرهم لهم فى ذلك مساعد وتبع، وإلا فلسنا بمستقلين استقلالاً حقيقيًا نفرح به ونحسد عليه. وهذا من الوجهة الاقتصادية كذلك.
وأما الوجهة الثقافية والفكرية فحسبك أن تعلم أننا لا نضع منهاجًا لشيء إلا نظرنا ما فعل الغرب، وحاكينا فى ذلك الغرب، واقتبسناه من الغرب، وحسبك أن ترى أن الطبقة المثقفة منا تؤثر أدب الغرب وأفكار الغرب ولغة الغرب فى التخاطب فيما بينها على كل ما يقابل ذلك من أفكارنا ولغاتنا ومظاهرنا الفكرية.
هذا الاختلال الروحي خطر أشد الخطورة على مستقبلنا، وما لم نتحرر اجتماعيًا واقتصاديًا وثقافيًا فإن حريتنا السياسية ستكون حرية مغلولة مقيدة.
ولئن كانت مهمة السياسيين فى هذا البلد وغيره من بلدان الشرق أن يكفلوا هذه الحرية السياسية ويصونوها، فإننا نرجو أن تكون مهمة الإخوان المسلمين تحرير الشعوب الشرقية من ذلك الطغيان الأقوى الأشد طغيان الاستعمار الروحي، بلفت نظر هذه الشعوب إلى الإسلام وتعاليم الإسلام ومبادئ الإسلام(15).
"افتتاح"
فى الميدان من جديد
بعونك اللهم، وفى رعايتك، وتحت لواء دعوتك المطهرة، وفى ظل شريعتك القدسية، وعلى هدى نبيك الكريم العظيم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تستأنف هذه المجلة "المنار" جهادها وتظهر فى الميدان من جديد.
رحمة الله ورضوانه ومغفرته "للسيد محمد رشيد رضا" منشئ المنار الأول ومشرق ضوئها فى الوجود، فلقد كافح وجاهد فى سبيل الدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه، وجمع كلمة المسلمين وإصلاح شئونهم الروحية والمدنية والسياسية، وهى الأغراض التى وضعها أهدافا لجهاده الطويل، حتى جاءه أمر ربه بعد أن قضت المنار أربعين عاما كانت فيها منار هداية ومنهج سداد وإرشاد.
ولقد ترك السيد رشيد فراغه واسعا فسيحا، وقضى وفى نفسه آمال جسام، وشاهد قبل وفاته تطورا جديدا فى حياة الأمة الإسلامية، فاستبشر بهذا التطور الجديد، وشام منه خيرا، وأمل فيه كثيرا، وعزم على أن يساير هذا التطور بالمنار ودعوة المنار وأن يجعل منها فى عامها الجديد (الخامس والثلاثين) لسان صدق لجماعة جديرة "بالدعوة إلى الإسلام وجمع كلمة المسلمين" تخلف "جماعة الدعوة والإرشاد" وتقوم على الاستفادة بالظروف الجديد التى تهيأ لها المسلمون فى هذا العصر. وقد كتب رحمه الله فى هذا المعنى فى فاتحة هذا المجلد ما نصه: "سيكون المنار منذ هذا العام لسان جماعة للدعوة إلى الإسلام وجمع كلمة المسلمين، أنشئت لتخلف جماعة الدعوة والإرشاد فى أعلى مقصديها، أو فيما عدا التعليم الإسلامي المدرسي منه الذى ضاق زمان هذا العاجز عن السعي له وتولى النهوض به فتركه لمن يعده التوفيق الإلهي له من الذين يفقهون دعوة القرآن وتوحيده ووحدة أهله وجماعته، ولا يصلح له غيرهم..." ثم ذكر بعد ذلك طرفا من تاريخ "مدرسة الدعوة والإرشاد" وما لقيت من عقبات ومعاكسات انتهت بالقضاء على فكرتها الجليلة، ثم قال بعد ذلك: وجملة القول: إننى على هذه التجارب، وما هو أوجع منها وألذع من أمر مشتركي المنار، وعلى ما أقر به من عجزي عن النهوض بالأعمال المالية الخاصة والعامة بالأولى، وعلى دخولي فى سن الشيخوخة وضعفها، لم أزدد إلا ثقة ورجاء بنجاح سعيي لأهم أصول الإصلاح الإسلامي وتجديد أمر الدين بما يظهره على الدين كله حتى تعم هدايته وحضارته جميع الأمم.. ولم أيأس من قيام طائفة من المسلمين بذلك تصديقا لبشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه: "لا يزال فى أمته طائفة ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى تقوم الساعة". رواه الشيخان فى الصحيحين وغيرهما بألفاظ من عدة طرق. وهذه الطائفة كانت فى القرون الأخيرة قليلة متفرقة.
إننى منذ سنتين أكتب عناوين خيار الرجال المتفرقين فى الأقطار الذين أرجو أن يكونوا من أفرادها على اختلاف ألقابهم وصفاتهم وأعمالهم لمخاطبتهم فى الدعوة إلى العمل، وأرجو من كل من يرى من نفسه ارتياحا إلى التعاون معهم على هذا التجديد والجهاد أن يكتب إلينا عنوانه وما هو مستعد له من العمل معهم إلى أن تنتشر دعوتهم الرسمية – وأهم ما يرجى من الخير لأمة محمد صلى الله عليه وسلم فى هذا العصر الذى تقارب فيه البشر بعضهم من بعض، فهو فى تعارف هذه الطائفة القوامة على أمر الله وتعاونها على نشر الدعوة وجمع كلمة الأمة بعد وضع النظام لمركز الوحدة الذى يرجى أن تثق به، فهى لا ينقصها إلا هذا، وقد طال تفكيري فيه، وعسى أن أبشرها قريبا بما يسرها منه- وأعجل بحمد الله تعالى أن تجدد لى على رأس هذه السنة ما كان لى ولشيخنا الأستاذ الإمام (قدس الله روحه) من الرجاء فى مركز الأزهر، وهو الذى يعبر عنه فى عرف عصرنا بشخصيته المعنوية، وهذا الرجاء الذى تجدد بتوسيد أمره إلى الشيخ محمد مصطفى المراغي عظيم.
كان الأزهر كنزا خفيا أو جوهرا مجهولا عند أهله وحكومته وعقلاء بلده لم يفطن أحد قبل الأستاذ الإمام لإمكان إصلاح العالم الإسلامي كله به، والاستيلاء على زعامة الشعوب الإسلامية فى الدين والأدب والفقه بإصلاح التعليم العام فيه، ولكن تعليم الأستاذ الإمام رحمه الله وأفكاره هما اللذان أحدثا هذا الرجاء فى طائفة من شيوخه، والاستعداد فى جمهور طلابه ولم يبق إلا الجد ولله الحمد." انتهى.
هكذا قضى السيد محمد رشيد حياته وفى نفسه هذه الآمال الجسام: أن يكون المنار بعد سنته هذه لسان حال جماعة للدعوة إلى الإسلام، وأن تتألف هذه الجماعة من ذوى العقل والدين والمكانة فى الشعوب الإسلامية، وأن يشد الأزهر أزر هذه الجماعة وتشد أزره فيكون من تعاونهما الخير كله.
ولقد كان السيد -رحمه الله- صادق العزم مخلص النية فى آماله هذه، فاستجابها الله له، وشاءت قدرته وتوفيقه أن تقوم على المنار "جماعة الإخوان المسلمين"، وأن يصدره ويحرره نخبة من أعضائها، وأن ينطق بلسانها ويحمل للناس دعوتها.
يا سبحان الله! إن جماعة الإخوان المسلمين هى الجماعة التى كان يتمناها السيد رشيد رحمه الله، ولقد كان يعرفها منذ نشأتها ولقد كان يثنى عليها فى مجالسه الخاصة ويرجو منها خيرا كثيرا، ولقد كان يهدى إليها مؤلفاته فيكتب عليها بخطه: "من المؤلف إلى جماعة الإخوان المسلمين النافعة"، ولكنه ما كان يعلم أن الله قد ادخر لهذه الجماعة أن تحمل عبئه، وأن تتم ما بدأ به، وأن تتحقق فيها أمنية من أمانيه الإصلاحية، وأمل من آماله الإسلامية.
لقد تمنى السيد رشيد رضا فى الجماعة التى اشترطها أن تقوم بأعلى مقصدي جماعة الدعوة والإرشاد؛ أى ما عدا التعليم المدرسي، ثم رجا أن توفق الجماعة الجديدة لهذا أيضا، وستحقق جماعة الإخوان المسلمين هذا الرجاء بتوفيق الله، فإن إصلاح التعليم المدرسي الرسمي من أخص مقاصدها، وإن أثرها فى طلاب الجامعة المصرية والمدارس المدنية من ثانوية وخصوصية لعظيم، وسنواصل الجهد حتى نصل إلى الغاية -إن شاء الله- ويصبح التعليم كله مركزا على أصول سليمة مستمدة من روح الإسلام وسماحة الإسلام وتعاليم الإسلام وحضارته ومجده والله المستعان.
ولقد أدرك الإخوان المسلمون منذ نشأت دعوتهم أهمية التواصل بين عقلاء المسلمين، فأخذوا يعملون لهذا، وأصبح لهم بحمد الله عدد عظيم فى كل قطر يعطف على فكرتهم ويؤيد دعوتهم، ولقد اقترح علينا أخونا المفضال السيد أنيس أفندي الشيخ -من وجهاء بيروت- أن نعمل ما عمله السيد رشيد، فنجمع عناوين ذوى المكانة من عقلاء العالم الإسلامي ونتصل بهم ونكتب فى جرائدنا عنهم حتى يتعرف بعضهم إلى بعض، والآن ننتهز هذه الفرصة فنوجه الرجاء الذى وجهه صاحب المنار من قبل إلى كل من يأنس من نفسه الغيرة على الإصلاح الإسلامي والاستعداد للعمل له من رجالات المسلمين أن يكتب إلينا عن الناحية التى يؤمل أن يعمل فيها، وحبذا لو تكرم فأضاف إلى ذلك إرسال صورته الشخصية، وسنفرد لنشر هذه العنوانات والصور صحيفة خاصة بالمنار نسميها "صحيفة التعارف" بين أنصار الدعوة إلى الإسلام، حتى إذا تكامل جمع يعتمد عليه فكرنا فى الطريقة المثلى لتبادل الآراء والأفكار.
ولقد أدرك الإخوان كذلك منذ نشأت دعوتهم ما للأزهر من شخصية معنوية، وأنه أعظم القوى أثرا فى الإصلاح الإسلامي لو توجه إليه، فاعتبروا أنفسهم عونا له فى مهمته، وتوثقت الروابط القوية بينهم وبين شيوخه وطلابه، وكان من هؤلاء الفضلاء ما بين علماء وطلبة طائفة كريمة لها أبلغ الأثر فى نشر دعوة الإخوان وخدمة فكرتهم التى هى فى الحقيقة أمل كل مسلم غيور وواجب كل مؤمن عاقل.
وإننا لنرجو أن نكون أسعد حظا من صاحب المنار -رحمه الله- فى حسن معاملة المشتركين فيها، فإن مال الدعوة -مهما كثر- قليل بالنسبة لنواحي نشاطها وتشعب أعمالها، فليقدروا هذه الحقيقة وسيجدون ما ينفقون فى هذه السبيل عند الله هو خيرا وأعظم أجرا.
ستعود المنار -إن شاء الله- إلى الميدان تناصر الحق فى كل مكان، وتقارع الباطل بالحجة والبرهان وشعارها الدعوة إلى الإسلام، والدفاع عنه، وجمع كلمة المسلمين، والعمل للإصلاح الإسلامي فى كل نواحيه، الروحية، والفكرية، والسياسية، والمدنية. ولقد كان للمنار خصوم وأصدقاء شأن كل دعوة إصلاحية، فأما أنصارها فنرجو أن يجدوا فى مسلكها ما يعزز صداقتهم لها وصلتهم بها، وأما خصومها فإن كانت خصومتهم للحق بالحق، فإننا على استعداد تام للتفاهم معهم على أساس كتاب الله وهدى رسوله صلى الله عليه وسلم، والعمل لخدمة هذه الحنيفية السمحة.
لم يكن الشيخ رشيد رحمه الله معصوما لا يجوز عليه الخطأ فهو بشر يخطئ ويصيب، ولسنا ندعى لأنفسنا العصمة فنحن كذلك، وما من أحد إلا ويؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، ولا نريد أن نعرف الحق بالرجال، ولكننا نريد أن نعرف الرجال بالحق، ومتى كان ذلك رأينا جميعا، ومتى كان شعارنا أن نرد التنازع إلى الله ورسوله كما أمرنا فقد اهتدينا ووصلنا إلى الحقيقة متحابين وانقضت الخصومة وولى الباطل منهزما زهوقا.
على هذه القواعد ندعو الأمة والهيئات الإسلامية جميعا إلى التعاون معنا سائلين الله تبارك وتعالى أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه. والله حسبنا ونعم الوكيل(16).
ثمن الحيــــاة
كان فيما أوحى به أبو بكر رضي الله عنه خالدا فى بعض غزواته: "يا خالد احرص على الموت توهب لك الحياة". وفى الحديث الصحيح يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك الأمم أن تتداعى عليكم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: من قلة نحن يومئذ؟ قال: لا. بل كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن فى قلوبكم الوهن. قيل: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهة الموت".
الآية الكريم تقول: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ*فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ*يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾[آل عمران: 169-171]
فالموت ثمن الحياة.. وحب الحياة نذير الموت...
وما أحكمها كلمة قالها أحد إخواننا وقد سأله إنسان لم مات المسلمون كلهم؟ فأجاب على الفور: لأنهم أرادوا أن يعيشوا كلهم. فالأمة التى تريد أن تعيش كلها لابد أن تموت كلها؛ لأنها لم تدفع من دمها ثمن الحياة.
هذا قانون لم يتخلف من قبل، ولا يتخلف اليوم ولن يتخلف من بعد لأنه سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.
هل تذكر تلك الأيام التى عرف العرب فيها معنى الحياة العزيزة الكريمة؟ وهل الحياة يا فتى إلا القوة والكرامة؟ وهل يقال للذليل حى بين الأحياء؟ هل تذكر يوم عرف العرب معنى الحياة من قوله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾[التوبة: 111]. ومن قوله: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ اللهِ﴾[التوبة: 41]. ومن قوله: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ﴾[آل عمران: 169]، ومن قول الرسول الصادق صلوات الله وسلامه عليه: "ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا". مع قوله عليه الصلاة والسلام: "والذي نفس محمد بيده لولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية تغزو فى سبيل الله عز وجل أبدا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة فيتبعوني ويشق عليهم أن يتخلفوا عنى، والذي نفس محمد بيده لوددت أنى أغزو فى سبيل الله فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل".
عرف العرب ثمن الحياة فبذلوه من دمهم وأموالهم، فكان أحدهم يأتى بماله ويقدمه فإذا سئل ما هذا؟ قال مالي كله. فإذا قيل له: وما أبقيت لعيالك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله. وكان أحدهم يندفع بين الصفوف حاسرًا لا يبالى أوقع على الموت أو وقع الموت عليه، بل كان أحدهم يقذف نفسه من على ليهبط على الألوف من الجنود فى معتقلهم، لا يرهب بأسهم ولا يخشى صولتهم ولا يخاف وحدته وانفراده، وعدته سيفه وإيمانه، فيقتحم الحصن ويفتح الباب ويرهب أهل الكفر وينصر الله عباده المؤمنين.
قال أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري للمسلمين يوم الحديقة، وقد تحصن بها مسيلمة وأصحابه: ما وقوفكم معشر المسلمين؟ قالوا وماذا نصنع قالوا ضعوا الحجفة على أسنة الرماح وارفعونى فوقها واقذفوا بى من السور تجاه الباب وقد فتح الله عليكم. ففعلوا. وقذف بالفارس المؤمن يحمله الهواء لا المظلة ويطير على جناح من إيمانه ويقينه فيهبط على القوم فى دارهم فيقاتلهم حتى يستشهد ولكنه قد فتح الباب وتم بذلك النصر.
وتسور الفدائيون الكرام من جيش عمرو حصن بابليون يقدمهم الزبير بن العوام وقذفوا بأنفسهم وسط حاميته من جند الروم فامتلكوه وألجئوهم إلى الفرار.
ولا جديد تحت الشمس يا هذا.
ثم ماذا كان من أمر أولئك العرب؟ جادوا بالدم والمال ودفعوا ثمن الحياة، فأنجز الله لهم وعده، ومكن لهم فى الأرض، وأزال لهم من الجبناء المستضعفين جزر السيوف وطعام الهام والرماح، ويوم ضعف هذا المعنى فى نفوس المسلمين ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا إليها وكفوا عن بذل الدماء والأموال، ذهبت عزتهم، ودالت دولتهم، ونال منهم الذين بذلوا ثمن الحياة من الدماء والأموال.
ومن عجيب أمر الذين يحبون الحياة ولا يدفعون ثمن الحياة العزيزة أنهم يفقدون الحياتين معا، ويدفعون هذا الثمن أضعافا مضاعفة وهم صاغرون، فإن من لم يمت فى سبيل عزته مات فى سبيل عزة غيره، ومع ذلك لا يعتبرون ولا يتعظون.
ولقد وجه الإخوان المسلمون منذ أول يوم فى دعوتهم النداء القوى الواضح إلى هذه الأمة جميعا -حكومة وشعبا- أن تستعد وتنهض، وأن تعد نفسها لتدفع ثمن الحياة يوم تطلب إليه بذلك هذا الثمن، وقلنا وكتبنا للحكومات المتعاقبة بهذا راجين أن تعمل دائبة على تقوية معنوية هذه الأمة وإصلاح الأخلاق وإعداد النفوس والأجسام لأداء ضريبة الحياة حين يطلب إلى الناس الأداء، وقلنا للشعب إن سنة الله لا تتخلف، فاحرص على الموت إن كنت تريد الحياة، وأهبنا بالزعماء وقادة الرأي العام أن يتركوا سبيل الجدل والكلام وينصرفوا إلى الجد وتهيئة الناس لأداء الواجبات الجسام للأغراض الجسام- ووقف الناس يتأملون ويتساءلون ما مغزى هذه الدعوة؟ وماذا يريد هؤلاء الناس؟ وما هذا التهور والاندفاع؟ وما قيمة هذا الكلام فى عصر السلام؟ ولا زلت أذكر مناقشة طريفة بيننا وبين موظف كبير لاحظ على شارة الإخوان المسلمين أنها تحمل صورة المصحف الكريم يحيط به سيفان يحتضنان أول الآية ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾[الأنفال 60]. قال هذا الموظف الكبير: إن هذا يخالف القانون، ويحسن أن تستبدلوا هذه الشارة بغيرها من شارات السلام. إن الجواب على هذا الاعتراض أيها السيد سيأتيك قريبا فى ذلك اليوم الذى يضطر الناس إلى امتشاق الحسام رغم السلام: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ﴾[الحج: 40]. أيها السيد دعونا نتحدث إلى الناس فلعلكم تحتاجون هذا الحديث فى يوم من الأيام.
ولا زلت أذكر ما كتبته إحدى الجرائد اليومية فى وقت من الأوقات مستعدية على الإخوان المسلمين وزير الداخلية حينا وشيخ الأزهر حينا، وتهيب بكل ذى سلطان أن يضرب على يدهم، لأنهم يقولون للناس يجب أن نكون أقوياء، لأنهم يعدوا أنفسهم لاحتمال تكاليف الحياة العزيزة؛ ولأنهم يطلبون إلى الحكومة أن تعين على ذلك هذا الشعب الأعزل الكريم.
والآن وقد جد الجد وهبت الأمم تدفع ضريبة الحياة، ومما يؤسف أنها ضريبة فاحشة قاسية، بل هى أفحش الضرائب التى عرفها التاريخ، فما مرت على الإنسانية أيام كهذه الأيام؛ تحصد فيها الأرواح حصد الهشيم، وتتناثر الأشلاء بلا عد ولا حساب.
ولا زلنا نسأل الله أن يقينا شر هذا البلاء المستطير؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم -وهو الذى حبب إلينا شرف الموت فى سبيل الله- هو الذى نهانا عن أن نتمنى لقاءه. ولكن –(إذا لقيتموهم فاصبروا) فما موقفنا إذا أرغمتنا الحوادث فطولبنا بأداء ضريبة الحياة.
الجواب شىء واحد لا تردد فيه: إن شرف الموت العزيز لا يقاس أبدا بتعاسة الحياة الذليلة، فموتوا كراما ولا تعيشوا أذلاء. هذا كلام لا تردد فيه ولا يحتمل إطالة النظر ولا تقليب الفكر، ولكن الذى من حقكم أن تفكروا فيه مطالبة الحكومة والزعماء أن يقدروا أثقل تبعة ألقيت على كاهل إنسان، فيتخيروا لهذه الدماء والأقوال أكرم عوض وأشرف ميدان، فإن مصر العزيزة لن تكون بعد أن ناضلت فى سبيل حريتها واستعدت للموت فى سبيل استقلالها ذنبا من الأذناب.
وقد اقترحت الوزارة فى هذه الأيام مشروعا يراد بها حماية الشعب وتقوية معنويته وبث روح الحماسة فيه وإعداد قسم كبير منه للعمل فى البوليس أحيانا، وفى الخدمات العامة أحيانا، وفى الدفاع المدني والعسكري أحيانا أخرى، ونحن نرحب بهذه الاقتراحات، ونرجو المزيد منها، ونذكر الحكومة بتبعاتها، ووجوب تقرير هذه التبعات، ونتمنى من وراء ذلك كله تقرير حقوق مصر، واستقلال مصر، وكرامة مصر، حتى يتفرغ العالم لتلقى رسالة الإسلام من جديد من يد مصر المؤمنة ومن ورائها شعوب الإسلام(17).
أزمة نفوس وأرواح
توالت الصيحات والمشروعات لإصلاح حال العالم الإنساني بعد الحرب، ونادى زعماء الأمم والشعوب بوجوب وضع قواعد هذا الإصلاح من الآن، فوضع "بيفريدج" مشروعه للضمان الاجتماعي، وتحدث عن ذلك المستر "تشرشل" والرئيس "روزفلت" وتناولت الجرائد والمجلات هذه المشروعات والتصريحات بالتصويب أو التجريح واشتجرت فيها الأقلام، فهل صحيح أن الأزمة أزمة فقر ومرض وجهل وقلة مواد وندرة خيرات وإلخ؟ هذه هى القائمة المادية التى يعددها هؤلاء المصلحون ويتوجهون إليها بالعلاج؟
نحن -الإخوان المسلمين- نقول بكل قوتنا: لا. فإن الخير فى الدنيا كثير، والمواد الأولية والخامات التى لم تصل إليها يد الإنسان أكثر بكثير مما استهلك وما وصلت إليه يده، ولا زالت فى الأرض كنوز بكر تسد حاجات العالم دهرا طويلا. وهذه الأمم المتنازعة القلقة الشاكية ليست الأمم الضعيفة ولا الفقيرة ولا المريضة، ولكنها الأمم والشعوب التى حببت إليها ثمرات كل شىء، والتي علمت من أسرار هذا الكون واستخدمت عناصر الطبيعة فيه ما لم يعلم غيرها، والتي تقدم فيها الطب وعنى فيها بالأجسام أدق العناية، وهي الأمم التى تنفق يوميا على الحرب الملايين من الجنيهات. أما الفقراء والمرضى والجاهلون فلا زالوا وادعين ساكنين وإن قذفتهم الحرب بنارها وتتطاير إليهم شررها.
وإذن فليست الأزمة أزمة الفقر والمرض والجهل، وإن كان الفقر والمرض والجهل فى الدنيا كثير.
ولكنها أزمة المبادئ والعقائد والنفوس والأرواح، أزمة (الإيمان) أيها الحائرون فى طريق الإصلاح. لو آمن الناس برقابة الله وعدالته واطلاعه عليهم ونظره إليهم وإحاطتهم بما يعملون، واستقرت فى أنفسهم معرفة الله العلى الكبير لألهمهم هذا الإيمان يقظة فى الضمير، وحياة فى الشعور، وعدالة فى التعامل، وتعاونا على مطالب الحياة، وبعدا عن الشرور والآثام.
ولو آمن الناس بالأخوة الإنسانية بينهم، تلك الأخوة التى تربط القريب بالبعيد، والغنى بالفقير، والصغير بالكبير والتي تسوى بين الأمم والشعوب والأجناس والألوان فى حق الحياة والعيش فى يسر ورخاء، واعتقدوا أن هذه الأخوة بينهم أخوة حقيقية وهي أولى الأواصر والروابط بالتقدير والتقديس، لألهمهم هذا الإيمان شعور العطف والرحمة والتكافل فى مطالب الحياة وحمل أعبائها على السواء.
ولو آمن الناس بالجزاء والحياة الآخرة، واعتقدوا أنهم مردودون إلى حياة أبقى وأخلد وأشقى أو أسعد، وأن هذه الدار الآخرة هى الحيوان، وأن ما يقدمون فى هذه الحياة الدنيا إلى إخوانهم وبنى جنسهم لن يضيع عليهم، بل سيعوضونه أضعافا مضاعفة والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
لو علموا هذا واعتقدوه وآمنوا به، لهان عليهم أن يبذلوا وأن يعطوا وأن يتكاتفوا وأن يتعاونوا على مطالب هذه الحياة.
ستشرق قلوبهم بالحكمة بهذا الإيمان، وسيفيض عليهم الإيمان بالله والأخوة والجزاء فلسفة عالية راقية، هى لب العلوم وثمرة المعارف، وهي خير ما عرفت الدنيا من فلسفات، وبذلك يبرئون من الجهل ويصبحون من أفاضل العلماء، وسيعصمهم هذا الإيمان من الفجور والإثم والموبقات والفحش، وهي سوس الجسوم ومباءة الأمراض، وبذلك يبرئون من الضعف ومن المرض، ويصيرون أصحاء أقوياء والوقاية خير من العلاج. وسيعلمهم هذا الإيمان كيف يتقاسمون هذه الخيرات، وكيف يتوجهون بجهودهم مجتمعة إلى الانتفاع بما لم تصل إليه أيديهم منها. فتكفى الجميع ويغتنى الجميع ولا يكون فى الدنيا فقير.
أيها المصلحون الحائرون الذين تتلمسون طرائق الإصلاح: كل هذه المشروعات أجسام لا روح فيها فجملوها ما شئتم، وحسنوها ما شئتم، وزينوها ما استطعتم التزيين، ولكن اعلموا أنها لن تغنى عن الناس شيئا ما دامت تفقد الروح، ومثلها كمثل التمثال من العاج يعرض فى "الفترينات" يحسبه الجاهل إنسانا وما هو بإنسان- ولكن ابحثوا مع هذا عن الروح لتنفخوها فى هذه الهياكل والأجسام.
ولن تجدوا "الروح" إلا فى النفوس وتطهير القلوب، ولن تصلوا إلى ذلك إلا بوحى السماء، فالقلوب بيد الله وحده يقلبها كيف شاء.
وإن ثروة المسلمين بقرآنهم ودينهم فى هذا المعنى لا نظير لها ولا كفأ. فخذوا أيها المسلمون من هياكل الإصلاح ما يتناسب مع أوضاعكم، واحرصوا على أن تنفخوا فيه روح الحياة من دينكم. وتلك مهمة الإخوان المسلمين(18).
فى معترك المبادئ والدعوات
هل نحن فى حاجة إلى أن نستجدى من الأجانب عنا أوضاع حياتنا ونظم مجتمعنا وقد نبتت فى بيئة غير بيئتنا ولأسباب ودوافع لا وجود لها عندنا؟
لقد ارتفعت أصوات بعض المفكرين فى مصر منذ وقت ليس بالبعيد بأنه لا مطمع لنا فى الرقى والتقدم إلا إذا نهجنا نهج الغربيين، ونقلنا عنهم كل مظاهر حضارتهم؛ خيرها وشرها، حلوها ومرها، نافعها وضارها، ما يحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب ومن زعم غير ذلك فهو فى عرف هؤلاء المفكرين حينذاك خادع أو مخدوع".
ولكن سوء استخدام المقربين لنعمة الله عليهم بالعلم والعرفان وجحودهم هذه النعمة باستخدامها فى الظلم والعدوان استنزل عليهم غضب الله ونقمته فأخذهم بعذاب بئيس بهذه الحرب التى مزقتهم كل ممزق: ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾[النحل: 112]. ولا أظن أن أحدا من هؤلاء المفكرين ينادى اليوم بما جهر به بالأمس بعد أن شهد مصارع القوم.
وشهدت الدنيا بعد نهاية الصراع الدامي بين المتحاربين صراعا فكريا جديدا تنفق فى سبيله الأموال، وتبذل الجهود الجبارة، وتستخدم كل أساليب الدعاية؛ هو صراع وقف العالم فيه ثلاث معسكرات؛ معسكر الديمقراطية أو الرأسمالية؛ وتتزعمه أمريكا وإنجلترا، ومعسكر الشيوعية وتقوده روسيا السوفيتية، ومعسكر المترقبين المنتظرين الذين تجتذبهم قوى اليمين تارة وقوى اليسار تارة أخرى.
والدول العربية والإسلامية من هذا الفريق وإن كان معظمها أو كلها سياسيا تقول إنها إلى جانب المعسكر الأول ولكنها مع هذا تتنازعها -ولا شك فكريا- معانى المقارنة بين النظامين، وتدفعها الظروف إلى هذا التفكير، ويتأثر الكثير من جماهيرها بأساليب الدعاية التى تمدها، وتعين عليها حالة القلق التى استولت على العالم وهو لم يستقر، وكثير من العوامل الداخلية فى كل أمة من هذه الأمم.
وإن من الواجب على كل مخلص غيور على مصلحة هذه الشعوب العربية والإسلامية أن ينصح لها، وأن يبصرها بما بين يديها، وأن يساعدها وما استطاع على الخروج من هذه الحيرة، وأن يذكرها بكثير من الحقائق التى إن ذكرتها جيدا فهى -ولا شك- ستخرج من نطاق هذه الحيرة بأسرع مما تتصور، وستجد أمامها طريق النور والسعادة واضح المعالم لا تعب فيه ولا عناء.
نحب أن نذكر هذه الأمم بأنها مصدر الهداية الربانية، ومشرق شمس الوحى الإلهي، ومنبع الحضارات والفلسفات الخالدة الباقية على الزمن، وأن الإسلام الحنيف -وهو ختام هذه الرسالات الربانية- قد أراحها من عناء التقليد، وارتفع بها عن أن تكون عالة على سواها من الأمم، بل إنه حفظ لها مرتبة الأستاذية فى العالمين، وترك بين يديها ميراثا ضخما من المبادئ والآراء والنظم والتوجهات جمعت عصارة الخير وخلاصة الصلاح فى كل هذه النظم الوقتية التى ولدت فى ظروف طارئة وستموت قريبا فى ظروف طارئة أخرى، ولا تمتاز الدعوات الجديدة عن دعوة الإسلام الخالدة إلا بما تمتاز به قطعة من البلور المصقول عن جوهرة من الماس الخام، لن تحتاج إلا إلى الفهم والصقل والترتيب والتنظيم وحسن الانتفاع وقوة النفوس التى تؤمن بذلك وتعلن عنه وتجاهد فى سبيله.
على الأمم العربية والإسلامية أن تذكر هذا جيدا، وأن تخرج سريعا من حيرتها وتدع الترقب والانتظار، وتستخلص من الإسلام الحنيف نظام حياتها، وتلتقى عليه، وتستفيد منه مهما اختلفت فيها العقائد أو الأديان، فالإسلام دين للمسلمين وقومية للعرب أجمعين: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾[الزخرف: 44].
إن تبعة مصر فى هذا ثقيلة؛ لأنها مطمح أنظار العرب والمسلمين جميعا. وإن دول العروبة والإسلام لمسئولة بين يدى الله والتاريخ عن الطريق التى تقود إليها هذه الأمم والشعوب، وعلى مصر أن تبدأ فتطهر نفسها من أدران وأخطاء الرأسماليين، لتقطع الطريق بذلك على المترقبين والمتربصين.
وسيكون لهذه الجريدة -إن شاء الله- جولات فى هذا الميدان نتناول به هذا الإجمال بالتفصيل: ﴿وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ﴾[الأحزاب: 4](19).
افتتاح
الحمد لله. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وعلى أنبياء الله ورسله، ومن دعا بدعوتهم إلى يوم الدين. وسلم تسليما كثيرا:
﴿رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا﴾[الكهف: 10].
﴿رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ﴾[آل عمران: 8].
﴿رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾[البقرة: 286].
"اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ونتوب إليك ونؤمن بك ونتوكل عليك ونثنى عليك الخير كله، نشكرك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد ولك نصلى ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق".
من قنوت عمر رضى الله عنه فيما أخرجه محمد بن نصر والبيهقي وقال: صحيح موصول. وقد ورد فى سنن البيهقي فى باب القنوت من حديث خالد بن عمران أن جبريل عليه السلام علمه النبى صلى الله عليه وسلم ليقنت به حين كان يدعو على مضر. وهو مرسل لأن خالدا لم يدرك الني صلى الله عليه وسلم.
وبعد: فهذه مجلة "الشهاب" نتقدم بها إلى القراء الكرام، إنسانية الاتجاه، إسلامية المنهج، نرجو أن تكون قبسا يضئ للمتصلين به طرائق الحياة، مستمدا نوره وسناه من هدى القرآن الكريم وشريعة الإسلام العظيم.
الإسلام كنظام اجتماعي:
ولقد جاء الإسلام الحنيف نظاما اجتماعيا كاملا –لا مجرد دين لاهوتي- يقوم على مخاطبة الفطرة الإنسانية، واستثارة ما فيها من قوى روحية تتمثل عقائد ثابتة وخلائق فاضلة، وأفكار عالية، وأعمالا نافعة، وتنظم ملكات الفرد، وحياة الأسرة، وطبقات الأمة، وواجبات الدولة، وعوامل الاتصال والأخوة بين العالمين.
ثم هو يرد ذلك كله إلى قواعد اجتماعية حكيمة دقيقة، تمتزج فيها المثالية السامية بالواقعية الملموسة التى تتصل بدنيا البشر وحياتهم اتصالا وثيقا، حتى إنه ليحول كثيرا من هذه القواعد النظرية إلى أعمال يومية تتكرر كل صباح ومساء فى غاية من البساطة والسهولة واليسر: ﴿مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[المائدة: 6].
أسلوب العرض
وطريقة عرض هذه الأحكام الإسلامية على الناس تختلف -ولا شك- باختلاف الأزمان، والبيئات، والعقول، والمدركات، وبخاصة فيما يتصل بالشئون الاجتماعية والسياسات المدنية. ولقد اجتهد السلف الصالح -رضوان الله عليهم- فى الكشف، والاستنباط، والتدوين، والكتابة، والعرض بما يتفق مع أسلوب عصرهم ومعارف زمانهم، وتركوا لنا ميراثا ضخما لا نظير له، تتمثل فيه عقليات العصور المختلفة، والمدارس الفكرية المختلفة، والأزمان المتفاوتة التى عاشت مع هذا الإسلام وعاش معها هذا الإسلام وارتبطت به وارتبط بها فى كل شئون الحياة.
وورثنا نحن -أبناء هذا العصر الأخير- هذا الميراث، فلم نفكر فى الاستفادة منه أو الانتفاع به، أو الكشف عن درره وجواهره. ولم نفكر فى الأسلوب الذى نعرضها به على أنفسنا وعلى غيرنا عرضا صحيحا جذابا، يدفع إلى العناية بها، ويلفت الأنظار والنفوس إليها ويضاعف إفادتنا منها.
ولا شك أن ذلك كان أثرا من آثار انصرافنا عن اعتبار الإسلام نظاما اجتماعيا للحياة بما وقر فى صدورنا من تقديس مظاهر الحياة الغربية واعتبارها المثل الأعلى فى مناهج الحياة، وطغيان هذه الموجة من موجات التقليد الغربي التى غمرتنا فى التفكير والثقافة، وفى التعليم والتربية، وفى نظام الحكم وأساليب السياسة، وفى التشريع والقانون، وفى المنزل، والشارع، والمتجر، والمصنع، وفى كل أوضاعنا الحيوية والاجتماعية- حتى أصبحت شريعة الإسلام العملية ونظامه الاجتماعي أمورا أثرية للنظر والعلم والتاريخ لا للعمل والتطبيق والتنفيذ. وهكذا ضاق فهم الكثير من أبناء الإسلام للإسلام حتى جعلوه قاصرا على هذه الموروثات من العقائد والآداب العامة والمعتادات من ضروب العبادات، وحتى هذه البقية لم تسلم من الخرافة فى الأولى ومن الابتداع فى الثانية.
إهمال وجمود
ومع تغير أوضاع الحياة باستمرار، ومع أن الزمن يدور دورته دائما ولا ينتظر المتخلفين، ومع أنه قد تجددت فى المجتمع الإسلامي -بحكم التطور الدائم والمتغير الدائب- أوضاع وصنوف من التعامل والصلات لم تكن من قبل، وقف أمامها المؤمنون بالإسلام حائرين لا يدرون ما حكمه فيها وما نسبتها إليه. فأعمال البورصة والبنوك المختلفة، والتأمين على الحياة، والأسهم والسندات فى الشركات، وعمليات القطع وصور المبايعات الجديد، والنظم السياسية الناشئة التى تقوم على الحزبية أو سلطة الحاكم أو حق الأمة، وحقوق الفقراء فى مال الأغنياء، ونسبة طبقات المجتمع بعضها من بعض، كل هذه أمور صارت تشغل أذهان الجماهير والشعوب فى هذا العصر، وتتصل بواقع حياتهم وتشكلها الحياة بمقتضيات الظروف والضرورات كيفما اتفق. كل ذلك والعلماء المختصون بالتحقيق والتمحيص يرون وينظرون ويسمعون ولا يفعلون شيئا: إما لأن الكثير منهم يرى أنه لا فائدة فى الاهتمام بمسائل نظرية تجرى العمليات فيها على نمط غير إسلامي فلا فائدة من إظهار رأى الإسلام فيها وهو خطأ ولا شك، فمهمة العالم البيان ومحاولة حمل أهل التنفيذ عليه، فإن عجز فقد أدى واجبه وأعذر إلى الله. وإما لأنهم يرون بعد الشقة، وضخامة المجهود الذى يجب أن يبذل فى البحث والمقارنة مع عدم تهيؤ وسائل التعاون وانصراف الحكومات والهيئات العلمية المختصة عن التفكير فى ذلك واشتغالها عنه بمشاكلها الإدارية والخاصة، وهو تقصير لا بد أن يتدارك مهما كلفنا من ثمن.
وهكذا نرى أن أحكام الإسلام قد أهملت، وعواطف المؤمنين كادت تخمد بين حيرة وتقصير كان عنهما الجمود والحرمان.
ومنذ سنوات تقدم فضيلة الأستاذ الشيخ "محمود شلتوت" عقب انضمامه إلى هيئة كبار العلماء المصرية باقتراح إلى هذه الهيئة يطلب إليها توجيه جهودها إلى هذه الناحية، وتناولت الصحف السيارة هذا الاقتراح بالتشجيع، ولكن نتيجة عملية لم تظهر إلى الآن. ونرجو أن تظهر فى القريب إن شاء الله.
موجة جديدة:
وقد أنتجت الحوادث العالمية -وأهمها الحرب الماضية العالمية الثانية- انقلابا سياسيا وفكريا واجتماعيا خطيرا؛ إذ تحطمت مظاهر الأفكار القديمة، والأوضاع السابقة كلها، ووقف العالم على مفترق طريقين: طريق الأفكار الشيوعية التى تتزعمها وتدعو إليها روسية السوفيتية، وطريق الأفكار الديمقراطية التى تدعو إليها وتتزعمها أمريكا وإنجلترا. وكلا التيارين مسلح بالمظاهر المادية، والنظريات الجدلية، واستثارة المطامع والشهوات الإنسانية. وقد امتد أثر هذه الموجة الجديدة إلينا، بل إنها لتغمر مجتمعنا الإسلامي فى كل مكان. ففى بوادي الحجاز وصحارى اليمن ومجاهل إفريقيا وهضاب آسيا وسهول مصر، وبين البدو والحضر، وفى القرى والمدن، وفى كل مكان صرنا نسمع كلمات الشيوعية، والديمقراطية، والنازية، والفاشية، وملحقاتها وما يشتق منها ويتصل بها، ويحاول المبشرون بهذه الأفكار أن يركزوها على قواعد من المنطق والفكر، وأن يلبسوها ثوب العقائد الثابتة، ويصلوها بالمشاعر والوجدانات الأصيلة فى الإنسان، ويزينوا للأمم والشعوب فوائد الأخذ عنها، ويدفعوهم دفعا إلى الإيمان بها والارتماء فى أحضانها، مع أن الإسلام الحنيف قد كفى الله به وأغنى من حيث الأفكار، أو المشاعر، أو الأوضاع العملية.
هذه الموجة الجديدة الطاغية تجتاح أرضنا فى قوة واندفاع، ونحن فى حالة تذبذب بين الاتجاهين ولابد من الاستقرار، فدوام هذا التردد من المحال، والاستقرار على قواعد أحد المذهبين من أخطر الخطر على كيان الأمم العربية والإسلامية والشرق كله، فليست هذه المبادئ إلا فورات وقتية لأعراض فساد اجتماعي مكبوتة فى بيئة من البيئات، ثم تطورت إلى أستار حريرية تخفى وراءها مطامع الغاصبين وأحلام المتسيطرين، ولا نجاة للعرب ولا للمسلمين ولا عزة للشرق إلا أن يتخلص منها جميعا ويستمد من نفسه ويعتمد على نعمة الله التى أنعم بها عليه، فهو مهد النبوات، ومهبط الوحى ومشرق الرسالات، ووارث كتب السماء وهدايتها إلى الأرض، وقد تبلورت هذه المعاني العليا جميعا فى كتاب الإسلام الحنيف وهدى رسوله العظيم سيدنا "محمد" النبى الأمى الذى يؤمن بالله وكلماته صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وكل هذه الأحداث تجرى فى قوة وسرعة والرجال المختصون بالبحوث الإسلامية لا يقدرون الأمر قدره، ولا يهتمون بما يحدثه هذا التطور الجديد فى الكيان الإسلامي نظريا وعمليا من عميق الآثار.
مع أنها فى الحقيقة فرصة سانحة لا يمكن أن تعوض ليعرض فيها الإسلام كنظام اجتماعي كامل شامل يفضل كل ما عداه ولا يفضله نظام سواه، والحجة واضحة والبرهان قائم. ولله الحجة البالغة ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾[يوسف: 21].
القضية الأولى: وعلى هذا فستكون القضية الأولى فى رسالة "الشهاب" علاج هذه الناحية علاجا دقيقا، ومحاولة تقديم رسالة الإسلام الحنيف على أنه "نظام اجتماعي لا مجرد دين لاهوتي"، والمقارنة بينه وبين قواعد النظم الاجتماعية الأخرى التى خلبت ألباب الناس وملكت عليهم مشاعرهم واستهوت أنظارهم وأفئدتهم، ليرى المنصفون بالدليل المنطقي والتحليل العلمي والبحث المجرد أنه قد جمع محاسنها كلها، وتنزه عن مثالبها ومساويها، وأنه أولاها جميعا بالتطبيق والتنفيذ، وأن هذا هو الأساس الوحيد لإنشاء العالم الجديد الذى يقوم على الحق والفضيلة، والأخوة والتعاون والسلام، فيسعد فى الدنيا ويفوز فى الآخرة ولله عاقبة الأمور.
القضية الثانية: على أن الإسلام نفسه لم يسلم عند المسلمين من أن يلصق به ما ليس منه، وينسب إليه ما ينكره أشد الإنكار! وهو بطبيعته التى أظهره الله بها سهل بسيط ميسور لا حرج فيه ولا غموض، وإنما عقدته آراء الناس ولونته أفكارهم فى مختلف العصور والأزمان. ولقد كان الرجل من البادية يجلس بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم بضع دقائق أو ساعة من نهار فيقوم مسلما أفضل ما يكون المؤمنون إيمانا، لصفاء فطرته، وسلامة نفسه، وسهولة الإسلام وبساطته ويسره. وكان الإسلام حينذاك حياة قلبية تنصب فى النفوس، ونورا ربانيا يشرق على الأفئدة، وأعمالا مخلصة يقصد بها وجه الله، وتجردا للحق وفناء فى سبيله تعلو به دعوة الخير وتسود، فتحول ذلك كله إلى نظريات فى الكتب، وألفاظ على الشفاه، وأعمال بحكم العادة، وتجارة باسم الحق للحصول على مغانم الدنيا، ومحال أن تنهض على هذه القواعد دعوة، أو تحيا أمة أو تقوم دولة!.
وعلى هذا فستكون "القضية الثانية" محاولة عرض أحكام الإسلام الحنيف على المسلمين أنفسهم عرضا فطريا بسيطا على النحو الذى عرفها عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان، قبل تبلبل الأفكار، وتفكك الوحدة، وغلبة الدنيا، واستبداد الأهواء بالجماعات والأفراد على السواء.
وإن شئت قلت إن هذه هى القضية الأولى والسابقة تليها وتلحق بها، فهذه تأسيس وتلك تحصين وأنت بهذا لم تعدم الصواب.
القضية الثالثة: والدين منذ عرفته البشرية على هذه الأرض، وجاء به أنبياء الله ورسله نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وغيرهم صلوات الله وسلامه عليهم يقوم -أول ما يقوم- على الاعتقاد والإيمان بالله الخالق المتصف بكل كمال، والمنزه عن كل نقص، وعلى ما يتبع هذا الاعتقاد من إيمان بأفعال الله، ونسبة أفعال المخلوقين إليها، وإيمان بالأنبياء والرسل الذين بعثهم الله لهداية عباده، والكتب السماوية التى أنزلها عليهم تتضمن شرائع دينه. وعن هذه العقائد التى تتصل بحقائق الدين العليا انبعثت أرقى الحضارات وأخلد المدنيات، وأسمى الأخلاق، وأفضل الأعمال.
والماديون ينكرون على الدين هذه العقيدة ويجادلون فيها أشد الجدال، ويصفون بالخرافة والضعف هذه العقلية "الغيبية" التى تؤمن بإله لا تراه، ويريدون أن يقرروا فى الأذهان والنفوس أنه لا شىء هناك إلا فى هذه المادة الصماء وما يتصل بها من قوى، وما يعرض لها من تفاعلات، وأنه لا رقى ولا تقدم إلا فى ظل هذه العقلية "العلمية" البعيدة عن أوهام الدين وخرافات المتدينين.
القضية الرابعة: ومسألة أخرى لا تقل فى الأهمية عن سابقتها وهي تتممها وتلحق بها؛ تلك هى "حقيقة الإنسان وماذا وراء هذا الوجود المادي". فهل الإنسان هو هذا الهيكل المادي بلحمه ودمه وعظمه وعصبه وما تنتج هذا الأخلاط والأجهزة من تطورات فيزيولوجية؟ وهل تقف حدود الكون عند هذا الوجود المادي بأرضه وسمائه ومائه وهوائه وجماده وحيوانه وإنسانه، وليس وراء ذلك إلا ما هو من جنسه من نتاج المادة وآثارها؟ يقول الماديون: نعم لا شىء إلا هذا! ويقول الدين والإيمان: لا إن لهذا الإنسان "حقيقته الروحية ولطيفته الربانية التى أودعها الله فيه"، والتي تحمل هذا الهيكل وهو لها كالغلاف، وعنها يكون الوجدان والإرادة والإدراك وهى العقل أحيانا والنفس أحيانا والروح أحيانا أخرى، وهى سر الإنسانية، ومناط التكليف والجزاء فى الدنيا والآخرة, وإن وراء هذا الوجود وجودا آخر لا يقوم على جنس هذه المادة، بل له كيانه الروحي الذى تعرف آثاره، وتدق حقيقته عن الإدراك وهو ينتظم ما يطلق عليه فى عرف الشرعيين "عالم السمعيات" ويكاد يكون تاريخ الفلسفة الإنسانية هو تاريخ النزاع بين الملحدين والمؤمنين فى هاتين القضيتين؛ قضية الألوهية وما يلحق بها وقضية الروح وما يتبعها، وهذا النزاع يتجدد دائما كلما ساعدت الظروف الاجتماعية أحد طرفيه على القوة والظهور.
ولقد لازمت المدنية الغربية الحديثة، والحياة الغريبة العصرية التى تعتمد على الكشف والاختراع والعلم التجريبي الذى أنتج الآلات الهائلة وكون الثروات الضخمة وأمدهم بكل مظاهر القوة، واصطدم بكثير من تعاليم الكنيسة المتوارثة عندهم -فكرة الإلحاد والتملص من تبعات الإيمان الديني حينا من الدهر، حتى استردت البحوث النفسانية والروحية بعض قوتها فى ذلك المحيط خلال السنوات الأخيرة، ولكن الحرب الثانية ما كادت تنتهى حتى أخذ هذا النزاع يتجدد فى ثوب من المبادئ والتعاليم الاقتصادية المحببة إلى النفوس المغرية بالآمال.
ولقد تأثرنا نحن فى مصر وفى سائر البلاد العربية والإسلامية بهذه النعرات الفكرية والاجتماعية والنفسانية العنيفة بحكم اتصالنا بأمم الغرب وشعوبه، وكانت أعراض هذا التأثر تبدو فى كثير من الأحيان فى صور شتى من ألوان الإنتاج الفكري، ورغبات الإصلاح الاجتماعي. ولابد لنا من علاج هذه القضايا فى كثير من الجرأة. قديما كان التعصب وصفا يكاد يكوم ملازما لجماعة المتدينين، فصار اليوم ألصق ما يكون بهؤلاء الماديين الذين جمدوا على آرائهم الباطلة وإن خالفت الدليل الواضح والبرهان القاطع! والهداية من الله ﴿فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَاءِ﴾[الأنعام: 125] .
ومع أن هاتين القضيتين من صميم البحوث الإسلامية، إلا أننا سنعنى بعلاجهما والتعرض لهما عناية خاصة فى بحوث هذه المجلة لأهميتها وحاجة المجتمع – وبخاصة بين المثقفين- إلى الاستقرار النفساني والعقلي فيهما.
وأظن أنك قد عرفت من هذا الكلام أن القضيتين الثالثة والرابعة هما قضيتا الألوهية وما وراء المادة.
رسالة الشهاب:
وعلى هذا فسيكون أول ما تعنى به "الشهاب" علاج هذه القضايا:
1- محاولة عرض الأحكام الإسلامية عرضا مبسطا عمليا شاملا يوافق أسلوب العصر.
2- ومحاولة تقديم الإسلام كنظام اجتماعي كامل لا مجرد دين نظري لاهوتي.
3- والدفاع عن أحقية عقيدة "الإيمان بالله".
4- والانتصار "للروح الإنساني".
وستقدم هذه الحقائق للقراء الكرام فى ثوب من نصوص الدين وبحوثه أحيانا، ومن التاريخ أو الأدب أحيانا أخرى، مع التعرض لعلاج بعض مظاهر النقص فى المجتمع، وبيان طرائق العلاج ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، ومع عرض الموقف العام للعالم الإسلامي فى كل شهر، وتسجيل أهم الحوادث فيه، وأظهر الأخبار المتعلقة به. والله المستعان.
المنار والشهاب:
ولقد سبقت مجلة "المنار" التى كان يصدرها الأستاذ الكبير "السيد محمد رشيد رضا" رحمه الله فى هذا المضمار سبقا بعيدا، وأسست مدرسة فكرية إسلامية تقوم على قواعد هذا الإصلاح الإسلامي الجليل لازالت آثارها باقية فى نفوس النخبة المستنيرة من رجال الإسلام إلى الآن، ونافحت عن حقائق هذا الدين ومقاصده أقوى دفاع، ووقفت للملحدين والإباحيين والجامدين بالمرصاد، مما جعل لها أجمل الأثر فى خدمة الإسلام لهذا العصر فى مصر وغيرها من الأقطار.
كما قامت مجلة "الشهاب" الجزائرية التى كان يصدرها الشيخ عبد الحميد بن باديس -رحمه الله- فى الجزائر بقسط كبير من هذا الجهاد، مستمدة من هدى القرآن الكريم وسنة النبى العظيم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وإنا لنرجو أن تقفو "الشهاب" المصرية الناشئة أثرهما، وتجدد شبابهما، وتعيد فى الناس سيرتهما فى خدمة دعوة القرآن وتجلية فضائل الإسلام، على أن الفضل للمتقدم وفضل السبق ليس له كفاء. والله المسئول أن يحقق الآمال، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشدا. آمين(20).
يجربون كل وسيلة للعلاج
ويحاربون الوسيلة الوحيدة النافعة
الفساد عام شامل فى البر والبحر بما كسبت أيدي الناس:
فى النفوس والأوضاع..
وفى الأسر والأفراد..
وفى المدارس والمعاهد بل فى المساجد والمعابد..
الكل متبرم بحياته ساخط على عيشته يطلب المزيد، وقد ينفق فيما لا يجدى ولا يفيد.
والكسل والتراخي والفتور والعجز والرشوة والمحاباة والاستهتار والمطالبة بالحقوق وإهمال الواجبات والخصومة البغضاء... كلها ظواهر أصبحت تعم الجميع إلا من عصم الله، وتتجلى على قسمات الوجوه فى الشدة والرخاء على السواء، ويجرب المسئولون وسائل كثيرة للعلاج.. فيجربون الدراسات الفنية، ويؤلفون اللجان الإدارية، وينفذون الحلول الوقتية من أنصاف إن أرضى طائفة أسخط الآخرين وتنسيق إن أفاد جماعة أضر بالباقين، ووعود لا تحقيق لها ولا يمكن أن تتحقق، تزيد بها ثورة الثائرين.
يجرب المسئولون هذه الوسائل وأشباهها، ولكنهم يحاربون الوسيلة الوحيدة الناجعة النافعة التى تستأصل الداء، وتقضى على العلة، وتجتث أصول الفساد.
إن العلة –أيها الناس- فى النفوس أولا.. ولا ننكر أبدا أن الأوضاع العملية والوسائل المادية لها أثرها البالغ فى طمأنينة النفوس، واستقرار الأمور، ولكن "القلب الإنساني" كان وما يزال وسيظل.. هو "حقيقة الإنسان" وهو "مصدر السعادة" أو الشقاء مهما كابر المكابرون وألح المعارضون، وإذا خلا هذا القلب من الإيمان، وأفقر من اليقين وحرم نعمة الاتصال بالله رب العالمين فلن يسعد أبدا ولن يجد الطمأنينة والعزاء أبدا، وسيظل شقيا ولو جمعت لديه متع الحياة وأغدق عليه نعيم الأولين والآخرين ﴿نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾[الحشر: 19].
وهذا الشعب فى وادي النيل ومعه الشعوب العربية والإسلامية شرقا وغربا، عاشت بهذه الفلسفة الربانية طيلة حياتها سعيدة بما جاءها به موسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم من وحي السماء، واستمدت من هذا المعين الروحي سعادتها وسلامها وطمأنينتها، منذ فجر التاريخ إلى أن غالت هذه المعاني العالية غول المادية الغربية الطاغية فتبدلت بالنعيم هذا الشقاء وبالصلاح هذا الفساد وبالعافية ما هى فيه اليوم من عناء وبلاء.
ووسيلة العلاج الوحيدة: أن يعود بها المسئولون عنها والمتحكمون فى [...] وأن يطبقوا فيها نظام دينها وأن يسلموا معها لله رب العالمين. وهذا هو الذى يدعو إليه الإخوان المسلمون، وأنتم له كارهون ﴿وَيَا قَوْمِ مَا لِى أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِى إِلَى النَّارِ﴾[غافر: 41].
هذا العامل المتطوع فى جنوب فلسطين من الإخوان المسلمين، ترك عمله، ونسى أهله، وشغل عن كل شىء إلا عن الجهاد فى سبيل إنقاذ العروبة وإعزاز الإسلام فى الأرض المقدسة، فى الوقت الذى تشتد فيه فى العمال روح التذمر من كثرة ساعات العمل وقلة الأجور.
هذا الزارع الفقير يبيع بقرته ويترك فى المنزل حصته، ويشترى بثمن ذلك بندقية، ويسرع مهاجرا إلى ربه، منضما إلى المجاهدين فرحا مسرورا مستبشرا محبورا يتمنى الموت بثغر باسم ووجه ضاحك وقلب مطمئن سعيد. فى الوقت الذى تشرئب فيه الأعناق إلى الملكيات الصغيرة أو الكبيرة، وتتطلع الآمال إلى الإقطاعيات الزراعية والأرض الحكومية، وماله هو ولكل هذا، وما عند الله خير وأبقى فى روضات الجنة فى مقعد صدق عند مليك مقتدر.
هذا المهندس والمدرس والطبيب والمحامي والموظف الكبير يخلع كل منهم عن كاهله عزة الوظيفة وأبهتها وعلاوتها ودرجاتها ويفر من ذلك كله إلى رحاب الموت وساحات القتال. وما أروع وأجمل وأجل وأعظم رؤية هؤلاء جميعا! يعملون فى حفر الخنادق، وحراسة المعسكرات، ورفع الألغام، وحمل المهمات. فى الوقت الذى تضرب فيه الطوائف طائفة بعد طائفة مطالبين فى إلحاح بأن تعينهم الحكومة على تكاليف الحياة.
بنفسي هؤلاء الأبطال المغاوير جميعا!! ما الذي جعلهم هكذا وأنشأهم خلقا آخر؟ إنها العقيدة، إنه الإيمان، إنه القلب الإنساني أساس التحول فى حياة الإنسان ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾[الرعد: 11].
فى الوقت الذى يقف فيه العالم كله أمام فكرتين خاطئتين قاصرتين من شيوعية مضللة وديموقراطية مبلبلة يتحتم علينا -إن أردنا نحن لأنفسنا النجاة- أن نعلنها إسلامية فاضلة كما يدعو إليها الإخوان المسلمون، وأن يكون فى هذا الإعلان صادقين ولأحكامه منفذين، لا أن نكون لهم محاربين ولنشاطهم معطلين، وبغير هذه الوسيلة الوحيدة فلا صلاح ولا نجاة.
﴿يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِىَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ*.وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِىَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِى ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾[الأحقاف: 31-32].
ومن لا يجب داعى الله فليس بمعجز فى الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك فى ضلال مبين(21).
المصادر
- مجلة الفتح، العدد (145)، 15ذو القعدة 1347ﻫ/ 25أبريل 1929م، ص(1).
- جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (8)، السنة الأولى، 11ربيع الثاني 1352ﻫ/ 3أغسطس 1933م، ص(1-3).
- جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (15)، السنة الأولى، غرة جمادى الثانية 1352ﻫ/ 21سبتمبر 1933م، ص(1-3).
- جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (22)، السنة الأولى، 26شعبان 1352ﻫ/ 14ديسمبر 1933م، ص(1-4).
- جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (29)، السنة الأولى، 8ذو القعدة 1352ﻫ/ 22فبراير 1934م، ص(1-3).
- جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (30)، السنة الأولى، 15ذو القعدة 1352ﻫ/ 1مارس 1934م، ص(1-3).
- جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (31)، السنة الأولى، 22ذو القعدة 1352ﻫ/ 8مارس 1934م، ص(1-3).
- جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (32)، السنة الأولى، 29ذو القعدة 1352ﻫ/ 15مارس 1934م، ص(1-3).
- جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (30)، السنة الثانية، 21شعبان 1353ﻫ/ 29نوفمبر 1934م، ص(3-6).
- جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (17)، السنة الثالثة، 7جمادى الأولى 1354ﻫ/ 6أغسطس 1935م، ص(3-6).
- جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (18)، السنة الثالثة، 14جمادى الأولى 1354ﻫ/ 13أغسطس 1935م، ص(3-4).
- جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (23)، السنة الثالثة، 19جمادى الثانية 1354ﻫ/ 17سبتمبر 1935م، ص(3-5).
- جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (38)، السنة الرابعة، 15شوال 1355ﻫ/ 29ديسمبر 1936م، ص(1-3).
- جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (6)، السنة الخامسة، 16ربيع الثاني 1356ﻫ/ 25يونيو 1937م، ص(1-2).
- جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (7)، السنة الخامسة، 23ربيع الثاني 1356ﻫ/ 2يوليو 1937م، ص(1، 7).
- المنار، المجلد (35)، الجزء الخامس، 1جمادى الثانية 1358- 18 يوليو1939، ص(3-7).
- مجلة التعارف، العدد (16)، السنة الخامسة، السبت 2 جمادى الأولى سنة 1359ﻫ- 8 يونيه سنة 1940م، ص(1-2).
- الإخوان المسلمون، العدد (15)، السنة الأولى، 28 ربيع أول 1362/ 4 أبريل 1943، ص(3-4).
- الإخوان المسلمون، العدد (313)، السنة الثانية، 20جمادى ثانى 1366- 11/5/1947، ص(1-2).
- مجلة الشهاب، العدد الأول، السنة الأولى، غرة المحرم 1367ﻫ- 14 نوفمبر 1947م، ص(1-9).
- الإخوان المسلمون اليومية، العدد (595)، السنة الثانية، 27 جمادى أولى 1367 –7 أبريل 1948، ص(1).