إعداد موقع الإمام حسن البنا
لم يأت الإمام حسن البنا بدعوة قومية أو محلية أو إقليمية لكنه دعى لمفهوم الإسلام الشامل الذي لا تقف أمامه حدود، واعتبر كل أرض ينتشر فيها الإسلام هي من أرض المسلمين.
ولقد جبل الله النفس على حب الأوطان وغرس فيها هذه المعاني لترسيخها في النفوس، ولقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى وقت هجرته من مكة إلى المدينة فقال فيما رواه ابن عباس: أما والله إني لأخرج منك وإني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلى الله، وأكرمه على الله ؛ ولولا أهلك أخرجوني منك ما خرجت](رواه الترمذي). فهذه المعاني قد حض عليها الإسلام، ورسخها في القلوب والعقول، فالولاء للوطن أمرٌ فطري يلازم الضمائر.
ومفهوم الأمن القومي لا يمكن التوصل إلى تحديد دقيق له خارج نطاق المكان والزمان الذي يتحرك من خلاله، وهو يخضع دائماً للتعديل والتطوير انسجاماً مع المتغيرات والعوامل التي تؤثر في بروزه إلى مسرح التداول.
وهو ما أدركه الإمام حسن البنا في البيئة التي ولد وترعرع فيها – والتي لم تقف عند حدود وطنه- حيث كان الاستعمار الغربي جاسم على صدر الأمة الإسلامية من شرقها لغربها، في محاولة منه لطمس هويتها، والعمل على تغريبها وفق حضارته. ولذا سعى إلى زيادة النعرات القومية، والدعوات عن الانفصال عن دولة الخلافة الإسلامية، وعقد الاجتماعات لتغيير خريطة الوطن الإسلامي، وخط بينهم حدود، ووضع على التنقل من بلد لبلد أخر القيود، وسعى لإضعاف الانتماء للوطن، وحاول جعل الانتماء له فقط.
في هذا الجو ولد حسن البنا لكن حرص والده منذ صغره على تربيته التربية الإسلامية، فشب الطفل كارها للمحتل، معتزا بانتمائه للإسلام والوطن الإسلامي كله.
وطني الإسلامي
المتتبع لجهود الإمام البنا سيجده لم يختزل الوطن في بلده مصر بل شمل كل بلد إسلامي، وكل مسلم ينطق بالشهادتين هو أخو له في الدين، ولا فرق بينهما رغم بعد المسافات.
ومع اختلاف معاني الوطنية عند البعض وحصرها فيما بين الحدود، لكن الإمام البنا وسع مفهومها لتشمل الوطن الإسلامي كله، وأمن كل شبر مسئولية كل المسلمين، وهو ما جعله يتكل في مفهوم الأمن القومي.
و جاءت اتفاقية “ويست فاليا” الموقعة عام 1648م، لتنهى مئات الأعوام من الحروب المذهبية والطائفية فى أوروبا، وبعدها تشكلت بوضوح “الدولة القومية” ذات السيادة على الشعب والأرض وفق حدودها الجغرافية المعتمدة والمعترف بها براً وبحراً وجواً.
لكن فى نفس الوقت كان انتشار الاستعمار الغربي لعدد كبير من بلدان القارات، ولذا حرص الاستعمار الأوروبي مع معرفته للحدود الجغرافية لهذه الشعوب وتلك الكيانات إما إلى الإبقاء عليها أو تعديلها على النحو الذي يحقق مصالحه ويجعلها مرتبطة به، وظهر ذلك واضحاً فى رسمه لخريطة الجناح الشرقي للوطن العربي فى اتفاقية سايكس بيكو عام 1920، ويتحكم من خلال ذلك فى أمنها القومي.
ولقد اعتبر الإمام الشهيد ان إخراج المحتل وتحقيق استقلال الوطن وتحريره من كل سلطان أجنبي فى شتى المجالات، هدفاً رئيسياً تعمل عليه الجماعة وتحشد له طاقات الأمة، وهو يمثل المحور الأساسي لهذا الأمن القومي ووضع لذلك مسارات وبرامج وخطوات(1).
مفهوم الأمن القومي
لم يكن هذا المصطلح يعرف في التاريخ القديم أو الوسيط، وبدأت جذوره تظهر في القرن السابع عشر، وبخاصة بعد معاهدة وستفاليا عام 1648 التي أسست لولادة الدولة القومية أو الدولة – الأمة Nation – State وشكلت حقبة الحرب الباردة الإطار والمناخ اللذين تحركت فيهما محاولات صياغة مقاربات نظرية وأطر مؤسساتية وصولاً إلى استخدام تعبير “استراتيجية الأمن القومي”. لكنه شاع وانتشر بعد الحرب العالمية الثانية(2).
لكن ليدل هارت يرى أن المصطلح يرتبط ببعض القضايا الهامة وهي (حماية الدولة وبقائها وضمانة أمن حدودها المحيطة والحفاظ على المصالح الحيوية للدولة) وهو ما يجعل منابع النيل تعد من أمن مصر القومي.
الأمن القومي من منطلق إسلامي
يَحتاجُ الإنسانُ لأن يَعيشَ في حالةٍ من الأمن والاستقرار كي يَستطيع مُمارسة أنشطته بكلّ أريحيّةٍ، ولأجلِ ذلك فرضت الشّريعة الإسلامية مقاصد وضرورياتٍ يجبُ الحفاظ عليها وهي: النّفس، والدين، والعِرض، والمال، ولا يُمكن لدولةٍ أنْ تتقدّم وتَتطوّر وتُحقّق الرفاهية لمواطنيها إلّا بتحقيق الأمنِ والاستقرار.
وفى ظل الاحتلال الإنجليزي لمصر، لم يكن هناك رؤية محددة لأمنها القومي، فلم يكن همّ الاحتلال إلا بسط سيطرته بأشكالها المختلفة، وإضعاف مقدرات الأمة المصرية داخلياً وخارجيا وتحقيق أهدافه من هذا التواجد العسكري.
والمنطقة العربية كلها كانت فى حالة من الضعف والتمزق وظهرت فيها دعوات وحركات عدة تحاول أن تقدم رؤية للبعث العربي وفق أيديولوجيات وفلسفات مختلفة.
لقد اعتبر الإمام البنا ان إخراج المحتل وتحقيق استقلال الوطن وتحريره من كل سلطان أجنبي فى شتى المجالات، هدفاً رئيسياً تعمل عليه الجماعة وتحشد له طاقات الأمة، وهو يمثل المحور الأساسي لهذا الأمن القومي ووضع لذلك مسارات وبرامج وخطوات.
فيقول: " إن حقوقكم قد اجتمعت عليها كلمتكم، وارتبطت على المطالبة بها قلوبكم، وهي الجلاء التام عن وادي النيل بلا مراوغة ولا تسويف، ووحدة الوادي بلا تردد ولا إمهال، وحل المشاكل الاقتصادية المعلقة بيننا وبين الإنجليز على وجه السرعة، حتى تتنسم البلاد ريح الحرية، ويطمئن الناس على حياتهم ومستقبلهم.
والإخوان المسلمون إذ يضعون هذه الحقوق والأهداف من رسالتهم موضع العقيدة والإيمان أنها ليست مما يصح أن يكون محلا للمساومة على الإطلاق، وكل من حاول ذلك فهو خارج على وطنه متحمل وحده تبعة عمله منبوذ من سائر المواطنين(3).
أمن مصر الحدودي
يحد مصر شمالا البحر المتوسط، كما يحدها جنوبا دولة السودان الشقيق، وغربا دولة ليبيا، وشرقا البحر الأحمر، وتشترك فلسطين وقطاع غزة والأراضي المحتلة بحدودها الشمالية الشرقية.
فقد حباها الله بحدود طبيعية وأخرى حدود مشتركة مع دول عربية إسلامية قبل أن يسعى المحتل لزعزعة استقرار هذه البلاد ويبذر بذور الشر الصهيونية في الحدود الشرقية لمصر، وهو ما جعل سيناء في مرمى الخطر الصهيوني.
سيناء وأمنها القومي في نظر الإمام البنا
نظر حسن البنا إلى سيناء وتعميرها كخطوة أساسية ومهمة في حفظ المن القومي لمصر، وقد سبق كل من تحدث عن الأمن القومي للبلاد فنكتب يحذر الحكومة من تجاهل سيناء وعدم الاهتمام بها فقال:
إن سيناء المصرية تبلغ ثلاثة عشر مليونا من الأفدنة أى ضعف مساحة الأرض المنزرعة فى مصر، وقد كشفت البحوث الفنية فى هذه المساحات الواسعة أنواعا من المعادن والكنوز فوق ما كان يتصور الناس، واكتشف فيها البترول حديثا، ويذهب الخبراء فى هذا الفن إلى أنه فى الإمكان أن يستنبط من سينا من البترول أكثر مما يستنبط من آبار العراق الغالية النفيسة، وأرض سيناء فى غاية الخصوبة وهي عظيمة القابلية للزراعة.
ويطالب الحكومة بنقل الجمرك على الحدود وإنشاء جامعة لتعزيز الأمن القومي للبلاد فيقول:
فمن واجب الحكومة إذن أن تعرف لسيناء قدرها وبركتها ولا تدعها فريسة فى يد الشركات الأجنبية واللصوص والسراق من اليهود، وأن تسرع بمشروع نقل الجمرك من القنطرة إلى رفح، وأن تقيم هناك منطقة صناعية على الحدود. فلعل هذا من أصلح المواطن للصناعة، ويرى بعض المفكرين العقلاء أن من الواجب إنشاء جامعة مصرية عربية بجوار العريش تضم من شاء من المصريين، ومن وفد من فلسطين وسورية والعراق ولبنان وشرق الأردن وغيرها من سائر أوطان العروبة والإسلام، ويرون فى هذه البقعة أفضل مكان للتربية البدنية والروحية والعقلية على السواء.
وحرام بعد اليوم أن تظن الحكومة أو يتخيل أحد من الشعب أن سيناء برية قاحلة لا نبات فيها ولا ماء فهي فلذة كبد هذا الوطن ومجاله الحيوي ومصدر الخير والبركة والثراء، ونرجو أن يكون ذلك كله بأيدينا لا بأيدي غيرنا.
كما نريد أن تؤمن حدودنا الشرقية بحل قضية فلسطين حلاً يحقق وجهة النظر العربية أيضًا، ويحول دون تغلب اليهود على مرافق هذه البلاد، نحن نطالب بهذا؛ لأنه تأمين لحدودنا، ومصلحة مباشرة لنا(4).
لقد أدرك الإخوان أن إنشاء كيان صهيوني في فلسطين يعني تنفيذ المخططات الاستعمارية في البلاد العربية، وأن هذا الكيان سيشكل قاعدة للدول الاستعمارية ويعمل على فصل الدول العربية عن بعضها ويهدد كيان العرب فقضية فلسطين "كارثة خطيرة تهدد كيان العرب ووجودهم لا في فلسطين وحدها بل في جميع البلاد العربية إذ لم يعد خافياً أن الصهيونيين لا يطمعون في فلسطين وحدها بل في جميع البلاد العربية" وأن مصلحة أمريكا وانجلترا السياسة أن يثبتوا شوكة يهودية في جسم الدول العربية حتى يأمنوا جانبها وحتى يهددوا هذا الجسم العربي بالانحلال السريع"(5).
تنبه الإخوان للأخطار الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية التي تهدد العالم العربي والإسلامي من جراء المشروع الصهيوني وقد ركز الإخوان على الخطر الاقتصادي على الشرق الأوسط نتيجة صغر مساحة فلسطين مما سيدفع كبار الممولين اليهود المهاجرين إلى فلسطين إلى محاولة استثمار أموالهم في البلاد العربية المجاورة وتصريف منتجاتهم في دول الشرق الأوسط مما سيؤدي إلى "خراب اقتصاد واضطراب مالي" كما حذر الإخوان من الخطر الاجتماعي المترتب على قيام الكيان الصهيوني حيث ستلجأ الصهيونية إلى نشر الإباحية والإلحاد وقد عبر البنا عن هذه الأخطار بقوله "أنه لن تقوم في أي دولة صناعة ناجحة ولا تجارة رابحة وستقضي المنافسة الصناعية والتجارية على كل أمل لهذه الأمة العربية والإسلامية في التقدم والنهوض هذا فضلاً عن الفساد الاجتماعي الذي تحمله جراثيم هذه الرؤوس اليهودية الطريدة من كل دولة مما يشيع في هذه المجتمعات الكريمة أسوأ ما في الإباحية والإلحاد والتحلل، وكل خلق فاسد مرذول(6).
الأمن القومي والحدود الشرقية
نظر حسن البنا لمسألة الأمن القومي منذ نشأة الجماعة وبالرغم من كونه لا يعتد بالحدود بين الدول العربية والإسلامية والتي صنعها المستعمر لأنها قسمت الدول لشيع وكيانات مختلفة ومتعصبة، وقد جاء ذلك في شعر السكرتير العام للإخوان الأستاذ عبد الحكيم عابدين حيث قال:
ولست أدرى سوى الإسلام لى وطنًا الشام فيه ووادي النيل سيان
وكلمـــا ذكر اسم الله فى بلــد عددت أرجاءه من لب أوطاني
إلا أنه ومع ذلك أهتم البنا بحدود مصر الشرقية والتي كانت تهددها الأخطار الصهيونية والتي غرست بأيدي المستعمر لتعمل على زيادة الفرقة بين الكيانات الإسلامية، وحذر من خطورة هذا الجسد الغريب الذي زرع بين البلاد الإسلامية، خاصة أنه لم تقتصر الدعاوي الصهيونية الزائفة على فلسطين فقط بل امتدت أطماع الصهيونية لتشمل العديد من الأقطار العربية، فحدود فلسطين كما تريدها الصهيونية هي من النيل إلى الفرات.
وأطماع الصهيونية في مصر بدأت بصورة مبكرة، وكما قال هرتزل "إن سيناء والعريش هي أرض اليهود العائدين إلى وطنهم".
ولذا فطن الأستاذ البنا إلى الخطر الذي تمثله الصهيونية على مصر، وأن نجاح المخططات الصهيونية في فلسطين يشكل تهديداً خطيراً لمصر ليس فقط على المستوى الأمني بل في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، ولذلك نجد الكثير من الكتابات التي تعبر عن هذا الخطر، ومن الواضح أن هذا الإدراك قد جاء مبكراً ويتضح ذلك من تواريخ مقالات كتابات الإخوان.
فيذكر حسن البنا قوله:
إن فلسطين هى خط الدفاع الأول؛ والضربة الأولى نصف المعركة، فالمجاهدون فيها إنما يدافعون عن مستقبل بلادكم وأنفسكم وذراريكم كما يدفعون عن أنفسهم وبلادهم وذراريهم، وليس قضية فلسطين قضية قطر شرقي ولا قضية الأمة العربية وحدها(7).
ويؤكد وكيل الجماعة الأستاذ صالح عشماوي على هذا الأمر فيقول:
إن قيام دولة يهودية على حدود مصر الشرقية لتهددنا في كياننا وفي استقلالنا وفي تجارتنا وفي أخلاقنا وفضائلنا، أليس اليهود أشد الناس عداوة للذين آمنوا؟ أليسوا أصحاب المذاهب الهدامة من شيوعية وإباحية؟
فإلى الذين يؤمنون بأن مصر فرعونية نقول لهم إن استقلال مصر أمسى في خطر الزوال بقيام دولة اليهود في فلسطين(8).
لقد ترسخ هذا الفهم في نفوس جميع أفراد الإخوان المسلمين بأن فلسطين أمن قومي لوطننا الذي نعيش فيه نهيك عن كونه قطعة عزيز في جسد الأمة الإسلامية.
فعندما تحركت المظاهرات في الجامعات نصرة لفلسطين قام البوليس بالقبض على بعض طلبة الإخوان سأله وكيل النيابة عن سبب خروجه في المظاهرات وذكر له أن فلسطين دولة غير دولتنا ولا يعنينا أمرهم؟ فأجاب الطالب: بأن فلسطين جارة لنا وهي أقرب إلينا من أسوان ولابد الاهتمام بأمر الجار خوفاً من أن يجاورنا اليهود الذي حذرنا الله منهم.
ولقد حذر حسن البنا المصريين بأن عدم مساندة الثورة في فلسطين يعني أنهم سيضطرون إلى أن يدفعوا عن أنفسهم في المستقبل غائلة الخطر اليهودي الصهيوني بعد أن ترسخ قدمه على بعد خطوات من الحدود المصرية وحينئذ لا تنفع الجهود ويصدق علينا المثل القائل (أكلت يوم أكل الثور الأبيض).
ولابد ألا ننسى أن لليهود في مصر ذكريات كما لهم في فلسطين فإن مكن لهم هنالك رنوا بأعينهم إلى مصر حيث مولد موسى ومهده وحيث بثت رسالته وحيث موعدته ومناجاته(9)
لقد إدراك الإخوان حقيقة ارتباط الأمن القومي المصري ببلاد الشام وأن الأمن القومي المصري من جهة الشرق لن يتحقق إلا بتأمين هذه البلاد، وهو الأمر الذي أكدته حقائق التاريخ فمن الحدود الشرقية لمصر جاءت معظم الغزوات التي تعرضت لها مصر على مدار تاريخها.
فتحدث الأستاذ البنا في مؤتمر رؤساء المناطق والشعب ومراكز جهاد الإخوان المسلمين على مستوى القطر المصري، المنعقد في 2شوال 1364ﻫ- 8 سبتمبر 1945م يقول:
نريد أن تؤمن حدودنا الشرقية بحل قضية فلسطين حلاً يحقق وجهة النظر العربية أيضاً يحول دون تغلب اليهود على مرافق هذه البلاد(10).
ويؤكد حسن البنا على هذا المعنى بصورة أكثر وضوحاُ في سبتمبر 1945 " نريد أن نؤمن حدودنا الشرقية بحل قضية فلسطين حلاً يحقق وجهة النظر العربية، ويحول دون تغلب اليهود على مرافق هذه البلاد. نحن نطالب بهذا لأنه تأمين لحدودنا ومصلحة مباشرة لنا". كما حذر حسن البنا الحكومة المصرية عام 1946 من الأطماع الصهيونية في سيناء وطالب بالإسراع بنقل الجمرك من القنطرة إلى رفح وإقامة منطقة صناعية على الحدود بالإضافة إلى إنشاء جامعة مصرية عربية بجوار العريش كما اعتقد الإخوان أن قيام دولة يهودية في فلسطين سيهدد موقف مصر الاقتصادي وسيغرق الأسواق المصرية بالمنتجات اليهودية، هذا بالإضافة إلى سيطرة اليهود المصريين على الحياة الاقتصادية في مصر، مما سيؤدي بالتالي إلى أننا "سنفقد استقلالنا الاقتصادي".
الأمن القومي وحدود ليبيا كما نظر لها الإمام البنا
نظر حسن البنا إلى جميع حدود الوطن وطالب بتأمينه حيث رأى أن صيانة الحقوق الوطنية لوادي النيل تتطلب تأمين حدود مصر من جميع الجهات فمن الجهة الغربية رأى أن الأمر يتحقق بأن تصبح ليبيا دولة حرة مستقلة ويقوم على شأنها أهلها الكرام، وأن تامين الجهة الشرقية بان تكون دولة فلسطين دولة ذات سيادة وأن يعمل المسلمون على عدم تسليم أي جزء منها للصهاينة، كما أكد على وحدة وادي النيل وأن مصر والسودان وطن واحد لا يتجزأ وأنها امتداد لأمن مصر القومي فيقول:
ونريد بعد ذلك تأمينًا لحدودنا: حدودنا الغربية، لا بأن نحتل برقة، ولا بأن نستعمر طرابلس، فنحن أكرم على أنفسنا والحق أكرم علينا من أن نذهب هذا المذهب الظالم، ولكنا إنما نأمن على حدودنا الغربية يوم تسلم ليبيا لأهلها العرب الذين جاهدوا فى سبيلها عشرات السنين جهاد الأبطال، فتقوم فيها حكومة عربية مستقلة، وتظل وطنًا موحدًا حرًّا مستقلاً.
نحن نريد أن تؤمن حدودنا الغربية باستقلال ليبيا ووحدتها، وقيام حكومة عربية صديقة فيها، ورد ما أخذ منا ظلمًا وعدوانًا فتعود إلينا جغبوب مصرية كما كانت من قبل(11).
سد النهضة وأمننا المائي في نظر البنا
كان الإمام البنا يدرك المخاطر التي تحيط بمصر وشعبها، ولذا طالب بحكومات وطنية قوية تتكاتف مع الشعب في الحفاظ على أمن البلاد القومي، ولا تدعه في يدي المستعمر الغربي.
أدرك الإمام البنا ومن خلفه الإخوان في وقت مبكر أهمية قضية المياه وضرورة تأمين الدولة المصرية لمنابعه، فقد أدرك أنه إذا فقدت مصر لهذا التأمين فسيتعرض أمنها القومي للخطر، ويهدد شعبها، فيعرج في حديثة عن الأخطار التي تهدد امن مصر القومي بقوله:
ونريد بعد ذلك أن نؤمن حدودنا الجنوبية بأن نحفظ حقوقنا فى الإريتريا ثم زيلع ومصوع وهرر وأعالي النيل.. تلك المناطق التى اختلط بتربتها دم الفاتح المصري، وعمرتها اليد المصرية، ورفرف فى سمائها العلم المصري الخفاق. ثم اغتصبت من جسم الوطن ظلمًا وعدوانًا، وليس هناك اتفاق دولي أو وضع قانونى يجعل الحق فيها لغير مصر، وإن أبى علينا ذلك الناس، ومن واجبنا ألا نتلقى حدود بلدنا عن غيرنا، وأن نرجع فى ذلك إلى تاريخنا، ولنرى أى ثمن غال دفعناه من الدماء والأرواح فى سبيل تأمين حدودنا، لا لمطامع استعمارية، ولا لمغانم جغرافية، ولكن لضرورات حيوية لا محيص منها، ولا معدي عنها، والفرصة الآن سانحة لتطالب مصر برد ما أخذ منها فى غفلة من الزمن وإهمال من الحكومات، وذلك ما نطلب لوادي النيل –أولاً(12).
ويؤكد على ذلك بقوله:
فإن مصر إذا كانت تحتاج السودان لتطمئن على ماء النيل وهو حياتها، فإن السودان أحوج ما يكون إلى مصر فى كل مقومات الحياة كذلك، وكلاهما جزء يتمم الآخر ولا شك(13).
وحينما درس مخططات الصهاينة واختيارهم العديد من الأماكن لقيام وطنهم خاصة في أوغندا أو كينيا أدرك البنا أن الصهاينة يريدون أن يسيطروا على منابع النيل ويضعفوا الدولة المصرية غير أن الانجليز اعترضوا وصرفوا وجهتهم لفلسطين، ومن ثم وضعوا الخطط للسيطرة على منابع النيل وهذا ما تحقق لهم الآن.
البنا والأمن القومي الاقتصادي
كان المفهوم القديم للأمن القومي يركز على التهديدات من الناحية العسكرية الخارجية البحتة، إلا أن هذا المفهوم تطور كثيراً فى مرحلة الحرب الباردة، فدخلت فى المفهوم تهديدات أخرى بعضها داخلي مثل الصراعات العرقية والطائفية والمذهبية، والتي أدت فى بعض الأحوال إلى تفتت دول بأسرها.
كما أن التدخلات الدولية أو الخارجية فى شئون الدولة لم تعد تقتصر على التهديد المسلح بل هناك المصالح الاقتصادية والسياسية والإقليمية.
حيث يرى هنري كيسنجر : ” إن مفهوم الأمن يعنى أى تصرفات يسعى المجتمع عن طريقها إلى حفظ حقه فى البقاء”.
وكما اهتم الامام البنا والإخوان بالأمن القومي السياسي والعسكري لمصر والدول العربية، لم يهمل الأمن القومي الاقتصادي والذي يعتبر من أشد الأمور خطورة على الدول والشعوب، حيث حدد موقع مصر فى هذه الدوائر: الدائرة الأفريقية –الدائرة العربية – الدائرة الإسلامية – الدائرة الشرقية ثم الدائرة العالمية.
وأعتبر أن أمن مصر ودورها تكمله الدائرة العربية ويمتد إلى الدائرة الإسلامية وأن دائرة رابطة الأمم الشرقية بوضعها القائم ووقوفها ضد الهيمنة الغربية تشكل خطاً مساعداً داعماً لهذا الأمن، حيث يقول: ” .. ومن هنا كانت وحدة العرب أمراً لابد منه لإعادة مجد الإسلام وإقامة دولته وإعزاز سلطانه .. ومن هنا وجب على كل مسلم أن يعمل لإحياء الوحدة العربية وتأييدها ومناصرتها(14).
وأوضح احترام الإخوان المسلمين لقوميتهم للحفاظ على أمن وطنهم القومي فيقول: الإخوان المسلمون يحترمون قوميتهم الخاصة باعتبارها الأساس الأول للنهوض المنشود .. ثم هم بعد ذلك يؤيدون الوحدة العربية باعتبارها الحلقة الثانية فى النهوض، ثم يعملون للجامعة الإسلامية باعتبارها السياج الكامل للوطن الإسلامي العام(15).
النقد والأمن القومي
أكد الإمام البنا على استقلال النقد المصري وعدم تبعيته للعملة الانجليزية، وتنظيم المعاملات المالية، حفاظا على الأمن القومي، فيكتب في اخدى رسائله يقول: ومن أفظع التغرير بهذا الشعب، أن يسلم جهوده ومنتجاته نظير أوراق لا قيمة لها إلا بالضمان الإنجليزي، وإن مصر إذا حزمت أمرها، وأحكمت تصرفاتها، ستصل ولا شك إلى هذا الاستقلال...
ولقد انفصلنا عن الكتلة الإسترلينية، وفكرنا في تأميم البنك الأهلي، وطالبنا بالديون الكثيرة التي لنا على الإنجليز، وكل هذه ونحوها مشروعات تؤمن النقد المصري... فماذا فعل الله بها؟ وماذا أعددنا العدة لإنفاذها؟
ولقد أنتج ضعف الرقابة على النقد، والاستهانة بأمره استهانة بلغت حد الاستهتار، هذه المآسي التي نصطلى بنارها من التضخم الذي استتبع غلاء المعيشة، وصعوبة الاستيراد والتصدير(179.
وطالب الدول الإسلامية بالعمل على استقلال نقدها وتحرير من السير في فلك الجنية الاسترليني (والدولار الآن يقوم بنفس الدور الذي تمارسه العملة الإنجليزية وقتها) فيقول: فهي توجب استقلال نقدنا، واعتماده على رصيد ثابت من مواردنا ومن ذهبنا، لا على أذونات الخزانة البريطانية ودار الضرب البريطانية والبنك الأهلي البريطاني -وإن كان مقره مصر(16).
تمصير الشركات
يقول الإمام: ”كما توجب هذه الأصول– للمنهج الإسلامي – الاهتمام الكامل بتمصير الشركات وإحلال رؤوس الأموال الوطنية محل رؤوس الأموال الأجنبية كلما أمكن ذلك، وتخليص المرافق العامة – وهي أهم شيء للأمة – من يد غير أبنائها فلا يصح بحال أن تكون..الأرض..والبناء..والنقل..والماء.. والنور.. والمواصلات الداخلية.. والنقل الخارجي.. حتى الملح والصودا فى يد شركات أجنبية تبلغ رؤوس أموالها وأرباحها الملايين من الجنيهات لا يصيب الجمهور الوطني ولا العامل الوطني إلا البؤس والشقاء والحرمان “.
كما طالب بسرعة استغلال منابع الثروة الطبيعية والعناية بالمشروعات الوطنية الكبرى، وبالتحول إلى الصناعة فوراً فهذا من روح الإسلام، وإنشاء مصانع السلاح والاستقلال فى ذلك”.
” .. وأنهم قد وضعوا أيديهم على أفضل منابع الثروات فيه، شركات أو أفراداً، فالصناعة والتجارة والمنافع العامة والمرافق الرئيسية كلها بيد هؤلاء الأجانب حقيقة، أو الأجانب الذين اتخذوا من الجنسية المصرية شعاراً وما زالوا يحنون إلى أوطانهم ويؤثرونها بأكبر أرباحهم”.
كما حذر الإمام من خطورة الأزمات المالية والاقتصادية: ” .. ولا يحرك النفوس ويؤلم المشاعر شيء كالضائقة المالية، تأخذ بخناق الجماهير فتحول بينهم وبين الحصول على ضروريات الحياة، فضلاً عن كمالياتها ولا أزمة أعنف من أزمة الرغيف، ولا عضة أقوى من عضة الجوع والمسغبة، وطالب القوت ما تعدى .. “(17).
نظام الملكيات فى مصر
توجب علينا روح الإسلام الحنيف، وقواعده الأساسية فى الاقتصاد القومي، أن نعيد النظر فى نظام الملكيات فى مصر، فنختصر الملكيات الكبيرة، ونعوض أصحابها عن حقهم بما هو أجدى عليهم وعلى المجتمع، ونشجع الملكيات الصغيرة، حتى يشعر الفقراء المعدمون بأن قد أصبح لهم فى هذا الوطن ما يعنيهم أمره، ويهمهم شأنه.. وأن نوزع أملاك الحكومة حالاً على هؤلاء الصغار كذلك حتى يكبروا.
تنظيم الضرائب
وتوجب علينا روح الإسلام فى تشريعه الاقتصادي، أن نبادر بتنظيم الضرائب الاجتماعية، وأولها ضريبة الزكاة"، وليس فى الدنيا تشريع فرض الضريبة على رأس المال لا على الربح وحده كالإسلام، وذلك لحكم جليلة منها: محاربة الكنز وحبس الأموال عن التداول، وما جعلت الأموال إلا وسيلة لهذا التداول الذي يستفيد من ورائه كل الذين يقع فى أيديهم هذا المال المتداول..
وإنما جعل الإسلام مصارف الزكاة اجتماعية بحتة لتكون سببًا فى جبر النقص والقصور الذي لا تستطيع المشاعر الإنسانية والعواطف الطيبة أن تجبره، فيطهر بذلك المجتمع ويزكو، وتصفو النفوس وتسمو: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾[التوبة: 103](18).
الإمام البنا والأمن العربي والإسلامي
أعتبر الإمام البنا أن أمن مصر ودورها تكمله الدائرة العربية ويمتد إلى الدائرة الإسلامية وأن دائرة رابطة الأمم الشرقية بوضعها القائم ووقوفها ضد الهيمنة الغربية تشكل خطاً مساعداً داعماً لهذا الأمن.
وفي هذا الصدد يقول: [ومن هنا كانت وحدة العرب أمرًا لابد منه لإعادة مجد الإسلام، وإقامة دولته وإعزاز سلطانه، ومن هنا وجب على كل مسلم أن يعمل لإحياء الوحدة العربية وتأييدها ومناصرتها، وهذا هو موقف الإخوان المسلمين من الوحدة العربية] .
ويضيف:[ فالإسلام لا يعترف بالحدود الجغرافية، ولا يعتبر الفوارق الجنسية الدموية، ويعتبر المسلمين جميعًا أمة واحدة، ويعتبر الوطن الإسلامي وطنًا واحدًا مهما تباعدت أقطاره وتناءت حدوده.
وكذلك الإخوان المسلمون يقدسون هذه الوحدة، ويؤمنون بهذه الجامعة، ويعملون لجمع كلمة المسلمين، وإعزاز أخوة الإسلام، وينادون بأن وطنهم هو كل شبر أرض فيه مسلم يقول: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)](19)
وبؤكد المعنى أكثر بقوله: وضح إذًا أن الإخوان المسلمين يحترمون قوميتهم الخاصة باعتبارها الأساس الأول للنهوض المنشود، ولا يرون بأسًا بأن يعمل كل إنسان لوطنه، وأن يقدمه فى الوطن على سواه، ثم هم بعد ذلك يؤيدون الوحدة العربية باعتبارها الحلقة الثانية فى هذا النهوض، ثم هم يعملون للجامعة الإسلامية باعتبارها السياج الكامل للوطن الإسلامي العام، ولى أن أقول بعد هذا: إن الإخوان يريدون الخير للعالم كله(20).
المراجع
- عبد الإله بلقزيز، الأمن القومي العربي (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب)، 1989.
- محمد عبد الرحمن المرسي: الإمام البنا والأمن القومي، https://bit.ly/3VbKJgW
- حسن البنا: بيان من الإخوان المسلمين إلى شعب وادي النيل، جريدة الإخوان المسلمين، العدد (89)، السنة الرابعة، 7 ربيع أول 1365/ 9 فبراير 1946، صـ3.
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (137)، السنة الأولى، 18 ذو القعدة سنة 1365هـ/13أكتوبر 1946م، ص(1، 4).
- إبراهيم البيومي غانم: الفكر السياسي للإمام حسن البنا ، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، 1992م، صـ478- 479.
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد “497”، السنة الثانية، 2 صفر 1367ﻫـ- 15 ديسمبر 1947م.
- مجلة النذير، العدد (18)، السنة الأولى، 2 شعبان 1357ﻫ- 26 سبتمبر 1938م، ص(3-5).
- النذير – العدد (18) – 2شعبان 1357هـ / 1938م.
- مجلة النذير، العدد (9)، السنة الأولى، 27جمادى الأولى 1357ﻫ- 25يوليو 1938م، (ص3-5).
10 مجلة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (70)، السنة الثالثة، 14شوال 1364ﻫ- 20 سبتمبر 1945م، ص(3-15).
- مجلة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (70)، السنة الثالثة، 14شوال 1364ﻫ- 20 سبتمبر 1945م، ص(3-15).
- المرجع السابق
- المرجع السابق
- رسالة المؤتمر الخامس، صـ398.
- المرجع السابق.
- رسالة مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي: صـ794.
- المرجع السابق.
- المرجع السابق، وانظر محمد عبد الرحمن المرسي: الإمام البنا والأمن القومي، إخوان ويكي.
- المرجع السابق.
- رسالة المؤتمر الخامس: صـ399
- المرجع السابق.