مهداة إلى مجلس النواب المصري الموقر..
شهدت جلسة مجلس النواب المصري الموقر التي ناقش فيها النواب المصريون المحترمون الاستجواب الخاص بمراقب الثقافة العامة. وتردد في القاعة ما ذهب إليه الدكتور طه حسين بك في كتابه "مستقبل الثقافة" -تصريحا أو تلميحا- من أن الدين شيء والسياسة شيء آخر، والدين شيء والقومية شيء غيره، والدين شيء والعلم شيء سواه، وأن وحدة الدين واللغة لا تصلحان أساسا لتكوين الدول، وأن هذا التفريق بين الدين وبين السياسة والوطن والعلم أصل من أصول الحياة الحديثة التي نقلناها عن أوروبا.
ولقد كانت علامات الاستحسان لهذه الآراء تبدو في كلمات وإشارات وحركات بعض حضرات النواب المحترمين، وكنا -نحن المشاهدين- مقيدين بلائحة المجلس، فلا نظهر استحسانا ولا غير استحسان، وذلك ما دعاني إلى أن أتناول هذا الموضوع في هذه الكلمات، وإلى أن أتقدم بها إلى مجلس النواب المصري الموقر.
فأما أن هذا التفريق والفصل بين الدين والسياسة، وبين الدين والقومية، وبين الدين والعلم، أصل من أصول الحياة الحديثة في أوروبا أمر لا نخالف الدكتور طه ولا غير الدكتور طه فيه ولا ندعي غيره، بل نستطيع أن نقول أيضا: إن أوروبا استفادت من هذا التفريق والفصل أجزل الفوائد ولعلها ما كانت تستطيع النهوض بغير هذا.
وأما أننا نقلنا بعض هذه الأفكار من أوروبا، وتأثرنا بها إلى حد كبير أو صغير، وجرت عليها سياستنا العملية في كثير من مظاهر حياتنا فأمر لا نخالف فيه كذلك وسببه واضح بيِّن هو أننا أسلمنا قيادنا أو أسلمتنا الحوادث -بعبارة أدق- إلى ساسة أوروبيين، ومعلمين أوروبيين، ومشرعين أوروبيين، فصاغونا كما يريدون وكما يعلمون، واصطبغت سياستنا العملية في معظم شئوننا بهذه الصبغة الأوروبية، وأذكر أن أحد إخواننا أراد بناء مسجد، فدعا مقاولا أوروبيا وترك له الحرية في بناء المسجد، ووضع رسمه التصميمي فجاء كنيسة طبق الأصل في مختلف أوضاعه، حتى إنه جعل موضع القبلة إلى جهة المشرق أيضا لولا أن تداركنا الأمر، ونبهنا الرجل إلى خطئه قبل أن يمضي فيه إلى النهاية فأصلح ما أمكن إصلاحه، وظلت في المسجد إلى الآن آثار المعابد المسيحية، وكان عذر المقاول أمامنا واضحا إذ قال: إنني لا أستطيع أن أفهم في المعبد إلا هذا الوضع.
وما أذكر هذه القصة على أنها مثال بل هي حقيقة وقعت فعلا وهى تنطبق على ما نحن فيه تمام الانطباق، فنحن لا نخالف الدكتور طه ولا غيره في أن حياتنا العملية في كثير من مظاهرها العامة والخاصة قد انحرفت إلى معنى أوروبي بفعل الحوادث المتعاقبة طول هذه السنين الطويلة، وهذا الانحراف نفسه الذى يتخذه الدكتور -ومن نحا نحوه- حجة على وجوب رضانا بأوروبا والاندفاع في تقليدها فيما بقى لنا من مظاهر الحياة هو نفسه الذى يدفعنا نحن إلى تحذير الأمة من التقليد، وإلى وجوب رجوعها إلى تعاليم الإسلام، وعرض هذه الحضارة الأوروبية عليها فما وافقها قبلناه وما خالفها رفضناه، ونحن لم نجن بعد من هذا التقليد الخاطئ إلا الصعاب والعلقم واضطراب الحياة في كل ناحية من نواحيها.
ولكن الذي نخالف فيه الدكتور طه وغير الدكتور طه ممن يؤمن بفكرته هذه: ادعاء أن هذا التفريق بين الدين والسياسة، وبين الدين والقومية، وبين الدين والعلم نافع لنا متفق مع تعاليم ديننا. هذه دعوى ينقصها الدليل النظري والدليل التاريخي، وتتنافى تمام التنافي مع مصلحتنا ومع مقومات نهضتنا، والذي يريد أن يجرد الإسلام عن معناه السياسي وعن معناه القومي وعن معناه الثقافي يريد بمعنى آخر ألا يكون هناك شيء اسمه الإسلام تؤمن به هذه الأمة وتدين بها، وهو عند نفسه وعند الناس يخدع هذه الأمة ويخاتلها، ويعدل بها عن الإسلام الحق إلى إسلام من عند نفسه لا يتصل إلى الإسلام الصحيح بسبب، وإنما هو في الحقيقة مسيحية سماها هو الإسلام.
إن أوروبا يا حضرات السادة المحترمين حينما فصلت بين السياسة والدين، وبين السياسة والقومية، وبين السياسة والعلم كانت مدفوعة إلى ذلك بعوامل قهرية ضرورية.
فالدين الذي كان يسودها وتؤمن به شعوبها خال تماما من التشريعات العملية والمعاني السياسية، وهو وصايا روحية محدودة في الكتب المقدسة، وطقوس كهنوتية بين جدران الهياكل والمعابد.
والرجال الذين كانوا يمثلون هذا الدين كانوا شجا في حلق الدولة والعلماء بما لهم من سلطان مطلق أكسبتهم إياه هذه التعاليم.
وتاريخ أوروبا القديم والمتوسط سلسلة نزاع بين الأمراء والباباوات من جهة، وبين العلماء والكنيسة من جهة أخرى، بل تعد الأمر في هذا النضال إلى الشعوب نفسها فكان النضال كثيرا ما يكون بين الشعب بأسره وبين الكنيسة.
هذه الأمور الثلاثة: طبيعة الدين الأوروبي، هيمنة رجاله على الدولة والعلم، والنضال الطويل بين نواحي الجهات الأوروبية المختلفة.
كل ذلك دعا أوروبا إلى أن تفصل بين الدين والسياسة، وبين الدين والقومية، وبين الدين والعلم.
فهل هذه المعاني تنطبق على الإسلام الحنيف؟
أحب أن يفكر السادة الباحثون في الجواب على هذا السؤال بإنصاف وهم سيقولون بعد ذلك بملء الفم: لا ثم لا.
إن طبيعة الإسلام ليست طبيعة روحية بحتة، فهو دين روحي وعملي معا، وهو لم يحصر نفسه في حدود المساجد والمعابد ولم يحفل بالطقوس والمظاهر، وإن الدين الذي يقول نبيه: (ابنوا مساجدكم جما)، أي: غير مزينة ولا مزخرفة ولا مبالغة في بنائها ورفعها، (وابنوا مدائنكم مشرفة)، أي: محصنة مسورة مجهزة بأدوات الدفاع وما إليها. رواه ابن أبى شيبة وهو حديث حسن.
إن الدين الذي يجعل هذا من شعاره لعظيم العناية بشئون الدنيا ومصالح الناس فيها، كما يعنى تماما بصلاح الروح والآخرة وشعار الإسلام دائما: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ في الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص: 77].
وسأبين موقف الإسلام من هذه الأمور الثلاثة: الدولة، والقومية، والعلم، بالتفصيل -إن شاء الله تعالى- في كلمات تاليات، وحسبي أن أقول الآن: إنها من أعظم أركانه، وأثبت قواعده وأظهر تعاليمه وشعائره، فأين هذا من بعد الدين الأوروبي عن مظاهر الحياة العامة؛ وأن رجال الإسلام في كل عصر من عصوره إلى الآن لم يدعوا لأنفسهم سلطة أكثر مما يؤهلهم له علمهم بهذا الدين وصلتهم به، ولم ينازعوا الأمر أهله بعضا من الأيام، ولم يعرف عنهم إلا إنكار المنكر حين يشيع، وتشجيع المعروف حين يظهر، والوقوف عند حدود الله، وإذا كان شعار الرسول الأعظم: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾[الكهف: 110] إلى جانب قوله سبحانه وتعالى: ﴿قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُّؤْمِنُونَ﴾[الأعراف: 188] إلى جانب قوله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا*إِلاَّ بَلاَغًا مِّنَ اللهِ وَرِسَالاَتِهِ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾[الجن: 22-23] فأين هذا من سلطان "الإكليروس" في أوروبا وما ادعوه لأنفسهم من سلطان على قلوب الناس وإيمان الناس وحياة الناس الدنيوية والأخروية؟
وتبعا لهذا كان تاريخ الإسلام مع الدولة ومع القومية ومع العلم صفحات مجيدة من التعاون والتآزر والسلام.
فكيف يقال بعد ذلك أن هذا الأصل الذي سارت عليه أوروبا من فصل سياستها وعلومها وقوميتها عن الدين يجب أن يطبق عندنا ويجب أن نتلقاه على أنه أصل صالح لنا؟!
يا حضرات السادة المحترمين:
علم الله أننا لا نريد لهذا البلد ومن ورائه الشعوب الإسلامية عامة إلا الخير كل الخير، ولو كان في ذلك ذهاب أرواحنا، وتقطير دمائنا، وفناء أموالنا وأبنائنا، بل إن ذلك هو أسعد أوقات حياتنا يوم تعتز هذه الأوطان الحبيبة ونكون نحن فداء لهذه العزة لو صلحنا لها فداء، ولكنا نريد أن نتفق على أصل صالح للنهوض، ونريد أن نحدد الهدف معا حتى لا نختلف ولا نضل، ونريد أن نتبع الهدى الواضح والنور اللائح حتى لا نفشل ونقاسى مر الآلام ولا ينفعنا في ذلك إلا العودة إلى هدى الإسلام.
ألستم مسلمين أيها الناس؟ ألا ترضون الإسلام حكما؟ نحب أن تكونوا صرحاء، فإن كنتم آمنتم بهذه الأصول في حياة أوروبا على أنها حقائق لا تقبل النقض فاعلموا أنها لا تتفق مع الإسلام، وأنكم بذلك تصطدمون بإسلامكم، فكونوا شجعانا وكونوا صرحاء في إعلان الخروج على تعاليم الإسلام حتى لا تخدعوا أنفسكم وتخدعوا الناس.
وإن كنتم آمنتم بالإسلام على أنه حق ثابت، فنحن نرضى أن نتحاكم جميعا إليه ونتوجه إلى ما يوجهنا نحوه، وحينئذ فسنلتقى وسنتفق، وستعلمون أن الدولة وأن القومية وأن العلم من أركان الإسلام.
المصدر
مجلة التعارف، العدد (4)، السنة الخامسة، السبت 30 محرم 1359ﻫ- 9 مارس 1940م، ص(1-2).