رسالة قضيتنا

الخلفية التاريخية للرسالة

بعد صراع مرير بين مكونات حزب الوفد الذي نتج عنه انشقاق بعض أفراده وعلى رأسهم إبراهيم عبد الهادي باشا ومحمود فهمي النقراشي وأحمد ماهر عام 1937م كونوا على إثرها الحزب السعدي الذي تولى رئاسة الحكومة أواخر 1944 خلفا للوفد حيث صار أحمد ماهر باشا رئيسا للحكومة وكان واضحا من اتجاه هذا الحزب عداءه للتيار الإسلامي وعلى رأسه جماعة الإخوان المسلمين.

ازداد العداوة بعد مقتل أحمد ماهر باشا على يدي أحد أفراد الحزب الوطني بسبب نيته إعلان الحرب على المحور وهو ما رفضه رؤساء الحكومات السابقين، فأسند الملك الوزارة إلى محمود فهمي النقراشي الذي كان يكن عداءً شديداً للإخوان وظل يضيق عليها الخناق سواء في فترة حكومته الأولى عام 1945م أو الفترة الثانية التي بدأت في فبراير 1946م وامتددت حتى مقتله في 28 ديسمبر 1948م، حيث أطلق العنان لرجال الداخلية في اعتقال أفراد الإخوان، حتى وصل الحال لاعتقاله المجاهدين من الإخوان في حرب فلسطين ثم الاستجابة للمستعمر الغربي في حل الجماعة الإخوان المسلمين في 8 ديسمبر 1948م.

كلف النقراشي باشا عبد الرحمن عمار وكيل وزارة الداخلية في إعداد مذكرة للحل وبالفعل جهزها عبد الرحمن عزام حيث وضع فيها افتراءات على جماعة الإخوان المسلمين، كان لزاما على الإمام البنا من إجلاء الحقائق وتفنيد ما سطره عبد الرحمن عمار فأصدر ذلك في رسالة سميت برسالة قضيتنا، وتعتبر أخر ما كتبه الإمام البنا من الرسائل.

وإلى نص الرسالة

بسم الله الرحمن الرحيم... الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد أكمل المؤمنين وسيد المجاهدين وعلى آله وصحبه أجمعين.

قضيتنا بين يدي الرأي العام المصري والعربي والإسلامي والضمير الإنساني العالمي

تقديم

لقد سمع الرأي العام المصري والعربي والإسلامي قضية الإخوان المسلمين من جانب واحد، هو جانب الحكومة التي اعتدت على هذه الهيئة بإصدار أمر عسكري بحلها وهو الجانب الذي يملك كل وسائل الدعاية من الصحف الخاضعة للرقابة كل الخضوع، ومن الإذاعة التي تديرها وتهيمن عليها الحكومة ومن الخطباء في المساجد الذين هم موظفون حكوميون، ولكن هذا الرأي العام لم يسمع من الطرف الآخر.. لم يسمع من الإخوان المسلمين الذين حُرموا كل وسائل الدفاع عن أنفسهم وشرح قضيتهم للناس فصودرت صحفهم وعطلت أقلامهم وكممت أفواههم واعتقل كل خطيب لهم واعتبر كل اجتماع خمسة منهم في أي مكان جريمة أقل عقوبتها السجن ستة أشهر. 

لهذا كان من الواجب أن نتقدم بهذا البيان للرأي العام المصري والعربي والإسلامي والضمير الإنساني العالمي حتى لا يقع الخطأ ويظلم في الحكم ويحكم بسماع خصم واحد وقد قيل: إذا جاءك خصم وعينه مقلوعة فلا تحكم حتى ترى خصمه فقد تكون عيناه الاثنتان مقلوعتين.

وإنا لنرجو بعد هذا أن يناصرنا الرأي العام على من اعتدوا علينا وأن يطالب بكل شدة برفع هذا الظلم الصاروخ عنا، وإطلاق حرية الدعوة الصالحة النافعة: دعوة المبادئ السامية والأخلاق الفاضلة لتقوم بنصيبها في خدمة المجتمع الإنساني المتعطش لهذا الغذاء من الروحانية وسمو الأخلاق.

 

الفصل الأول

نماذج من المظالم الواقعة على الإخوان المسلمين

فهل يعلم هذا الرأي العام أن الأمر العسكري بحل الإخوان المسلمين قد وضع واستخدم ونفذ بالصورة التي أنتجت هذه المظالم التي تقشعر من هو ضم لها الأبدان وهذه بعض نماذج منها: 

1-الاعتقال:

اعتقل بالأمر العسكري إلى تاريخ هذا البيان (1000) ألف شخص في القاهرة والأقاليم وقد وزعوا على معتقلات.. وسجون الأقسام وسجون المديريات والمراكز في الريف وهؤلاء المعتقلون ليسوا متهمين في شيء ولا موجهة إليهم أية تهمة، وهم ما بين أستاذ الجامعة كالأستاذ حسين كمال الدين، أو في الأزهر كالأستاذ بهي الخولي، أو في المعاهد العليا كالأستاذ عبد العزيز كامل وأحمد كامل سليم، أو في دار العلوم كالأستاذ أحمد عبد العزيز جلال، أو في معاهد التعليم على اختلاف درجاتهم، ومنهم المحامون الكبار والتجار الفضلاء والعمال الأوفياء والطلاب النجباء وليس فيهم أبدًا متهم ولا مجرح.

وقد طبقت على هؤلاء المعتقلين قواعد هي الظلم المجسم لم يرها الناس ولم يعرفوها في أي نظم الاعتقال السياسي وعوملوا أسوأ المعاملة.

 ينامون في الأقسام على الأسفلت ويعذبون فيها ولا يصل إليهم شيء مما يقدمه لهم أهلوهم أو ذوو قرباهم من طعام أو فراش وقد مضى على بعضهم -وهم الذين لم يتعودوا أبدًا هذه الحياة- أسابيع على هذا الحال في هذا البرد الشديد والجو القارس وقد مرض بعضهم بالنزلات الشعبية وبمختلف الأمراض، ولم يجدوا أي نوع من العناية الطبية حتى أصبح يخشى على حياة بعضهم وهم صابرون محتسبون، والحكام عنهم غافلون والشعب لا يعلم حقيقة الحال!

فلقد أُوقف الموظفون منهم عن أعمالهم وحجزت مرتباتهم، وصودرت أموالهم الخاصة في المنازل بالتفتيش وفى المصارف بالحجز وفصل العمال منهم عن أعمالهم ورفت الطلاب من مدارسهم، وأخذت عرباتهم الخاصة وآلات الراديو من منازل الكثير منهم وعطلت تليفوناتهم ووقع عليهم من أنواع الاضطهاد ما لا يعلم إلا الله. 
فمن أين تنفق ألف أسرة مصرية، وقد سدت أمامها الموارد، وأخذت عليها الطرق بهذه الصورة التي ليس لها أي نظير، وإذا علم أن أحد الأقرباء أو الأصدقاء تردد إلى هذه الأسر فعاد مريضها أو عال محتاجها كان نصيبه هو الآخر الاعتقال، ولم يراع في هذا الاعتقال أي معنى من المعاني الإنسانية فكان يعتقل من البيت الواحد أربعة إخوة وثلاثة أصهار مثلاً أو أخوان وأصهارهما وهم كل من يستطيع أن يقوم على هذا البيت فتعطل المصالح وتغلق المتاجر وتقفر المساكن من السكان، فهل سمع الناس بمثل هذا حتى في معسكرات النازية حين كانت تعتقل اليهود، وهل فعلت الحكومات المصرية عُشر هذا مع معتقلي الصهيونية والحرب على أشدها؟ والله لا!

2-الفصل، والنقل، والتشريد

ولقد وقفت الحكومة من الموظفين الذين اتصلوا بالإخوان موقفا كله الخصومة والعداء، ففصلت أكثر من 150 موظفًا من الموظفين الصغار الذين تعلم أنهم لا يستطيعون حولا ولا قوة في مقاضاتها أمام مجلس الدولة، وشردت من القاهرة وحدها إلى الوجه القبلي (500) موظفًا من مختلف المصالح ومن كل مديرية قريبًا من هذا العدد بين مدرسين وكتبة ورؤساء أقسام.. إلخ في الوقت الذى بدأت فيه المدارس، وانتظم فيه الأبناء من الطلاب كل في معهده، وأخذت أزمة المساكن في كل مكان بمخانق الناس، وكل تهمة هؤلاء الموظفين الذين يستحقون عليها هذا العذاب أنهم اتصلوا بالإخوان المسلمين في يوم من الأيام، ولقد أحدثت هذه الحركات اضطرابًا في النفوس والأعمال فضلاً عن أنها فتحت الباب على مصراعيه للوشاية والكيد والدس والانتقام واتخذها صغار النفوس سلاحًا للتنكيل بزملائهم في كل مكان، وصار كل من أراد أن ينتقم من موظف تقدم إلى إدارة الأمن العام بخطاب مجهول: أن هذا الموظف يعمل للإخوان، وما هي إلا ساعات حتى يرى نفسه في قنا أو أسوان من غير دليل أو برهان! فهل سمع الناس بمثل هذا الإجحاف في زمن من الأزمان؟

3-فصل الطلاب

ولقد أبعد عن كليات الجامعة والمدارس الثانوية نحو (1000) ألف طالب أو يزيدون ممن عرف أنه كان له صلة بالإخوان المسلمين، وأغلقت في وجوههم معاهد التعليم، واعتقل الكثير منهم وفصل الباقون، وأصبحوا مشردين في الشوارع والطرقات في هذه السن التي تشتعل فيها قوة الشباب البدنية والذهنية وتنمو فيها كل عوامل النشاط والحيوية التي إن لم تعرف الخير فإنها ولا شك تنصرف إلى الشر والضرر والفساد. 

4-مصادرة الأموال الخاصة والشركات

وكان من أعجب الأمور أن تصدر الأوامر العسكرية بمصادرة مرتبات وأموال عدد كبير من المواطنين لا لشيء إلا أنهم كانوا في يوم من الأيام أعضاء في الإخوان المسلمين، فيذهب التاجر أو الموظف إلى المصرف لسحب بعض أمواله فيجد هناك الأمر العسكري قد سبقه بمنع البنك من صرف شيء حتى تصدر تعليمات أخرى مع أن هذه الأموال أمواله الخاصة أو مرتبه الشخصي، فلا هي أموال هيئة أو أموال جمعية أو أموال مؤسسة ولكنها ماله الخاص ومع ذلك لم تفرق الأوامر بين عام وخاص!

وهناك شركات هي:

شركة الإخوان للتجارة بميت غمر.

شركة المناجم والمحاجر العربية.

شركة الإخوان للنسيج.

شركة الإخاء الإسلامي بفرشوط.

شركة دار الإخوان للطباعة.

شركة دار الإخوان للصحافة.

وهذه كلها لا صلة لها بهيئة الإخوان أو مشروعات الإخوان ولا بمنشئات الإخوان، ولكنها وضعت هذا الاسم من باب الدعاية التجارية وفيها رؤوس أموال ضخمة ومساهمين وضعوا كل ثروتهم فيها، فشركة الإخوان للتجارة بميت غمر يملكها خمسة وضع كل شريك منهم ألف جنيه هي كل ثروته، وبارك الله لهم في رزقهم وصاروا بشركتهم على خير حال حتى نكبوا بهذا النكبة التي لم تكن تخطر لهم على بال، وقد أثبتوا بالدليل القاطع أن هذه هي أموالهم الخاصة وأن لا صلة لها بأموال الإخوان، ومع ذلك فقد صدر الأمر بوضع هذه الشركة تحت الحراسة.. وبقية الشركات لازالت إلى تاريخ هذا البيان مغلقة الأبواب.. ولقد بلغ عدد الموظفين المتعطلين بسبب إغلاق هذه الشركات (500) خمسمائة شخص ما بين موظف وعامل وأصبحوا الآن ولا مورد لهم يهيمون على وجوههم في كل واد.

 

5-التفتيش والرقابة والإزعاج: 

وقد دأب البوليس منذ صدرت هذه الأوامر على مضايقة كل من يظن أن له أقل اتصال بالإخوان بتفتيش منزله في غسق الظلام وترويع النساء والأطفال عدة مرات أو تفتيش متجره كذلك ثم فرض رقابة على التليفونات والخطابات والأشخاص والمنازل والتنقلات حتى على السيدات تخنق الأنفاس وتقتل الحريات ويتنافى مع كل أمن وهدوء واطمئنان، وكثيرًا ما يدعى الناس إلى المركز أو الأقسام، وتوجه إليهم أسئلة في بلاغات كيدية أو اتهامات شكلية أو تافهة ولا يراد من ذلك كله إلا الإحراج والإعنات. 

هذه بعض نماذج من المظالم الواقعة على الإخوان المسلمين في هذه الأيام، والتي لم ير التاريخ لها مثلاً في سالف الزمان، وإذا عرف أن الإخوان المسلمين منتشرون في كل قرية وفى كل مدينة وفى كل مصلحة وفى كل ديوان، وأنهم هم وأقاربهم وجيرانهم وكل المتصلين بهم يعيشون في هذا الجو المضطرب أمكننا أن نتصور إلى أي مدى تعمل الحكومة نفسها على الإخلال بأمن الشعب وراحته وطمأنينته وهي المسئولة عن أن تدفع عنه الظلم وتوفر الهدوء والاطمئنان.

6-المحاكمات والتلفيقات

وتنص أحكام الأمر العسكري على محاكمة كل خمسة من أعضاء الإخوان يجتمعون في مكان بقصد العمل على تحقيق بعض أغراض الجماعة وذلك الشرط قلما ينظر إليه أحد وكانت النتيجة أن أصبح الإخوان الذين عاشوا في مجموعات الأخوة عشرين سنة لا يستطيع خمسة منهم أن يلقى بعضهم بعضا في أي مكان. 

لقد فتح هذا النص بابًا واسعًا للدسائس والوشايات، فيكفي أن يبلغ إنسان أن خمسة في دكان حلاق أو بقال أو في منزل صديق أو قريب حتى يداهمهم البوليس ويقبض عليهم ويسوقهم إلى السجن ثم النيابة العسكرية بعد عدة أيام ليحكم عليهم بعقوبة أقلها ستة أشهر، فهل رأى الناس مثل هذه الأحكام في أي بلد من البلدان؟

 

الفصل الثاني

بطلان اتهام الحكومة للإخوان

لقد اتهمت الحكومة الإخوان المسلمين بثلاثة اتهامات كلها باطلة:

اتهمتهم بأنهم عصابة إرهابية تشجع الجريمة، وتهدد الأمن، وتعبث بالقانون، وبأنهم تحولوا من جماعة دينية إلى هيئة سياسية. 

وأنهم يعملون في سياستهم على قلب نظام الحكم. 

وسنبين بالدليل والبرهان بطلان كل هذه الاتهامات، وأنها ليست إلا ذريعة لستر السبب الحقيقي للعدوان على الإخوان.

1-بطلان اتهام الجريمة والإرهاب

أراد سعادة وكيل الداخلية عبد الرحمن بك عمار أن يثبت على الإخوان هذا الاتهام، فكتب مذكرة مطولة اعتبرها الحاكم العسكري أساسًا لصدور الأمر بحل الإخوان، وعملت الحكومة على إذاعتها ونشرها على التجار والعمال والطلاب في كل مكان، وطبعت به ملحقًا خاصًّا للوقائع المصرية، وقد أورد فيها وكيل الداخلية ثلاثة عشر حادثة أسماها جرائم ونسبها إلى الإخوان، وقد كتب المرشد العام للإخوان ردًا على هذه المذكرة فند به كل ما جاء فيها، ولكن هذا الرد لم ينشر طبعًا، ولا يمكن أن تسمح الرقابة بطبعه ونشره على الناس، بل إن وجود صورة منه مع أحد كانت كافية لاعتقاله وسجنه. 

وخلاصة هذا الرد أن هذه الحوادث لا تخرج عن أربعة أقسام.. بعضها مكذوب، وبعضها مفترى لا أصل له كحادثة ضبط الإخوان بالإسماعيلية يتدربون على صنع القنابل والمفرقعات، وبعضها حكم فيها ببراءة الإخوان براءة تامة كالحادثة الأولى التي افتتح بها سعادة الوكيل مذكرته، وهي الجناية العسكرية التي اتهم فيها اثنان من الإخوان وحكم ببراءتهما من هذا الاتهام.. وبعضها كان العدوان فيه على الإخوان فلم يكونوا معتدين ولكن معتدى عليهم أفظع اعتداء، كقضية مدرسة شبين الكوم التي استشهد فيها أحد طلاب الإخوان، وحكمت المحكمة على قاتله بخمسة عشر عامًا، وتعويض قدره ألف من الجنيهات.. وبعضها فردية عن دوافع شخصية أو عائلية لا صلة مطلقًا بينها وبين هيئة الإخوان، أو إحدى شعبها في أي مكان. 

فكيف تتخذ أمثال هذه الحوادث دليلاً على إدانة يترتب عليها الحكم بالحل، وهو الإعدام على أكبر هيئة ظلت عشرين عاما تخدم المجتمع والإسلام، ويكفي لدحض هذه التهمة وإبطالها أن الإخوان عاشوا عشرين عاما طوالا يزداد نشاطهم في ظل القانون، فلم يستطع أحد أن يعتدى عليهم إلا في غيبته وبسلاح الأحكام العرفية، وهي سلطة استثنائية لم تمنح لمثل هذه الشئون والأحوال. 

رد شبهات

أما ما يوجه للإخوان من شبهات في هذا الباب فهذا بيانه، ورد بغاية الوضوح والبيان.

1- ما وجد في بعض أماكن للإخوان من أسلحة أو ذخائر أو مفرقعات معروف سببه: 

وهو أن الإخوان كانوا هم الهيئة العاملة النشيطة التي ساعدت الهيئة العربية العليا في الحصول على أسلحة من مختلف الأماكن، وساعدت إخوان فلسطين عند حضورهم إلى مصر لمشترى السلاح بكل ما استطاعت من مساعدة، وساعدت الجامعة العربية رسميًّا في هذا السبيل، وجهزت معسكرًا كاملاً باسم الإخوان في السويس ثم في النصيرات وفى البريج فهذه الأسلحة للمجاهدين من الإخوان أو الفلسطينيين أو الهيئة العربية والحكومة نفسها تعرف ذلك ولم تكن تنكره حتى تغيرت سياستها عدة مرات، فكانت أحيانًا تطلق الحرية للناس، وأحيانًا تصادر ما يجمعونه بأموالهم من سلاح بعد إذنها لهم بذلك، وأحيانًا تسمح بسفر هذا السلاح للمجاهدين، وأحيانًا تمنع السفر إلى حين وهكذا، فهذا السلاح كان مدخرًا لقضية فلسطين التي أفسدتها علينا سياسة الحكومات المترددة التي أسلمت نفسها للمطامع تارة وللغاصبين تارة أخرى حتى وصلنا إلى هذه النتيجة المحزنة التي لم يكن يتوقعها أشد المتشائمين. 

فالغرض من هذا السلاح معروف، والسبب في عدم تسليمه تردد الحكومة وتناقض سياستها واستمرار الأمل في الاستفادة منه بيد المجاهدين في فرصة من الفرص، فلم يكن عدة إرهاب، ولا أداة عدوان. 

2-حوادث الانفجارات في المحلات اليهودية

يجب أن نكون منصفين في الحكم، وأن نسأل أنفسنا بخصوص هذه الحوادث هذه الأسئلة: 

هل ثبتت هذه الحوادث على أحد بخصوصه إلى الآن؟ مع أنها لا زالت رهن التحقيق. وعلى فرض ثبوتها على أحد فهل ثبتت صلة هذا الفاعل بالإخوان المسلمين؟ وما مدى هذه الصلة إن وجدت؟ وإذا فرضنا أنه من صميم الإخوان فهل ثبت أن الهيئة أمرته بهذا أو شجعته عليه أو وافقت عليه أو أذنت له فيه؟

هذه أسئلة يجب أن نجيب عليها قبل أن نحمل الهيئة النافعة العاملة تبعة هذا الاتهام. على أن هذه الحوادث في حقيقتها لا تخرج عن أنها أثر من آثار تحمس بعض الشباب بمناسبة الحرب، وبمناسبة موقف المواطنين الإسرائيليين الجامد من مساعدة فلسطين العربية، وموقف بعض المصريين منهم بالمشايعة والمناصرة، وثبوت مساعدة كثير من العناصر اليهودية في مصر للصهيونيين في فلسطين مساعدة كبرى، كان لها أثر بالغ في ترسيخ أقدامهم، وتنظيم مستعمراتهم، وإمدادهم بالسلاح والمال. وأمام هذه العوامل وفى غمرة السفور ومقتضياتها اندفع بعض الشباب إلى الأعمال، وعليهم وحدهم تبعتها، وأمرهم في ذلك لله. 

3-حادثة الخازندار بك رحمه الله

لم يكن أحد أشد أسفًا على هذا الحادث من الإخوان؛ لأنه ألقى عليهم هذه الشبهة التي ما كانوا يرضون لتلقى عليهم في يوم من الأيام، ولا يتصور أنه كان بتدبير من الهيئة أو بإيعاز منها، وكثيرًا ما تكون الحوادث وحدها هي الدافع إلى مثل هذا العمل، فقد جاءت أحكام الخازندار بك -رحمه الله- على الطلاب الذين ألقوا القنابل على أندية الإنجليز بالإسكندرية صارمة قاسية؛ إذ حكم على كل طالب منهم بعشر سنوات مع أنه أصدر [حكمًا] على "حسن قناوي" سفاح الإسكندرية -مثلا- بسبع سنوات. وكان الطلبة يتصورون أنهم يستطيعون بحركاتهم هذه أن يحققوا أهداف الوطن ويزعجوا الإنجليز فلا يتشددون مع المفاوضين المصريين، ومثل هذه الأحكام -في عرفهم- تعوق نشاط هذه الحركة الوطنية فيما يعتقدون، ومن هنا اندفع هذان الطالبان إلى هذا العمل، ولسنا نسوق ذلك رضًا بما عملا أو دفاعًا عنهما بعد أن قال القضاء كلمته، ولكننا إنما نسوقه لندفع عن هيئة الإخوان أن تكون هي مصدر التدبير أو الإيعاز.

4-حادث دولة النقراشي باشا

ولا زال بين يدي القضاء، وقد وقع ولا هيئة تسأل ولا قيادة تدبر إذ كانت قيادة الإخوان بين معتقل أو مراقب، وهو رد الفعل الذي كنا نتحاشاه ونتمنى ألا يقع، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه، وعواقب الأمور بيد الله.

5-حادثة المحكمة

لقد استنكره المرشد العام أشد الاستنكار، وبعث بكلمة في هذا الصدد للجرائد فلم تنشر، وألم له الإخوان في كل مكان أشد الألم، ونعتقد أنه تدبير ضد الإخوان أريد به إفساد خطتهم التي كانت تقوم على التفاهم مع الحكومة، والتي مهد لها المرشد العام ببيانه الذي نشر في الجرائد قبل الحادثة بيومين اثنين ويجب -والحادث لازال تحت التحقيق- أن نذكر أنفسنا بالأسئلة الثلاثة الماضية وهي: هل ثبت أن هذا المقبوض عليه هو الذي ارتكبه مع أنه مصر على الإنكار، وما مدى صلته بالإخوان؟ وهل أمر به أو شجع عليه من قبل أحد منهم؟ على أن العدالة تقضى بأن كل الحوادث التي تقع بعد الحل إنما يسأل عنها معهم الحكومة التي تحرم على الإخوان أن يجتمعوا أو يتناصحوا أو يزنوا تبعة عمل من الأعمال.

6-خطابات التهديد

ولقد توالت خطابات التهديد إلى الحكام ودور الحكومة والمنشآت العامة، وشجعت الحكومة نفسها هذه الحركة بنسبها إلى الإخوان واتهامهم بها ظلما وعدوانًا، والنشر عنها في الجرائد حتى صارت عبثًا سخيفًا ومداعبة ثقيلة ومسلاة يتسلى بها الأطفال في المدارس، ويزعجون بها الآمنين من الآهلين، ومع هذا فلم يثبت إلى الآن أن خطابًا واحدًا من هذه الخطابات كتبه أحد الإخوان، وأن الإخوان ولا شك يستنكرون هذا الصغار، ويحذرون من الإصغاء أو التأثر بمثل هذه الأوهام. وقد بلغت الجرأة بهؤلاء العابثين أن يوجهوا مثل هذه الخطابات إلى القصر الملكي باسم الإخوان، والإخوان يبرؤون إلى الله من كل من يلجأ إلى هذا الدس الحقير، ويسألون الله تبارك وتعالى أن يحفظ جلالة الملك المعظم ويؤيد عرشه، وأن يجعل عهده عهد أمن وطمأنينة وسلام وعدل وإنصاف آمين.

وبعد:

هذا البيان يوضح لكل منصف براءة الإخوان المسلمين من هذه التهمة تهمة الجريمة والإرهاب، وبقي أن نوجه هذا السؤال: من المسئول الآن عن اضطراب الأمن ووجود هذه الحالة من القلق والذعر في جميع أنحاء البلاد؟ وكيف السبيل إلى إعادة الأمور إلى وضعها الطبيعي من الهدوء والاستقرار؟

الحكومة بإقدامها على حل الإخوان المسلمين بلا مبرر، ومبالغتها بعد ذلك في ظلمهم واضطهادهم، وهم هذه المجموعة الضخمة من أبناء البلد، واستمرارها في هذا الظلم والاعتداء هي المسئولة ولا شك عن هذا الاضطراب، والسبيل إلى عودة الأمور إلى طبيعتها من الهدوء والاستقرار معبدة ميسرة مأمونة: هي إلغاء هذا القرار، ورفع هذا الظلم عن هؤلاء المواطنين الأخيار، وأخذ المجرم بجريمته في حدود القانون بالعدل والإنصاف، وبغير هذا ستظل هذه الحالة وتزداد، وتكون الحكومة قد وضعت بيدها بذور ثورة لا يعلم مداها إلا الله.

وإن الإخوان لا زالوا معتصمين بالحكمة والصبر مستسلمين لقضاء الله تبارك وتعالى راضين بحكمه، ولكن العقلاء منهم يخشون أشد الخشية أن يفلت الزمام منهم إن استمرت الحكومة في الاعتداء على الأبرياء والتضييق على الأحرار الفضلاء، ونهاية الضغط والانفجار، وحق الدفاع عن النفس والمال حق مشروع في كل زمان ومكان. 

بطلان اتهام الانحراف عن الدين إلى السياسة

وهذه التي طالما كتب فيها الإخوان وأطالوا وأسهبوا وخلاصة ما قيل: ويقال إن هناك أربع نظرات يجب أن يتأملها المنصف قبل أن يصدر حكمه في هذا الاتهام:

الأولى: أن طبيعة الدين الإسلامي نفسه لم تفرق بين الدين والسياسة، وتعرض الإخوان للسياسة سواء أكانت من حيث المطالبة بحرية البلاد وحقوقها أم وجوب الأخذ بنظم الإسلام الحنيف في أوضاعها الاجتماعية على اختلافها ففرض مستمد من الإسلام نفسه ومعتمد عليه وهو جزء من أجزاء هذا الدين لا انحراف فيه.

الثانية: أن الإخوان في الحقيقة قد اضطروا إلى ذلك اضطرارًا بفعل الحوادث والظروف وحدها، فقد كان نشوب الحرب العالمية الثانية وإعلان الأحكام العرفية وكبت الحريات وتوجيه الاضطهاد إلى الإخوان بحيث لم يكن منفذا للدفاع إلا مجلس النواب، ثم كانت الهدنة بعد ذلك، وتطلع الشعوب إلى استكمال استقلالها والحصول على حقها مع ضعف الهيئات السياسية في مصر وتفككها واختلافها.. كل ذلك دفع بالإخوان وهم هيئة شعبية كبرى إلى هذا المسرح، ومع هذا فقد أبلت أحسن البلاء في هذا الميدان، وساهمت في قضية الوطن وقضايا البلاد العربية والإسلامية بأوفى نصيب، ولو أخذ الساسة والحكماء بما أبدى الإخوان من آراء في علاج قضية فلسطين وحل قضية السودان لما وصل بهم إلى هذا الحال، وقرارات ومؤتمرات الإخوان وهيئتهم التأسيسية ومذكراتهم ورسائلهم خير شاهد على صدق هذا الكلام.

الثالثة: أن الإخوان لم يعملوا يومًا من الأيام على أساس المناورات الحزبية أو المغانم السياسية، ولكنهم عملوا بروح الوطنيين المتجردين الذين ينظرون إلى المسائل من حيث نفعها للوطن إحساسًا بمصلحته، وإن كانت طبيعة الحزبية السياسية لم تعفهم من مظاهر الخلاف والخصام، ولكنهم مع ذلك لم يخرجوا عن حدود الدفاع المهذب، وتمنى الخير للجميع، والترحيب بالوحدة والجماعة والدعوة إليها في كل حدث من الأحداث.

الرابعة: أن الإخوان حين اقتحموا هذا الميدان منذ سنة 1945 كانوا أمناء على مبادئهم وخطتهم ومشروعاتهم، فأعلنوا بمناسبة صدور قانون الجمعيات الخيرية أنهم يفصلون تمام الفصل نشاطهم الاجتماعي الخيرى عن نشاطهم الديني والوطني، وظلوا يعملون في الميدانين في حدود النظام والقانون، وسجلت جمعياتهم في وزارة الشئون الاجتماعية، ولم تر حكومة من الحكومات في هذا الوضع انحرافًا عن الدين أو خروجا على القانون أو منافاة للنظام أو تنكرًا لمبادئ الجماعة نفسها، حتى يقول سعادة وكيل الداخلية "إن هذه الجماعة قد خرجت على نظامها الأساسي" مع أن كل ما هناك تنظيم وتفصيل.

بطلان اتهام العمل على قلب نظام الحكم

وهذه في الواقع أعجب الاتهامات، ولا ندرى أي نظام حكم يعنى هؤلاء المتهمين، إن نظام الحكم في مصر إما ديني وهو الإسلام الذي ينص الدستور على أنه دين الدولة الرسمي وإما مدني وهو النظام الديمقراطي الذي يقوم على إرادة الشعب واحترام حريته، والذي فصله الدستور تفصيلا فهل الإخوان المسلمون يعملون على قلب أحد هذين النظامين؟ اللهم لا! وألف مرة: لا! فإن أساس دعوة الإخوان هو الإسلام، ولا وسيلة لهذه الدعوة ولا حماية لها إلا بالدستور الذي يكفل الحريات، فكيف يوجه إلى الإخوان مثل هذا الاتهام؟ والحق أن الذي قلب نظام الحكم فعلا هو هذه الحكومات التي أهملت أحكام الإسلام وعطلت روح الدستور. 

هذه المنكرات الفاشية، وهذه الدور المشيدة للهو واللعب والخمر والميسر والرقص والعبث والفساد، وهذه الفرائض المهدرة التي لا يؤديها الكبار ليكونوا قدوة لغيرهم من الناس، وهذه الأحكام المستمدة من غير كتاب أحكم الحاكمين كل ذلك هدم للإسلام، وقلب لنظام المجتمع الذى يؤمن بالإسلام، وهذه المظالم الواقعة على الأفراد والجماعات وإهدار الحقوق وكبت الحريات ومنع المجالس والبرلمانات وتزييف إرادة الشعب في الانتخابات قلب لنظام الحكم المدني الذى يقوم على الدستور، وليس المسئول عن ذلك الإخوان المسلمين ولكن الحاكمين المسيطرين، وإنما يريد الإخوان صلاح الحال واستقامة الأوضاع الدينية والدنيوية في هذا البلد الأمين بوسيلة معروفة مشروعة هي الدعوة والاجتماع والتربية وحسن التوجيه، وذلك حق لكل مواطن لا يحول بينه إلا كل ظالم معتد جبار، والله من ورائهم محيط. 

على أنه إذا كان الكيد والألم من هذا الحال المقلوب، وهذا الباطل الزائف الذي يلبس ثوب الحق زورًا قد وصل ببعض الشبان من الإخوان أو غير الإخوان إلى أن يتخيلوا أو يفكروا أو يظنوا أن في مقدورهم أن يغيروا هذا الوضع الفاسد بوسائل من العنف كاستخدام القوة، فهؤلاء مسئولون عن نتائج تفكيرهم، وليست هيئة الإخوان مسئولة عنهم أو عن غيرهم ما دام طريقها واضحًا، ووسيلتها معروفة معلنة على الخاص والعام مقررة في قوانينها ونظمها ورسائلها لم تخرج عليها يومًا من الأيام. 

ومن الإنصاف أن نقول لوجه الحق: إن الحكومات المتعاقبة، والتيارات السياسية في مصر مسئولة مسئولية كبرى مع هؤلاء الشبان عن سلوكهم هذا الاتجاه، فهي بتماديها في الباطل وكبتها للحق دفعتهم دفعًا إلى هذا السبيل، ونحن لا ندافع بهذا القول عن هذا الاتجاه الذي لا نشجعه ولا نرضاه فإن خطتنا الصبر والمطاولة والتربية والتكوين والانتظار، ولكنها كلمة حق يجب أن تقال لعل فيها تبصرة وذكرى ونذيرًا للغافلين عن تطورات النفوس وتقلبات الأحوال. 

 

الفصل الثالث

السبب الحقيقي لإصدار أمر الحل 

وموقف الحكومة المصرية من الإخوان

وإذا كانت هذه الأسباب التي ذكرها سعادة وكيل الداخلية في مذكراته كلها باطلة، وهذه الاتهامات التي وجهها للإخوان غير صحيحة، فما السبب الحقيقي لإصدار أمر الحل ووقوف الحكومة المصرية من الإخوان هذا الموقف الشاذ الذي لم تقفه من أحد حتى من الصهيونيين أعدائها المحاربين، والجواب على ذلك أن هناك عدة أسباب منها: 

1-الضغط الأجنبي:

فلقد أقر سعادة وكيل الداخلية بنفسه للأستاذ المرشد العام أن مذكرة قدمت إلى النقراشي باشا من سفير بريطانيا وسفير فرنسا والقائم بأعمال سفارة أمريكا بعد أن اجتمعوا في فايد في 6 ديسمبر تقريبًا يطلبون فيها المبادرة بحل الإخوان المسلمين، وذلك بالطبع طلب طبيعي من ممثلي الدول الاستعمارية الذين يرون في الإخوان المسلمين أكبر عقبة أمام الامتداد لمطالبهم، ولشعبها في وادى النيل وفى بلاد العرب ومواطن الإسلام، وليست هذه أول المرات التي طلب فيها مثل هذا الطلب بل هو طلب تقليدي كان يتكرر دائما على لسان السفير البريطاني في كل المناسبات لكل الحكومات، وكانت كلها تحجم عن إجابته حتى في أحرج الأوقات فلقد طلبت السفارة من رفعة النحاس باشا في سنة 1942 -والحرب العالمية على أشدها والألمان على الأبواب- حل الإخوان المسلمين وتعطيل نشاطهم، فأبى أن يجيبه إلى ذلك، واكتفى بإغلاق الشعب كلها مع بقاء المركز العام إلى حين، وكان في وسع دولة النقراشي باشا -رحمه الله- أن يرفض هذا الطلب أو أن يتفاهم مع الإخوان على وضع يريحهم ويريحه، ولقد كان الإخوان على أتم الاستعداد لهذا التفاهم، وبخاصة بعد عودة المرشد العام من الحجاز على أنه لم يفعل ذلك، وخطا هذه الخطوة التي لا تدل إلا على أن مصر لازالت للأجانب قبل أن تكون لأبنائها وأنه لازال للأجانب كل النفوذ والسلطان في هذه الأوطان ولا حول ولا قوة إلا بالله. 

2-التمهيد للمفاوضات

كما أن من هذه الأسباب كذلك التمهيد لإجراء المفاوضات مع الإنجليز من جديد، وقد علم الخاص والعام أن الإخوان هم أعظم العقبات ضد المساومة على حقوق البلاد والعبث البريطاني بها في مناورات المفاوضات، وقد أشارت إلى ذلك الصحف الأجنبية بمناسبة قرار الحل، فكان طبيعيا أن يمهد للمفاوضات المنتظرة بحل الإخوان، وشغلهم بأنفسهم عن مجريات الأمور، وتقلبات الأحوال وعن التطلع إلى ما يجرى بالسودان من فظائع ومآسي ونكبات، وها هي ذا بوادر السياسة ونتائجها بدأت في الظهور الآن، وسيعيد التاريخ نفسه من جديد فتتآلف الأحزاب وتتم المفاوضات وتوقع المعاهدة وتصبح معاهدة المجد والفخار. 

3-ستر الفشل في قضيتي فلسطين والسودان

ولقد فشلت الحكومة المصرية والحكومات العربية فشلاً ذريعًا في حل قضيتي فلسطين والسودان، وتعلم الحكومة تمام العلم معرفة الإخوان الدقيقة ببواطن الأمور وأسباب هذا الفشل، وتشعر بأنهم سيشددون عليها الحساب، فأرادت أن تسبقهم إلى ذلك وأن تستر هذا الفشل بهذا الإجراء، ولعلها كانت تتوقع أن يثور الإخوان في مصر أو يتمرد المتطوعون منهم في فلسطين، فتحملهم تبعة ما يكون بعد ذلك، ولكن الإخوان لا يسعهم في دينهم وإخلاصهم لوطنهم وأمتهم إلا أن يسدوا على الفتنة كل الثغرات فلم يكن منهم إلا ضبط الأعصاب وتحمل الصدمة بالصبر والثبات ومعالجة الأمور بالحكمة والإنارة والعاقبة للمتقين.

4-الإعداد للانتخابات القادمة

كما وقر في نفس القائمين بالحكم أنهم هم الذين سيجرون الانتخابات القادمة في هذا العام، وأنهم بذلك يستطيعون أن يكتسبوا دورة برلمانية جديدة بالأساليب المعروفة في الانتخابات، وهم يعلمون مدى تغلغل فكرة الإخوان في نفوس الشعب ومختلف طبقاته، وبخاصة في القرى والريف، فكان طبيعيًّا أن يحسبوا حساب منافستهم في هذا الميدان، وأن يحاولوا بمثل هذه الضربة أن يباعدوا بينهم وبين بعض الجمهور، ويشوهوا جهادهم هذا التشويه على ملأ الناس، وهكذا تلعب الروح الحزبية دورها في مثل هذا الشأن الخطير النتائج العميقة الآثار.

5-الأصابع الخفية

ولا ننسى في هذا المضمار عمل الأصابع الخفية والدسائس من ذوى الغابات الذين خاصموا هذه الدعوة من أول يوم وتربصوا بها الدوائر حتى أمكنهم منها الفرصة وساعدتهم الظروف فاحكموا الخطة ودأبوا على التدبير والكيد حتى وصلوا في النهاية إلى ما يريدون، فاليهودية العالمية والشيوعية الدولية والدول الاستعمارية وأنصار الإلحاد والإباحية كل هؤلاء من أول يوم يرون في الإخوان ودعوتهم السد المنيع الذى يحول بينهم وبين ما يريدون من تحلل وفوضى وإفساد ولا يألون جهدا في معاداتهم بكل ما يستطيعون، وهم لم يستطيعوا كتمان شعورهم هذا ولا إخفاء سرورهم وفرحهم لنجاح خطتهم حين أعلن قرار الحل فأقاموا المآدب والولائم وتبادلوا التهاني، وجعلوه يومًا من أيام المواسم والأعياد. وهكذا أقرت الحكومة المصرية بهذا التصرف أعين الضالين المضلين بالعدوان على المؤمنين العاملين، وإلى الله المشتكى والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وتلك الأيام نداولها بين الناس، ولله عاقبة الأمور.

 

الفصل الرابع

ماذا قدم الإخوان لوادي النيل 

وبلاد العروبة ووطن الإسلام

وحتى نقرب للتصور والأفهام مبلغ الخسارة الفادحة التي أصابت الوطن والإسلام بتعطيل نشاط الإخوان المسلمين -ولو إلى حين- نضع بين يدي الرأي العام هذه الصورة المصغرة جدًّا من آثار جهاد الإخوان خلال عشرين عاما مضت حافلة بأعظم الأعمال.

1-فكرة جديدة وشعور جديد:

لقد أعلن الإخوان في الناس أن الإسلام نظام اجتماعي كامل، فهو ليس دينا فقط بالمعنى الذى قررته النظم الأوربية في الأذهان مقتصرًا على المعابد والصوامع والخلوات ولكنه: دين ودولة، ونظام كامل للحياة بتناوله كل شيء في مجتمع المؤمنين به، والمفتدين له، وليست هذه الفكرة جديدة في الحقيقة لأنها طبيعة الإسلام الذى جاء به رسول الله سيدنا محمد  عن ربه، فأنشأ دنيًا وأحيا أمة وأقام دولة وأسس حضارة دونها كل الحضارات السابقة واللاحقة، ولكن الجديد هو إحياؤها في النفوس ولفت الأنظار إليها بعد أن كادت تصبح في زوايا النسيان والإهمال بسبب غلبة الثقافة الغربية والخديعة بما جاءت به من نظم وإصلاحات وقررته في الأذهان من مبادئ وأوضاع تفصل بين الدين والدنيا في مختلف شئون الاجتماع.

2-جيل جديد

ولا شك أن دعوة الإخوان أنشأت جيلاً جديدًا من الناس يعيش بفكرة ويعمل لغاية ويكافح في سبيل عقيدته، ويعطى ولا يأخذ ويؤمن بالله واليوم الآخر، ويتمسك بالفضيلة ومكارم الأخلاق، ويؤثر البذل والتضحية في سبيل الله وابتغاء مرضاته، ويعزف عن الشهوات الدنيا ومطامعها الزائلة، ويتميز في المجتمع بذوق خاص وحكم خاص وفلسفة عالية يطبقها الصغير، ويوضحها الكبير ويشترك في الشعور بها أبناء الفكرة على السواء وإن اختلف أسلوب التعبير.

لقد كان المواطن المصري يكره الغربة، وينفر من الهجرة، ويفر من الموت، ويخاف من تبعات الجهاد لا في قصور في طبعه -فهو أفضل الطباع- ولا عن نقص في نفسه -فهي أعلى النفوس- ولكن على ضعف في أساليب التربية، وسوء في معانى التوجيه، وخلو من الأهداف والآمال، فجاءت دعوة الإخوان تحارب هذا كله بالتربية القويمة والتوجيه الصحيح، ووضع الهدف الواضح المستنير أمام هذه النفوس المشرقة بطبعها ومواريثها وعمق إيمانها، فنشأ جيل عزيز كريم مغامر لا يبالى أن يذهب إلى أقصى الأرض في سبيل مختار على قصر المدة واضطراب الظروف والأحوال، جيل غايته [هذه] فيلقى الموت باسمًا كأنه يزف إلى عروس، ويقدم للجهاد ما يملك من طريف، ولقد ظهرت هذه الخصائص بأوضح صورها في المتطوعين من الإخوان في فلسطين، أولئك الذين أتوا بالأعاجيب، وكانوا أمثال الشجاعة والنزاهة والعفة والأمانة وحسن الأخلاق، وقاموا دليلا عمليا على نجاح أسلوب الإخوان في تخريج الرجال، وبناء الأجيال يقطع لسان المكابرين ويأخذ السبيل على المجاهدين.

3-مدارس ومعاهد ومساجد

ولقد تألف للإخوان في مصر وحدها (2000) ألفا شعبة، وفى السودان خمسين فكانت كل دار من دورها معهدًا للثقافة الشعبية، ولقد أسس الكثير منها المنشآت العلمية والدينية وبعض المدارس والمعاهد الليلية والنهارية، فأحدثت حركة ثقافية كانت منار التقدير والإعجاب. 

4-شركات ومصانع ومنشآت اقتصادية

لقد وجهت هذه الدعوة الشبان إلى الميدان الاقتصادي، وساعدت على إنشاء عدة شركات تتبعها عدة مصانع كان يعمل فيها أكثر من 500 شاب ما بين موظف وعامل، وأخذت روح المغامرة الاقتصادية تدب في نفوس الكثيرين من غيرهم، وكانت هذه المعامل الشركات تمثل فكرة اجتماعية طيبة، هي فكرة تضامن العامل مع صاحب العمل بروح الأخوة الإنسانية مع المساهمة الاقتصادية أيضًا، فالعامل مساهم في المصنع وله جزء من رأس المال، وبذلك قضى تمامًا في هذه البيئة على أسباب الخلاف وكانت تجربة موفقة ناجحة كل النجاح.

5-صحف وجرائد ومجلات

ولقد أمدت الدعوة المجتمع المصري بغذاء ثقافي بما نشرته من صحف وجرائد ومجلات وكتب، فكانت هناك جريدة الإخوان اليومية، ومجلة الإخوان الأسبوعية، ومجلة الشهاب الشهرية، إلى مجموعة من الكتب القيمة تسابق في تأليفها ونشرها ُكَّتاب من الإخوان في التاريخ والأدب والاجتماع. 

6-مؤسسات طبية وأندية رياضية وبر وإحسان

وكان لجماعات أقسام البر والخدمة الاجتماعية فضل كبير في إنشاء عيادات ومستوصفات في كثير من الأحيان، وإنشاء مستشفى شعبي في حي العباسية، مع توجيه الشباب إلى العناية بالناحية الرياضية والاتصال بالأندية في هذه الناحية مما جمع بين طب الوقاية وطب العلاج، ودرس مشروع التأمين الصحي للأعضاء وكان على وشك النفاذ، وكان للإخوان بعد هذا فضلا بتنظيم الإحسان والصدقات في كثير من القرى والبلدان. 

7-وحدة جامعة

وفوق هذا كله فقد كانت دعوة الإخوان في الحقيقة وحدة جامعة للعناصر الحية العاملة المخلصة في كل بلاد العروبة ومواطن الإسلام، وكانت بذلك تمثل أحسن تمثيل الجامعة العربية الشعبية أو الجامعة الإسلامية بعبارة أوسع، فهي حلقة الاتصال بين الهيئات والجامعات الإسلامية في كل هذه البلاد والتواصل والتراسل دائم بينها في كل وقت وبخاصة أمام الظروف الطارئة والأحداث الجسام، ومن هنا ساهمت الدعوة في كل الحركات التحررية للبلاد العربية والإسلامية، فاتصلت بسوريا ولبنان في محنتهما حتى جلا عنها الفرنسيون وتم لهما الاستقلال، وأبلت في قضية فلسطين أحسن البلاء، وشاركت الباكستان في شعورها وأملها وألمها حتى ظهرت إلى الوجود، وكان لها في الحركة الإندونيسية الأثر المحمود؛ حتى أن الحزب الإسلامي أعلن انضمامه للإخوان، وظلت الدعوة كذلك تناضل مع أحرار شمال أفريقيا في سبيل حقهم المغصوب إلى الآن فضلاً عن تنبيهها الأذهان إلى حقوق الأقليات الإسلامية في مختلف الأوطان، فكانت بذلك وحدة بين المسلمين أينما كانوا أساسها وحدة الألم والأمل ولحمتها العمل والإيمان. هذا بعض ما قدم الإخوان المسلمون للأمة خلال كفاحهم المبارك، فهل من الأحزاب والهيئات من سلك هذا السبيل، أو قدم مثل هذا المنهاج والإنتاج؟! ويا ويح أمة تقدر على الهدم ولا تحسن البناء، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

 

الفصل الخامس

خطوات التفاهم قبل الحل وبعده

إننا نعلم أن خصوم هذا الوطن كثيرون وهم له بالمرصاد، وأن الأمة في هذه الظروف أحوج ما تكون إلى كل ذرة من جهود أبنائها حاكمين ومحكومين، وكل دقيقة من وقتهم تصرف في النافع المفيد من الأعمال، وقد قدرنا التبعة التاريخية الجسيمة التي يتحملها من يتسبب في صرف الشعب عن واجبه في هذه الأوقات، ولهذا تحملنا الصدمة العنيفة التي لم نكن نتصورها بصبر عجيب وتلقيناها بهدوء وثبات، وحاولنا أن نمهد السبيل للحكومة لتراجع نفسها وتعيد الأمور إلى نصابها، وبذلنا جهد المستميت في سبيل تفادى الكارثة والعمل على حصر نتائجها السيئة في أضيق نطاق، وكل ما نرجوه من وراء ذلك أن نعذر إلى الله والناس، ولكن المسئولين هداهم الله أبوا إلا أن يضاعفوا مظاهر الظلم ويسيروا في طريق الاعتداء إلى النهاية، ويبالغوا في التنكيل بالأبرياء. 

من حق الرأي العام علينا أن نطلعه في هذا البيان بما اتخذنا من خطوات للتفاهم حتى يتحمل المعتدون وحدهم أمامه تبعة النتائج التي تترتب على مسلكهم، وحتى يعمل المخلصون الغيورون معنا على النصح لهم بالعدول عن خطئهم ومن الإنصاف أن نقول للضارب: كف. قبل أن نقول للباكي: أسكت، والله نسأل أن يهدينا جميعًا سواء السبيل. 

لقد اتصل المرشد العام للإخوان بالحكومة عقب عودته من الحجاز ليوضح لهم وجه الحق وليتفاهم معها على ما تريد، فأوصدت الباب واستعان في ذلك ببعض من لهم بها صلة، فأبت إلا ما اعتزمت من قرار، ولم يقل هذا من عزمه، فوالى اتصالاته بكل الجهات، ولكن الحكومة كانت قد صممت فلم يفد معها نصح الناصحين ولا مشورة المخلصين. 

وفوجئت الأمة بهذا القرار الخطير -قرار حل الإخوان- الذي خسرت به البلد -إلى حين- هيئة من انشط الهيئات العاملة لخيرها، ولم يكن أحد يتصور أن ملحقاته وتنفيذه سيكون بهذه الصورة التي لم ير التاريخ لها مثيلا مع ألد الخصوم والأعداء، وصبر الإخوان صبر الكرام تقديرًا للظروف والتبعات، واستأنف المرشد العام اتصالاته بالوزارة والمسئولين، وكان كل ما يطلبه من الحكومة أمرين اثنين:

(أ) رفع المظالم التي وقعت على الناس بلا سبب في أموالهم بالمصادرة، وفى أعمالهم بالتعطيل، وفي أنفسهم بالسجن والاعتقال.

(ب) إطلاق حرية الدعوة في الوقت المناسب بالأسلوب الذي لا ينال من هيبة الحكومة ولا يعطل من نشاط الأخوة. 

وفى نظير ذلك يتعهد المرشد العام ورؤساء الإخوان أن يكونوا أعوانا صادقين للحكومة في استقرار الأمن واستتباب النظام.

ومع كل هذا فقد أبت الحكومة كل الإباء أن تقبل حتى فكرة التفاهم على أي أساس، وفوجئت الأمة بالكارثة الثانية كارثة وفاة النقراشي باشا الذى خسرت بها البلاد رجلا من زعماء نهضتها، وهى أحوج ما تكون إليه وجاءت وزارة دولة إبراهيم عبد الهادي باشا، ودعت إلى الوحدة القومية وبدأت عهدها هذا البدء الكريم، فاتصل المرشد العام ببعض أصحاب المعالى الوزراء، ووجد منهم استعدادًا كبيرًا للتعاون على الخير حتى تستقر الأمور، وتهدأ الحال وكان هذا الاتجاه في الحقيقة أفضل علاج وأنجح دواء، ولكن ذوى الأغراض الذين لا يعيشون إلا على الصيد في الماء العكر لم يعجبهم هذا، فاتخذوا من حادث محاولة نسف مكتب النائب العام ذلك الحادث الذى لا ذنب للإخوان فيه ولا علم لهم به، بل اعتبروه موجهًا لهم قبل أن يكون موجها لغيرهم وذريعة للمناداة بالويل والثبور وعظائم الأمور ووضع العراقيل في وجه دعاة التفاهم والإصلاح والانطلاق في سبيل البغي والظلم والتنكيل والاعتداء، وأخذوا يعتقلون الأبرياء من غير حساب حتى بلغ من اعتقلوهم في يومين اثنين على أثر الحادث أكثر من ثلاثمائة شخص ليس فيهم متهم أو مجرح، وكان هذا التصرف كافيًا للعدول عن خطة التفاهم مع الذين يعمدون للمراوغة كسبًا للوقت وتمكنًا من الانتقام، ولكن الأستاذ المرشد أبى ذلك ولم ييأس وعاود اتصالاته بكل من يعرف أنهم يستطيعون أن يفعلوا شيئا لدرء هذه الأخطار، ولكن النتيجة كانت الإسراف في الظلم والاعتداء، وكانت الطامة الكبرى التفكير في أن ينتقل هؤلاء المعتقلون إلى الطور، وهكذا رفضت الحكومة مصافحة اليد التي امتدت إليها بالسلام وأصرت على أن تمضي في خطة الاعتداء والظلم والخصام وكانت الأولى خيرا لهم لو كانوا يعقلون.

 

الفصل السادس

معنى هذا الموقف ونتائجه

ومعنى هذا الموقف بوضوح أن الحكومة المصرية قد عمدت إلى نخبة ممتازة وصفوة كريمة من أعز أبناء هذه الأمة المثقفين المؤمنين الأطهار ذوى المصالح والأعمال لا يقل عددها عن نصف مليون من الأنفس غير من يتصل بهم من الأقارب والأصهار والأصدقاء وذوى الأرحام، وحكمت عليهم جميعا بأنهم مجرمون متشردون لا يستحقون أن يعيشوا في بلدانهم عيشة المواطنين الآمنين، وصبت عليهم جام غضبها وسوء انتقامها، فاستلبت حريات الكثير بالاعتقال بل بالنفي والتغريب والإبعاد، وشردت الكثير بالفصل والانتقام، وصادرت أموالهم وأعمالهم وممتلكاتهم بعد أن احتجزت حقوقهم وكرامتهم وحرياتهم، وأشاعت عنهم بين مواطنيهم بكل وسائل الدعاية المختلفة والاتهامات التي لو صحت لكانت مصر بعد ذلك بلد الإجرام وموطن المجرمين لا ينازعها في ذلك منازع.. فأوجدت بيدها في الأمة الموحدة طبقة جديدة، وطائفة مظلومة مهضومة متميزة عن بقية المواطنين بهذا الطابع، طابع الظلم والكبت والاضطهاد في سبيل العقيدة والإيمان.

ومن هذه الطائفة؟ هي الإخوان المسلمون فلذة أكباد هذا الوطن، وخيرة شبابه ورجاله والجزء الشاعر الواعي في هذا الجسم الخامل المريض.

ولم كل هذا؟ لاتهام باطل لم يقم عليه دليل، ووهم كاذب لم يحققه برهان، وخوف داهم لا مبرر له، وحجة أوهى من بيت العنكبوت، وطريق الأمن والسلامة أمامهم لو أرادوا أن يسلكوه ولا يكلفهم شيئًا إلا أن يكونوا عادلين والعدل أساس الملك كما يقولون.

ومن الذي يفعل هذا، ويحكم به؟ الحكومة المصرية التي أخفقت في المفاوضات مع الإنجليز فقطعتها وذهبت إلى مجلس الأمن، فعادت منه بخفي حنين، وتركت قضية الوطن على رفوفه العالية في زوايا الإهمال والنسيان، وتجاهلت الإنجليز بعد ذلك تجاهلاً تامًّا وتركتهم يفعلون ما يريدون حتى أضاعت بهذا التجاهل السودان، واتبعت سياسة التردد والاضطراب في قضية فلسطين، قبلت الهدنة الأولى؛ فأضاعت بهذا القبول كل شيء وحرمت الجيش المصري الباسل ثمرة انتصاره، وأفقدت الوطن ملايين الجنيهات، وآلاف الرجال فضلا عن فقدان الكرامة وسوء الحال والمآل.

ودللت يهود مصر فلم تتخذ معهم أي إجراء مع مواقفهم من مناصرةٍ أعداء الوطن وخصوم البلاد، والتي يعيش آمنا في ظلها كل أجنبي أفّاق ومتشرد طريد وعابث عربيد آمنا مطمئنًا على نفسه وماله وعبثه وفساده، وتحمى حانات المسكرات وبيوت العاهرات ودور المنكرات وأبواب المراقص والبارات، والتي عجزت كل العجز عن إنقاذ شعبها من براثن الفقر والمرض والجهل والعطل والغلاء الفاحش الذي يئن منه الأقوياء فضلاً عن الضعفاء، والتي لا يؤيدها ولا يسندها إلا نفر قليل ضئيل من أصحاب المصالح الشخصية فهي في وادٍ والأمة في وادٍ. 

هذه الحكومة التي تطارد الإخوان المسلمين، وهم الشعب، وتحكم عليهم بالإجرام والنفي والتشريد ومصادرة الأموال والأملاك والحريات، ولو أخذت الأمور وضعها الصحيح، وكانت الكلمة للحق لا للقوة لحَاكَمْناكم نحن أيها المفرطون، على هذا التفريط، ولحاسبناكم على هذا العجز أشد الحساب، ولكن دولة الظلم ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

وبأي سلاح هذا؟ بسلاح الأحكام، وبالسلطة الفردية الاستثنائية التي وضعت في يد الحاكم العسكري بحدود وقيود، وكانت الغاية من تخويلها إياه -حماية الجيوش والمحافظة على سلامتها- فجاوز في استخدامها كل حدود وتناسى كل قيد واستغلها في عكس ما وضعت له تمامًا، وحمى بها أعداء الجيش وحارب بها أصدقاء الجيش وزملاءه في السلاح. 

من الذي يقول: إن الأحكام العرفية التي فرضت لحماية الجيش من اليهود تطبق بأفظع صورها على الإخوان المسلمين أصدقاء الجيش وأعداء اليهود، لقد هم المتطوعون من الإخوان بالتوقف حين بلغهم قرار الحل الذي كان له في نفوسهم أسوأ الأثر ولكنهم راجعوا أنفسهم، وتذكروا أنهم في ميدان جهاد وأن هذا التوقف ضار بموقفهم وبموقف الجيش معهم، فعدلوا عنه واكتفوا بأن سجلوا احتجاجهم أمام قوادهم، وعادوا إلى ميادين جهادهم فهل كان الحاكم العسكري بتصرفه هذا يحمى الجيش أم يعرض سلامته للخطر.

إن الحاكم العسكري قد اعتدى على القانون:

أولاً: بتخطيه أصول المحاكمات العادية، وعدم انتظاره كلمة المحاكم فيما يوجهه إلى الإخوان من اتهامات باطلة، كما اعتدى على الأحكام العسكرية.

ثانيًا: بسوء استخدامها في غير ما وضعت له وفرضت من أجله، وهو بذلك قد ظلم ظلمًا لم يعرفه الناس حتى في عهد محاكم التفتيش التي كانت تستر طغيانها بستار صوري من الإجراءات والمحاكمات ولا تجرؤ أن تواجه الرأي العام بقرار كل سنده إرادة فرد يخطئ ويصيب.

يا حضرات السادة الحكام، لن ترضى هذه الجماعة لنفسها أن تضع لكم تقرير مصيرها، ولن تسمح لكم بأن تقلبوا الحقائق، وتعتدوا على الحريات، وتصادروا الأموال والممتلكات، وتظلموا الأبرياء بالباطل، وإنها لتحملكم أمام الرأي العام نتائج ما يحدث عن هذا العدوان وعلى الباغي تدور الدوائر.

﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ في الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الشورى: 41-42].

 

المقال التالي رسالة المناجاة
المقال السابق الدستور في فكر الإمام حسن البنا