مني إلى شهيد الإسلام

حسن البنا في عيون أخيه الضابط عبد الباسط البنا

كل أيامي بعد اغتيال أستاذي وشقيقي شهيد الإسلام حسن البنا أيام ذكرى، ولم يزد يوم الذكرى نفسه عن هذه الأيام إلا أنه يوم الحقيقة التي أفزعت الشرق بأسره، وجنت على الإسلام في أعز ناصر.

ومنذ هذه اللحظة المشؤومة والنفسُ تتفانى في الوصول إلى الحقيقة، وجريًا وراءها وهذا هو السر في أن كل أيامى بعده – رضي الله عنه - أيام ذكرى.

سيدي الإمام يا شهيد الإسلام.

السلام عليك في جنة الخالدين.

السلام عليك في زمرة المتقين.

السلام عليك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

وبعد: أدركني موعد الذكرى وأنا أعد للقراء "دائرة معارف الله أكبر ولله الحمد"، وكنت أتلاطم مع أمواج البحر الثائر من الذكريات الخالدة لأطالعهم بالكتاب الأول منها "مع الشهيد الإمام المرشد العام" مصورًا حياة دعوة الحق في حياتك منذ مولدها يوم كان انشغالنا الدائم بالإخوان، وخروجنا من المنزل إلى الإخوان، ووقتنا خارج المنزل للإخوان، وعودتنا إلى المنزل مع الإخوان - وبعد أن ينصرف الإخوان كنت يا إمامي تحدثني عن الإخوان - إلى أن كتب الله للدعوة نصرًا وتأييدًا فأصبحت تمثل الفلاح والعامل والموظف والفقير، وتمثل النهضة السياسية التي ترتكز إلى الدين وهو أعرق مقومات هذا الشعب المؤمن، وتمثل الشمس المشرقة شمس الشعب أمام الشمس الآفلة شمس الملكية، بفضل ذلك الإعداد الروحي المستقيم، وذلك الإعداد الحربي العظيم لا للاستعراضات ولا للزهو ولكن ليوم يستطيع فيه الإخوان أن يبطشوا بطشتهم فيزيلوا الطاغوت كما كنت يا إمامي تلقب الملك في مصر.

كنت أصور للقراء في كتابي "معك" ما كان، بعد أن بطشت الحكومة والملك الطاغية والاستعمار وكافة القوى الرجعية الظالمة بهم في شخصك الكريم، وحكمت مصر حكومة غاشمة تحسب أنها بهذا الاضطهاد تخضد شوكة الإخوان وتجعل نفوسهم تخشع أمام رهبة الظالم فينقلبون على دعوتهم، ناسية تلك الحكومة أنك يا إمامي قد وطنت أنفسهم على تقبل الاضطهاد واعتباره دليلا على نجاح الدعوة وسلامتها.

كنت أعد في كتابي "معك" تصويرًا لوقت ألقى الإرهاب رداءه الكثيف فخشعت له النفوس وحارت فيه العقول، واعتقل الإخوان أعضاء مكتب الإرشاد وغيرهم في كل مكان وظللنا منفردين نواجه الموت كل ليلة نسعى في الظلام، وأنت يا إمامي تبذل كل ما في وسعك ليثوب صغار النفوس حكام البلاد إلى رشدهم ويرجعوا عن غيهم، وليفرجوا عن الإخوان المعتقلين.

كنت أعد ذلك لأكشف اللثام عما انفردنا بسماعه من المخزيات المضحكات ممن كانوا يسمون وزراء ورؤساء نواب، ذاكرًا لك يا إمامي مواقفك الخالدة، وأنت تندد بتصرفهم المشين وتثور عاقبة محاربة الله ورسوله في دعوة الإخوان بأسلوبك الكريم وحكمتك البالغة، وبما تكن في نفسك السامية من غيرة على الدين وحرص على سلامة البلاد، وإسعاد أبنائها إلى أن تبينت يا إمامي نواياهم الخبيثة وما بيتوه للدعوة وأنصارها من شر، بينما أنا أصور ذلك غارقًا في بحر ذكرياتك الغالية التي تعاودني حيثما كنت، وتلاحقني أينما حللت، أحسست بالقلم يرتجف والروح تنادي والقلب يدمع، وساعة صاخبة لم تر الأرض أفظع منها تقترب مني فطويت الصحائف من دائرة المعارف واتجهت بروحي أناجي الروح.

سيدي وإمامي: شاء الله أن نكون منفردَيْن في عهدين سجلهما التاريخ لدعوة الحق، عهد تكوينها بمدينة الإسماعيلية، وفترة محنتها بعاصمة البلاد منذ أعلنت الحكومة الغاشمة قرار الحل المشؤوم إلى أن فرق بين شملينا ولاةُ السَّوء حماة الظلم، فقادوني تحت حراسة أفظع مما يتخيله خيال الواهمين إلى سجن بلوكات النظام مطمئنين بذلك إلى أنهم نفذوا خطة دبروها لتجريدك يا إمامي وإني في ذلك الكون الضيق الفاني بما فيه من ظلم وألم وخداع وندم ونفاق فاجر وفساد كافر وقلوب قُلّب تتجاذبها أهواء الدنيا وتلعب بها مغريات الحياة بألوان الخداع والنفاق - إلا من ثبت الله - اللهم يا مثبت القلوب ثبت قلبي على الإيمان.

أريد أن أنفث ما بنفسي وما يعتلج بها من أحاسيس مختلفة في سطور لا أخالها وافية بحقك ولا موفية لما في قلبي، ومهما صورت فأنت في عالم الحقيقة أعلم مني بما في نفسي يا سيد الشهداء، ونحن هنا في العالم الفاني لا يمكننا تصوير الحقائق إلا بقدر ما يتصل بنا من معنويات ظاهرة ملموسة ولكنها الآخذة من النفس كل مأخذ، النازفة من القلب كل قطراته، وبما عاهدت عليه الله يا إمامي أريد أن أناجيك بعد تألب دولة طاغية على الشرق والإسلام في محاربة شخصك معلنة الحرب عليهما بمؤامرة اغتيالك.

فتحت المعتقلاتُ أبوابها، وخرج الإخوان أفواجًا، وانعكست حركة الاعتقالات وبالا على الذين أشعلوها، وأخذ الرأي العام يعطف على الإخوان الذين اضطهدوا وعُذبوا، ورأى الناس كل الناس أن اغتيالك يا إمامي فعلةُ نذالة لا يعرف التاريخ لها مثيلا، وبدأ الجنود، جنود الدعوة الحق، ينتظرون الأوامر ليؤكدوا للرأي العام بصفة خاصة أمرين:

الأول: أن الشعبية التي اتسمت بها الدعوة في فترتها الأخيرة ستظل كما كانت، ستظل دعوة الإخوان ظهيرة للفلاح والعمال والطلبة والشباب، وسيظل هدفها دائمًا تحرير هؤلاء - على أساس الإسلام - من ربقة الاستبداديين والإقطاعيين والرأسماليين.

والثاني: أن المحنة لم تنل من الإخوان لأنهم ترقبوها واعتبروها تشريفًا وصمدوا لها كما يصمد المؤمنون، وأنهم خرجوا أشد إيمانًا وأعظم حماسة ولا سيما وقد أضيف إلى واجباتهم واجب جديد هو تصفية حساب المحنة من افتراءات واعتداءات وتعذيب، ولكن.

سيدي وإمامي: أحمد إليكم الله تبارك وتعالى، فقد نصرت دعوة الحق، ووالله ما نصرت بجهود وتوجيه بعد المحنة ولكن نصرت كرمًا من الله تعالى لك، فلقد عملت دائبًا ربع قرن لا تقر ولا تهدأ ولا تسكن، ولا تألوا صغيرة ولا كبيرة في خدمتها حتى لقيت الله شهيدا، ونصرت الدعوة برًا منه تعالى للمئات والألوف من المغمورين المجهولين ذوي الأطمار في القرى والكفور الذين ظلوا يجمعون قروشهم السنين الطوال في سبيل الله حتى أمكن لهذه العربات الفارهة أن تقف بدار المركز العام بعد أن كان المركز العام نفسه حجرات متواضعة في الحواري والأزقة.

إن دعوة الحق يا إمامي ما زالت حتى الآن تجري بدفعك تحوطها هالة القداسة التي أضفتْها عليها قداستك وتضحيات الأعضاء القدامى من جنودك وأبنائك وقد مر يا إمامي بالوطن وقت كان يتطلع متلهفًا لدعاة الحق مستجيرًا بمن ينقذه من عبث العابثين ولهو الفاسقين رأت مصر فيه من الطغيان ما هدَّ كاهلها وأضر بسمعتها.

وأشبعها الخليع أذى وجارا                  وعانت فيه أكثر ما تعاني

وما اتخذ الولاة بها قرارا                  وعُقِّدت الأمور وما استقرت

على آثامه سد الستارا                    وضلل عرشَها تاجٌ بَغِىٌّ

فنظرت هنا وهناك وفي النفس ما فيها مما عودتني عليه من غيرة على الدين ووفاء للوطن، فلم أجد إلا مكانًا كان يزلزل الغاصبين ويحطم الظالمين، فتوجهت إليه برًا مني لدعوة بايعت الله أن أكون شهيد نصرتها، وبعثت إلى من ولى أمر الإخوان، وكان ذلك منذ عام بخطاب جعلت عنوانه "إعذار إلى الله" عندما جد الموقف أمام الوطن والحادثات، عملا بالنصيحة المفروضة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "المؤمنون عدول يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من عاداهم".

 نشر هذا المقال في مقدمة ديوان "منى إلى شهيد الإسلام" للأستاذ عبد الباسط البنا، مطبعة الحرية (د. ت)

المقال التالي رؤياي في حِمَى الحرم
المقال السابق الدستور في فكر الإمام حسن البنا