رسالة مؤتمر طلبة الإخوان المسلمين 1938م

الخلفية التاريخية للرسالة

في أغسطس 1933م تكونت أول نواة لقسم طلبة الإخوان من ستة طلاب وهم محمد عبد الحميد أحمد (كلية الآداب)، وإبراهيم أبو النجا الجزار (كلية الطب)، وأحمد مصطفى (مدرسة التجارة العليا)، ومحمد جمال الفندي (كلية العلوم)، ومحمد رشاد الهواري (كلية الحقوق)، ومحمد صبري (الزراعة العليا)، والذين أخذوا على عاتقهم نشر فكر ومبادئ الإخوان وسط طلبة الجامعات، وبالفعل تحقق ذلك حيث تحولت الجامعة في فترة وجيزة إلى مكان يناصر الفكرة الإسلامية بل واستطاع طلبته السيطرة على الاتحادات الطلابية.

كان من صفات الإمام البنا حسن توظيف الطافات فكان أن اختار اثنين من الطلبة ليكونا عضوين في مكتب الإرشاد (رغم صغر سنهم) ليتابعوا أعمال قسمهم وآلية تطويره.

فكان أن طلب طلبة الإخوان مؤتمرا جامعا يعبر عن الطلبة فقط فاستجاب لهم الإمام البنا وعقد أول مؤتمر لطلبة الإخوان في 19 من ذي الحجة 1356ﻫ الموافق 20 فبراير 1938م تحت رئاسة الإمام البنا، حيث تحدث معهم حول مفهوم الإسلام الشامل وأنه لا يفرق بين الدين والسياسة، كما أوضح لهم السياسة الداخلية وما يجب أن يتم فيها لنيل حريتنا، وأيضا السياسة الخارجية، بل عرج الإمام البنا شارحا الأحزاب السياسية وما ترتب على مناحرتها وصراعها من انقسام وفرقة وتشتت وضعف في المطالبة بالاستقلال، وطالبهم بالوحدة في موجهة خطر الاستعمار وأن يتخلوا عن صراعاتهم الشخصية والحزبية.

إلى نص الرسالة

 

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه.

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ في رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ [النساء: 174-175].

إلى العمل أيها الإخوة..

كلما وقفت هذا الموقف من جمهور يستمع، سألت الله في إلحاح أن يقرب اليوم الذى ندع فيه ميدان الكلام إلى ميدان العمل، وميدان وضع الخطط والمناهج إلى ميدان الإنفاذ والتحقيق، فقد طال الوقت الذى قضيناه خطباء متكلمين، والزمن يطالبنا في إلحاح بالأعمال الجدية المنتجة، والدنيا كلها تأخذ في أسباب القوة والاستعداد، ونحن مازلنا بعد في دنيا الأقاويل والأحلام ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ, كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ, إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾[الصف:2-4].

أيها الإخوة..

تحدث إليكم الإخوان في شمول معنى الإسلام وإحاطته واستيعابه لكل مظاهر حياة الأمم، ناهضة أو مستقرة منشئة أو مستكملة، وعرض بعضهم لموقف الإسلام من الوطنية، فأظهركم على أن وطنية الإسلام هي أوسع الوطنية حدودًا، وأعمها وجودًا، وأسماها خلودًا، وأن أشد المتطرفين لوطنه المتعصبين لقومه لن يجد في دعوة الوطنيين المجردين ما يلقاه من حماسة وطنية المؤمنين، ولست أفيض في شرح ذلك بعد إذ عرضوا له، ولكنى سأعرض إلى ناحية واحدة كثر لغط الناس بها، وكثر تبعًا لذلك غلطهم فيها، هي: (السياسة والإسلام).

نظرية الفصل

قلما تجد إنسانًا يتحدث إليك عن السياسة والإسلام إلا وجدته يفصل بينهما فصلاً، ويضع كل واحد من المعنيين في جانب، فهما عند الناس لا يلتقيان ولا يجتمعان، ومن هنا سميت هذه جمعية إسلامية لا سياسية، وذلك اجتماع ديني لا سياسة فيه، ورأيت في صدر قوانين الجمعيات الإسلامية ومناهجها (لا تتعرض الجمعية للشئون السياسية).

وقبل أن أعرض إلى هذه النظرة بتزكية أو تخطئة أحب أن ألفت النظر إلى أمرين مهمين: 

أما أولهما: فهو أن الفارق بعيد بين الحزبية والسياسة، وقد يجتمعان وقد يفترقان، فقد يكون الرجال سياسيًّا بكل ما في الكلمة من معان، وهو لا يتصل بحزب ولا يمت إليه، وقد يكون حزبيا ولا يدري من أمر السياسة شيئًا، وقد يجمع بينهما فيكون سياسيًّا حزبيًّا أو حزبيًّا سياسيًّا على حد سواء، وأنا حين أتكلم عن السياسة في هذه الكلمة فإنما أريد السياسة المطلقة، وهي النظر في شئون الأمة الداخلية والخارجية غير مقيدة بالحزبية بحال... هذا أمر.

تحديد معنى الإسلام

والثاني: أن غير المسلمين حينما جهلوا هذا الإسلام، أو حينما أعياهم أمره وثباته في نفوس أتباعه، ورسوخه في قلوب المؤمنين به، واستعداد كل مسلم لتفديته بالنفس والمال، لم يحاولوا أن يجرحوا في نفوس المسلمين اسم الإسلام ولا مظاهره وشكلياته، ولكنهم حاولوا أن يحصروا معناه في دائرة ضيقة تذهب بكل ما فيه من نواح قوية عملية، وإن تركت للمسلمين بعد ذلك قشورًا من الألقاب والأشكال والمظهريات لا تسمن ولا تغني من جوع.

فأفهموا المسلمين أن الإسلام شيء والاجتماع شيء آخر، وأن الإسلام شيء والقانون شيء غيره، وأن الإسلام شيء ومسائل الاقتصاد لا تتصل به، وأن الإسلام شيء والثقافة العامة سواه، وأن الإسلام شيء يجب أن يكون بعيدًا عن السياسة.

فحدثوني بربكم -أيها الإخوان- إذا كان الإسلام شيئًا غير السياسة، وغير الاجتماع، وغير الاقتصاد، وغير القانون، وغير الثقافة، فما هو إذن؟!

أهو هذه الركعات الخالية من القلب الحاضر؟

أم هذا الألفاظ التي هي كما تقول رابعة العدوية: استغفار يحتاج إلى استغفار؟

ألهذا -أيها الإخوان- نزل القرآن نظامًا شاملاً محكمًا مفصلاً: ﴿تِبْيَانًا لِكُلِّ شيء وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل: 89]. 

هذا المعنى المتضائل لفكر الإسلام، وهذه الحدود الضيقة التي حدد بها معنى الإسلام، هي التي حاول خصوم الإسلام أن يحصروا فيها المسلمين، وأن يضحكوا عليهم بأن يقولوا لهم: لقد تركنا لكم حرية الدين، وإن الدستور لينص على أن دين الدولة الرسمي الإسلام.

الإسلام الشامل

 أنا أعلن -أيها الإخوان- من فوق هذا المنبر بكل صراحة ووضوح وقوة، أن الإسلام شيء غير هذا المعنى الذي أراد خصومه والأعداء من أبنائه أن يحصروه فيه ويقيدوه به، وأن الإسلام: عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، وسماحة وقوة، وخلق ومادة، وثقافة وقانون، وأن المسلم مطالب بحكم إسلامه أن يعنى بكل شئون أمته، ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.

وأعتقد أن أسلافنا رضوان الله عليهم ما فهموا للإسلام معنى غير هذا، فبه كانوا يحكمون، وله كانوا يجاهدون، وعلى قواعده كانوا يتعاملون، وفى حدوده كانوا يسيرون في كل شأن من شئون الحياة الدنيا العملية قبل شئون الآخرة الروحية، ورحم الله الخليفة الأول إذ يقول: "لو ضاع منى عقال بعير لوجدته في كتاب الله".

السياسة من الإسلام

بعد هذا التحديد العام لمعنى الإسلام الشامل، ولمعنى السياسة المجردة عن الحزبية، أستطيع أن أجهر في صراحة: بأن المسلم لن يتم إسلامه إلا إذا كان سياسيًّا، بعيد النظر في شئون أمته، مهتمًّا بها غيورًا عليها.

وأستطيع كذلك أن أقول: إن هذا التحديد والتجريد أمر لا يقره الإسلام، وإن على كل جمعية إسلامية أن تضع في رأس برنامجها الاهتمام بشئون أمتها السياسية، وإلا كانت تحتاج هي نفسها إلى أن تفهم معنى الإسلام. 

خطوة في الطريق لا انحراف عنه

دعوني -أيها الإخوة- أسترسل معكم قليلاً في تقرير هذا المعنى الذى قد يبدو مفاجأة غريبة على قوم تعودوا أن يسمعوا دائمًا نغمة التفريق بين الإسلام والسياسة، والذى قد يدع بعض الناس يقولون بعد انصرافنا من هذا الحفل: إن جمعية الإخوان المسلمين قد تركت مبادئها، وخرجت على صفتها، وصارت جمعية سياسية بعد أن كانت جمعية دينية، ثم يذهب كل متأول في ناحية من نواحي التأويل متلمسًا أسباب هذا الانقلاب في نظره، وعلم الله -أيها السادة- أن الإخوان ما كانوا يومًا من الأيام غير سياسيين، ولن يكونوا يومًا من الأيام غير مسلمين، وما فرقت دعوتهم أبدًا بين السياسة والدين، ولن يراهم الناس في ساعة من نهار حزبيين ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ﴾[القصص: 55]، ومحال أن يسيروا لغاية غير غايتهم، أو يعملوا لفكرة سوى فكرتهم، أو يتلونوا بلون غير الإسلام الحنيف: ﴿صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ [البقرة: 138]. 

السياسة الداخلية

دعوني -أيها الإخوة- أسترسل معكم في تقرير هذا المعنى، فأقول: إن كان يراد بالسياسة معناها الداخلي من حيث تنظيم أمر (الحكومة)، وبيان مهماتها، وتفصيل حقوقها وواجباتها، ومراقبة الحاكمين والإشراف عليهم ليطاعوا إذا أحسنوا وينقدوا إذا أساءوا... فالإسلام قد عنى بهذه الناحية، ووضع لها القواعد والأصول، وفصل حقوق الحاكم والمحكوم، وبين مواقف الظالم والمظلوم، ووضع لكل حدًّا لا يعدوه ولا يتجاوزه.

فالقوانين الدستورية والمدنية والجنائية بفروعها المختلفة عرض لها الإسلام، ووضع نفسه منها بالموضع الذي يجعله أول مصادرها وأقدس منابعها. 

وهو حين فعل هذا إنما وضع الأصول الكلية، والقواعد العامة، والمقاصد الجامعة، وفرض على الناس تحقيقها، وترك لهم الجزئيات والتفاصيل يطبقونها بحسب ظروفهم وأعصارهم، ويجتهدون في ذلك ما وسعتهم المصلحة وواتاهم الاجتهاد.

وقد قرر الإسلام سلطة الأمة وأكدها، وأوصى بأن يكون كل مسلم مشرفًا تمام الإشراف على تصرفات حكومته، يقدم لها النصح والمعونة ويناقشها الحساب، وهو كما فرض على الحاكم أن يعمل لمصلحة المحكومين بإحقاق الحق وإبطال الباطل فرض على المحكومين كذلك أن يسمعوا ويطيعوا للحاكم ما كان كذلك، فإذا انحرف فقد وجب عليهم أن يقيموه على الحق، ويلزموه حدود القانون، ويعيدوه إلى نصاب العدالة، هذه تعاليم كلها من كتاب الله تبارك وتعالى، ومن أحاديث رسوله، لم نتقولها ولم نخترعها، وإلى حضراتكم قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ في مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ, وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ, أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾[المائدة: 48-50]، إلى عشرات من الآيات الكريمة التي تناولت كل ما ذكرنا بالبيان والتفصيل.

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في تقرير سلطة الأمة وتقرير الرأي العام فيها: "الدين النصيحة". قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم".. ويقول أيضًا: "إن من أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"، ويقول كذلك: "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله".. إلى مئات الأحاديث التي تفصل هذا المعنى وتوضحه، وتوجب على المسلمين أن يأمروا بالمعروف، وأن ينهوا عن المنكر، وأن يراقبوا حكامهم ويشرفوا على مبلغ احترامهم للحق وإنفاذهم لأحكام الله. 

فهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يأمر بهذا التدخل، أو الإشراف، أو التناصح، وسمه ما شئت، وحين يحض عليه، ويبين أنه الدين وأنه الجهاد الأكبر، وأن جزاءه الشهادة العظمى يخالف تعاليم الإسلام فيخلط السياسة بالدين، أم أن هذه هي طبيعة الإسلام التي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم، وإننا في الوقت الذي نعدل فيه بالإسلام عن هذا المعنى نصور لأنفسنا إسلامًا خاصًا غير الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه. لقد تقرر هذا المعنى الفسيح للإسلام الصحيح في نفوس السلف الصالح لهذه الأمة، وخالط أرواحهم وعقولهم، وظهر في كل أدوار حياتهم الاستقلالية قبل ظهور هذا الإسلام الاستعماري الخانع الذليل. 

ومن هنا -أيها الإخوان- كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلمون في نظم الحكم، ويجاهدون في مناصرة الحق، ويحتملون عبء سياسة الأمة، ويظهرون على الصفة التي وصفوا أنفسهم بها "رهبان بالليل فرسان بالنهار" حتى كانت أم المؤمنين عائشة الصدِّيقية تخطب الناس في دقائق السياسة، وتصور لهم مواقف الحكومات في بيان رائع وحجة قوية، ومن هنا كانت الكتيبة التي شقت عصا الطاعة على الحجاج وحاربته وأنكرت عليه بقيادة ابن الأشعث تسمى كتيبة الفقهاء؛ إذ كان فيها سعيد بن جبير وعامر الشعبي وأضرابهما من فقهاء التابعين وجلة علمائهم.

ومن هنا رأينا من مواقف الأئمة رضوان الله عليهم في مناصحة الملوك ومواجهة الأمراء والحكام بالحق ما يضيق بذكر بعضه فضلاً عن كله المقام.

ومن هنا كذلك كانت كتب الفقه الإسلامي قديمًا وحديثًا فياضة بأحكام الإمارة والقضاء والشهادة والدعاوى والبيوع والمعاملات والحدود والتعزيرات، ذلك إلى أن الإسلام أحكام عملية وروحية، إن قررتها السلطة التشريعية فإنما تقوم على حراستها وإنفاذها السلطة التنفيذية والقضائية، ولا قيمة لقول الخطيب كل جمعة على المنبر: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾[المائدة: 90]، في الوقت الذى يجيز فيه القانون السكر، وتحمى الشرطة السكيرين، وتقودهم إلى بيوتهم آمنين مطمئنين، ولهذا كانت تعاليم القرآن لا تنفك عن سطوة السلطان، ولهذا كانت السياسة الحكومية جزءًا من الدين، وكان من واجبات المسلم أن يعنى بعلاج الناحية الحكومية كما يعنى بعلاج الناحية الروحية. وذلك موقف الإسلام من السياسة الداخلية.

السياسة الخارجية

فإن أريد بالسياسة معناها الخارجي، وهو المحافظة على استقلال الأمة وحريتها، وإشعارها كرامتها وعزتها، والسير بها إلى الأهداف المجيدة التي تحتل بها مكانتها بين الأمم ومنزلتها الكريمة في الشعوب والدول، وتخليصها من استبداد غيرها بها وتدخله في شئونها، مع تحديد الصلة بينها وبين سواها تحديدًا يفصل حقوقها جميعًا، ويوجه الدول كلها إلى السلام العالمي العام، وهو ما يسمونه (القانون الدولي).. فإن الإسلام قد عنى بذلك كل العناية، وأفتى فيه بوضوح وجلاء، وألزم المسلمين أن يأخذوا بهذه الأحكام في السلم والحرب على السواء، ومن قصر في ذلك وأهمله فقد جهل الإسلام أو خرج عليه.

قرر الإسلام سيادة الأمة الإسلامية وأستاذيتها للأمم في آيات كثيرة من القرآن منها قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾[آل عمران: 110]، وقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾[البقرة: 143]، وقوله تعالى: ﴿وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾[المنافقون: 8]، وأكد قوميتها وأرشدها إلى طريق صيانتها، وإلى ضرر تدخل غيرها في شئونها بمثل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ, هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ﴾[آل عمران: 118-119]، وأشار إلى مضار الاستعمار وسوء أثره في الشعوب فقال تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾[النمل: 34]. 

ثم أوجب على الأمة المحافظة على هذه السيادة، وأمرها بإعداد العدة واستكمال القوة، حتى يسير الحق محفوفًا بجلال السلطة كما هو مشرق بأنوار الهداية ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾[الأنفال: 60]، ولم يغفل التحذير من سورة النصر ونشوة الاعتزاز وما تجلبه من مجانبة للعدالة وهضم للحقوق، فحذر المسلمين العدوان على أية حال في قوله تعالى: ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾[المائدة: 8]، مع قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ في الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾[الحج: 41].

ومن هنا -أيها الإخوة- رأينا أخلاف المسجد، وأنضاء العبادة، وحفظة الكتاب الكريم، بل وأبناء الربط والزوايا من السلف رضوان الله عليهم، لا يقنعون باستقلال بلادهم، ولا بعزة قومهم، ولا بتحرير شعوبهم، ولكنهم ينسابون في الأرض، ويسيحون في آفاق البلاد فاتحين معلمين، يحررون الأمم كما تحرروا، ويهدونها بنور الله الذي اهتدوا به، ويرشدونها إلى سعادة الدنيا والآخرة، لا يغلون ولا يغدرون، ولا يظلمون ولا يعتدون، ولا يستعبدون الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا. 

ومن هنا رأينا عقبة بن نافع يخوض الأطلسي بلبة جواده قائلاً: "اللهم لو علمت وراء هذا البحر أرضًا لمضيت في البلاد مجاهدًا في سبيلك"، في الوقت الذي يكون فيه أبناء العباس الأشقاء قد دفن أحدهم بالطائف إلى جوار مكة، والثاني بأرض الترك من أقصى الشرق، والثالث بإفريقية من أقصى المغرب، جهادًا في سبيل الله وابتغاء لمرضاته، وهكذا فهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان أن السياسة الخارجية من صميم الإسلام. 

الحقوق الدولية

وأحب قبل أن أختم هذا الاسترسال أن أؤكد لحضراتكم تأكيدًا قاطعًا أن سياسة الإسلام داخلية أو خارجية تكفل تمام الكفالة حقوق غير المسلمين ما دامت لا تضر بهم ولا تهضم حقوقهم، سواء أكانت حقوقًا دولية أم كانت حقوقًا وطنية للأقليات غير المسلمة؛ ذلك لأن شرف الإسلام الدولي أقدس شرف عرفه التاريخ، والله تبارك وتعالى يقول: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾[الأنفال: 58]، ويقول: ﴿إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾[التوبة: 4]، ويقول تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[الأنفال: 61].

ولئن كانت إيطاليا المتمدنة قد غزت الحبشة حتى استولت عليها، ولم تعلن عليها حربًا، ولم تسبق إلى ذلك بإنذار، وحذت حذوها اليابان الراقية فهي تحارب الصين ولم تخطرها ولم تعلنها، فإن التاريخ لم يؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن صحابته أنهم قاتلوا قومًا أو غزوا قبيلاً دون أن يوجهوا الدعوة ويتقدموا بالإنذار وينبذوا إليه على سواء.

حماية الأقليات

وقد كفل الإسلام حقوق الأقليات بنص قرآني هو قول الله تبارك وتعالى: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ في الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8].

وهذه الأقلية اليهودية البغيضة تطرد من كل الدنيا، وتشرد في كل مكان، ولا تجد الأمن إلا في كنف إمام مسلم متمسك بدينه، متشدد في إنفاذ حدوده هو إمام اليمن الذي يعطيها حقها، ويأخذ منها حقه في دعة وسكون وأمن منذ مئات السنين.

كما أن هذه السياسة الإسلامية نفسها لا تنافى أبدًا الحكم الدستوري الشورى، وهى واضعة أصله ومرشدة الناس إليه في قوله تعالى من أوصاف المؤمنين: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾[الشورى: 38]، وقوله تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾[آل عمران: 159]، وقد كان صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه وينزل على رأى الفرد منهم متى وضح له صوابه كما فعل ذلك مع الحباب بن المنذر في غزوة بدر، ويقول لأبى بكر وعمر: "لو اجتمعتما ما خالفتكما"، وكذلك ترك عمر الأمر شورى بين المسلمين، ومازال المسلمون بخير ما كان أمرهم شورى بينهم.

سعة التشريع الإسلامي

كما أن تعاليم الإسلام وسياسته ليس فيها معنى رجعى أبدًا، بل هي على أدق قواعد التشريع الصالح، وقد اعترف التشريع لكثير منها -وسيكشف الزمن للناس على جلالة ما لم يعرفوا- بأنها قد سبقته في دقة الأحكام، وتصوير الأمور، وسعة النظر، وشهد بذلك كثير من غير المسلمين، كما ورد كثيرًا في كلام "المسيو لامبير" وأضرابه، وأكدت ذلك مؤتمرات التشريع الدولية على أن الإسلام قد وضع من القواعد الكلية ما يترك للمسلم بابًا واسعًا في الانتفاع بكل تشريع نافع مفيد لا يتعارض مع أصول الإسلام ومقاصده، وأثاب على الاجتهاد بشروطه، وقرر قاعدة المصالح المرسلة، واعتبر العرف، واحترم رأى الإمام، وكل هذه القواعد تجعل التشريع الإسلامي في الذروة السامية بين الشرائع والقوانين والأحكام.

هذه معان أحب -أيها السادة- أن تذيع بيننا، وأن نذيعها في الناس، فإن كثيرًا لازالوا يفهمون من معنى النظام الإسلامي ما لا يتفق بحال مع الحقيقة، وهم لهذا ينفرون منه ويحاربون الدعوة إليه، ولو فقهوه على وجهه لرجعوا به، ولكانوا من أوائل أنصاره، وأشدهم تحمسًا له، وأعلاهم صوتًا في الدعوة إليه.

الحزبية السياسية

أيها الإخوة الكرام..

بقي للسياسة معنى آخر يؤسفني أن أقول: إنه وحده هو المعنى الذي يرادفها ويلازمها بغير حق في أذهان كثير منا، ذلك هو (الحزبية). 

وإن لي في الحزبية السياسية آراء هي لي خاصة، ولا أحب أن أفرضها على الناس؛ فإن ذلك ليس لي ولا لأحد، ولكنى كذلك لا أحب أن أكتمها عنهم، وأرى أن واجب النصيحة للأمة -وخصوصًا في مثل هذه الظروف- يدعوني إلى المجاهرة بها وعرضها على الناس في وضوح وجلاء، وأحب كذلك أن يفهم جيدًا أنى حينما أتحدث عن الحزبية السياسية فليس معنى هذا أنى أعرض لحزب دون حزب، أو أرجح أحد الأحزاب على غيره، أو أن أنتقص أحدها وأزكى الآخر، ليس ذلك من مهمتي، ولكنى سأتناول المبدأ من حيث هو، وسأعرض للنتائج والآثار المترتبة عليه، وأدع الحكم على الأحزاب للتاريخ وللرأي العام والجزاء الحق لله وحده ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾[آل عمران: 30]. 

لابد من الوحدة

أعتقد -أيها السادة- أن الحزبية السياسية إن جازت في بعض الظروف في بعض البلدان، فهي لا تجوز في كلها، وهي لا تجوز في مصر أبدًا، وبخاصة في هذا الوقت الذي تستفتح فيه عهدًا جديدًا، ونريد أن نبني أمتنا بناء قويًا يستلزم تعاون الجهود، وتوافر القوى، والانتفاع بكل المواهب، والاستقرار الكامل، والتفرغ التام لنواحي الإصلاح. إن وراءنا في الإصلاح الداخلي منهاجًا واسعًا مطولاً، يجب أن نصرف كل الجهود إلى تحقيقه، لإنقاذ هذا الشعب الخالد الحيوية، الجم النشاط، المجهز بكل وسائل التقدم، الذي لا ينقصه إلا القيادة الصالحة والتوجيه القويم، حتى يتكون أصلح تكوين، يقضى على الضعف والفقر والجهل والرذيلة، وهي معاول الهدم وسوس النهضات، وليس هنا محل تفصيل هذا المنهاج فذلك له وقت آخر، وأنا أعلم أننا جميعًا نشعر بثقل وطأة مطالب العهد الجديد، وبالمجهودات العظيمة التي يجب أن تبذل في سبيل التنظيم الداخلي في كل مظاهر الحياة.

بين الوحدة والحزبية

وأعتقد -كذلك- أننا جربنا الوحدة مرتين, كانت كل واحدة منهما ألمع نجم في تاريخ النهضة, أما أولاهما ففي فجر النهضة حينما برزت الأمة صفًّا متحدًا تنادى بحقها وتطالب باستحقاقها في اجتماع أفزع الغاصبين، وروع المستعمرين، ووهنت أمام سلطانه قوى الظالمين، أما الثاني فحين تكوين الجبهة الوطنية التي خطت بنا خطوة مهما كانت قصيرة فهي إلى الأمام على كل حال، وجربنا التفرقة في مرات كثيرة من قبل ومن بعد فما رأينا إلا تمزيق الجهود، وإحباط الأعمال، وإفساد الشئون، وإتلاف الأخلاق، وخراب البيوت، وتقطيع الأرحام، واستفادة الخصوم على حساب المختلفين المتنابزين.

الحزبية والتدخل

وأعتقد -أيها السادة- أن التدخل الأجنبي في شئون الأمة، ليس له من باب إلا التدابر والخلاف، وهذا النظام الحزبي البغيض، وأنه مهما انتصر أحد الفريقين فإن الخصوم بالمرصاد يلوّحون له بخصمه الآخر، ويقفون منهما موقف القرد من القطتين، ولا يجنى الشعب من وراء ذلك إلا الخسارة من كرامته واستقلاله وأخلاقه ومصالحه.

إننا -يا إخوان- أمة لم نستكمل استقلالنا بعدُ استكمالاً تامًّا، ولا زلنا في الميزان، ولا زالت المطامع تحيط بنا من كل مكان، ولا سياج لحماية هذا الاستقلال والقضاء على تلك المطامع إلا الوحدة والتكاتف. 

وإذا جاز لبعض الأمم التي استكملت استقلالها، وفرغت من تكوين نفسها أن تختلف وتتحزب في فرعيات الأمور، فإن ذلك لا يجوز في الأمم الناشئة أبدًا، على أننا نلاحظ أن الحوادث العالمية قد ألجأت الأمم جميعًا إلى التجرد من الحزبية مطلقًا، أو الإبقاء على حزبية صورية تقليدية مع الوحدة في كل الاتجاهات.

هذه تركيا بدأت أعمالها في توجيه الشعب بتوحيد القوى وإبقاء الأحزاب، وهذه شقيقتنا العراق تخطو خطوات حثيثة إلى التكوين الصالح بعد إلغاء الأحزاب، وهذه رومانيا قد ألغت الأحزاب، ووضعت على رأس حكومتها بطريركًا من رجال الكنيسة، فقضت بذلك على مبدأين من خاصة مبادئ السياسة الأوروبية هي: الحرية، وفصل السياسة عن الدين.

لا أقول: أين الأحزاب في إيطاليا وفى ألمانيا فذلك أمر مفروغ منه، ولكنى أقول: إن إنجلترا نفسها -وهي كما يزعمون أم النظام الحزبي والدستوري- قد تضاءل فيها المعنى الحزبي حتى صار معنى هو إلى التقاليد أقرب منه إلى التحالف في المناهج والآراء، ولا تزال الوزارات البريطانية قومية لا حزبية، فقد اقتضت الحوادث العالمية الشعب البريطاني بالخروج على نظام الأحزاب.

هذه نماذج من تدهور النظام الحزبي في الشرق وفى الغرب، فلا أدرى لأي معنى تظل مصر التي هي أحوج الأمم إلى الوحدة مستمسكة بنظام فشل في قيادة غيرها، وذاقت هي منه الأمرّين، وبلت من ثمره الحنظل والصعاب.

لا أحزاب في مصر

وأعتقد -كذلك- أن هذه الأحزاب المصرية الحالية أحزاب صناعية أكثر منها حقيقية، وأن العامل في وجودها شخصي أكثر منه وطني، وأن المهمة والحوادث التي كونت هذه الأحزاب قد انتهت فيجب أن ينتهي هذا النظام بانتهائها.

لقد تكوّن الوفد المصري من الأمة كلها للمطالبة بالاستقلال على أساس المفاوضة وتلك هي مهمته، ثم تفرع منه حزب الأحرار الدستوريين للخلاف في أسلوب المفاوضات، وقد انتهت المفاوضة بأساليبها ونظمها وقواعدها فانتهت مهمتها بذلك، وتكوّن حزب الشعب لإيجاد نظام خاص ودستور خاص، وقد انتهى هذا الدستور وذلك النظام بأشكاله وأوضاعه فانتهت مهمته هو الآخر، وتكون حزب الاتحاد لموقف خاص بين السرايا والأحزاب، وها هي الأمة كلها مجمعة على محبة جلالة الملك والالتفاف حول عرشه المفدى والدفاع عنه بالأنفس والأموال.

لقد انتهت هذه الظروف جميعًا، وتجددت ظروف أخرى تستدعى مناهج وأعمالاً، فلا معنى أبدًا لبقاء هذه الأحزاب، ولا معنى أبدًا للرجوع إلى الماضي والمستقبل يلح علينا إلحاحًا صارخًا بالعمل والسير بأسرع ما يمكن من الخطوات.

الإسلام لا يقر الحزبية

وبعد هذا كله أعتقد -أيها السادة- أن الإسلام وهو دين الوحدة في كل شيء، وهو دين سلامة الصدور، ونقاء القلوب، والإخاء الصحيح، والتعاون الصادق بين بنى الإنسان جميعًا فضلاً عن الأمة الواحدة والشعب الواحد، لا يقر نظام الحزبية ولا يرضاه ولا يوافق عليه، والقرآن الكريم يقول: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا﴾[آل عمران: 103], ويقول: ﴿وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾[الأنفال: 46]، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أدلكم على أفضل من درجة الصلاة والصوم"؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "إصلاح ذات البين؛ فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين".

وكل ما يستتبعه هذا النظام الحزبي من: تنابز، وتقاطع، وتدابر، وبغضاء يمقته الإسلام أشد المقت، ويحذر منه في كثير من الأحاديث والآيات، وتفصيل ذلك يطول، وكل حضراتكم به عليم.

وفرق -أيها الإخوان- بين الحزبية التي شعارها الخلاف والانقسام في الرأي والوجهة العامة وفى كل ما يتفرع منها، وبين حرية الآراء التي يبيحها الإسلام ويحض عليها، وبين تمحيص الأمور وبحث الشئون والاختلاف فيما يعرض تحريًا للحق، حتى إذا وضح نزل على حكمه الجميع سواء أكان ذلك اتباعًا للأغلبية أو للإجماع، فلا تظهر الأمة إلا مجتمعة، ولا يرى القادة إلا متفقين.

أيها الإخوان:

لقد آن الأوان أن ترتفع الأصوات بالقضاء على نظام الحزبية في مصر، وأن يستبدل به نظام تجتمع به الكلمة، وتتوحد به جهود الأمة حول منهاج قومي إسلامي صالح تتوافر على وضعه وإنفاذه القوى والجهود.

هذه نظرات، يرى الإخوان المسلمون أن واجبهم الإسلامي أولاً والوطني ثانيًا والإنساني ثالثًا يفرض عليهم فرضًا لا مناص منه أن يجهروا بها، وأن يعرضوها على الناس وفى إيمان عميق وبرهان وثيق، معتقدين أن تحقيقها هو السبيل الوحيد لتدعيم النهضة على أفضل القواعد والأصول، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [الأنفال: 24].

 

ملحق مؤتمر طلبة الإخوان المسلمين

مقررات المؤتمر

1-      مطالبة الهيئات الإسلامية جميعًا بالاشتراك الفعلي في السياسة العامة للأمة، مع العمل على تكوين اتحاد عام لها؛ إذ إن من قواعد الإسلام أن يعنى المسلم بكل شئون بلده، وإذ إن حصر معنى الفكرة الإسلامية في حدود الواجبات الروحية والعبادية أمر يتنافى مع طبيعة الإسلام ﴿إِنَّا أنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ [النساء: 105].

2-      المطالبة بحل جميع الأحزاب الحالية السياسية، وأن تستبدل بها هيئة موحدة لها منهاج إصلاحي إسلامي يتناول كل شئون النهضة، وتتوافر على وضعه وإنفاذه جميع المواهب والقوى؛ لما ثبت من أضرار النظام الحزبي، وفشله بالنهوض بالأمة، ولما نجم عنه من فتن وحزازات، ولما تطلبه النهضة وتكاليفها من تضافر وتعاون واستقرار، ولما عرف من أن الفرقة هي باب التدخل الأجنبي، ولأن هذا التدابر والتقاطع والتعصب المقيت الذى يلائم الحزبية لا يقره الإسلام ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: 103].

3-      وجوب تجرد كل طالب ينتسب إلى الإخوان المسلمين من كل لون حزبي، مع الاصطباغ التام بالفكرة التي تعتمد على سياسة القرآن وتعاليمه ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾ [البقرة: 138].

4-      مطالبة المرشحين الذين تقدموا إلى عضوية مجلس النواب، وكل مرشح يتقدم إلى أي هيئة نيابية عامة أو محلية أن يجعلوا محور دعايتهم المناهج والأعمال، لا المثالب الشخصية ولا الشتائم وتناول البيوت والأسرة ﴿يأيها الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ﴾ [الحجرات: 10].

5-      مطالبة الأمة بأن تختار نوابها وممثليها على أساس قويم من الكفاءة الشخصية، والاستقامة، والتمسك بتعاليم الإسلام، لا على أساس الحزبية السياسية المقيتة ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ في الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾ [الحج: 41].

6-      وضع منهاج الإصلاح الذي يوجه النهضة على أساس يؤدى إلى التخلص بالتدريج من الصبغة الغربية، وقيود التقليد التي تصبغ الحياة المصرية، ويعود بهذه الحياة إلى الأصول القومية الإسلامية في التشريع والعادات والثقافة والاجتماع والاقتصاد ﴿يأيها الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾ [آل عمران: 149-150].

7-      مطالبة مكتب الإرشاد للإخوان المسلمين بوضع نموذج لهذا المنهاج ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: 152].

8-      يعلن المؤتمرون في صراحة ووضوح وقوة أنه ليس معنى الرجوع إلى المنهاج الإسلامي نقض الاتفاقات الدولية، ولا العدوان على الأقليات المواطنة والأجنبية، ولا الإخلال بنظام الحكم النيابي، ولا إحياء مظاهر رجعية لا تتفق مع المدنية الصحيحة؛ فإن الإسلام خير كله، وقد وضع لكل ذلك أفضل النظم وأعدلها ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107].

9-      يرى المؤتمرون أن الجو السياسي العالمي الآن ملائم كل الملاءمة لتوثيق الروابط بأوسع ما يمكن بين مصر والأقطار الإسلامية العربية تحقيقًا للأخوة المنشودة، وتمهيدًا لاسترجاع الخلافة الضائعة ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10].

10-    ينتهز المؤتمرون هذه الفرصة للاحتجاج على حوادث فلسطين الدامية، وحوادث المغرب الأقصى الأسيفة، واستنكار كل خطوة أجنبية يراد بها التدخل بأية صورة من الصور، أو إضافة قيد، أو سلب حق، أو اقتطاع جزء من الوطن الإسلامي العام ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: 8].

11-    يعمل المؤتمرون لتحقيق هذه المقررات بكل الوسائل المشروعة، ويذيعونها بكل الطرق، ويرفعونها إلى جهات الاختصاص ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [التوبة: 105]

المقال التالي رسالة المأثورات
المقال السابق الدستور في فكر الإمام حسن البنا