كتابات الإمام حسن البنا حول معاني العبادات في القرآن والمناسبات الإسلامية

إعداد موقع الإمام حسن البنا

لا تزال الدعوة الإسلامية منذ إشراقها على العالمين تجذب إليها كل محب للخير والحق، كما أنها -على مدى تاريخها العظيم- قد صنعت رجالا أفنوا أعمارهم فى خدمتها؛ فكم من ناصر لها، وكم من مخلص لها، ثم كم من محب لها. وقد تواصى هؤلاء جميعًا على روح الإسلام وعدله ويسره، دون إفراط أو تفريط، ولربما يبتعد البعض عن الحق فى بعض الأزمان، ولكن الأمر لا يطول حتى يرجعوا للحق على يد المصلحين الصادقين.

 

المساجد

الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبع هداهم إلى يوم الدين.

أما بعد.. فيا عباد الله، إن الله -تبارك وتعالى- جعل المساجد بيوته فى أرضه، ونسبها لنفسه فقال تعالى: }وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا [الجن: 18]، كما قال فى الحديث القدسي: "إن بيوتي فى أرضى المساجد، وإن زواري فيها عمرها، فطوبى لمن تطهر فى بيته ثم زارني فى بيتي، فحَقٌّ على المزور أن يكرم زائره"، وإن لبيوت العظماء حرمةً فلا تُهتك، وفضيلة لا تنكر، وآدابًا لا تُخالَف.. فكيف ببيوت الله القوى القاهر الذي بيده ملكوت السماوات والأرض؟!

وأنت أيها الأخ فى المسجد بين يدي ربك تناجيه فيقبل عليك، وتناديه فيجيب نداءك؛ فمن الواجب عليك أن تحافظ على الآداب التى أمرك بها فى بيته حتى يكون ذلك أدعى لقبولك وأقرب لوصولك.

وأول هذه الآداب أن تدخل بسكينة ووقار خاشعًا متبتلا شاعرًا بذلك وَفَاقَتِكَ وعظمةِ رب البيت وقدرته، تقدم اليمنى على اليسرى قائلا: "أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، بسم الله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، اللهم اغفر ذنوبي وافتح لى أبواب رحمتك".

ثم تصلى ركعتين، وتحيي بالتسليمتين، ولا تتخطى الرقاب، ولا تؤذى باختراق الصفوف أحدًا من الأحباب؛ بل تجلس حيث انتهى بك المجلس؛ فقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه وقد تخطى الرقاب: "قد آذيت وآنيت، ومن آذى مسلمًا فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله عز وجل".

ويخلصك من هذا الذنب أن تواظب على التبكير؛ فلو علم الناس ما فى التبكير إلى الصلاة والصف الأول من الفضيلة لأتوهما ولو حبوًا، وإن العبد فى صلاة ما انتظر الصلاة.

وإذا أتيت والإمام على المنبر فلا بأس بركعتين خفيفتين محافظة على السنة، فإذا جلست فلا تقم بعد ذلك لصلاة ولا غيرها حتى ينزل الإمام بعد الخطبة.

فإذا جلست فى المسجد فاجلس خاشعًا مطرقًا ذاكرًا الله فى سرك غير مُشَوِّش على غيرك، معتدلا فى جلستك لا تشبك أصابع يديك، حاضر القلب مع الله موجه السر إلى الله، مراقبًا ما يرد عليك من رب العالمين، وَانوِ الاعتكاف مدة مكثك، واجتنب الكلام فى أمور الدنيا؛ فإن الكلام فى المساجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.

فإذا خرجت فقدم اليسرى على اليمنى، وقل مثل ما قلت فى الدخول إلا أنك تقول: "وافتح لى أبواب فضلك"، ولا تخرج إذا أذن المؤذن حتى تصلى؛ فإن ذلك من المخالفات لأحكام الدين، وحافظوا يا عباد الله على هذه الآداب جعلنا الله وإياكم من المقبولين.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وسل سيوفكم، واتخذوا على أبوابها المطاهر وجمروها فى الجمع" رواه ابن ماجه والطبراني فى الكبير، وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا كان أحدكم فى المسجد فلا يشبكن فإن التشبيك من الشيطان" رواه أحمد بإسناد حسن(1).

 

سر

} إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا [النساء: 103].

وكذلك فرضت الصلاة خمسًا فى الأداء خمسين فى الأجر }مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ [ق: 29] صدق الله العظيم.

ولقد ظلم المسلمون الصلاة إذ لم يؤدوها على وجهها، وظلموا أنفسهم فيها إذ لم يفقهوا سر تشريعها؛ فمنهم من أهملها بتاتًا فهم عن صلاتهم ساهون، ومنهم من يقوم بأدائها على أنها عادة ورثها عن خلطائه أو نفلها عن بيئته وعشرائه، ومنهم من اجتذبه الوعد أو أثر فيه الوعيد؛ فهو يؤديها عبادة يرجو مثوبة لله عليها ويخشى عقابه إن قصر فيها، وذلك حسن جميل.

ولكن المعنى الاجتماعي الرائع والسر الإصلاحي الدقيق الجامع فى هذه الصلاة العجيبة الغريبة لم يدركه بعد إلا المجدون، ولم يعقله إلا العالمون، وقليل ما هم.

الصلاة: منهاج تربية كامل للفرد أولا، وإذا كان معنى التربية الكاملة عند المربين إبلاغ المربى حد كماله، وذلك بالنسبة للإنسان تكميل بدنه بالقوة والعافية، وتكميل عقله بالعلم والمعرفة، وتكميل خلقه بالوجدان السامي والضمير الحساس الشاعر؛ فإن الصلاة وحدها هى التى تصل بالمصلى إلى هذا الكمال من أقرب طرقه وأفضل وسائله؛ فهى بما يسبقها ويلازمها من طهارة ونظافة ووضوء وغسل وعادات صحية خير وقاية، وقد تكون خير علاج يؤدى إلى القوة والعافية، وهى بما فيها من قرآن يتلى وآيات تردد مجموعة من العلم والمعرفة، تثقف وتعلم، وتملأ العقل وتنير القلب، وهى بما فيها من ركوع وسجود وخشوع ومناجاة لله العلى الكبير ترقق الحس وتهذب النفس، وتصل الروح بالملأ الأعلى، وتتمم مكارم الأخلاق، ولَسجدةٌ واحدة خاشعة مخلصة أشد عملا فى نفس المؤمن من عشرين درسًا فى فلسفة الأخلاق.

والصلاة: "برشامة" دواء رباني احتوت سر النظم الاجتماعية، وركبت عناصرها من الخلاصات الصالحة فى كل نظام عرفته الإنسانية، وقصى عنها تمام الإقصاء كل ما يصاحب هذه النظم من أضرار وأخطاء، وتستطيع أن تدرك ذلك وتتأكده تمام التأكد إذا لاحظت أن أحدث النظم الاجتماعية التى يهتف بها القادة ورؤساء الأمم والشعوب فى عصرنا هذا قد اشتمل كل نظام منها على شىء من الخير البراق اللماع، يجتذب الأنظار نحوه، ويستهوى النفوس إليه، وإلى جانب هذا الخير المحدود كثير من الشر الذى لا يطاق ولا يحتمل، والذى يذهب بعد قليل بالنظام كله ويقضى على الآثار المترتبة عليه.

فهذه الشيوعية التى تهتف بالمساواة وإنصاف الطبقات تتحول إلى ديكتاتورية دولية تكبت الحريات، وتتحكم فى الإرادات، وتقضى على الكفاءات؛ فيذهب شرها بخيرها ولو بعد حين، وهذه الديكتاتورية التى تجمع الأمة فى نسق واحد، وتسير بها خلف قائد واحد، تنتهي إلى الفناء والزوال، بخطأ هذا الفرد الذي هيمن على تفكير الشعوب، وعطل مواهب غيره من الأفراد؛ فما يصلحه فى أعوام قد يزول فى لحظات، والدليل مشاهد ملموس.

وهذه الديمقراطية التى تحترم الحريات، وتقدر المواهب وتعترف بسلطان الأمم، تتحول إلى فرقة وخلاف، وضغائن لا يستقيم معها أمر أمة، ولا يستطاع بها إنقاذ شعب، ثم إلى إباحية، وتحلل باسم الحرية الشخصية، تهدر قيم الأخلاق وتختل لها موازين الفضائل.

 فهاأنت ترى أن جانب الخير فى كل نظام من هذه النظم قد مازجه من معاني الشر ما كدر صفوه، وعطل أثره، وحال دون انتفاع الناس منه.

ولكنك ترى هذه الجوانب من الخير جميعًا قد اجتمعت فى هذه الصلاة، صافية لا كدر فيها، خالصة لا شر معها، طاهرة كماء الغمام؛ فالمصلون يدخلون المسجد سواسية بين يدى الله، والمسجد لهم على الشيوع؛ لأنه ليس ملكًا لأحدهم، ولكنه بيت الله }وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا [الجن: 18]، وذلك أفضل ما فى الشيوعية، وإذا وقف الإمام للصلاة فالجميع من خلفه على قلب رجل واحد، يتحركون بحركته، ويسكنون بسكونه، لا يخالف أحد منهم على أمره "إنما جعل الإمام ليؤتم به"، وذلك أفضل ما فى الديكتاتورية، فإذا أخطأ هذا الإمام فى تلاوة أو عمل ارتفعت الأصوات من كل مكان، حتى إن النساء ليصفقن، يرشده الجميع إلى خطأ ويردونه إلى الصواب فى قوله أو عمله، وذلك أفضل ما فى الديمقراطية، وهكذا ينتهى المصلى من صلاته وقد تفاعلت فى نفسه عناصر الصلاح فى النظام الاجتماعي الشامل، ودام هذا المؤثر خمس مرات فى اليوم، فاعتدل مزاج الأمة التى تواظب على هذا الدواء، وسلمت من الآفات التى تحدثها الأخلاط، وبرئت من الثورات التى يخللها اختلال التوازن بين الطبقات!.

فهل يفقه المسلمون هذا السر العجيب فى صلاتهم فيؤدونها على وجهها، ويواظبون عليها فى جماعاتها ومواقيتها، ويقدرون الحكمة التى جعلت هذه الفريضة تفرض فى ليلة الإسراء، وفى موكب من النور فى الأرض وفى السماء!

اللهم فقههم فى الدين، ووفقهم يا رب العالمين(2).

 

منبر الجمعة

} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِىَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة: 9].

قامت دعوة الإسلام على الإيمان بالله، والعمل الصالح، والأخوة الإنسانية الكريمة، وسياج ذلك كله صلاح النفس واستقامتها على مناهج الخير والحق.

أصول قررتها الأديان من قبل، وجاءت بها الشرائع من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم }شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13].

واعتمد الإسلام فى تقرير هذه المعاني فى النفوس، وتثبيتها فى القلوب على الدعوة الدائبة، والكلمة الطيبة، والحجة الواضحة، والبرهان المنير }وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت: 33]، }ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل: 125].

وهكذا ترى مادة الدعوة مثبتة فى القرآن الكريم فى عدة سور وآيات فى مواضع مختلفة إشارة إلى جليل أثرها وعظيم منزلتها ومثل }كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِى السَّمَاءِ * تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا [إبراهيم: 24-25].

وأراد الإسلام الحنيف أن يذكر الناس بالغاية والوسيلة فى صورة عملية واضحة تتراءى لهم كل أسبوع، فاختار يوم الجمعة، وجعله يوم الآخرة بين أيام الدنيا، ودعا الناس فيه دعوة مؤكدة إلى بيوت الله }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِىَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة: 9]، يجلسون فى هذه المساجد وقد تهيؤوا لهذا المجلس بالنظافة والطيب، والهدأة والسكون، والإخبات والخشوع، والتجمل والنظام التام فى ظل مساواة عجيبة لا فرق فيها بين كبير وصغير، وغنى وفقير؛ فالكل بين يدى الله فى بيته سواء، متعاطفين متراحمين متآخين متساويين، معان اجتماعية هى عماد الأخوة الحقيقية، تلمسها الفلاسفة والمصلحون بالأقوال والنظرات، وقررها الرسل والأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- بالأعمال والعبادات، وحققوها صورة ماثلة فى مواطن العبادة بين يدى الله رب العالمين.

يجلس الناس هذه الجلسة أسبوعيًا ليستمعوا آيات تتلى، وعظات تقرأ، وتذكيرًا يردد، ووحيًا ينشر، وعبرًا تذكر؛ وليقفوا بعد ذلك فى صف الصلاة مؤمنين قانتين متوجهين إلى قبلة واحدة ووجهة واحدة لغاية واحدة هى التقريب إلى الله رب الخلق ومالك الملك، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.

وهكذا يذكر الناس ربهم فيقوى الإيمان ويشتغلون بأفضل الأعمال الصالحة وهي الصلاة، ويجتمعون فى صعيد واحد ساعة من نهار، تتأكد بها الأخوة، وفى ذلك صلاح أنفسهم وأرواحهم وحياة ضمائرهم ووجدانهم، ويقرر الخطيب بما يتلو من آيات الله والحكمة هذه المعاني كلها فى نفوسهم؛ فهل رأيت نظامًا أحكم وأبدع وأجمل وأروع؟ صدق الله العظيم }وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [النساء: 82].

ومن الإمام؟ يقود الأمة فى المحراب، ويشرح لها السنة والكتاب، ويؤمها فى الصلوات، ويدعوها إلى الصالحات.. أهو ممثل السلطة الدينية، وسادن الحقائق الروحية؟ لا وأبيك؛ فليس هناك سلطتان، ولا يتنازع المجتمع الإسلامي جهتان، ولكنها سلطة واحدة لا تتعدد، إنها الدولة وحدها، تشرف على شئون المجتمع فى الدنيا والدين، وتوجه الأمة جميعًا إلى خيرهما معًا، تقيم فيها الأحكام، وتحرس الأمن والنظام، وتؤم فى العيد، وتدرس فى المعهد، وتوزع العدالة بالقسطاس }إِنَّ اللهَ يَأمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء: 58]، وتأمل كيف اشترط كثير من الفقهاء إذن الإمام حتى تكون الصلاة مستوفاة للشرائط والأحكام.

فيا أيها الأئمة، قدروا مهمتكم، وقودوا هذه الأنفس إلى الخير، ووجهوها إلى الحق والخلق والفضيلة والنور، وأنتم لها ضامنون؛ فالإمام ضامن والمؤذن مؤتمن.

ويا أيها المصلون، أصيخوا آذانكم، وأحضروا قلوبكم، وتدبروا فى هذه العظات الأسبوعية، ولا تجعلوها أعمالا عادية آلية؛ فالعلم علمان: علم فى القلب فذلك العلم النافع، وعلم على اللسان فذلك حجة الله على ابن آدم، ويا أيها القاعدون عن الصلاة لماذا تقعدون، وهي رياضة لأرواحكم، ونور لقلوبكم، وطمأنينة لأنفسكم، وصلة بينكم وبين ربكم، وعمل صالح فى الدنيا، ومثوبة فى الآخرة، وليس فيها بعد ذلك من تعب ولا إرهاق؟

فبادروا أيها الأخوة إلى الصلاة، وأجيبوا داعي الله }وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِىَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ [الأحقاف: 32].

وأظنه تقليدًا جميلا أن نلتقي صباح كل جمعة على منبر هذه الجريدة، فيكون ذلك للأسبوع حسن ختام.

وإلى اللقاء، والسلام عليكم ورحمة الله(3).

 

طلعة الهلال

} فَمَن شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: 185].

مرحبًا بطلعة الوليد الوسيم، وبشير الخير العميم: هلال رمضان، ومشرق أنوار القرآن، وشذا نفحات الجنان، وواحة الاسترواح فى صحراء العام، وراح الأرواح بالصلاة والصيام والقيام؛ فاللهم أهله علينا بالأمن والإيمان، والطمأنينة والسلام، هلال خير ورشد إن شاء الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، وصدق رسول الله: "إذا أقبل رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين، ونادى مناد من قبل الحق تبارك وتعالى: يا باغي الشر أقصر، ويا باغي الخير هلم".

لقد بنى الإسلام على شرائع وعبادات، وفرائض وواجبات، كان من جميل صنع الله لعباده فيها أن أقامها على دعائم من الخير وقواعد من البر تفيدهم فى الدنيا وتنفعهم فى العقبى، وتسعدهم فى الآخرة والأولى.

فالقاعدة الأساسية فى العبادة المتقبلة الكاملة: النية الصالحة الفاضلة والإخلاص فيها لرب العالمين، }وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة: 5]، "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"؛ فما لم يكن الدافع الأول إلى العبادة قلبيًا تشترك فيه خلجات الوجدان، مع حركات الأبدان، وتحضر فيه القلوب، وتطهر به الأرواح والنفوس؛ فلا وزن لها ولا مثوبة عليها، وليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها، وكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش.

والقاعدة الثانية: دفع الحرج والعسر وإيثار السهولة واليسر؛ فليس فى تكاليف الإسلام وعباداته ما يشق على العابدين أو يرهق نفوس المكلفين }مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة: 7]، }وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ [الحج: 78]، }وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ [البقرة: 185]، يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا.

وهكذا تتمشى هذه القاعدة فى كل التكاليف الشرعية والعبادات الإسلامية، وتأمل ذلك تجده مطردًا فى كل الأحكام، إليك ما جاء منه خاصًا بفريضة الصيام: }أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنْكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 184].

والقاعدة الثالثة: أن لهذه العبادات آثارها العملية النافعة فى حياة الفرد والجماعة، وليست مفروضة لمجرد التعبد والطاعة؛ فهى أوضاع لوحظ فيها المعنى الدنيوي الاجتماعي إلى جانب الربح الأخروي والتهذيب النفساني؛ فما أمر الإسلام إلا بطيب فيه خير يرى الناس فى حياتهم العملية أثره، وما نهاهم إلا عن خبيث يلمسون شره وضرره }الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الأُمِّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلاَلَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِى أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 157].

فيا أيتها الأمة المسلمة، قد أظلك شهر الصيام، وفيه ركن من أركان الإسلام، وإن عليك فيه لواجبات وله منك حقوق:

أولها: أن تتهيأ النفوس لاستقباله بالتوبة الصادقة النصوح والتطهر الشامل الكامل }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللهُ النَّبِىَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ [التحريم: 8].

وثانيها: الحرص على صومه حسيًا ومعنويًا بالامتناع عن المفطرات، وكف الجوارح عن الآثام والمنكرات، وصدق التوجه، ودوام التأمل، وكثرة التذكر، والتفكر فى ملكوت الأرض والسماوات.

وثالثها: الإكثار من الطاعات فيه، وبخاصة البر والإحسان، وتلاوة القرآن؛ فإن الله يضاعف فيه مثوبة المتصدقين، ويرفع فيه درجات التالين المتدبرين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود ما يكون فى رمضان، حين يعارضه جبريل -عليه السلام- بالقرآن؛ فلَرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة.

ورابعها: المحافظة على التراويح ومناجاة الملك العلام؛ فمن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، وكم لهذه الصلاة فى قلوب الخاشعين فيها والمعنيين بها من مشارق لامعة وأنوار ساطعة }قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون: 1-2].

ولنا بعد ذلك مع الحكومات الإسلامية كلمة هى النصيحة التى لا مفر منها ولا معدي عنها: لماذا لا تعتبر الإفطار فى نهار رمضان جريمة كجرائم الإخلال بالنظام والآداب العامة، وتضع من القوانين ما يردع المفطرين، ويصون حرمة هذا الركن من أركان الدين؟ ولا يكفي أن تصدر الوزارات منشورًا تقليديًا للموظفين باحترام شهر رمضان، وتنصح بعدم التجاهر ببعض أنواع العصيان، ثم لا تتبع ذلك بالرقابة الزاجرة والعقوبة الرادعة، ولماذا لا تجرب الحكومة الحزم ولو مرة واحدة؛ فتؤدى بذلك واجبها وتنقذ الناس، و"إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".

اللهم ألهمنا البر والرشاد، ووفقنا للخير والسداد، إنك أهل التقوى وأهل المغفرة(4).

 

ليلة السلام

} إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلاَمٌ هِىَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [سورة القدر].

هذا كتابنا ينطق على الناس بالحق، يهتف بالسلام، ويشيد بالسلام، ويقر على الأرض السلام، وينزل فى موكب من الملائكة يحدوه ويحف به السلام، وتحيتنا فيما بيننا ويوم نلقى ربنا سلام، وختام صلواتنا ومناجاتنا سلام، وربنا الله الملك القدوس الذي أعد للصالحين من عباده دار السلام، وديننا الإسلام، ومادته السلام، }فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الزخرف: 89].

ويوم اتخذنا السلام شعارًا لم نقف عند حدوده النظرية أو مدلولاته اللفظية، ولكن السلام الذي أراده الله لعباده فى ظل الإسلام يقوم على دعامتين:

على النظام الاجتماعي الكامل فى القرآن الكريم الذى أنزله الله فى ليلة السلام، فجاء يعلن الأخوة العالمية، ويرفع من مستوى النفس الإنسانية، ويكشف للبصائر عن حقائق الربانية، ويقيم دعائم العدالة الاجتماعية بين الحاكم والمحكوم، وبين الضعيف والقوى، والفقير والغنى، والرجل والمرأة، ويشيع فى المجتمع معنى التكافل الحق الذى يشيع فى كل نواحيه معانى الحب والسعادة والطمأنينة والسلام، ومن قرأ القرآن وأنعم النظر فى توجيهاته وشرائعه وأحكامه عرف صدق ذلك ومواضعه من هذا الكتاب الكريم الذى لم يدع خيرًا إلا أمر الناس به، ولم يدع شرًا يؤذيهم إلا نهاهم عنه.. } وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 88].

هذه واحدة، والثانية الأمة المؤمنة بهذا النظام، والدولة القائمة عليه تفقهه، وتؤمن به، وتدافع عنه، وتدعو إليه، وترشد البشرية إلى ما فيه من خير وجمال ورحمة، وتجاهد فى سبيل ذلك بكل ما تملك، ولا تخشى فى ذلك لومة لائم: }يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67]، وبذلك اقترن الوضع النظري بالكفاح العملي، فحفظ الأمن، واستقر على الأرض السلام.

والآن أيها المسلمون، تطالعكم هذه الليلة بهذه الذكريات كما طالعتكم بها أكثر من ألف وثلاثمائة وسبعين مرة؛ فهل تكتفون من هذه الذكرى بترقب السماء لتتسلوا بمرأى الكواكب والنجوم الزاهرة، وبانتظار سعادة الأحلام وكنوز الأوهام، أم تثير فى أنفسكم هذه الذكريات الروعة واللوعة والأسى والهمة؛ فتجددوا مع الله عهدًا موثقًا أن تعودوا إلى دراسة هذا النظام الكامل حتى تتفقهوا فيه، وأن تجتمع قلوبكم عليه حتى تقوم فيكم من جديد دولته، فتعتز بكم فى العالمين دعوته؟

أيها المسلمون، هذه ليالي رمضان الغالية قد آذنت بوداع، وتجهزت للرحيل، ولم يبق منها إلا القليل، وبين يديكم هذه الليلة المباركة التى هى خير من ألف شهر، ويقول النبى صلى الله عليه وسلم: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان.. مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر"، "ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه"، ويقول الله عز وجل: }وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185]، }وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى وَلْيُؤْمِنُوا بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة: 186]؛ فهو يهيب بعباده فى هذه الآية الكريمة أن ينتهزوا فرصة تمام الشهر وكمال عدته؛ ليشكروا الله على نعمته، وليستمروا فى الإقبال على طاعته، وليسألوه من فضله، ويستغرقوا فى مناجاته حتى يفوزوا بفضل هذا الشكر وعظيم بركته، وجزيل مثوبة الله -تبارك وتعالى- فيه للطائعين من عباده.

وليس أحد يدري أين هو من رمضان القادم؟ وأين رمضان القادم منه؟ فخذوا من يومكم لغدكم }وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة: 8](5).

 

فريضة

} يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة: 185].

هذه الرسائل السماوية هى مشاعل الهداية الربانية، حملها الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- إلى البشر؛ لينيروا للإنسانية الضالة التائهة طريقها المظلم الموحش فى بيداء الحياة، حين تلتبس عليها المسالك، وتشتبه أمامها الطرائق، ويعجز هذا البصيص من ضوء العقل ونور الفطرة عن أن يهديها سواء السبيل }وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ [المائدة: 46]، }وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ [الشورى: 52-53].

وإن هذه الشرائع السماوية والهداية الربانية لتشترك وتتشابه فى أصولها الإصلاحية التى جعلتها أساسًا للحياة الإنسانية الصالحة؛ من معرفة الله، والإيمان بالجزاء، والسمو بالنفس، والاعتزاز بالأخوة بين بنى الإنسان، وتقدير لمعاني الخير والشر؛ ليقبل الجميع على ما ينفعهم ويفيدهم، ويتجنبوا ما يؤذيهم ويضرهم، وليس فى الشرائع السماوية ولا فى قواعد الحياة الإنسانية الصالحة وراء ذلك مثقال ذرة من خردل }شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13].

وإن الوسائل العملية لَتتشابه فى كثير من الشرائع السماوية وتتقارب، وإن اختلفت الكيفيات والمظاهر؛ فالصلاة والصوم والذكر والتلاوة والإحسان والصدقة هى جميعها من وسائل التطهر، ومظاهر التدين فى شريعة الله جميعًا، }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183].

وحين تواجه الشرائع السماوية الناس بتكاليفها العبادية، وفرائضها الدينية لا تقصد من وراء ذلك إرهاقًا ولا عنتًا، ولا تخالف فيه فطرة طبيعية، ولا تصادم ضرورة إنسانية أو اجتماعية أو فردية؛ بل هى إنما تقصد إلى تثبيت المعاني الروحية العليا فى النفوس، وترمز إلى أسمى المشاعر والعواطف والأحاسيس، التى لا تستقيم بدونها حياة بسواه، وتقيم من رقابة الناس لله، ورقابة الله على الناس، الديدبان الحارس اليقظ، والدليل الخريت الفطن، الذي يكفهم عن نوازع السوء، ويقودهم إلى أهداف الحق والسلام.

وهذا الصوم الذي يطالعنا الليلة هلاله }فَمَن شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: 185] فريضة ربانية محكمة، يقصد بها وجه الله، ويبتغى بها رضاه، "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم؛ فإنه لى وأنا أجزى به".

وقد اختار صاحب الشريعة له هذا الشهر من العام أيامًا معدودات، وامتحن به الناس فى ألصق الشهوات بنفوسهم، وألزم الضروريات لحياتهم، وأعنف الغرائز والعادات سلطانًا عليهم؛ فكفهم عن الطعام والشراب وما إليهما أكثر يومهم، ولم يجعل عليهم فى ذلك رقيبًا إلا أنفسهم ومن إيمانهم باطلاع الله عليهم، وأي تربية للإرادة القوية والعزيمة الماضية أنفذ من هذه التربية؟ وأية وقاية أدق وأوفى من هذه الرقابة؟ ولأمر ما أشارت الآية الكريمة إلى ذلك فى قول الله تعالى: }لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183].

وحسب المؤمن أن يتدرب تدريبًا عمليًا على قوة الإرادة، ومضاء العزيمة؛ ليكون عضوًا نافعًا فى الحياة، وإنسانًا صالحًا فى المجتمع؛ فإنما يؤتى الناس أكثر ما يؤتون من ضعف النفوس، ورخاوة العزائم، وانحلال الإرادات، والتقيد بقيود الوهم، والوقوف عند رسوم العادات، ويوم يتحرر الإنسان من قيد وهمه، وسلطان عادته ويملك أمر نفسه، يكون قد ملك بذلك كل شىء.

وإن لرمضان وفريضته، وإن لأيامه ولياليه وساعاته، وقد فضلها الله تبارك وتعالى، وكتب لها المنزلة العالية، والدرجة الرفيعة ما تضاعف به حسنات المحسنين، وتفتح به أبواب القبول للمذنبين الخاطئين، متى تعرضوا لفيض فضل الله -تبارك وتعالى- على عباده فى هذه الساعات المباركات.. لحقًا يجب ألا نغفل عنه، وألا نتهاون به، أو نتساهل فيه؛ فإنها والله فرصة لا تتاح إلا فى العام مرة، ومن يدري أين هو غدًا؟ والآجال والأقدار بيد الله العلى الكبير.

فيا أيها المسلمون، أدوا فريضة هذا الشهر كاملة غير منقوصة بالصوم والصون معًا؛ فلا تجرؤوا على معصية الله بالإفطار سرًا أو جهرًا، ولا تبطلوا صومكم باللهو والعبث والإثم والعصيان، وتحرروا منهما معًا، وكم يكون جميلا لو أن الحكومات الإسلامية جعلت مادة صريحة من مواد العقوبات فى قانونها مؤاخذة هؤلاء المفطرين علنًا فى رمضان بالعقوبة الرادعة الزاجرة.

وليذكر هؤلاء المفطرون بحجة شدة الحر والنصب، وعدم القدرة على احتمال الصوم والتعب.. أن نار جهنم أشد حرًا لو كانوا يفقهون، وأن أهوال القيامة أطول عناء وتعبًا لو يتفكرون؛ فليصبروا على قليل له انتهاء؛ حتى لا يحق عليهم القول بعذاب بئيس، لا يُفتَّر عنهم وهم فيه مبلسون، وإن لهم بعد ذلك إن امتثلوا أمر الله تبارك وتعالى، وبادروا إلى طاعته أن يعينهم عليها، وييسر عليهم السبيل إليهم فى الدنيا، وأن يجزل لهم المثوبة فى الآخرة؛ فإن الأجر على قدر المشقة، ولقد كان بعض الصالحين يتحرى اليوم الشديد الحر فيصومه تطوعًا، فيقال له: "هلا تخيرت يومًا أقل من هذا عناء؟"، فيقول: "يا سبحان الله! وعلام أستحق المثوبة إذن؟!"، وليذكروا قول الله تبارك وتعالى: }يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة: 185](6).

 

إثم

} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183].

أيها المفطرون فى رمضان عامة، والمتجاهلون بالفطر خاصة، لماذا تفطرون؟

إن صوم رمضان فريضة إسلامية وشعيرة اجتماعية للوطن الإسلامي، وأمر رباني كريم لا جدال فيه، }فَمَن شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: 185]، وأعذار الفطر معروفة من مرض أو سفر أو عجز، ومع وجودها يجب على المفطر أن يستتر بفطره، وألا يتجاهر به أمام الناس سدًا للذريعة ودفعًا لسوء الظن، ومع قيام بعض الأعذار؛ فإن الله تبارك وتعالى يقول: }وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 184]، ولقد رغب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى صوم شهر رمضان، وأكثر من تبيان فضائله وجميل آثاره، وعظيم مثوبة الله للصائمين؛ بل إن هذا الترغيب لم يقتصر على شهر رمضان وحده، بل تعداه إلى الأيام الفاضلة المباركة المفضلة فى الفقه الإسلامي، وكلما اشتد الحر وتوهج القيظ وعظم الجهد كلما زادت المثوبة، وتضاعف الأجر والثواب على قدر المشقة، ولهذا كان كثير من السلف الصالحين يتحرون اليوم الشديد الحر ويصومونه رجاء ما وعد الله عباده الصالحين من مثوبة، كما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم جسيم عقوبة المفطرين وما أعد لهم من عذاب يوم الدين، وكيف أن هذا الفطر قد يصل بهم إلى حد الكفر، ما لم يتوبوا إلى الله تبارك وتعالى وينيبوا إليه نادمين على ما فرطوا فى جنب الله.

ومن أمثلة هذه الأحاديث المرغبة:

1-     ما رواه عبادة بن الصامت رضى الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يومًا وقد حضر رمضان: "أتاكم رمضان شهر بركة يغشاكم الله فيه؛ فينزل الرحمة، ويحط الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء، ينظر الله تعالى إلى تنافسكم فيه ويباهى بكم ملائكته؛ فأروا الله من أنفسكم خيرًا؛ فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله عز وجل" رواه الطبراني. 

2-     وما رواه أبو هريرة  رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت أمتى خمس خصال فى رمضان لم تعطهن أمة قبلهم: خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا، ويزين الله -عز وجل- كل يوم جنته لهم، يقول: يوشك عبادى الصالحون أن يلقوا عنهم المثوبة، ويصيروا إليك، وتصفد فيه مردة الشياطين؛ فلا يخلصوا فيه إلى ما كانوا يخلصون إليه فى غيره، ويغفر لهم فى آخر ليلة، قيل: يا رسول الله أهي ليلة القدر؟ قال: لا، ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله" رواه أحمد والبزار.

3-     وعن أبى بردة بن أبى موسى الأشعري عن أبيه، من حديث طويل أن "الله قضى على نفسه أن من عطش نفسه لله فى يوم حار كان حقًا على الله أن يرويه يوم القيامة"، قال: فكان أبو موسى يتوخى اليوم الشديد الحر الذي كان الإنسان ينسلخ فيه حرًا فيصومه.

ومن أمثلة أحاديث الوعيد على الفطر من غير عذر:

1-     ما رواه أبو هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أفطر يومًا من رمضان من غير رخصة ولا مرض لم يقضه صوم الدهر كله وإن صامه" رواه الترمذي وغيره. 

2-     وما رواه أبو أمامة الباهلي رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بينما أنا نائم أتاني رجلان، فأخذا بضبعي، فأتياني جبلا وعرًا، فقالا: اصعد، فقلت: أنا لا أطيقه، فقالا: إنا سنسهله لك، فصعدت، حتى إذا كنت فى سواء الجبل إذا بأصوات شديدة، فقلت: ما هذه الأصوات؟، قالوا: هذا عواء أهل النار، ثم انطلق بى فإذا بقوم معلقين بعراقيبهم مشققة أشداقهم تسيل أشداقهم دمًا، قال: قلت: من هؤلاء؟ قال: الذين يفطرون قبل تحلة صومهم" رواه ابن خزيمة وابن حبان.

3-     وعن ابن عباس -رضى الله عنهما- يرفعه إلى النبى صلى الله عليه وسلم: "عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة، عليهن أسس الإسلام، من ترك منهن واحدة فهو بالله كافر، ولا يقبل منه صرف ولا عدل، وقد حل دمه وماله: شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة المكتوبة، وصوم رمضان" رواه أبو يعلى بإسناد حسن.

فيا أيها المفطرون عامة والمتجاهرون بالفطر خاصة: إن الإفطار فى رمضان نهارًا إثم كبير كما ترون، والمجاهرة بهذا الإثم إثم آخر؛ فما الذي يحملكم على أحدهما أو كليهما؟

أهو الشك والريب فى دين الله؟ وما علمناكم إلا مسلمين؛ فإن كنتم غير ذلك فأنتم وما اخترتم لأنفسكم، أم هو العجز عن الصوم؟ ونحن نراكم أقوى أبدانًا، وأصح أجسامًا، وأعظم احتمالا من كثير من الصائمين فعلا، وهو الوهم لا غيره يستولى على أنفسكم؛ فتتصورون أن الحر سينال منكم، وأن العطش سيبلغ بكم، وأن أعمالكم الشاقة ذهنية أو بدنية لا تتفق مع الصوم، ولا يمكن أداؤها معه، كما يتوهم بعض السيدات أو الفتيات أن الصوم ستذوى معه أعوادهن، أو تذبل به نضرة أجسامهن، أو ينقص بسببه وزنهن... إلى آخر هذه الأوهام الفاسدة التى يسلطها الشيطان على الرجال والنساء معًا، مع أن المعروف المقطوع به أن الصوم صحة للأبدان، وراحة للأعضاء، وقوة بعد ذلك للأجسام.

أم هو ضعف الإرادة، وخور العزيمة، والاستسلام للعادات الرديئة التى نشأ عليها الكثير منا؟ مع أن الرجولة الحقة والإنسانية الفاضلة تفرض على الإنسان، رجلا كان أو امرأة، أن يغالب نوازع الشر فى نفسه، وعادات الفساد فى حياته؛ حتى يتغلب عليها، ويتحكم فيها، ويتحرر منها، ويقيم حياته على نهج قويم وصراط مستقيم.

ولو لم يكن من مقابح الفطر وسخفه إلا كون المفطر يهدم شعيرة اجتماعية تواضع قومه على احترامها وتعظيمها، ويصادم ظاهرة وطنية يتمسك أهله ومواطنوه بها، ولا يصح أن يجرح بفطره شعورهم، وأن يؤذى بمعصيته هذه عواطفهم، ولا يخرج بعمله عن اجتماعهم.. لكان فى ذلك ما يدفع المفطرين إلى الصوم ولو مجاملة، وإني لأعرف كثيرًا من مواطنينا الفضلاء غير المسلمين يشارك المسلمين صومهم، ويأبى كل الإباء أن يشرب الماء، أو يدخن، أو يتعاطى حتى الدواء أمام غيره من مواطنيه المسلمين الصائمين؛ تقديرًا لشعورهم، واحترامًا لشعيرة دينهم؛ فكيف يجرؤ مسلم على الفطر، ثم على المجاهرة بفطره بعد ذلك كأن لم يرتكب وزرًا، ولم يقارف معصية وإثمًا؟

ثم ماذا يكون موقف هذا المفطر فى بيته ومع أولاده وزوجته، والمطلوب منه أن يكون قدوة صالحة لهم، يدعوهم إلى الخير، ويقودهم إلى طاعة الله }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6].

أيها الإخوة الضعفاء المفطرون والمتجاهرون بالفطر:

عودوا إلى أنفسكم، وأنيبوا إلى ربكم، واندموا على ما فرطتم، وصوموا شهركم، وسلوا الله -تبارك وتعالى- أن يوفقكم وأن يغفر لكم، وهو فاعل إن شاء الله إذا علم الصدق منكم، وهو العليم الخبير الذي يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم فى ثنايا آيات الصوم: }وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى وَلْيُؤْمِنُوا بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة: 186](7).

 

سماحة

} عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ [البقرة: 187].

روى الإمام مسلم فى صحيحه بسنده عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: "جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت يا رسول الله، قال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي فى رمضان، قال: هل تجد ما تعتق رقبة؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، فقال: فهل تجد ما تطعم ستين مسكينًا؟ قال: لا، ثم جلس، فأتى النبى صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر، فقال: تصدق بهذا، قال: على أفقر منا؟ فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا، فضحك النبى صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: اذهب فأطعمه أهلك".

وروى هذا الحديث من وجه آخر عن السيدة عائشة -رضى الله عنها- قالت: "أتى رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فى المسجد فى رمضان، فقال: يا رسول الله، احترقت احترقت، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما شأنه؟ فقال: أصبت أهلي، قال: تصدق، فقال: والله يا نبى الله مالي من شىء، وما أقدر عليه، قال: اجلس فجلس، فبينما هو على ذلك أقبل رجل يسوق حمارًا عليه طعام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين المحترق آنفًا؟ فقام الرجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تصدق بهذا، فقال: يا رسول الله أغيرنا؟ فوالله إنا لجياع ما لنا شىء، قال: فكلوه".

اذكروا أن من أحكام الصيام الأولى أن على الصائمين أن يمسكوا عن أن يصيب أحدهم أهله طول شهر رمضان، أو أن الصائم إذا صلى العشاء الآخرة أو نام قبلها لم يحل له بعد ذلك أن يطعم أو يشرب أو يقرب أهله، وكان ذلك أمرًا شاقًا عليهم؛ فكان بعضهم لا يصبر عليه، وقد يخالف هذا الأمر بينه وبين نفسه، ثم إن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أصاب أهله بعدما صلى العشاء، فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه.

ثم أتى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله أعتذر إلى الله وإليك من هذه الخطيئة، إنى رجعت إلى أهلي بعدما صليت العشاء، فوجدت رائحة طيبة، فسولت لى نفسى، فأصبت أهلي"، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: "ما كنت بذلك جديرًا يا عمر!!"، فقام رجال فاعترفوا بمثل ذلك، فأنزل الله بعد ذلك الآية الكريمة: }أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ [البقرة: 187].

شعور دقيق بمعاني الخير والشر، وإدراك واضح لدقائق البر والإثم، وتقدير بالغ لرقابة الله العلى الكبير، وسلطان غالب للدين على هذه النفوس الطيبة، واعتراف بضعف الإنسان.. هو فى ذاته قوة فى الإرادة تؤدى إلى السماح والغفران، ذلك ما تعطيه هذه الآثار التى تروى حال المجتمع الإسلامي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، خاف الرجل الأول فأقر واعترف، وخالف عمر فبكى وندم، وكان رجال آخرون يتأولون ولا يدركون أن فيما يفعلون مخالفة صريحة لتعاليم الدين، فلما أدركوا ذلك وتبينوه من عتاب النبى صلى الله عليه وسلم لعمر قاموا فاعترفوا كذلك يريدون أن يتطهروا بهذا الاعتراف، ويحملون فى شجاعة تبعة ما ارتكبوا من إثم وإجحاف، ولقد روى عنهم فى ذلك كثير من الآثار؛ مما يدل على أنهم -رضوان الله عليهم- كانوا فى هذا الوصف سواء، وصف الشعور الدقيق بالبر والأمن والإقرار على أنفسهم بما يفعلون؛ رجاء التطهر بالعقوبة أو العفو؛ فلم يكن أحدهم يحاول أن يفر من تبعته، أو يتخلص بالإنكار والزور من آثار خطيئته.

ولا تريد القوانين الاجتماعية من الناس أكثر من هذا، أكثر من أن يرق شعورهم حتى يميزوا بين الخير والشر، وتتهذب نفوسهم فتألم وتندم إذا قارفت إثمًا، وتسر وتفرح إذا أصابت إحسانًا.

وتقديرًا لهذا المعنى الكريم فى نفس الرجل المذنب عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الزلات، فطالب فى الصورة الأولى بالكفارة، فلما لم يجدها قام بها عن صاحبها، فلما وجده أحق الناس بها وهبه إياها، ولم يزد فى الصورة الثانية على هذا العتاب الرقيق "ما كنت بذلك جديرًا يا عمر"، وضاعف الله نعمته، وأوسع لهم من فضله؛ فأباح لهم ما كان قد حرم عليهم من قبل؛ فهل رأيت أسمح من هذا؟ إنها سماحة فى التشريع والتطبيق تليق بهذه السماحة فى المشاعر والنفوس، ولو أنصف الناس استراح القاضي. فيا أيها المتعصبون بآثار الخطيئة }لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53]، اندموا على خطيئتكم، واعترفوا لربكم بذنوبكم، وسلوه أن يغفر لكم، واصدقوا فى التوجه، وتوبوا إليه توبة نصوحًا، وثقوا بعد ذلك من القبول والمغفرة إن شاء الله }وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ [الشورى: 25-26](8).

 

 

ذكريات

رمضان شهر الذكريات الإسلامية العالية لا شك، وكأنما ادخر الله لهذا الشهر أن تكون فيه كل الحوادث التى دعمت دعوة الإسلام، وطارت بها فى الخافقين؛ ففى شهر رمضان أنزل القرآن.

ومعنى نزول القرآن الكريم أن السماء قد طالعت الأرض بمبادئ النهضة الجديدة والتطور الجديد، ونظام الحياة السعيدة، الذي يقوم على الرحمة والعدل معًا، والحق والقوة معًا، والروحية والمادية معًا، والربانية والإنسانية جميعًا، والفردية والجمعية كلاهما؛ فالفرد فيه للجماعة والجماعة للفرد، والكل لله الواحد القهار.

وفى رمضان كانت غزوة بدر، وغزوة بدر هى الامتحان العملي الأول للجماعة الإسلامية الناشئة التى لها فى إيمانها القوى، وإخائها الثابت الموطد، وقدرتها على الكفاح والجلاد، واحتمالها لمعاني المشقة والجهاد، فلما نجحت الحملة نجاحًا منقطع النظير يتمثل فى قولة سعد بن معاذ  رضى الله عنه: "يا رسول الله، آمنا بك وصدقنا، وآمنا بأن الذى جئت به هو الحق من ربك؛ فنحن سلم لمن سالمت، حرب على من حاربت، لو خضت بنا البحر لخضناه معك، ولو ذهبت إلى أقصى الأرض لذهبنا وراءك ما تخلف منا رجل واحد، وإنا لصبر فى الحرب صدق عند اللقاء؛ فامض لما أمرك الله، وسيريك الله منا ما تقر به عينك"، وكان الرجل جادًا فيما يقول، يعنى كلامه كلمة كلمة، ويشهد الله على ما فى قلبه، وهو الصدق كل الصدق؛ فلما نجحوا هذا النجاح المنقطع النظير كافأهم الله بنصر منقطع النظير كذلك }وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران: 123].

وفى رمضان كانت غزوة الفتح كذلك.

والذي يتذكر كيف خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجرًا، قد ترك أهله وبلده ووطنه يودع مكة وداع المحب الوامق، فيقول: "يا مكة، والله يا مكة لأنت أحب بلاد الله إلى الله، وإنك لأحب بلاد الله إلىّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت"، ثم يتعسف بعد ذلك الطرق، ويغشى المفاوز والغيران ليس معه بعد ربه إلا صاحبه؛ حتى أشرف على المدينة، دار الأمن والطمأنينة.

ثم يتذكر كيف عاد بعد ذلك إلى مكة فاتحًا فى جيش لجب من المؤمنين الصادقين، يأسر أبا سفيان وينادى مناديه فى الناس: "من دخل الحرم فهو آمن، ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن"، ويجمع إليه قومه من قريش جميعًا فيخاطبهم جهرة، وهم الذين آذوه أشد الإيذاء: "يا معشر قريش ما تظنون أنى فاعل بكم؟" فيقولون: "خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم"، فيقول: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".

ثم يلتفت إلى الكعبة المشرفة وعليها الأصنام تعبد من دون الله، فينكسها جميعًا بعود فى يده وهو يقول: }جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء: 81]، ويعلن بذلك الإيمان والطمأنينة والسلام فى يوم واحد.

من تذكر هاتين الصورتين، ووازن بينهما علم أن فتح مكة كان فتحًا عظيمًا استقرت به دعوة الإسلام فى الجزيرة المباركة، وتهيأت لتنشر وتشرق على ما سواها من البقاع.

وفى رمضان اليوم..

تشغل قضايا العالم العربي والإسلامي كل قلب وكل نفس، من المحيط الهادي إلى الدار البيضاء، لقضية إندونيسيا وقضية الباكستان وقضية فلسطين وقضية اليمن والجزيرة العربية وقضية وادي النيل وليبيا وقضية المغرب العربي.. كل هذه القضايا تحتل كل نفس، وتشغل كل بال، وتدور مع كل خاطر، ويعرض الكثير منها على الهيئات الدولية فتتذكر قول الفرزدق رحمه الله ورحم أيامه:

فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا           إذا نحن فيهم سوقة نتنصف

ولكن لا بأس فالدنيا دول، وتلك الأيام نداولها بين الناس.

فيا أيها العرب والمسلمون، وأنتم آلاف فى رمضان شهر الذكريات، راجعوا صفحات هذا التراث المجيد، وأعدوا أنفسكم من جديد؛ لتخطوا فى كتاب الوجود صفحات أخرى كالتي خطها آباؤكم من قبل فى سبيل الحق والمجد والسلام، والله معكم(9).

 

 

ليلة

} فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان: 4].

هى ليلة البركة والسلام والقدر، وفيها يفرق كل أمر حكيم، وهي بذلك كله خير من ألف شهر، لقد بارك الله فى هذه الليلة بأن قدم فيها هدية السماء ممثلة فى هذا النظام الاجتماعي الكامل من كتابه الكريم لأهل الأرض، الذين التبست أمامهم المسالك، ووقفوا على مفترق الطرق حائرين.

بعد ألف وثلاثمائة وسبعين سنة من هذه الليلة المباركة، أخذ زعماء العالم يهتفون بوجوب إعلان الأخوة بين بنى الإنسان، ووجوب تدعيم هذه الأخوة بهذه الوسائل؛ حتى يستقر فى الأرض السلام، ومن قبل هذه الصيحة نزل القرآن الكريم يعلن: }يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِى تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1]، }يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13].

وبعد هذه الحقبة من الزمن أخذ زعماء العالم ينادون بالعدالة الاجتماعية، ووجوب تكافؤ الفرص للجميع؛ حتى يعيش الناس آمنين مطمئنين فى جو من التعاطف والتراحم والوئام، ومن قبل نادى القرآن الكريم بهذه العدالة فى أبدع صورها }إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ والبغي يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]، بعد أن تناول فروعها وشعبها بالبيان والإيضاح فى كثير من آياته الكريمة.

ولقد نادى روزفلت وتشرشل بميثاق الأطلنطي الذي أعلن الحريات الأربع، وما علم أصحاب هذا الميثاق أن القرآن الكريم قد سبقهم إلى تقرير هذه الحريات بأدق وألطف وأجمل وأوفى مما جاء فى ميثاقهم.

فأعلن حرية العقيدة بقوله: }لاَ إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَىِّ [البقرة: 256].

وحرية الرأي بقوله: }وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى: 38].

وحرية العمل أو التحرر من العوز بقوله: }فَامْشُوا فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ [الملك:15]، }وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة: 105].

والتحرر من الخوف بإعلان الطمأنينة والأمن }سَلاَمٌ هِىَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر: 5]، }الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [الأنعام: 82].

وأضاف القرآن الكريم إلى ذلك كله معنيين لم يسبق إليهما، ولن يلحق فيهما، أنه رسم الطريق العملي للناس لتحقيق هذه التعاليم الفطرية السامية، وأدخلها أعمالا قائمة ماثلة فى حياتهم اليومية؛ فما الصلاة ولا الصوم، ولا الآداب الإسلامية، والشعائر الدينية إلا تدعيمًا لهذه المعاني فى نفوس المؤمنين بهذا القرآن الكريم.

كما أنه جعل من الضمير الإنساني الحي المؤمن بالله القوى الصلة به رقيبًا وحارسًا لا يغفل، يشيع السعادة والنعمى فى الأنفس المطيعة الملتزمة بهذه المبادئ السائرة فى حدودها، كما يشيع الألم والهم فى كل نفس تتمرد عليها، ولا تنزل على حكمها.

ذلك بعض ما جاء فى هذه الليلة الكريمة التى يفرق فيها كل أمر حكيم، ومن أراد زيادة البيان والإيضاح فأمامه المصحف }كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1]. 

والله أكبر ولله الحمد(10).

 

كونوا مع الله

} وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى وَلْيُؤْمِنُوا بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة: 186].

فرصة تتاح فى كل عام مرة هى فرصة شهر رمضان المعظم الذي لم يبق بيننا وبينه إلا ليال قلائل.. تفتح أبواب السماوات، وتتنزل رحمة الله على عباده بالبركات، وينظر الله تعالى إلى عباده فى أيامه ولياليه؛ فيستجيب للداعين، ويضاعف مثوبة الطائعين، ويمن بالمغفرة والقبول على المذنبين المقصرين.. } وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران: 135-136].

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا أقبل رمضان فتحت أبواب الجنة، وأغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين، ونادى مناد من قبل الحق تبارك وتعالى: يا باغي الشر أقصر، ويا باغي الخير هلم".

والمسلمون اليوم وجهًا لوجه أمام شئون حيوية، لا ينفعهم فيها إلا تأييد الله تبارك وتعالى، ونصره العزيز الذي وعد به عباده المؤمنين }الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج: 41].

أمامهم قضية وادي النيل، وقضية فلسطين، وقضايا الجزيرة العربية، ومشاكل الهند الثلاث: الباكستان وحيدر آباد والأقلية الإسلامية فى الهندوستان، وأمامهم قضية برقة وأفريقيا الشمالية، وقضية الأقليات الإسلامية فى جنوب أفريقيا، وفى شمال أوروبا.

وأمامهم وضع الجمهوريات الإسلامية الصرفة فى الاتحاد السوفيتي، وما هى عليه الآن، وما يجب أن تكون عليه.. هذا إلى جانب ما يصل بإيران والأفغان وتركيا وغيرها من بلدان العالم الإسلامي.. كل هذه القضايا مع المشاكل الداخلية فى الأوطان العربية والإسلامية ومع حال القلق والتبلبل والاضطراب التى تسود العالم لا حول لنا أمامها ولا قوة إلا بحول الله وقوته، وما عند الله -تبارك وتعالى- لا يُنال بمعصيته، ولكن يُنال بطاعته.

فيا أيها المسلمون، لم يبق بينكم وبين الفرصة إلا ليال قلائل، فطهروا الأفئدة، وصفُّوا النفوس، وأعدوا الأرواح والقلوب، وأكثروا من التوبة والاستغفار، وانتهزوا هذه الفرصة؛ لتكونوا مع الله؛ فيكون الله معكم، وإذا كان الله معكم نصركم، وإن تنصروا الله ينصركم، وإن ينصركم الله فلا غالب لكم.

والله أكبر ولله الحمد(11).

 

فريضة

} شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: 185].

صوم رمضان فريضة محكمة من فرائض الله التى أوجبها على المسلمين ما فى ذلك شك، قررها القرآن الكريم }فَمَن شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: 185].

وأكدها قول الرسول صلى العظيم صلى الله عليه وسلم: "بنى الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا".

ومضى عليها عمل سلف هذه الأمة والصالحين منها منذ وجد الإسلام إلى اليوم.

ولها من الفوائد الروحية والنفسية والبدنية والاجتماعية ما لا يمارى فيه إلا جاهل أو جاحد؛ فهى صفاء للروح، وتهذيب للنفس، وتقوية للإرادة، ومضاء للعزيمة، ومقاومة للشهوات، واعتياد على الصبر، وراحة البدن فترة من الزمان، تستجم فيها الأعضاء من عناء عمل دائم شاق، ولون جديد من الحياة، يتجدد بعده النشاط والاهتمام.

ذلك فضلا عن مثوبة الله للصائمين، وما وعدهم إياه من جزيل الأجر، وعظيم الثواب، وحسن القبول، وشمول المغفرة، ومضاعفة الحسنات }وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى وَلْيُؤْمِنُوا بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة: 186].

لهذا كان عجيبًا وغريبًا كل الغرابة أن يحجم بعض المسلمين عن الصيام، ويتظاهرون بالفطر غير مبالين بعقاب الخالق أو المخلوقين، ولا مهتمين بما حرموه من فوائد هذه العبادة فى الدنيا والآخرة، وإن الإنسان ليحار فى الدوافع التى تدفعهم إلى هذا الإفطار فى نهار رمضان، ولا يجد لها تعليلا إلا أنه الخذلان والحرمان، نعوذ بالله من ذلك.

فإن قالوا: إن كثرة أعمالنا وطبيعتها تحول بيننا وبين الصوم.. قلنا لهم: إن الواقع يخالف ذلك؛ فإن الأعمال تخفف فى رمضان، ويجد الناس من أوقات الترويح والراحة ما يخفف عنهم أعباء الصوم، على أن الأعمال التى تستوجب طبيعتها الفطر كالجهاد فى سبيل الله تبارك وتعالى، ومباشرة الحرب والقتال عملا.. قد رخص الإسلام بالفطر من أجلها بشروط وأحكام مع الإعادة عند الفراغ منها، ومع ذلك فلا يستلزم هذا الترخيص أن يتجاهر الناس بهذا الإفطار.

وإن قالوا: إن الصوم يتعبهم ويؤذيهم، وأجسامهم لا تتحمل.. قلنا: إن ذلك وهم يزينه الشيطان ويقويه، ولو غالب أحدهم نفسه لعلم أنه مخدوع، وأنه يستطيع الصوم بدون مشقة، وسيجد فيه راحة وطمأنينة، ولم يفترض الله على عباده ما يؤذيهم أو يؤلمهم }يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185].

وإذا قيل: إن الصوم سيحرمهم بعض العادات والكيوف التى اعتادوها؛ فلا شك أن من حكم الصوم البالغة تدريب الأمة الإسلامية على الصبر واحتمال المشقة والحرمان، وإنما تمتاز الأمم وتنتصر فى ميادين الحياة فى السلم والحرب على السواء بقدر حظها من هذا الخلق؛ خلق الصبر والاحتمال، ومغالبة الشدائد؛ ولهذا أمر الله المسلمين بذلك أمرًا لازمًا جازمًا }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران: 200].

فلم يبق إذن من سبب إلا الاستهتار بأوامر الله وتعاليمه، والاستهتار فى ذاته معصية أعظم من الإفطار؛ فليتق الله أولئك المفطرون، ولينتهزوا فرصة هذه الأيام الفاضلة، ويقبلوا على الله -تبارك وتعالى-، ويجددوا طرائق حياتهم، ويسلكوا سبل المهتدين؛ ليفوزوا بالراحة والخير فى الدنيا، وبالمثوبة والأجر فى الآخرة، وفقنا الله وإياهم إلى ما يحبه ويرضاه، آمين(12).

 

الله أكبر الله أكبر.. الله أكبر ولله الحمد

} وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة: 185].

حين شرع الله لعباده هذا التكبير فى الأذان وفى الصلاة وفى الأعياد، ودعا المسلم إلى أن يهتف من كل قلبه فى كل يوم مرات كثيرة بهذا الهتاف العذب الجميل الخفيف على اللسان، الثقيل فى الميزان: "الله أكبر الله أكبر"، لم يكن ذلك عبثًا ولم يشرع سدى، ولكن ليثبت فى نفوس المؤمنين لب عقائد هذا الدين؛ فيؤمنوا أعمق الإيمان بأن الله أكبر.

الله أكبر من الأزمات النفسية التى تعترض حياة الأفراد؛ فتضيق عليهم الأرض بما رحبت، وتضيق عليهم أنفسهم، وتبدو الدنيا فى أعينهم كحلقة خاتم لا تزداد طولا ولا عرضًا؛ فلا يفرج هذه الأزمات إلا الإيمان بأن الله أكبر.

الله أكبر من الشهوات العارضة التى يشيع بها الفساد فى الأرض، ويضطرب بها نظام المجتمع، وتنقطع بها صلات التراحم والتعاون والتواد بين الناس؛ فلا يكبحها ولا يكفكف من حدتها إلا الإيمان بأن الله أكبر.

الله أكبر من طغيان الأقوياء حين يستبدون بالضعفاء، فيسخرون منهم ويهزؤون بهم، ويهونون عليهم لضعفهم، ويسلبون حقوقهم لأنهم مطمئنون إلى عجزهم، ويعتدون عليهم لأنهم آمنون من انتقامهم؛ فلا يضع الأمر فى نصابه إلا الاعتقاد بأن الله أكبر }وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِى الأَرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرونَ [القصص: 5-6].

أيها المسلمون، يا من ترددون فى أذانكم وصلواتكم وأعيادكم "الله أكبر الله أكبر"، لا تهنوا ولا تحزنوا، ولا تيأسوا ولا تقنطوا، ولا تضعفوا ولا تستكينوا؛ فإن الأرض لله ليست لأمريكا ولا روسيا ولا إنجلترا ولا فرنسا، يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، لا للغادرين ولا للمعتدين ولا للظالمين ولا للباغين بغير الحق؛ فاطمئنوا إلى وعد الله الذى لا يخلف، واعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، واستقيموا إليه واستغفروه، وأجمعوا كلمتكم، ووحدوا صفكم، وتبينوا منهاجكم، ونظموا عملكم، ثم لا يهولنكم بعد ذلك أن تتألب دول الطغيان عليكم أو تتجمع قوتهم ضدكم }وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف: 21].

والآن وقد آذن شهر رمضان بالرحيل.. فماذا أنتم فاعلون؟ أتهجرون المساجد؟ أتودعون المعابد وتنصرفون إلى أندية الغفلة ومواطن العبث والضعف والذلة؟ أم تقيمون على ما وفقتم إليه من الخيرات وإقام الصلوات وتلاوة الآيات والسخاء بالصدقات؟ إن تكن الأولى فما أمرَّ السلب بعد العطاء.. وما أقسى الغضب بعد الرضاء.

ولقد كان المسلمون المعاصرون يقرءون تاريخ الأندلس، فردوسنا المفقود، فيقول بعضهم لبعض: ما أعظم تبعة مسلمي ذلك الزمان الماضي الذين قصروا وأهملوا فى حق إخوانهم الأندلسيين، ولم يجدُّوا أو يجتهدوا فى استنقاذ هذه البقعة من أوطان المؤمنين حتى تبدلت الكفر بالإيمان والغلظة باللين، وذاق أهلها بأيدي أعدائهم كأس الذلة والهوان، وأخرجوا منها راغمين، وشردوا فى الأرض مهاجرين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، ألا وإن أعجب من ذلك وأغرب وأقسى وأفظع أن تقتطع فلسطين العربية المسلمة من جسم أوطانكم، وأن تقوم فيها -لا قدر الله- دولة يهودية تحت سمعكم وبصركم وأنتم تنظرون.

لا نسبة بين الموقعين؛ فتلك أرض ربحناها، ودولة نحن أقمناها بين دول الكفر المحيطة بها من كل مكان، ثم غفلنا عن صونها وقعدنا عن تحصينها، فعدت عليها عوادي الزمن، وقضت على سلطاننا فيها الضغائن والإحن؛ فلم نخسر بفقدها إلا بعض الربح، وحالت بيننا وبين خصومنا أمواج البحر، وقضى الأمر إلى حين، وميراث الأرض للصالحين، أما فلسطين فقلب أوطاننا، وفلذة كبد أرضنا وديارنا، وخلاصة رأس مالنا وحجر الزاوية فى جامعتنا وكياننا؛ فكيف يتصور أن تكون وطنًا لغيرنا، أو تقوم فيها دولة وصفها القرآن بأنها أشد الناس عداوة لنا.

أيها المسلمون، إن الأمر أخطر مما تتصورون، وإن الخطب أفدح مما تظنون، وليس يفيدنا بعد إذ تطورت الأمور إلى هذا الحد إلا أن نأخذها بمنتهى الحزم والصرامة والجد، وإلى الأمم الإسلامية جميعًا والحكومات الإسلامية وإلى كل مسلم على ظهر الأرض أوجه القول:

تذكروا حساب الله ونقمة الأجيال ولعنة التاريخ، ووجهوا كل جهودكم متحدين على قلب رجل واحد لشيء واحد، هو كسب معركة الساعة ساعة الفصل، وحينئذ يستطيع أن يقول بعضنا لبعض فى نشوة النصر ولذة الظفر: "كل عام وأنتم بخير"(13).

 

ختام

} خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين: 26].

كان من دعاء أبى بكر رضى الله عنه: "اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم لقائك، اللهم لا تدعنا فى غمرة، ولا تأخذنا على غرة، ولا تجعلنا من الغافلين".

وقد جاء فى الأثر: "أيها الناس، إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، إن المؤمن بين مخافتين: بين عاجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وبين آجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه؛ فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الهرم، ومن الحياة قبل الموت".

ونحن الآن فى اليوم الرابع والعشرين من ذى الحجة لهذا العام الهجري؛ فلا جمعة فيه بعد اليوم، وجمعتكم القادمة غرة عام جديد، تستفتح به صفحة بيضاء من صفحات الحياة، لا يدري أحد ماذا يخطو فيها إلا الله، وأستار غيب الله دون العواقب.

وإن للمؤمن لوقفات فى مراحل حياته، يحاسب فيها نفسه، ويستقيل ذنبه، ويستغفر ربه، ويطالع عمله؛ فإن يكن خيرًا ازداد، ولا شىء خير من الخير إلا ثوابه، وإن يكن غير ذلك أقلع وتاب، ولا شىء شر من الشر إلا عقابه، وإنما تمحى السيئة بالحسنة }إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود: 114].

عجيب أمر هذا الإنسان والله!! أينما تلفت وجد آثار القدرة الإلهية، وتبين مواطن الرحمة الربانية، وأدرك أنه ما من لحظة من اللحظات إلا وهو محفوف بألطاف ربه، مغمور ببره وفضله، وهو يعلم علم اليقين أنه هو الضعيف وربه القوى، وهو الفقير ومولاه الغنى }أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ [فاطر: 15-17]، وهو كذلك يعلم أن هذا الرب القوى الغنى العزيز لم يأمره إلا بما فيه خيره وسعادته، ولم ينهه إلا عما فيه ضرره وشقاوته }وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الأُمِّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلاَلَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِى أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 156-157].

كما يعلم أن من رحمة الله بخلقه ولطفه بعباده أنه يستجيب لسؤالهم إذا سألوا، ويتقبل توبتهم إذا تابوا، ويغفر لهم الذنوب والآثام إذا استغفروا، ويحتسب هذه التوبة قربة يثيبهم عليها الأجر الجزيل والثواب الجميل }وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران: 135-136]، ومع هذه المقومات جميعًا يأبى إلا جماحًا فؤاده، وتغلبه على الشر نفسه، وينسيه الشيطان ذكر ربه؛ فيقصر فى الطاعات، ويقبل على المخالفات، ويهمل فى الإنابة والمتاب، وتضيع منه الفرص؛ فلا يحاسب نفسه قبل يوم الحساب.

فيا أيها الأخ العزيز، مبارك ختام هذا العام، ومبارك استقبال عامك الجديد إن شاء الله؛ فاجعل هذا الأسبوع الباقي أسبوع مراجعة لعملك، ومحاسبة لنفسك، وتوبة من ذنبك، وتطهيرًا من الآثام، وبراءة من التقصير، وعزمًا أكيدًا على الجد والعمل والتشمير، والحلال بيِّن والحرام بيِّن، سل نفسك ما موقفها من فريضة الصلاة؟ وماذا فعلت فى أداء الزكاة؟ وأين هى من المحافظة على حقوق الناس، وتمسكها بعروة الصدق والوفاء، وجميل الأخلاق ونبيل الأفعال؟ وما شعورها حين يخطر بالبال ذكر الكبير المتعال؟ وما كسبها الحسي والمعنوي؟ أهو حرام أم هو مما أحل الله من الطيبات؟

وأنت اليوم أقدر منك على العلاج غدًا؛ فأنت لا تدري ما يأتى به الغد، والمؤمن من لا يزداد فى غده إلا خيرًا }إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ [النحل: 128]، ونعم الختام لعامك الحساب الدقيق، والتوبة النصوح، والعمل الصالح، والعزم الصادق، وفى ذلك فليتنافس المتنافسون.

وكل عام وأنتم بخير(14).

 

لأول العام

نحن الآن فى السابع من المحرم؛ فنحن إذن فى مدخل عام جديد.. قرأت فى بعض المطالعات لكاتبة فرنجية كلمة أعجبتني فوعيتها، وما زالت تتمثل أمامي فيتكرر إعجابي بما فيها من صدق وحق، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها، إنها قالت: "قلت للرجل الواقف على باب العام: أعطني نورًا أستضئ به فى هذا الطريق المجهول؟ فقال لى: ضعى يدك فى يد الله؛ فإنه سيهديك سواء السبيل"، وذلك حق فالله -تبارك وتعالى- هو الهادي إلى سواء سبيل }وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُورٍ [النور: 40].

وللتعامل مع الله -تبارك وتعالى- حدوده وقواعده التى بينها فى كتبه على ألسنة رسله صلوات الله وسلامه عليهم؛ فالمأمورات من الفرائض والقربات معروفة، والمنهيات من المعاصي والآثام معروفة كذلك، والحلال بيِّن والحرام بيِّن لا يستويان أبدًا }أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية: 21]، وليس يرجع التقدير فى الحسنة أو السيئة إلى أهواء الناس وأغراضهم وموازينهم ومقاييسهم التى تتأثر بمصالحهم الشخصية، واتجاهاتهم النفعية ومشاعرهم العاطفية، ولكن مرد ذلك إلى التحديد الإلهي المقرر فى كتب الله -تبارك وتعالى- وبيان أنبيائه ورسله، وهو الموافق للفطرة الإنسانية السليمة البريئة التى لا تتأثر بحب أو بغض، والتي تجمع بين مصالح الأفراد وحقوق الجماعات.

والقاعدة العامة فى الجزاء عن الحسنات والسيئات ما ذكر الله فى كتابه }فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة: 7-8]، ولا يمنع هذا العدل الإلهي من تجليات الفضل والرحمة بمضاعفة الحسنات والعفو عن السيئات، والله يقول: }وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 40]، كما يقول: }وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ [الشورى: 25-26].

وقد أوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المقياس فى بعض أحاديثه المباركة، فقال: "إن الله كتب الحسنات والسيئات فى كتابه؛ فمن هَمَّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرًا إلى سبعين إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة، ومن هَمَّ بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت عليه سيئة"، وفى بعض الروايات: "وكان أمره إلى الله، إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه"، وإن من أكبر السيئات استصغار الذنوب، وتهوين شأنها، واحتقار أمرها، والجرأة على الله فيها؛ فإن ذلك مما يجعل صغيرها كبيرًا وحقيرها عظيمًا، وتلك من أوصاف الفاسقين. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن يرى ذنوبه كجبل أحد، والفاسق يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه فقال بيده هكذا هكذا" يعنى لا يهتم بها كثيرًا، ويظن أنها تذهب بمجرد الحركة اليسيرة.

إن من أكبر السيئات كذلك سوء الظن بالله -تبارك وتعالى- والقنوط من رحمته، والله تبارك وتعالى يقول: }إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف: 87]، وقال: }وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ [الحجر: 56].

والإيمان حد وسط بين الخوف الميؤوس والرجاء المطغى الملهى؛ فالمؤمن خائف من ذنبه راج رحمة ربه، يتوب ويستغفر، ويعتقد أن الله يغفر ما دون الشرك لمن يشاء، وإن الله -تبارك وتعالى- ليعلم من عباده طبيعة الضعف البشرى التى جبلوا عليها، فيمهد لهم دائمًا سبيل التوبة والإنابة والرجوع إليه، ويدعوهم إلى ذلك دائمًا فيقول: }يَا عِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ [الزمر: 53-54]، }وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران: 135-136]، وفى الحديث الصحيح: "إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل".

وإن من أكبر الكبائر والسيئات أن يعمل امرؤ على أن تشيع المعصية فى الذين آمنوا، وأن يشهّر بالبرآء، ويتلمس لهم العيب، والله -تبارك وتعالى- يقول: }وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا [الأحزاب: 58]، وفى الحديث الصحيح: "خيار عباد الله الذين إذا رُؤوا ذُكر الله، وشرار عباد الله المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبرآء العيب".

وعن أبى برزة الأسلمي رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من اتبع عوراتهم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه فى جوف بيته".

والآن ونحن فى مدخل عام جديد، من واجبنا أن نصحح التعامل مع الله -تبارك وتعالى- فلا نجترئ على معصيته، ولا نقنط من رحمته، ولا نقصر فى طاعته، ولا نتبع عورات عباده، وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، ونعتزم أن يكون ذلك منهاجًا يوميًا لنا، نأخذ أنفسنا به، ونحاسبها عليه؛ فإن وجدنا خيرًا حمدنا الله، وإن وجدنا غير ذلك جددنا العزم، وأخذنا الأمور بالحزم حتى لا تفلت منا الأيام والليالي فى تهاون وغفلات، والوقت كالسيف "وما من يوم ينشق فجره إلا وينادى: يا ابن آدم، أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد؛ فتزود منى فإنى لا أعود إلى يوم القيامة".

والتوفيق بيد الله، }أَلاَ إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [الشورى: 53](15).

 

التوبة

الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبع هداهم إلى يوم الدين.

أما بعد.. فيا عباد الله، أنتم الآن فى مفتتح عام جديد، وكل يوم يمضي معدود من أيامكم منقوص من آجالكم؛ فإلى متى هذا التسويف والقعود والغفلة والرقود، والوقت محسوب عليكم، والله ناظر إليكم، والآجال محدودة، والأعمال محصية معدودة؛ فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره؟! فاستقبلوا عامكم بما يُرضى ربكم، وافعلوا ما أمركم الله به، واجتنبوا ما نهاكم عنه تكونوا من الفائزين.

واعلموا يا عباد الله أنهما طريقان: طريق الطاعة وطريق العصيان؛ فأما طريق الطاعة فنور على نور، يرضى الرحمن ويطرد الشيطان، وينير القلوب، ويكشف الكروب، ويجعل العبد محبوبًا عند الله قريبًا من مولاه، وأما طريق المعصية فظلمات بعضها فوق بعض، يورث النار، ويغضب الجبار، ويُسوِّد القلب، ويضاعف الكرب، ويؤدى إلى الذلة والهوان، ويجعل العبد محرومًا مطرودًا من حضرة الرحمن؛ فاختر أيهما شئت، واسلك أى طريق أردت }فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِىَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى [النازعات: 37-41].

وقد دعاكم إلى طاعته، وحذركم عواقب معصيته، وهو الغنى وأنتم الفقراء، وهو القوى وأنتم الضعفاء، وهو العزيز وأنتم الأذلاء، وهو السيد وكلنا عبيده، ومع هذا فهو الذي يدعوكم إلى حماه، ويدلكم على التعرف عليه }وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِى مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [يونس: 25].. فكيف تنصرف قلوبكم عن دعوة ربكم، وتغفل أفئدتكم عن نداء سيدكم، وترضون أن تكونوا من المطرودين المحرومين؟

فجددوا المتاب إلى ربكم، واستغفروه من ذنوبكم؛ فإن التوبة تطفئ الخطيئة، والاستغفار يذهب بالسيئة، وإن الله ليفرح بتوبة عبده المؤمن، ويبدل سيئاته حسنات كما قال -تبارك وتعالى-: }وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَىْ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود: 114]، واجعلوا أول هذا العام ميثاقًا فيما بينكم وبين الله، وأن تكونوا فيه من الطائعين، }وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: 31].

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من يوم ينشق فجره إلا وينادى ابن آدم: أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد؛ فاغتنم منى فإنى لا أعود إلى يوم القيامة"، وقال صلى الله عليه وسلم: "كل بنى آدم خطاؤون، وخير الخطائين التوابون"(16).

 

ذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم

الحمد لله الذي أنار الوجود بطلعة أبى القاسم، وشرفه بأفضل المواهب وأجزل المكارم، وبعثه هاديًا للأمم وسراجًا فى الظلم ورحمة للعالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله وحبيبه وصفيه، اللهم صلِّ وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبع هداهم إلى يوم الدين.

أما بعد.. فيا أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قبل مبعث نبيكم صلى الله عليه وسلم تغشَّت العالم كله سحابة من الظلم والفساد والفسوق والإلحاد، اختل فيها ميزان العدل، واختفى معها وجه الحق، وضل الناس طريق الهدى والرشاد؛ ففى العرب على كرم أخلاقهم وشريف نفوسهم وقويم طبعاهم وسلامة فطرتهم جهل وغلظة وجفوة وقسوة وشرك بالله وانغماس فى حمأة الشقاق والخلاف، وفى الفرس والروم وغيرهما من دول الأرض ظلم واستبداد وقسوة واستعباد، وتسلط من القوى على الضعيف، وانتهاك لحرمات الشرائع والآداب؛ فكان لا بد لهذا العالم الموبوء ولهذه البشرية المعذبة والإنسانية الباكية والفضيلة المستذلة من منقذ يقيم ميزان العدل، ويخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، الله الذى له ما فى السماوات وما فى الأرض.

وقد أراد الله -تبارك وتعالى- أن يكون هذا المنقذ الكريم والمصلح العظيم صفوته من خلقه وخيرته من عباده سيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه.

لم يزل فى ضمائر الكون تُختار له الأمهات والآباء، اختار الله من خلقه بنى آدم، واختار من بنى آدم العرب، واختار من العرب قريشًا، واختار من قريش بنى هاشم، واختاره صلى الله عليه وسلم من بنى هاشم؛ فهو خيار من خيار من خيار، وأنت إذا فحصت عن طبائع الأمم وسألت تاريخ الجماعات عن هذه الحكم رأيت البحث العلمي والتحليل النفسي يؤيد لك هذا الخبر النقلي، فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.

ولم يزل نوره الساطع صلى الله عليه وسلم يتنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات عن زواج شرعي لا عن سفاح حتى انتهى ذلك الشرف إلى أبيه عبد الله بن عبد المطلب، أزكى قريش أصلا، وأنماها فرعًا، وأوسطها دارًا، وأطهرها منبتًا، وإلى أمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن حكيم، وهى سيدة نساء قومها وأشرفهن موضعًا وأعفهن نفسًا؛ فكان عن اجتماع الكريمين وزواج السيدين أن تحققت إرادة الله فى إسعاد العالم، وإشراق شمس الهداية والعرفان فى سماء مكة المكرمة؛ حيث ملأت أشعتها كل مكان، فحملت به صلى الله عليه وسلم، وتوفى والده وهو حمل لا تجد له أمه وجعًا ولا ألمًا، ولا تستشعر منه أذى ولا وحمًا، وما زالت تتوالى الإرهاصات، وتتابع البشارات، وتظهر العلامات حتى كانت الليلة الكريمة، فولد صلى الله عليه وسلم يشرق وجهه بنور العرفان، وتتجلى على قسمات وجهه الشريف سِمَات النبوة والإيمان، ويعتقد من نظر إليه أنه رسول هذا الزمان، فازدان الكون بطلعته، واستبشر الوجود برؤيته، واستنارت السماوات والأرضون بظهوره، وتوالت بشرى الهواتف أن قد ولد المصطفى وحق الهناء.

وشب صلى الله عليه وسلم، ونشأ، فكان مثال الكمالات وأنموذج الفضائل، وتزوج بالسيدة خديجة وسنه خمس وعشرون سنة لما رأته عليه من كريم الشمائل، واشتهر بين عشيرته بالصدق والأمانة والعقل والرزانة، وما زال كذلك حتى جاء الحين واستكمل الأربعين، فشرفه ربه بالنبوة، ثم الرسالة إلى الخلق أجمعين، ونزل عليه الملك وهو يتعبد فى غار حراء بقوله تعالى: }اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 1-5]، ثم فتر عنه الوحى، ثم تتابع، ونزلت }يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر: 1]، فنهض بالدعوة، وحمل عبء الرسالة، وأدى الأمانة، وبلغ ما أنزل إليه من ربه، وقام يدعو إلى مولاه، وينشر على الناس دينه، حجته القرآن، ودليله البرهان، وعدته الإيمان.

وما زال صلى الله عليه وسلم يكافح ويناضل ويجالد، ويجادل طورًا بالشدة وأخرى باللين، ويتحمل من الأذى ما تنوء بحمله الجبال، ويدعو للمعتدين حتى أظهر الله كلمته، وأتم نعمته وأكمل دينه، ودخل الناس فى دين الله أفواجًا، واختار النبى صلى الله عليه وسلم الرفيق الأعلى بعد أن أدى مهمته وأوضح شرعته، وترك من ورائه من يحمون دعوته، جزاه الله أفضل ما جازى به نبيًّا عن أمته، وصلى وسلم عليه وعلى آله، ورضى عن صحابته.

يا عباد الله، ذلك مجمل سيرة نبيكم صلى الله عليه وسلم، كلها هدى ونور، وعظة واعتبار، وتمسك بحبل الله المتين، ودفاع عن دينه المبين، ومناصرة للحق وخذلان للباطل، فيها القدوة الحسنة والعظة البالغة والعلم النافع والمثل الصالح؛ فتعلموها وعلموها أبناءكم، وأحيوا ذكرى مولد نبيكم صلى الله عليه وسلم بدراسة حياته وتفهم خطته وإحياء سنته، أما الرياء والتفاخر والتكاثر والتظاهر وضياع المال فى غير فائدة، وإنفاق الأوقات من غير جدوى، والاشتغال بالمقابلات والحفلات عن الفروض والواجبات، والفخر بإطعام الأصدقاء والأغنياء، ونسيان المستحقين والفقراء، وإقامة هذه المظاهر التى يأباها الدين، وتجعلنا مضغة فى أفواه الناظرين؛ فهذه كلها ليست إلا منكرات تؤاخَذون بها، وتحاسبون عليها، ويتألم لها النبى الكريم صلى الله عليه وسلم.

فاتقوا الله عباد الله، وانتهزوا فرصة هذا الوقت الفاضل، وجددوا التوبة النصوح، وتذكروا سيرة نبيكم لتعملوا بها وتهتدوا بهديها: }لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21].

فى حديث على -كرم الله وجهه- وقد سأله الحسين عن سيرة جده صلى الله عليه وسلم فى جلسائه فقال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا صخاب ولا فحاش ولا عياب ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهى ولا ييئس منه، قد ترك نفسه من ثلاث: الرياء، والإكثار، وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحدًا ولا يُعيِّره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا شيئًا يرجو ثوابه"(17).

 

ذكرى مولد النبى صلى الله عليه وسلم

الحمد لله الذي أنار الوجود بطلعة أبى القاسم، وجعل موسم مولده الشريف على العالم من أبرك المواسم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، وحبيبه وصفيه وخيرته من خلقه، اللهم صلِّ وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين.

أما بعد فيا عباد الله، اختار الله نبيكم صلى الله عليه وسلم من أكرم أسرة، من أفضل قبيلة، من أشرف شعبة؛ فهو صلى الله عليه وسلم خيار من خيار من خيار، لم يزل فى ضمائر الكون تُختار له الأمهات والآباء، ما مضت فترة من الرسل إلا بشرت قومَها به الأنبياءُ حتى تعلقت إرادة الحق -تبارك وتعالى- بإظهار هذا النور الفائض من قدس الغيب إلى هذا الوجود؛ ليرشد أهله، ويهدى بنيه، ويكون رحمة للعالمين. 

فدقت البشائر، وازَّينت الأرض، وأشرقت السماوات، وولد صلى الله عليه وسلم بين تهليل العوالم، وتكبير الملائكة، واستبشار العارفين، واستشراف المؤمنين. 

من أكرم أبوين: عبد الله بن عبد المطلب، وآمنة بنت وهب، فى ليلة التاسع من ربيع الأنور على الأصح أو الثاني عشر منه على الأشهر؛ فكانت أعظم ليلة فى تاريخ الإنسانية، وأخلد ساعة من ليالي البشرية. ولد صلى الله عليه وسلم مشرقًا بالنور محفوفًا بالجلالة، عليه الهيبة وله الجمال، واسترضع فى بنى سعد بن بكر عند حليمة السعدية، فاخضر عيشها بعد المجل، وأورق ناديها بعد الجدب، وكانت منازلها مهبط البركة والماء، وإذا سخر الله أناسًا لسعيد فإنهم سعداء. 

وشب صلى الله عليه وسلم شبابًا لم يكن يبلغه غيره من الغلمان، وكان فى طفولته مثال العدالة، يرضع ثديًا ويترك الآخر لقسيمه، ومثال النجابة والهمة؛ يؤدى من الأعمال ما لا يقوم به غيره، ويبادر إلى ذلك مبادرة الشاعر بالتبعة المقدر للواجب، ومثال الهدوء والفضيلة لا يصخب، ولا يلعن ولا يشاجر ولا يغضب.

توفى أبوه وهو حمل، وتوفيت أمه وهو فى السادسة من عمره، وتوفى جده وهو فى سن الثامنة، واستأثر الله بأهله الكرام ليختص بتأديبه وتربيته وتهذيب نفسه والعناية به؛ ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول: "أدبني ربى فأحسن تأديبي".

وقد كفله أبو طالب ففاض عنده الخير، وازداد فى بيته البر، ولمس من بركته صلى الله عليه وسلم ويمن نقيبته ما جعله يذود عنه، ويقف نفسه لمناصرته، ويقسم إن ابنه لسيد، وإنه لصادق، وإن له لنبأً عظيمًا.

ولما بلغ صلى الله عليه وسلم أشده كان زينة فتيان قريش، وسيد شباب العرب، ومثال الفضيلة فى أروع مظاهرها وأظهر مجاليها، عُرف فيهم بالعقل ورجحان الحلم والأمانة والصدق والذكاء والفطنة والمروءة والهمة فلقبوه بالأمين، وكانت خديجة تقول له لأول نبوته: "والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق".

وأخذ يأكل من عرق جبينه وعمل يده -سنة الأنبياء من قبله- فرعى الغنم على قراريط لأهل مكة، وتاجر مع عمه وفى مال خديجة، وتزوجها صلى الله عليه وسلم؛ فكانت نعم الزوج الوفية، تجود بنفسها ومالها فى تأييد النبى صلى الله عليه وسلم، ونشر دعوته وحمايته وحياطته حتى توفيت على ذلك وهي أم المؤمنين، وكريمة عقائل المسلمين، والمختصة من بينهن بمنة رب العالمين، فأفضت إلى روح وريحان ونعيم وإحسان، ورآها المصطفى صلى الله عليه وسلم فى الجنة فى بيت من قصب لا نصب فيه ولا وصب.

وحينما بلغ الأربعين من عمره اختصه الله بالرسالة العظمى والنبوة الكبرى والدعوة العامة والشريعة الخالدة الشاملة والقرآن المبين والدين المتين؛ فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ورأى من عوالم الملك والملكوت ما يهيئ نفسه لوطأة الوحي وثقل الرسالة، فكان لا يمر على حجر ولا شجر ولا مدر إلا سمع منه: "السلام عليك يا رسول الله"، وحبب إليه الخلاء، فتحنث فى غار حراء؛ حيث نزل عليه الملك بأول آية من كتاب الله تبارك وتعالى: }اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ [العلق: 1].

قام صلى الله عليه وسلم بدعوة ربه بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة، وجهل عليه أهل مكة، فهاجر فى سبيل الله إلى المدينة؛ حيث وجد أنصارًا كرامًا وأقوامًا فاضلين، أيدوا الدين بأنفسهم وأموالهم حتى أظهره الله بجهادهم، }وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم: 47].

تلك يا عباد الله كلمة عجلى فى سيرة نبيكم، أرجو أن تكون نبراسًا لكم وهداية لنفوسكم، وصقالا لأرواحكم؛ فاتبعوا نبيكم صلى الله عليه وسلم، وسيروا على نهجه القويم وصراطه المستقيم تكونوا من الفائزين.

واعلموا أن أفضل ما تقدمونه إليه وتعبرون به عن سروركم بمولده أن تدرسوا سيرته وتحيوا سنته وتنصروا شريعته؛ فإن فعلتم ذلك فقد رضيتم الله ورسوله، والله ورسولُه أحق أن ترضوه إن كنتم صادقين.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصانى فقد أبى"(18).

 

ذكرى

} وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 55].

كان سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه يقول: "إنا لنروي أبناءنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نحفظهم السورة من القرآن"، وذلك أن القرآن هو الإسلام النظري بتعاليمه وأحكامه، وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم هى التطبيق العملي لهذا الإسلام، ومن هنا قالت أم المؤمنين عائشة -رضى الله عنها- وقد سئلت عن خلق النبى صلى الله عليه وسلم: "كان خلقه القرآن".

والآن وقد هبت على العالم نسمات الذكرى؛ ذكرى مولد الرسول العظيم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، كان لزامًا على المسلمين بل على المنصفين من أى دين أن يقفوا أمام سيرته المباركة وقفة الإجلال والتعظيم والتوقير والتكريم، والمدارس والعبرة، والعظة والتذكرة، وفى ذلك لهم هدى ونور }قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِى بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [المائدة: 15-16].

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عظيمًا فى سيرته كلها؛ فى أصله ونسبه، وفى خلقه وخلقه، وفى عواطفه وروحه، وفى رسالته وأثره، وفى هذا الميراث الضخم الذي تركه للإنسانية من بعده دعوة ودولة.

وإن على المسلمين اليوم والدنيا فى مفترق الطرق وفى معترق المبادئ والدعوات أن يلقوا بدلوهم فى الدلاء، وأن يتقدموا بميراثهم الضخم إلى الدنيا الحائرة؛ ففيه هديها، وفيه إنقاذها، وفيه خيرها وبرها، وأن يشرحوا للناس أصول دعوتهم، وقواعد دولتهم، وأن يوجهوا هذه القافلة الضالّة فى بيداء المطامع والأهواء.

لقد قامت دعوة الإسلام على أصول خالدة؛ منها الإيمان القوى العميق بالله واليوم الآخر؛ فالله مع المؤمنين به أينما كانوا، وحيثما وجدوا ،وكيفما عملوا }يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ [غافر: 19]، }أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة: 7] منه المبدأ وإليه المنتهى، وهو مالك يوم الدين }يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا [آل عمران: 30]، }فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7-8].

ومنها الحب والإخاء؛ فالمؤمنون إخوة، والناس جميعًا من أصل واحد، لا فضل لعربي على أعجمى إلا بالتقوى، والأخوة ركن إيمانهم لا يقوم إلا عليها، ولا يتم إلا بها، وهي نعمة الله عليهم }وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران: 103]. 

ومنها الاستقامة }فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [هود: 112]، والاستقامة هى تحرى العمل الصالح النافع للنفس وغيرها، والابتعاد من العمل الفاسد للنفس أو للناس، ولا يستويان فى ميزان دعوة الإسلام أبدًا }وَلاَ تَسْتَوِى الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ [فصلت: 34].

ولقد قامت دولة الإسلام على أصول ثابتة خالدة دقيقة محكمة كذلك؛ منها العدل؛ فالعدل فى الإسلام أساس الأحكام }إِنَّ اللهَ يَأمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء: 58]، }إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ [النحل: 90]، }وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [الأنعام: 152].

ومنها الحرية؛ فلا يتصور الإسلام أبدًا دولته تحت حكم غيرها أو أرضه تحت سلطان أجنبي عنها }وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: 8]، }أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِى الأمْرِ مِنْكُمْ [النساء: 59].

ومنها البذل والفداء والجهاد والإعداد }وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال: 60]، ولن تقوم دولة بغير كفاح، ولن تصان حرية بغير سلاح.

وللحرية الحمراء باب            بكل يد مضرجة يدق

 

على تلك القواعد قامت الدعوة، وعلى هذه القواعد قامت الدولة.

وقد وعى سلفنا الصالحون ذلك كله، فحققوا الدعوة فى أنفسهم، وحققوا الدولة فى مجتمعهم؛ فكانوا نماذج الإيمان الكامل، والحب الصادق، والاستقامة الفاضلة، وكانت دولتهم مثال العدالة التامة على النفس والآباء والأقربين ومع الله والصديق، ومثال الحرية الباذخة العالية السنا وضاءة فى الشرق والغرب، ومثال البذل والفداء والجهاد بالنفس والمال }إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة: 111]. 

فهل نعرف نحن هذه المعاني الخالدة فنحذوها مع الذكرى فى أنفسنا، ونكافح، ونبذل، ونضحي لتمتثل فينا الدعوة، وليعود بناء مجد الدولة، اللهم آمين، والذكرى تنفع المؤمنين(19).

 

حول الإسراء والمعراج

} سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء: 1].

ذكرت حديث الإسراء والمعراج بالأمس، فطافت بالنفس هذه الخطرات: أليس من المفارقات العجيبة أن تهتم الأمة الإسلامية أعظم الاهتمام بالاحتفال بذكرى الليلة العظيمة التى أسرى الله فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى؛ حيث أراه من آياته الكبرى، وتجلى عليه بالنعمة العظمى، وهذا المسجد الأقصى والأرض المباركة حوله وفلسطين المقدسة مهددة كلها بهذه الغارة الشعواء؛ من مطامع اليهودية، وأضاليل الإمبراطورية البريطانية والحكومة الأمريكية، والمسلمون فى بقاع الأرض ينظرون ولا يتحركون، ويقولون ولا يفعلون، وغيرهم جادون ماضون إلى ما يريدون!.

أوليس من المفارقات العجيبة كذلك أن تستعرض الأمة المسلمة فى هذه الليلة كيف أن الله -تبارك وتعالى- رفع فيها نبيها العظيم فوق السماوات العُلى؛ بل إلى حيث جاوز سدرة المنتهى، ثم دنا فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى. ونقرأ قول الله -تبارك وتعالى- }وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: 8]، وإلى جانب قول هذا النبى العزيز صلى الله عليه وسلم: "من أعطى الذلة من نفسه طائعًا غير مكره فليس منى"، ونردد الآية الكريمة: }لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21]، ثم هى بعد ذلك ترضى بالدون من المنازل، وتقنع بالذليل من الأوضاع، وتجئ فى أخريات الأمم والشعوب، وتستكين لسلطان الغاصبين والظالمين، وقد وعدها الله أعظم مثوبة المجاهدين!.

أوليس من المفارقات العجيبة أيضًا أن تعلم هذه الأمة أن أول آية نزلت فى قرآنها }اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 1-5]، وأن الله -تبارك وتعالى- حين أسرى بنبيها صلى الله عليه وسلم وعرج به إنما أراد أن يريه من آياته الكبرى، وأن يطلعه على أسرار الكون ومساتير الوجود، وأن يملأ بالعلم والمعرفة قلبه وعقله حتى يبلغ ذروة الإيمان وذروة العرفان معًا، وأن الله -تبارك وتعالى- أمرها أمرًا جازمًا بالمسير فى الأرض والنظر فى الكون }قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [يونس: 101]، ثم هى بعد ذلك تقنع بهذه القشور من علم الدنيا وأسرار الدين، وتتخلف عن ركب الأمم المجاهدة فى تسخير قوى الطبيعة التى جعلها الله للإنسان من المسخرات }وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ [الجاثية: 13] حتى يتحكم فيها غيرها بحكم القوة المادية، ويسبقها سواها فى ميادين المعارف الكونية!.

ويقول الذين غرهم ما عرفوا من العلم: كيف يستطيع إنسان أن ينتقل من مكة إلى بيت المقدس فى هذه الفترة الوجيزة قبل معرفة السيارات، واختراع الطائرات؟ وكيف يرتفع بعد ذلك إلى السماوات مع خلو الطبقات العليا من مقومات هذه الحياة الإنسانية من هواء وماء وغذاء؟! وكيف لا يذوب بقوة الاحتكاك بالأجرام العلوية حين يصعد بهذه السرعة المحكية؟... إلى غير ذلك من شبهات يوردونها واعتراضات يقفون ضدها.

ونقول لهؤلاء: إن الأمر أيسر مما تظنون، والخطب أهون مما تصورن! إنكم تقرون بأنكم لم تدركوا كل قوى الكون، ولم تحيطوا علمًا بنواميس الطبيعة، فافرضوا هذه مما غاب عنكم علمه، ولم يصل إلى مدارككم فهمه }وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء: 85]، ولو استعرضتم تاريخ الكشوف العلمية لتذكرتم كيف قوبل كل كشف منها بالجحود والنكران ورمى صاحبه بالزور والبهتان، ثم نزل العقل الإنساني بعد ذلك على حكم الوقائع الثابتة بعد لجاج، واعترف النتائج بعد طول إنكار وحجاج }وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء: 85].

ونقول لهم كذلك: لقد أثبت العلم العصري التجريبي الذى تدلون به وتعتمدون عليه أن القوة النفسانية تستطيع أن تؤثر فى الأجسام المادية، فتنقلها من مكان إلى مكان، وترتفع بها عن سطح الأرض، وقد أجرى العلماء النفسيون عدة تجارب واقعية من هذا النوع، أمكن بها أن يرتفع بعض الجالسين بكراسيهم عن الأرض بضعة أقدام، ثم بضعة أمتار، فإذا استطاع الإنسان بقوته النفسانية الضئيلة أن يأتى بهذه الأعاجيب؛ فهل يكون بعيدًا أن يمد الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالقوة الروحية التى يرتفع بها فى ملكوت الله إلى حيث يشاء الله؟ إن الإنكار والجحود سهل ميسور لمن أراد، ولكنه ليس من الرسوخ فى العلم، ولا من العمق فى الفهم فى شىء }وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران: 7].

فيا أمة النبى العظيم صلى الله عليه وسلم، اعتزي وتعلمي وجاهدي، وآمني بالله أعمق الإيمان، وفى ذلك الفوز المبين }وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة: 105](20).

 

المصادر

  1. مجلة الإخوان المسلمين - السنة الأولى - العدد 12 - صـ10، 11 - 10جمادى الأولى 1352هـ / 31أغسطس 1933م.
  2. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثانية – العدد 342 – صـ1 – 24رجب 1366هـ / 13يونيو 1947م.
  3. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الأولى – العدد 6 – صـ1 – 8جمادى الآخرة 1365هـ / 10مايو 1946م.
  4. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الأولى – العدد 72 – صـ1 – 27شعبان 1365هـ / 26يوليو 1946م.
  5. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الأولى – العدد 96 – صـ1 – 26رمضان 1365هـ / 23أغسطس 1946م.
  6. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثانية – العدد 372 – صـ1 – 29شعبان 1366هـ / 18يوليو 1947م.
  7. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثانية – العدد 378 – صـ1 – 7رمضان 1366هـ / 25يوليو 1947م.
  8. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثانية – العدد 384 – صـ1 – 14رمضان 1366هـ / 1أغسطس 1947م.
  9. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثانية – العدد 390 – صـ1 – 21رمضان 1366هـ / 8أغسطس 1947م.
  10. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثانية – العدد 396 – صـ1 – 28رمضان 1366هـ / 15أغسطس 1947م.
  11. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثالثة – العدد 668 – صـ1 – 24شعبان 1367هـ / 2يوليو 1948م.
  12. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثالثة – العدد 674 – صـ1 – 2رمضان 1367هـ / 9يوليو 1948م.
  13. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثالثة – العدد 695 – صـ4 – 1شوال 1367هـ / 6أغسطس 1948م.
  14. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثانية – العدد 465 – صـ1 – 24ذو الحجة 1366هـ / 7نوفمبر 1947م.
  15. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثانية – العدد 477 – صـ1 – 8محرم 1367هـ / 21نوفمبر 1947م.
  16. مجلة الإخوان المسلمين – السنة الثانية – العدد 1 – صـ8 – 19محرم 1353هـ / 4مايو 1934م.
  17. مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 14 – صـ20، 21 – 13ربيع الأول 1352هـ / 6يوليو 1933م.
  18. مجلة الإخوان المسلمين – السنة الثانية – العدد 9 – صـ17، 18 – 23ربيع الأول 1353هـ / 6يوليو 1934م.
  19. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الأولى – العدد 228 – صـ1 – 8ربيع الأول 1366هـ / 30يناير 1947م.
  20. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الأولى – العدد 48 – صـ1 – 28رجب 1365هـ / 28يونيو 1946م.
المقال التالي الإمام حسن البنا يكتب عن مناقب بعض الصحابة
المقال السابق الدستور في فكر الإمام حسن البنا