حسن البنا زميل الصبا ورفيق الشباب

الإمام حسن البنا في عيون أخيه عبدالرحمن البنا

عامان كان يفصلان بيننا في العمر، وعامان فرقا بيننا اليوم في الحياة، وكنتَ القدوة وكنتُ المقتدى، وكنتَ الهداية وكنتُ المهتدي، ومضيتَ إلى ربك شهيدًا وقُدر لي أن أعيش بعدك، وذقتُ مرارة الفراق وبلغتُ الآن مبلغ سنك، يا من لا ينال قدره ولا يدرك مداه.

لم تكن طفولتك كالطفولة، ولكنها طفولة دونها الرجولة، تفتش عن أسرار الكون، وتسبح في عالم مجهول، وتسأل عن سر الحياة.

هذه الحياة ما معناها؟ وهذه الدنيا ما غايتها؟

وتلك الشمس من أطلعها، وهذه النجوم من أنارها؟ وهذه الأرض من أنبت زرعها؟ إن الحياة كتاب تفسيره القرآن، والكون إبداع صوَّرته يد الرحمن، وإذن فسرّ الحياة في كتاب الله، فهلم يا شقيقي، واسمع يا عبد الرحمن.

}إِنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لِأُولِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ{

وكان صوتك أيها الحبيب ينطلق بها مشرقًا نديًا، صائحًا علويًا، سلسالا عبقريًا، وكانت إشراقات وجهك الصغير، وأضواء قلبك الكبير، تنعكس على تجهم وجهي، وتنير ظلام قلبي، فأتكيف بتكيفك، وأحس إحساسك، وأتأثر بخصائصك، فإذا تهيأت صحتَ فيَّ، قم نتفهمْ سرها، ونؤدِّ حقها، وتكن لنا شئون وشئون..

وكنتَ في التاسعة وكنتُ في السابعة من العمر، وكنا في المكتب نحفظ القرآن الكريم، ونكتب في الألواح، وكنتَ تحفظ ثلثي القرآن وكنتُ أحفظ ثلثه من البقرة إلى آخر التوبة، وكنا نعود من المكتب فتتلقفنا يد الوالد الكريم فتُعدِّنا وتصنعنا، وتحفِّظنا دروس السيرة النبوية المطهرة، وأصول الفقه والنحو، وكان لنا منهاج يدرّسه لنا الوالد الكريم، فكنتَ تدرس عليه فقه الأحناف وكنتُ أدرس فقه المالكية، وكنت تقرأ في النحو الألفية وكنت أقرأ ملحة الإعراب.

وكانت الدروس تتقاضانا مذاكرة واجتهادا، فكان لزامًا أن نكيّف الوقت ونضع "الجدول"، وكنت يا أطهر من عرفتُ في الحياة صوّامًا قوامًا، فكنت تستيقظ في السحر، وتقوم ما شاء الله لك أن تقوم، ثم توقظني لصلاة الفجر، وتتلو عليّ بعد الصلاة الجدول، وما زلتُ والله يرن في أذني صوتك الحبيب، من خمسة لستة "قرآن كريم" من ستة لسبعة "تفسير وحديث" من سبعة لثمانية "فقه وأصول" وهكذا كنت ترسم وأتبع، وتأمر فأطيع، وتتكلم فيكون الجواب الذي طبعت عليه نفسي أن أؤمّن على ما تقول.

وكانت مكتبة الوالد الكريم تفيض بالكتب وتمتلئ بالمجلدات، وكنا ندور عليها بأعيننا الصغيرة، فتلتمع أسماؤها بالذهب، فنقرأ "النيسابوري" و"القسطلاني" و"نيل الأوطار" وكان يبيحها لنا، ويشجعنا على اقتحامها، فكنت أنت المجلي في الحلبة، وكنتَ فارس الميدان، وكنتُ أحاول اللحاق بك، ولكنك كنت غير عادي، وما كان الفرق فرق السنتين، ولكن فرق إرادة إلهية أعدتك لأمر عظيم، فكنت طالب علم ولكنك كنت مستقَرَّ موهبة إلهية، ومستودع منحة ربانية وشتان بين المنزلتين، وفرق بعيد بين المريد والمراد.

وكنا نسمع ما يدور في مجلس فضيلة الوالد الكريم من مناقشات علمية ومساجلات، ونصغى للمناظرات بينه وبين من يحضر مجالسه من جلة العلماء، أمثال المرحوم فضيلة أستاذنا الشيخ محمد زهران، وفضيلة الأستاذ الكبير الشيخ حامد محيسن، فنسمعهم مثلا يتناقشون في مسألة الاستواء على العرش، وهي قوله تعالى }الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى{، وهل هو استواء أم استيلاء، وما دار في هذا الشأن بين الغزالي والزمخشري، وما روي بسنده عن عبد الله بن وهب أنه قال: كنا عند مالك بن أنس فدخل رجل فقال: يا أبا عبد الله }الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى{ كيف استواؤه؟ قال: فأطرق مالك وأخذته الرحضاء(2)، ثم رفع رأسه فقال: }الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى{ كما وصف نفسه، ولا يقال له كيف، وكيف عنه مرفوع، وأنت رجل سوء، صاحب بدعة، أخرجوه، فأخرج الرجل، وفي رواية يحيى بن يحيى أن مالكًا أجاب الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعًا، وأمر بالرجل فأخرج.

وهكذا كنا نصغى فما فهمنا وعيناه، وما دق علينا فهْمه راجعنا فيه فضيلة الوالد، أو بحثنا عنه في كتب التفاسير.

ولست أنسى يومًا امتلأ فيه فناء دارنا "بالمحمودية" بالصبية الصغار من أبناء "الكتاب" ومعهم "العريف" و"سيدنا" وزوجته "بقفتها"، وقد لبس الصبيان "أجمل أثوابهم" بألوانها الفاقعة الزاهية، يحمل كل صبي منهم "جريدة" "قطعة من الجريد لا صحيفة" مشقوقة في وسطها ورقة ملونة، مرسوم عليها سفينة أو شجرة، وقد رفعوا أيديهم بالجريد، وحناجرهم بالنشيد:

صلوا يا حضار           على النبي المختار

وسيدنا ينشد:

لا ننصرف حتى تجينا الفضة              في طاسة مجلوة مبيضة

والصبيان يرددون..

صلوا يا حضار           على النبي المختار

وتحضر أمنا الفضة في طاسة مجلوة مبيضة ومعها "الكعك" وبعض "الفطائر" مما يملأ "قفة" الزوجة المنتظرة، ويدفع سيدنا إلى الانصراف.

تلك كانت حفلة "الختم" لأن أخي "رضى الله عنه" قد أتم حفظ القرآن، ويقبل على أخي ذات يوم مهتمًا فيقول: اسمع يا عبد الرحمن، ألم تحفظ معي قول الله في سورة آل عمران: }وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{، قلت نعم، قال: فهلم، وأسس أخي عليه رضوان الله ورحمته "جمعية منع المحرمات" وقد ورد ذكر هذه الجمعية في مذكرات أخي الشهيد حيث يقول: "وكأن هذا النشاط الداخلي لم يُرضِ رغبة هؤلاء الناشئين في العمل للإصلاح، فاجتمع نفر منهم، كان من بينهم الأستاذ محمد على بدير المدرس بالمعارف الآن ولبيب أفندي نوار التاجر الآن، والأخ عبد المتعال سنكل أفندي، والأستاذ عبد الرحمن الساعاتي الموظف بالسكة الحديد الآن، والأستاذ سعيد بدير المهندس الآن، وقرروا تأليف جمعية إسلامية باسم "جمعية منع المحرمات" وكان اشتراك العضو فيها يتراوح بين خمسة مليمات وعشرة أسبوعيًا، وكانت أعمالها موزعة على أعضائها، فمنهم من كان مهمته تحضير النصوص وصيغ الخطابات، وآخر مهمته كتابة هذه الخطابات بالحبر "الزفر"، وثالث مهمته طبعها، والباقون توزيعها على أصحابها، وأصحابها هم الذين تصل إلى الجمعية أخبارهم بأنهم يرتكبون بعض الآثام أو لا يحسنون أداء العبادات على وجهها وخصوصًا الصلاة، فمن أفطر في رمضان ورآه أحد الأعضاء بلغ عنه فوصله خطاب فيه النهي الشديد عن هذا المنكر، ومن قصر في صلاته ولم يخشع فيها ولم يطمئن وصَله خطاب كذلك، ومن تحلى بالذهب وصله خطابُ نهي فيه حكم التحلي بالذهب شرعًا، وأيما امرأة شاهدها أحد الأعضاء تلطم وجهها في مأتم بدعوى الجاهلية وصل زوجها أو وليها خطاب، وهكذا ما كان أحد من الناس صغيرًا أو كبيرًا يعرف عنه شيء من المآثم إلا وصله خطاب من الجمعية ينهاه أشد النهي عما يفعل.

وكنا نذهب إلى المسجد الصغير بعد التحاقنا بالمدرسة الإعدادية، ومعنا جمع كثير من تلاميذ المدرسة لأداء الصلاة، وخاصة فريضة الظهر، حيث تكون هناك فسحة بعد الغداء، وكنت أصعد سطح المسجد فأنادي بالأذان، وأنزل فأقيم الصلاة، ويتقدم أخي الشهيد للصلاة في المحراب إمامًا، وكان إمام المسجد الشيخ محمد سعيد - رحمه الله - ينتهرنا أحيانًا ويحاول طردنا، فكتب إليه أخي خطابًا يحمل هذه الآية الكريمة }وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شيء وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شيء فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ{ .

وعقب صلاة العشاء في هذا المسجد يجلس أخي إلى الذاكرين من جماعة الإخوان الحصافية، وقد أشرق قلبه بنور الله، فأجلس إلى جواره نذكر الله مع الذاكرين وقد خلا المسجد إلا من أهل الذكر، وخبا الضوء إلا ذبالة من مسراج، وسكن الليل إلا همسات من دعاء أو ومضات من ضياء، وشمل المكانَ كله نورٌ سماوي، ولفه جلال رباني، وذابت الأجسام وهامت الأرواح وتلاشى كل شيء في الوجود وانمحى، وانساب صوت المنشد في حلاوة وتطريب:

الله قل وذر الوجود وما حوى              إن كنت مرتادًا بلوغ كمال

فالكل دون الله إن حققته           عدمٌ على التفصيل والإجمال

واستغرق أخي في هذا الجو الصافي، ونهل من هذا المنهل العذب، وكان شيخ الطريقة عالمًا فاضلا، وكان الذكر صحيحًا لا لحن فيه ولا تحريف، فكانت هذه المرحلة من حياة أخي عليه رضوان الله مرحلة جلوة نفسية، وإفاضة ربانية، شفَّت بها نفسه، وأرهف بها حسه، وامتلأ بنور الله قلبُه، فظهرت على يده الكرامة، وأصبح يرجى للدعاء والبركة.

ولم لا يهذب الطريق الفاضل النفس، ويرهف الذكر الصحيح الحس، ويكمل جوانب الخلق، ويكوِّن مقومات الرجولة، وما أحلاها من أنغام كنا نترنم بها، وما أعذبها من قصائد كنا ننشدها:

ما لذة العيش إلا صحبة الفُقرا              هم السلاطين والسادات والأُمرا

فاصحبهمُ وتأدبْ في مجالسهم              وخلِّ حظك مهما قدموك ورا

ولازم الصمت إلا إن سئلت فقل           لا علم عندي وكن بالجهل مستترا

ولا ترى العيب إلا فيك معتقدا              عيبًا بدا بيننا لكنه استترا

وراقب الشيخ في أحواله فعسى            يرى عليك من استحسانه أثرا

 

أو أقدم حسن البنا على دعوته سابقًا هذه الخطوات، مخالفًا هذا الناموس، متقدمًا تلك المراحل، مرتجلا في خطى السير، لما أدرك ما أدرك ولما كان من شأنه ما كان.

ولكنه كان يُهيأ لكل شيء، ويعد لكل ظرف، ويصنع على عين ربانية، وتحيطه هالة محمدية، فسار في المواكب ينشد مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه حين يهل هلال ربيع الأول، كنا نسير في موكب مسائي في كل ليلة حتى ليلة الثاني عشر ننشد القصائد في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان من قصائدنا المشهورة في هذه المناسبة المباركة:

صلى الإله على النور الذي ظهرا                   للعالمين ففاق الشمس والقمرا

كان هذا البيت الكريم تردده المجموعة بينما ينشد أخي وأنشد معه:

هذا الحبيب مع الأحباب قد حضرا                  وسامح الكل فيما قد مضى وجرى

لقد أدار على العشاق خمرته                صرفًا يكاد سناها يُذهب البصرا

يا سعد كرر لنا ذكر الحبيب لقد            بلبلت أسماعنا يا مطرب الفقرا

وما لركب الحِمَى مالت معاطفه            لا شك أن حبيب القوم قد حضرا

 

وكانت الأبيات لطولها في الإلقاء مع التنغيم، يضطر المنشد أن ينقطع عن الإنشاد ليتنفس، فكان أخي إذا تنفس مددت صوتي، وكنت إذا تنفست مدَّ صوته الحبيب ليظل الصوت متصلا فلا ينقطع.

إني لأذكرها حقائق كأنها ماثلة بنت الساعة، فها هو صوتي يا أخي الحبيب ممدود لئلا ينقطع الصوت، وقد أضيفت إليه ملايين الأصوات من غرس يديك، وفضل الله عليك.

وحانت لحظة الفراق - أول فراق - فتحولت مدرستنا الإعدادية إلى مدرسة ابتدائية فبقيت بها (وحدي) وفارقتني - يا زميل الصبا ورفيق الشباب - إلى مدرسة المعلمين الأولية بدمنهور.

ليس هذا كل تاريخك ولا بعض تاريخك، ولكنها لمحات من نورك، وومضات من سناك وسيعرف الناس من أمرك ما يجهلون، ويتمنون من حياتك ما يدركون، فحسبنا الله فيما صنعوا "وإنا لله وإنا إليه راجعون".

يا أخي الشهيد: ما عاش بعدك من لم يشغله مصرعك، وينفعه مبدؤك، ويشرق عليه سناك، أنت تاريخ التحول في حياة مصر الماجنة إلى مصر المؤمنة، يوم قيامك بدعوتك يوم إشراقها ونهضتها، ويوم غدر بك الغادرون بدء ظلامها ونكبتها.

المسلمون في حاجة إلى تتبع سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتقصي أخباره وآثاره، ولابد لهم من القدوة العملية يتبعون سيرتها، ويأخذون عنها، وكنت أنت القدوة العملية، تحقق سيرته في نفسك، وتشيع أضواءها على من حولك، وكنت المعين الذي يفيض خلقه، وينشر هديه في العالمين.

ظن الجاهلون أنه بانتهاء حياتك ستنتهي دعوتك، ولكنك حي لم تمت }وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ{.

فأنت حي ترزق، ورايتك عالية تخفق، وذكراك حارة تصعق، ولو جعلوا الأصابع في الآذان من الصواعق حذر الموت فالله محيط بالكافرين.

يا أتباع حسن البنا، الملايين المنتشرة في أرض الله شرقيّها وغربيها، المؤمنون برسالة محمد صلى الله عليه وسلم والحريصون عليها، حسن البنا حقيقة خالدة، وروح مجمعة، وقوة دافعة، وراية خافقة، فتجمعوا حول رايته وتحققوا بسمو رسالته }وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ{.

اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله، وارفع منزلته في عليين }مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا{.

نشر هذا المقال في مجلة الدعوة – السنة الأولى – العدد (3) – 7جمادى الأولى 1370هـ / 13فبراير 1951م.

المقال التالي أبي
المقال السابق الدستور في فكر الإمام حسن البنا