إعداد موقع الإمام حسن البنا
إن تعليم الناس أمور دينهم من الأمور التي حص الإسلام عليها حيث قال صلى الله عليه وسلم[بلغوا عني ولو آية]، وقال:[ من يرد الله به خيرًا يفقهه فى الدين].
والفقه يشمل العبادات والمعاملات والجنايات والحدود والتعزيرات، ومن المعلوم بداهة أن قوام الفقه هو الاجتهاد. وقد مر الفقه بمراحل عدة حتى استقر على ما هو موجود بين أيدينا.
وبقد تتلمذ الإمام البنا على أيدي علماء أفذاذ في عصره وتشرب العلوم منهم، ولذا سعى لتبسيط معاني الفقه ليتسنى للجميع معرفته وفهمه، وتكلم في أمور حديثه لم يتطرق لها الفقه القديم لعدم معاصرتها له.
الفقه
الفقه فى الدين معناه تفهم أحكامه ومعرفة أوامره ونواهيه، سواء كانت تتعلق بالعقائد أو بالعبادات أو غيرها، وهو المراد بقوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: "من يرد الله به خيرًا يفقهه فى الدين" البخاري ومسلم.
ولكن العلماء جعلوا لكل قسم من أحكام الدين اسمًا خاصًا به، وجعلوا هذا الاسم خاصًا بطائفة من هذه الأحكام تشمل أربعة أقسام، وتحت كل قسم فروعه ومتعلقاته.
هذه الأقسام الأربعة التى يبحث فيها علم الفقه هى: (العبادات – المعاملات – الأحوال الشخصية – المواريث).
العبادات: العبادات خمس وهي:
1-الطهارة. 2-الصلاة. 3-الصوم.
4-الزكاة. 5-الحج.
الكلام على الطهارة:
حكمها: الطهارة شرط لصحة الصلاة؛ بمعنى أن الصلاة لا تكون صحيحة إلا بها لقوله صلى الله عليه وسلم: "مفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح الصلاة الطهور" رواه أحمد والبيهقي فى شعب الإيمان، وقوله: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا صلاة لمن لا طهور له".
فضلها: قال تعالى فى فضل المتطهرين: }إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة: 222]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حديث أبى مالك الأشعري: "الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها" رواه مسلم.
بحوثها: تنقسم الطهارة قسمين:
طهارة الحدث، وطهارة الخبث، أو الطهارة المعنوية، والطهارة الحسية، ويلحق بهما أداة الطهارة؛ فأما طهارة الحدث فبحوثها: الوضوء والغسل، وخلفهما التيمم والمسح على الخفين والجبائر، وأما طهارة الخبث فبحوثها: النجاسات وأقسامها وكيفية إزالتها، ويلحق بذلك الاستنجاء والحيض والنفاس وأحكامهما، وأما أداة الطهارة فهى المياه وما يتعلق بها(1).
أحكام المياه
المياه هى المطهر الذي أرشدنا الدين إلى استخدامه فى أعمال الطهارة الشرعية، والأصل فى ذلك قول الله تبارك وتعالى }وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال: 11] وسواء أكان هذا الماء نابعًا من الأرض أو نازلاً من السماء.
وتكاد تنحصر أحكام المياه فى خمسة أقسام:
أولا: الماء على حالته الطبيعية "ويسمى الماء المطلق" وهو طاهر فى نفسه مطهر للنجاسات رافع للحدث للآية، ولحديث أبى هريرة قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا أنتوضأ بماء البحر؟ فقال صلى الله عليه وسلم هو الطهور ماؤه الحل ميتته رواه أحمد والأربعة، وقال الترمذي حديث حسن صحيح.
ولحديث عائشة فى التطهير بالثلج والبرد أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقول فى دعائه: اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد ونق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس أخرجه النسائي ولحديث أنس قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحانت صلاة العصر فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوا ماء فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ذلك الإناء يده وأمر الناس أن يتوضؤوا منه فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه حتى وضئوا من عند آخرهم متفق عليه. ويلحق بهذا النوع: الماء إذا تغير بما هو من لوازمه كنبات ينبت فيه، أو بمعدن فى مجراه، وبما يعسر الاحتراز منه من الطاهر.
ثانيًا: الماء إذا خالطه طاهر ليس من ضرورياته كالدقيق والصابون والزعفران، وحكمه أنه إن خرج عن الرقة والسيلان، أو تغير تغيرًا فاحشًا، أو كان وزن المخالط المانع الطاهر أكثر من وزن الماء.. فهو طاهر فى نفسه ولكن لا يجوز التطهر به؛ لأنه صار بهذا التغيير شيئًا آخر غير الماء، فإن لم يخرج من الرقة والسيلان، أو لم يتغير تغيرًا فاحشًا فهو طاهر تجوز به الطهارة لحديث أم عطية "اغسلنها بماء وسدر".
ثالثًا: الماء إذا خالطته نجاسة، وحكمه أنه إذا غيرت النجاسة طعمه أو لونه أو ريحه تنجس سواء أكان قليلا أو كثيرًا للإجماع، ولما أخرجه الدارقطني من حديث ثوبان وأبى أمامة قال صلى الله عليه وسلم: "إن الماء طهور إلا إن تغير ريحه أو لونه أو طعمه بنجاسة تحدث فيه"، وقد اتفق أهل الحديث على خلاف هذه الزيادة، وإن أجمع العلماء على مضمونها. قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغيرت له طعمًا أو لونًا أو ريحًا فهو نجس. أ.هـ.
وإذا لم تغير النجاسة بعض أوصافه فحكمه أنه طاهر عند ابن عباس وأبى هريرة والحسن وابن المسيب والثوري وداود الظاهري والنخعي ومالك والغزالي من الشافعية لحديث بئر بضاعة، وذهب ابن عمر ومجاهد وأكثر الشافعية والحنفية وأحمد وإسحاق إلى أنه إن كان قليلا فهو نجس بملاقاة النجاسة وإن لم يتغير لحديث أبى هريرة: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده فى الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات؛ فإن أحدكم لا يدرى أين باتت يده" رواه مسلم، ولحديث الماء الدائم، ولحديث: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث"، ثم اختلفوا فى حد القليل؛ فذهب الشافعي إلى أنه ما دون القلتين، وذهب الحنفية إلى أن ذلك إنما يقدر بالعرف.
رابعًا: الماء المستعمل، وهو طاهر فى نفسه، وقد أغرب من الحنفية من قال بنجاسته، ولا دليل على ذلك ولا سبب للنجاسة، وتجوز به الطهارة عند مالك مع الكراهة، وعند الظاهرية بلا كراهة، وهو غير مطهر عند الشافعي وأبى حنيفة وأحمد، وعلى ذلك فالأحوط عدم التطهر به ما دمت تجد غيره. وهل يصح لإزالة النجاسة أم لا؟ قولان.
خامسًا: الماء المشمس، والتطهر به مكروه عند الشافعية.
فضل طهور المرأة:
يجوز التطهر بفضل طهارة المرأة أو الرجل؛ لحديث عائشة وأم سلمة وميمونة وابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يغتسل هو وزوجه من إناء واحد حتى يقول لها: "أبقى لى"، وتقول هى: "أبقِ لى" أخرجه الشيخان.
وعن ابن عمر قال: "كان الرجال والنساء يغتسلون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد" أخرجه البخاري.
وعن عائشة رضى الله عنها قالت: "كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد ونحن جنبان" أخرجه مسلم والنسائي. وعن ميمونة قالت: "كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد من الجنابة" أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وهو قول عامة الفقهاء أن لا بأس أن يغتسل الرجل والمرأة من إناء واحد أ هـ.
وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: اغتسل بعض أزواج النبى صلى الله عليه وسلم فى جفنة، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ، فقالت: يا رسول الله إنى كنت جنبًا، قال: "إن الماء لا يجنب" أخرجه أحمد والثلاثة، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وهو قول سفيان الثوري ومالك والشافعي.
وكره بعض الفقهاء الوضوء بفضل طهور المرأة، وهو قول أحمد وإسحاق حيث كرها فضل طهورها، ولم يريا بأسًا بفضل سؤرها أ هـ.
واستدل بحديث الحكم بن عمرو الغفاري أن "النبى صلى الله عليه وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة -أو قال بسؤرها-" أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن، لكن فيه مقال، وعلى فرض حسنه فالحسن لا يعارض الأحاديث الصحيحة السابقة، وعلى فرض المساواة يحمل النهى على التنزيه، وبذا تزداد علمًا بجواز التطهير من ماء البرك ونحوها بطريق الأولى.
فائدة:
نية الاغتراف إذا كان الوضوء أو الغسل من إناء مفتوح لا دليل عليها من كتاب أو سنة، خلافًا لمن زعم ذلك وقال: إن لم ينو الاغتراف عند أول الغسل أو بعد غسل الوجه فى الوضوء صار الماء مستعملا؛ بل الدليل على عدم طلبها حديث عبد الله بن زيد بن عاصم أنه قيل له: "توضأْ لنا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فدعا بإناء فأكفأ منه على يديه ثلاثًا ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل وجهه ثلاثًا فغسلهما، ثم أدخل يده واستخرجه فمضمض واستنشق من كف واحدة، ففعل ذلك ثلاثًا، ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين، ثم أدخل يده فاستخرجها فمسح برأسه فأقبل وأدبر، ثم غسل رجليه إلى الكعبين، ثم قال: "هكذا كان وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم"، أخرجه الشيخان وأحمد، وهذا لفظه.
فنرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كرر الاغتراف من الإناء فأتم وضوءه، وكذلك أصحابه -رضى الله عنهم-، ولم ينقل عنهم أن إدخال اليد فى الإناء بلا نية الاغتراف يصيره مستعملا لا يصح التطهر به، هذا هو الصحيح. والله أعلم(2).
الوضوء
حكمه: هو شرط لصحة الصلاة؛ أى لا تكون الصلاة صحيحة من غيره؛ للآية الكريمة: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ [المائدة: 6]. ولحديث أبى هريرة رضى الله عنه: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ" رواه الشيخان مرفوعًا.
كيفيته إجمالا: ينوى المتوضئ بقلبه الوضوء للصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" البخاري، ويستحضر قلبه فى هذه النية، ويقصد بوضوئه استباحة الصلاة والتوبة، وتطهير الجوارح من الآثام والأقذار المعنوية حتى يتأثر قلبه بذلك؛ فيطهر من أدران المعصية.
ثم يسمى الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه.
قال بعض العلماء: المعنى أنه لا وضوء كاملا.
ثم يغسل يديه إلى الرسغين، وهما مفاصل الكعبين، ويتمضمض، ويستنشق لفعله صلى الله عليه وسلم ذلك فى وضوئه.
ثم يغسل وجهه من منابت الشعر إلى أسفل الذقن، ومن شحمة الأذن إلى شحمة الأذن مع تخليل اللحية الغزيرة الشعر؛ لحديث عثمان أن النبى صلى الله عليه وسلم: "كان يخلل لحيته فى الوضوء" أخرجه الترمذي وصححه ابن خزيمة.
ثم يغسل ذراعيه إلى المرفقين مخللا أصابعه لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا توضأت فخلل أصابع يديك ورجليك" رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود.
ثم يمسح رأسه بيديه يقبل بهما ويدبر لحديث عبد الله بن زيد رضى الله عنه فى حكاية وضوئه صلى الله عليه وسلم: "ومسح رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسه فأقبل بيديه وأدبر" متفق عليه.
ثم مسح أذنيه ظاهرهما وباطنهما لحديث عبد الله بن عمرو فى صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم: "ثم مسح برأسه وأدخل إصبعيه السبابتين فى أذنيه، ومسح بهما بإبهاميه ظاهر أذنيه" أبو داود والنسائي.
ثم يغسل رجليه إلى الكعبين ظاهرًا وباطنًا؛ لما ورد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأى رجلا فى قدمه مثل الظفر لم يصبه الماء فقال: ارجع فأحسن وضوءك" رواه أبو داود والنسائي.
ويبدأ فى وضوئه باليمين لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا توضأتم فابدءوا بميامنكم" أخرجه الأربعة وصححه ابن خزيمة.
ويرتب أفعال الوضوء ويواليها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم واظب على ذلك، ويثلث الغسل ويحرك الخاتم لمواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك، ويحافظ على السواك لقوله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء" مالك وأحمد والنسائي.
والأحاديث فى السواك كثيرة.
ويسبغ الوضوء؛ أى يتمه ويحسنه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تتم صلاة أحدٍ حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله" أخرجه أبو داود من حديث رفاعة.
ويذكر الله بعده بالشهادتين، ويدعو بالصيغة المأثورة: "سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، اللهم اجعلنى من التوابين واجعلنى من المتطهرين"، روى من طريق ابن ماجه والحاكم، وروى مسلم حديث ذكر الشهادتين(3).
الأمور التى يحسن تركها فى الوضوء
يعمل الناس فى حالة الوضوء أعمالا نهى عنها الدين، وهم يعتقدون أنها تقربهم إلى الله -تبارك وتعالى-، وسنبينها لك لتبتعد عنها، وتأمر إخوانك بذلك، والله الموفق للصواب:
أولا: الإسراف فى ماء الوضوء.. نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك نهيًا شديدًا؛ فقد ورد عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بسعدٍ وهو يتوضأ فقال: "لا تسرف" فقال: يا رسول الله أوفى الماء إسراف؟ قال: "نعم وإن كنت على نهر" رواه أحمد، وقال صلى الله عليه وسلم: "للوضوء شيطان يقال له: الولهان، فاتقوا وسواس الماء" رواه الترمذي.
والأحاديث كثيرة فى تحريم الوسوسة فى الوضوء والإسراف فى مائه، فاتركها يا أخي.
ثانيًا: يكره الكلام على الوضوء؛ لأنه اشتغال بعبادة؛ فلا يصح قطعها لكلام عادى؛ ولهذا يكره أن يقول شخص لآخر الكلمة المعتادة "من ماء زمزم" على الوضوء؛ لأنه سيضطره إلى الرد عليه فيقطع عبادته، نعم إذا قالها بعد فراغه من وضوئه على سبيل الدعاء للأخ المسلم أرجو أن يكون ذلك لا بأس به، كما أن الأولى ترك السلام على المتوضئ؛ لأنه مشتغل بعبادة.
ثالثًا: ترك الدعاء عند أفعال الوضوء؛ فلم يثبت ذلك عن النبى صلى الله عليه وسلم، وما تعوده الناس من الدعاء عند كل عمل من أعمال الوضوء بصيغة خاصة فهو من اختيار الفقهاء واستحسانهم، وقد رأيت أبا حامد الغزالي رضى الله عنه يستحسنه فى كتابه إحياء العلوم والغزالي إمام من أئمة الشافعية، وخالفه النووي فى المنهاج وغيره من المحققين، ورأوا أن تركه أولى وأفضل، نعم روى النسائي وابن السنى بإسناد صحيح عن أبى موسى الأشعري رضى الله عنه قال: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوَضوء فتوضأ فسمعته يقول: "اللهم اغفر لى ذنبي ووسع لى فى دارى وبارك لى فى رزقي" فقلت: يا نبى الله سمعتك تدعو بكذا وكذا، فقال: "وهل تركن من شىء"، وترجم ابن السنى لهذا الحديث بقوله: "باب ما يقوله بين ظهراني وضوئه"؛ كأنه يرى هذا الدعاء كان فى أثناء الوضوء، وأما النسائي فأدخله فى باب ما يقول بعد الوضوء، قال النووي: "وكلاهما محتمل"، وعلى هذا فلا بأس بالدعاء بهذه الصيغة على وضوئك أو بعده إن شئت.
رابعًا: ترك التنشيف: ومن هديه صلى الله عليه وسلم فى الوضوء ترك التنشيف بعده؛ فقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم قدم له المنديل لينشف أعضاءه بعد الغسل فرده، وورد فى أحاديث ضعيفة التنشيف، وقد علها العلماء بالحديث، والذى يتبادر فى هذا الحكم أنه بحسب الأحوال، فإذا كان الوقت صيفًا يسمح ببقاء أثر الماء فالأفضل بقاؤه لأنه أثر عبادة، وإن كان بردًا يخشى منه الضرر نشف أعضاء وجففها، ولعل هذا طريق الجمع بين ما ورد مع التسليم بتفاوت درجات الأحاديث، وقد قال الترمذي: لم يصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم شىء فى هذا الباب، والله أعلم.
فضل الوضوء وحكمته:
إن للوضوء فضلا عظيمًا وثوابًا جزيلا فى الآخرة، وفوائد عظيمة فى الدنيا.
فوائده الأخروية:
1- فمن فوائده الأخروية أنه أمارة بيننا وبين الرسول صلى الله عليه وسلم يعرفنا بها يوم القيامة؛ فغير المواظبين على الوضوء يكونون خلوًا من هذه الأمارة، فيحرمون بركة الصلة بالرسول صلى الله عليه وسلم فى هذا اليوم؛ فقد ثبت فى الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أمتي يدعون يوم القيامة غرًّا محجلين من آثار الوضوء؛ فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل" أخرجه الشيخان والنسائي، وفى رواية "يمرون علىَّ وأنا فَرْطُهم على الحوض".
ومعنى هذا أن الأمة المحمدية التى واظبت على الوضوء يجعل الله لها نورًا فى جباهها، ونورًا على أذرعتها حتى يعرفها بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة؛ فمن لم يواظب على الوضوء حرم ذلك الفضل العظيم.
2- ومنها أن الوضوء سبب مغفرة الذنوب، كما ورد فى الحديث الصحيح عن عثمان رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره" أخرجه الشيخان.
وعن عبد الله بن الصنابحى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا توضأ العبد المؤمن فتمضمض خرجت الخطايا من فيه، وإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه، فإذا غسل وجهه خرجت من وجهه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه، فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه حتى تخرج من تحت أظفار يديه، فإذا مسح رأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه، فإذا غسل رجليه خرجت الخطايا من رجليه حتى تخرج من أظفار رجليه، ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة له" أخرجه مالك والنسائي.
والأحاديث فى ذلك كثيرة، ومعنى هذا يا أخي أن الله -تبارك وتعالى- بفضل الوضوء يغفر الصغائر من الذنوب، ويوفق المتوضئ للتوبة من الكبائر؛ فمن المعلوم أن الكبائر لا تُكفَّر إلا بالتوبة.
3- ومنها أن الله يرفع الدرجات بالوضوء كما ورد عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة؛ فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط" رواه مسلم ومالك والترمذي.
4- ومنها إعداد أبواب الجنة لدخوله؛ فقد ورد فى الحديث الصحيح عن عقبة بن عامر رضى الله عنه وعمر بن الخطاب فى حديث رواه الخمسة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء".
فوائده الدنيوية:
ومن فوائده الدنيوية:
1- نظافة الأطراف المعرضة للغبار والأتربة ومحوها، وقد قرر الأطباء أن الوضوء له فضل عظيم على الأمة الإسلامية فى حفظ صحتها وإبعاد الأمراض عنها، ولا سيما أمراض العينين وأمراض الجلد ونحوها.
2- ومنها: الوضاءة وحسن المنظر وإزالة الفضلات والإفرازات التى تجعل رائحة الجسم كريهة، فضلا عن أضرارها الصحية كإفرازات أصابع القدمين ونحوها.
3- ومنها: تنشيط الجسم وإبعاد الخمول والكسل عنه بإمرار الماء عليه، وذلك أمر مشاهد مألوف(4).
نواقض الوضوء
هى الأمور التى إذا حصلت من إنسان انتقض وضوؤه وفسد، وصار عليه أن يتوضأ حتى يمكنه أن يؤدى الصلاة ونحوها من العبادات التى يشترط فيها الوضوء.
وقد اختلف فيها الأئمة -رضوان الله عليهم- اختلافًا كبيرًا، وأخذ كل منهم بدليل رآه أقوى من غيره، وسنذكر هذه النواقض ودليل كل واحد منها، ثم نُقَفِّى بعد كل ناقض بذكر من خالف فيه ليعلم كل قارئ حكم مذهبه.
1- ما خرج من السبيلين معتادًا كالبول والغائط والريح، والمذي (وهو ماء رقيق يخرج من القبل عند الملاعبة)، والودي (وهو ماء أبيض ثخين يخرج عقب البول غالبًا)، والهادي (وهو ماء أبيض يخرج من المرأة قبل ولادتها؛ فهذه كلها تنقض الوضوء لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ"، فقال رجل من أهل حضرموت: ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: "فُساء أو ضُراط" متفق عليه، وقد أجمع الأئمة على النقض بهذه الأمور المتقدمة.
2- ما خرج من السبيلين غير معتاد؛ كالدود والحصى والدم والقيح والصديد قياسًا على الأمور السابقة، وهي ناقضة عند الثلاثة.
وقال المالكية بعدم النقض إلا إذا ابتلع حصاة فنزلت من أحد المخرجين فتكون ناقضة حينئذ.
3- القيء، والقلس (وهو ما يسيل من المعدة إلى الفم وليس بقيء) لحديث معدان بن أبى طلحة عن أبى الدرداء أن النبى صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ، فلقيت ثوبان فى مسجد دمشق فذكرت له ذلك، فقال: "صدق أنا صببت له وَضوءه" رواه أحمد والترمذي، وقال: هو أصح شىء فى هذا الباب، وهو مذهب أبى حنيفة رضى الله عنه والعترة.
وقيدوا القيء والقلس بأن يكون ملء الفم، وأن يكون دفعة واحدة، وأن يكون من المعدة، ورأى الشافعي ومالك وأحمد والناصر والباقر وغيرهم أن القيء والقلس لا ينقضان الوضوء؛ لضعف هذا الدليل عندهم، وقوة ما يعارضه من أدلة عدم النقض.
4- الرعاف والدم وكل نجاسة خرجت من البدن من غير السبيلين؛ لحديث عائشة قالت: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فلينصرف فليتوضأ، ثم ليبن على صلاته، وهو فى ذلك لا يتكلم" رواه ابن ماجه والدارقطني، وفيه مقال، وقد ورد من طرق أخرى، فى كلها مقال كذلك.
وقد ذهب أبو حنيفة إلى أن الدم ينقض الوضوء إذا سال، وذهب أحمد بن حنبل إلى أنه ينقض إذا كان كثيرًا، وذهب الشافعي ومالك وغيرهما إلى أنه لا ينقض لعدم نهوض الدليل، ولوجود ما يعارضه من الأدلة الصحيحة.
5- النوم؛ لحديث على رضى الله عنه: "العين وكاء السه فمن نام فليتوضأ" الوكاء: الرباط، والسه: اسم لحلقة الدبر، والحديث رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه ومثله حديث معاوية.
وهذا قول الحسن ومذهب بعض الشافعية والعترة، وذهب مالك وأحمد والأوزاعي إلى أن الثقيل والكثير ينقض والقليل لا ينقض، وذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أن النوم على حال التمكن لا ينقض وبدون تمكن المقعدة ينقض، ولكل إمام رأيه ودليله.
6- غيبة العقل بسُكْر أو جنون أو مخدر مطلقًا قياسًا على النوم، وقد حكى النووي الإجماع على ذلك.
7- لمس من يشتهى بدون حائل لقوله تعالى: }أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ [المائدة: 6]، ولحديث معاذ بن جبل قال: "أتى النبى صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله ما تقول فى رجل لقى امرأة يعرفها فليس يأتى الرجل من امرأته شيئًا إلا قد أتاه منها غير أنه لم يجامعها قال: فأنزل الله هذه الآية: }وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَىْ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ الآية [هود: 114] فقال له النبى صلى الله عليه وسلم: "توضأ ثم صل" رواه أحمد والدارقطني.
وهو مذهب الشافعية، واشترط المالكية قصد اللذة أو وجودها بدون قصد، ولم ير الأحناف النقض إلا بالمباشرة الفاحشة، وهي تلاصق الفرجين من شخصين مشتهيين بلا حائل يمنع حرارة البدن، وأما ما عدا ذلك فلا نقض به عندهم لتأول هذه الآية ومعارضتها بأقوى منها عندهم.
8- مس القبل بباطن الكف بلا حائل لحديث بسرة بنت صفوان أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "من مس ذكره فلا يصلِّ حتى يتوضأ" رواه الخمسة وصححه الترمذي، وقال البخاري هو أصح شىء فى هذا الباب، وهو مذهب الشافعي، ولا فرق عنده بين أن يكون الممسوس ذَكَرَ نَفْسِه أو غيره، ولو كان ذَكَرَ صغيرٍ أو ميت، ومثل الذكر عنده فى نقض الوضوء بمسه قُبُل المرأة وحلقة الدبر مطلقًا، وأما الخصيتان والعانة فلا نقض بهما كما لا نقض بمس فرج غير الآدمي كالبهائم ووافقه الحنابلة فى النقض، واستثنوا منه مس المرأة فرج نفسها فإنه لا ينقض إلا إذا أولجت إصبعها إلى الداخل، ووافقهم المالكية إلا فى مس حلقة الدبر فإنه لا ينقض عندهم، وقال الأحناف بعدم النقض مطلقًا.
9- أكل لحوم الإبل؛ لما روى عن جابر ابن سمرة أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت توضأ وإن شئت فلا تتوضأ، قال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال نعم توضأ من لحوم الإبل، قال: أصلى فى مرابض الغنم، قال: نعم، قال: أصلى فى مرابض الإبل؟ قال: لا" رواه مسلم وأحمد، وهو مذهب أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه وغيرهما، وقال الثلاثة بعدم النقض به.
10- القهقهة فى الصلاة؛ لحديث رواه أبو حنيفة عن منصور عن ابن زادان عن الحسن عن معبد بن أبى معبد الخزاعي أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يصلى وأصحابه خلفه، فجاء أعرابي وفى بصره سوء، فوقع فى ركية فضحك بعض أصحابه، فلما فرغ من صلاته قال: "ألا من ضحك منكم قهقهة فليعد الصلاة والوضوء جميعًا"، ورواه أسامة بن زيد عن أبيه، ورواه أبو العالية مرسلا ومسندًا إلى أبى موسى الأشعري، وهو مذهب أبى حنيفة، وخالفه غيره؛ فلم ير ذلك ناقضًا للوضوء وإن أبطل الصلاة.
11- الردة؛ لأنها تبطل العمل والوضوء منه، وهو مذهب المالكية، ولم يوافقهم غيرهم.
12- حمل الميت؛ لأثر ضعيف: "من غسل ميتًا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ"، وليس ذلك ناقضًا عند أحد من الأئمة الأربعة لعدم صحة الأثر عندهم.
فهذه جملة الأعمال التى وردت الآثار بأنها تنقض الوضوء، وقد علمت أقوال الأئمة ووجوه الخلاف فيها فاعمل بمذهبك وما يطمئن إليه قلبك(5).
وضوء المعذور
المعذور هو الذي أصيب بدوام ناقض من نواقض الوضوء كسلس البول، أو انطلاق البطن، أو انفلات الريح، أو الاستحاضة عند المرأة وقتًا كاملا من أوقات الصلاة أو ما يزيد عن نصف مدة الوقت، ولم يمتنع عنه ذلك بعلاج أو تحفظ أو نحوه؛ فحكمه فى الوضوء ما وردت به الآثار الآتية:
1- عن عدى بن ثابت عن أبيه عن جده عن النبى صلى الله عليه وسلم قال فى المستحاضة: "تدع الصلاة أيام إقرائها، ثم تغتسل وتتوضأ عند كل صلاة، وتصوم وتصلى" رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وسكت عنه.
2- وعن عائشة قالت: "جاءت فاطمة بنت أبى حبيش إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقالت: إنى امرأة أستحاض فلا أطهر.. أفأدع الصلاة؟ فقال لها: لا، اجتنبى الصلاة أيام محيضك، ثم اغتسلى وتوضئى لكل صلاة، ثم صلى وإن قطر الدم على الحصير" رواه أحمد وابن ماجه ورواه مسلم بدون الزيادة الأخيرة، وتركها عمدًا لأنها عنده زيادة غير محفوظة وإن رواها غيره.
وقد ألحق بالمستحاضة أصحاب الأعذار لاشتراكهم جميعًا فى الحرج؛ فحكمهم أن يتوضؤوا لوقت كل صلاة، ويصلون بهذا الوضوء ما شاءوا من الفرائض والنوافل، وبهذا قال الإمام أبو حنيفة، وقال الإمام الشافعي: يتوضأ لكل فريضة، ولا بأس بأن يصلى بهذا الوضوء ما شاء من النوافل.
وقال المالكية: إن العذر إذا استوفى شروطه -بمعنى أنه يلازم صاحبه معظم أوقات الصلاة ولا ينضبط ولا يستطيع دفعه- فإنه لا يعتبر ناقضًا، ويصلى بوضوئه ما شاء من الفرائض والنوافل، فإن انضبط بأن كان ينقطع فى أول الوقت أو آخره كان ناقضًا، ووجب على صاحبه أن يصلى "أول الوقت" فى الأولى وآخره فى الثانية، وعليه أن يجمع الصلاتين جمع تقديم إذا كان يستغرق وقت الثانية، وجمع تأخير إذا كان يستغرق وقت الأولى.
وقال الحنابلة بعدم النقض متى استوفى شروطه وكان الوضوء بعد دخول الوقت.
الشك فى الوضوء:
1- عن عبادة بن تميم عن عمه قال: شكي إلى النبى صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء فى الصلاة، فقال: "لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا" رواه الجماعة إلا الترمذي.
2- وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وجد أحدكم فى بطنه شيئًا فأشكل عليه أخرج منه شىء أم لا، فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا" رواه مسلم والترمذي.
3- وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "يأتى أحدَكم الشيطانُ فى صلاته، فينفخ فى مقعدته، فيخيل إليه أنه أحدث ولم يحدث، فإذا وجد ذلك فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا" أخرجه البزار.
فمن مجموع هذه الأحاديث تعلم أن الشك لا يؤثر فى الطهارة، فإذا كنت متوضئًا وشككت هل أحدثت أم لا؛ فأنت على وضوئك حتى يتأكد الحدث، وكذلك إذا أحدثت ثم شككت هل توضأت أم لا؛ فأنت على غير وضوء حتى تتيقن الوضوء. وإلى هذا ذهب الأئمة الثلاثة، وقال المالكية: إن الوضوء ينتقض بالشك فيه أو فى الحدث، فمن شك بعد الوضوء هل أحدث أم لا، أو من شك بعد الحدث هل توضأ أم لا؛ فهو غير متوضئ إلا إن اعتاد الشك فلا يُنتقض وضوؤه.
فضل المحافظة على الوضوء:
1- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن" رواه ابن ماجه بإسناد صحيح، والحاكم.
2- وفى رواية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات" رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، قال الحافظ زكى الدين عبد العظيم المنذري: وأما الحديث الذي يروى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الوضوء على الوضوء نور على نور" فلا يحضرني له أصل من حديث النبى صلى الله عليه وسلم، ولعله من كلام السلف، والله أعلم.
3- وعند عبد الله بن بريدة عن أبيه رضى الله عنهما قال: أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فدعا بلالا فقال: يا بلال بم سبقتني إلى الجنة؛ إنى دخلت البارحة الجنة فسمعت خشخشتك أمامي؟ فقال بلال: يا رسول الله ما أذَّنت قط إلا صليت ركعتين، ولا أصابني حدث إلا توضأت عنده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لهذا" رواه ابن خزيمة فى صحيحه.
فعليك بهاتين الخصلتين الفاضلتين؛ المحافظة على الوضوء بعد كل حدث وتجديده كلما أمكنك ذلك، وما زال الشيوخ والمربون يوصون بذلك السالكين تطهيرًا لقلوبهم وأجسامهم فاستمسك بذلك(6).
المسح على الخفين
حكمه:
عن جرير أنه بال ثم توضأ ومسح على خفيه، فقيل له: تفعل هكذا؟ قال: نعم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه، قال إبراهيم: فكان يعجبهم هذا الحديث؛ لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة. متفق عليه.
وعن عبد الله بن عمر أن سعدًا حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يمسح على الخفين وأن ابن عمر يسأل عن ذلك عمر، فقال: "نعم إذا حدثك سعد عن النبى صلى الله عليه وسلم شيئًا فلا تسأل عن غيره" رواه أحمد والبخاري.
وعن المغيرة بن شعبة قال: كنت مع النبى صلى الله عليه وسلم فى سفر فقضى حاجته، ثم توضأ ومسح على خفيه، قلت: يا رسول الله، أنسيت؟ قال: بل أنت نسيت، بهذا أمرني ربى عز وجل. رواه أحمد وأبو داود.
قال الحسن البصري: روى المسح سبعون نفسًا فعلا وقولا.
ومن ذلك تعلم أن حكم المسح الجواز، وهو رخصة للمقيم وللمسافر ولو بغير حاجة، وبهذا قال الأئمة الأربعة، وجمهور الفقهاء، وذهبت العترة، وأبو بكر بن داود الظاهري إلى أن المسح لا يكفي عن غسل الرجلين، واحتجوا بآية المائدة، وفى استدلالهم بذلك نظر؛ فإن إسلام جرير جاء بعدها كما رأيت؛ فالأولى الأخذ بالأول. والله أعلم.
وقد اختلف العلماء فى: هل الأفضل المسح أم غسل الرجلين؟ قال ابن المنذر: والذي أختاره أن المسح أفضل لأجل من طعن فيه من أهل البدع من الخوارج والروافض، وإحياء ما طعن فيه المخالفون من السنن أفضل من تركه، وأنا أقول: حسبنا ما ورد؛ فالمسح جائز، وكفى.
شروط جواز المسح:
عن المغيرة بن شعبة قال: كنت مع النبى صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فى مسير فأفرغت عليه من الإداوة فغسل وجهه وغسل ذراعيه ومسح برأسه، ثم أهويت لأنزع خفيه، فقال: دعهما فإنى أدخلتهما طاهرتين فمسح عليهما. متفق عليه، ولأبي داود: دع الخفين؛ فإنى أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان فمسح عليهما.
وعن المغيرة بن شعبة، قال: "قلنا: يا رسول الله أيمسح أحدنا على الخفين؟ قال: نعم إذا أدخلهما وهما طاهرتان"، رواه الحميدي فى مسنده.
وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على خفيه فقلت: "يا رسول الله رجليك لم تغسلهما؟ قال: إنى أدخلتهما وهما طاهرتان"، رواه أحمد.
ومن هذه الأحاديث اشترط الفقهاء لجواز المسح الطهارة فى اللبس، ثم اختلفوا فقال مالك والشافعي وأحمد: يشترط للمسح على الخفين أن يكون على طهارة كاملة وقت اللبس، وقال أبو حنيفة وسفيان ويحيى بن آدم والمزنى وأبو ثور وداود: لا يشترط تمام الطهارة قبل لبسهما، فلو بدأ بغسل رجليه ثم لبس الخفين ثم كمل الوضوء، أو توضأ فغسل رجلا ولبس خفها ثم غسل الأخرى، ولبس خفها جاز له الوضوء، وذهب داود إلى أن المراد بالطهارة هنا: الطهارة من النجاسة فقط؛ فيكفي أن يلبس الخفين، وليس على قدميه نجاسة فقط.
مدة المسح:
عن صفوان بن عسال المرادي قال: "أمرنا -يعنى النبى صلى الله عليه وسلم- أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر؛ ثلاثًا إذا سافرنا ويومًا وليلة إذا أقمنا، ولا نخلعهما من غائط ولا بول ولا نوم، ولا نخلعهما إلا من جنابة"، رواه أحمد وابن خزيمة، وقال الخطابي: صحيح الإسناد.
وعن عبد الرحمن بن أبى بكرة عن أبيه عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه رخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يومًا وليلة إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما. رواه الأثرم فى سننه، وابن خزيمة والدارقطني. قال الخطابي: هو صحيح الإسناد.
وروى شريح بن هانئ قال: سألت عائشة رضى الله عنها عن المسح على الخفين فقالت: سل عليًا فإنه أعلم بهذا منى؛ كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة"، رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه.
وعن خزيمة بن ثابت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن المسح على الخفين، فقال: للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة. رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه.
ولهذا ذهب جمهور العلماء، ومنهم أبو حنيفة وأصحابه، والشافعي وأحمد وسفيان الثوري.. إلى هذا التوقيت؛ فمدة المسح للمقيم يوم وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها؛ فلا ينزع الخفين إلا من جنابة، وقال الشعبي وربيعة والليث ومالك وأبو سلمة بن عبد الرحمن: "لا يوقت للمسح على الخفين، بل يمسح عليهما ما شاء"، واستدلوا بحديث أبى بن عمارة أنه قال: "يا رسول الله أمسح على الخفين؟ قال: نعم، قال: يومًا؟ قال: يومًا، قال: ويومين؟ قال ويومين، قال: وثلاثة؟ قال نعم وما شئت". رواه أبو داود والبيهقي والحاكم، ورد الأولون بأن هذا الحديث وغيره مما يفيد هذا المعنى ضعيف مضطرب لا يحتج به.
كيفية المسح وفرضه وسننه:
عن على رضى الله عنه قال: "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه"، رواه أبو داود والدارقطني.
وعن المغيرة بن شعبة قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظهور الخفين"، رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي ولفظه: "...على الخفين ظاهرهما"، وقال حديث حسن.
وعن ثور بن يزيد عن رجاء بن حيوة عن وراد كاتب المغيرة بن شعبة عن المغيرة بن شعبة أن النبى صلى الله عليه وسلم مسح أعلى الخف وأسفله. رواه الخمسة إلا النسائي، وقال الترمذي: هذا حديث معلول لم يسنده عن ثور غير الوليد بن مسلم، وسألت أبا زرعة ومحمدًا عن هذا الحديث فقالا: ليس بصحيح.
وعن جابر رضى الله عنه قال: مر النبى صلى الله عليه وسلم برجل يتوضأ، فغسل خفيه فنخسه برجله وقال: "ليس هكذا السنة، أمرنا بالمسح هكذا"، وأمرّ بيديه على خفيه، وفى لفظ: ثم أراه بيده من مقدم الخف إلى أصل الساق مرة، وفرج بين أصابعه. رواه الطبراني فى الأوسط، وأخرجه ابن ماجه.
ومن هنا اختلف العلماء فى الجزء الذي يفرض مسحه من الخف؛ فقال الأحناف: يفرض مسح قدر ثلاثة أصابع من أصغر أصابع اليد على ظاهر أعلى الخف من كل رجل، ويستحب عندهم تعميم المسح جمعًا بين الأدلة، وقال المالكية فى "المشهور عنهم": يجب مسح جميع أعلى الخف إلى الكعبين، ويسن مسح أسفله، والشافعية يوجبون مسح جزء من الأعلى من محل الفرض فى أرجح أقوالهم، والحنابلة يوجبون مسح أكثر الأعلى.
ويكره غسل الخفين، ويكره كذلك تكرار المسح إلا عند عطاء حيث قال بالتثليث.
مبطلات المسح:
مما تقدم تعلم أن من مبطلات المسح:
1- نواقض الوضوء السابقة.
2- مُضى المدة عند من قال بالتوقيت إلا بعذر قاهر فلا بأس باستمرار المسح حتى يزول هذا العذر.
3- ويبطل بنزع الخف أو انتزاعه؛ لحديث سعيد بن أبى مريم عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الرجل يمسح على خفيه ثم يبدو له فينزعها، قال يغسل قدميه. وعن عبد الرحمن بن أبى إياس أنه قال: "وكان أبى ينزع خفيه ويغسل رجليه"، أخرجهما البيهقي.
وبذلك البطلان قالت الحنفية والشافعية، فإذا مضت المدة، أو نزع الخف وهو متوضئ غسل رجليه فقط. والمالكية يقولون: إنه إذا خلع خفيه لزمه غسل قدميه فورًا، وإن أخره استأنف الطهارة، وذهب الحسن، وقتادة، وسليمان بن حرب، والظاهرية، وابن أبى يعلى إلى أن نزع الخف لا يبطل المسح.
4- أن يكون فى الخف خرق كبير، وقدره الأحناف بأن ما يبدو منه مقدار ثلاث أصابع من أصابع الرِّجل، وقدره الشافعية وأحمد بما يظهر به من القدم شىء، وقدره المالكية بالثلث، واتفقوا على جواز المسح مع الخرق الصغير.
فعن الثوري قال: "كانت خفاف المهاجرين والأنصار لا تسلم من الخروق كخفاف الناس".
صفة الخف والمسح على الجورب:
عرف العلماء الخف بأنه ما ستر موضع الفرض من الرجل مع الكعبين والجوانب متمسكًا على الرجل بلا شد، وأن يكون قويًا يمكن متابعة المشي فيه.
وقد اختلف العلماء فى المسح على الجوربين؛ فذهب الأحناف وأحمد وإسحاق بن راهويه والثوري وابن المبارك إلى جواز المسح عليهما إذا كانا مجلدين أو منعلين أو تخينين يمكن متابعة المشي فيهما وهو الصحيح عند الشافعية، واستدلوا بحديث المغيرة قال: "توضأ النبى صلى الله عليه وسلم ومسح على الجوربين والنعلين"، رواه أحمد والطحاوي وأبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه، وروى الطبراني عن بلال قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين والجوربين" أ هـ. وقال المالكية: يجوز المسح عليهما بشرط أن يكونا مجلدين من أعلاهما وأسفلهما لأنهما حينئذ كالخف.
خاتمة: هذا الحكم يفيد أول ما يفيد إخواننا الضباط والجنود، ويزيل عنهم كثيرًا من الحرج فى أداء فريضة الصلاة؛ وذلك أنهم يحتجون بصعوبة خلع النعل وما يتبعها من ملابس ولفافات وجوارب.. إلخ، فإذا عرفوا هذا الحكم فليس عليهم إلا أن يتوضؤوا قبل اللبس ثم يلبسوا، فإذا حضر وقت الصلاة، وأرادوا الوضوء غسلوا أعضاء الوضوء إلا الرجلين، ثم مسح أحدهم بأصابعه ظاهر نعله فيتم بذلك وضوءه، ثم يدلك نعله بالأرض فتطهر على رأى من قال بذلك من الفقهاء، ثم يقوم للصلاة، وقد أدى فريضته، ودين الله يسر، وما جعل الله على الناس فى دينه من حرج. والله أعلم(7).
الغسل وأحكامه
أولا: موجباته:
وهي الأمور التى إذا حصلت من إنسان وجب عليه الغسل وهي:
1- نزول المنى فى حال اليقظة أو النوم من الرجل والمرأة، عن على رضى الله عنه قال: كنت رجلا مذاءًا (أى كثير نزول المذي)، فسألت النبى صلى الله عليه وسلم فقال: "فى المذي الوضوء، وفى المنى الغسل"، رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه، ولأحمد فقال: "إذا حذفت الماء فاغتسل من الجنابة، فإن لم تكن حاذفًا فلا تغتسل"، وعن أم سلمة -رضى الله عنها- أن أم سليم قالت: "يا رسول الله، إن الله لا يستحيى من الحق.. فهل على المرأة الغسل إذا احتلمت؟ قال: نعم إذا رأت الماء، فقالت أم سلمة: وتحتلم المرأة؟ فقال: تربت يداك -أى: لصقت يداك بالتراب، وهي كلمة تقولها العرب للمداعبة- فبم يشبهها ولدها؟"، متفق عليه.
فهذان الحديثان يدلان على وجوب الغسل على الرجل والمرأة بنزول المنى فى حال النوم أو اليقظة، وقوله صلى الله عليه وسلم فى الحديث الأول فى رواية أحمد: "إذا حذفت الماء فاغتسل" تنبيه على أن المنى الذي ينزل بغير شهوة كأنه ضُرب على صُلبه أو أصابه بَرْدٌ فسال منيه لا يوجب الغسل، وهو رأى الأئمة الأربعة -رضوان الله عليهم- إلا ما روى عن الإمام الشافعي رضى الله عنه أن نزول الماء يوجب الغسل بلذة أو بغير لذة.
2- الجماع متى التقى الختانان: عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: "إذا جلس بين شعبها الأربع، ثم جهدها فقد وجب عليه الغسل"، متفق عليه (أى رواه البخاري ومسلم). ولمسلم وأحمد "وإن لم يُنزل". وعن عائشة -رضى الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قعد بين شُعبها الأربع، ثم مس الختان الختان فقد وجب الغسل"، رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه، ولفظه: "إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل"، وهو مذهب الأئمة الأربعة وجمهور الصحابة والتابعين.
3- الحيض والنفاس: فإذا حاضت المرأة أو ولدت وجب عليها الغسل بعد انقطاع الدم، عن عائشة رضى الله عنها أن فاطمة بنت أبى حبيش كانت تستحاض، فسألت النبى صلى الله عليه وسلم فقال: "ذلك عِرْق وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعى الصلاة وإذا أدبرت فاغتسلى وصلى"، رواه البخاري، وبهذا قال الأئمة -رضوان الله عليهم- ورأى الحنابلة أن الولادة بلا دم لا توجب الغسل.
4- الإسلام: فإذا أسلم الكافر وجب عليه أن يغتسل، عن قيس بن عاصم أنه أسلم فأمره النبى صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر (أى بالماء ممزوجًا بورق النبق لأنه أبلغ فى النظافة)، رواه الخمسة إلا ابن ماجه.
وعن أبى هريرة أن ثمامة أسلم، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: "اذهبوا به إلى حائط بنى فلان (والحائط البستان) فمروه أن يغتسل" رواه أحمد.
والحديثان يدلان على وجوب الغسل على الكافر إذا أسلم، وهو مذهب أحمد بن حنبل والهادي وغيره، وذهب الشافعي إلى أن غسل الكافر مستحب لا واجب، وحمل الأمر فى الحديثين على الندب بقرينة أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يأمر كل من أسلم بالغسل، ويترك بعضهم، وقال أبو حنيفة بوجوب الغسل على الكافر إذا أسلم وهو جنب، وباستحبابه له إذا أسلم على غير جنابة.
5- الموت: إذا مات المسلم وجب تغسيله إلا الشهيد، عن أم عطية قالت: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته فقال: "اغسلنها ثلاثًا أو خمسًا أو أكثر من ذلك إن رأيتن بماء وسِدْر، واجعلن فى الأخيرة كافورًا أو شيئًا من كافور، فإذا فرغتن فآذننى، فلما فرغنا آذناه فأعطانا حقوه (يعنى إزاره) فقال: أشعرنها إياه"، رواه الجماعة، وروى أحمد أن النبى صلى الله عليه وسلم قال فى قتلى أحد: "لا تغسلوهم فإن كل جرح أو كل دم يفوح مسكًا يوم القيامة" ولم يصل عليهم، وهذا هو مذهب الأئمة الاربعة، وزاد الحنفية أن الباغي -وهو الخارج عن طاعة الخليفة- لا يُغَسَّل إذا مات احتقارًا له، كما أن الشهيد لا يغسل احترامًا له.
مسألة: من وجد بللا ولم يذكر احتلامًا فعليه الغسل، ومن ذكر احتلامًا ولم يجد بللا فلا غسل عليه، عن عائشة -رضى الله عنها- قالت: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلامًا فقال: يغتسل، وعن الرجل يرى أنه قد احتلم ولا يجد البلل فلا غسل عليه، فقالت أم سليم: المرأة ترى ذلك عليها الغسل؟ قال: نعم إنما النساء شقائق الرجال" رواه الخمسة إلا النسائي.
وقد أجمع الأئمة على أن من ذكر الاحتلام ولم يجد البلل لا غسل عليه.
واختلفوا فى المسألة الثانية فقال الشافعية: إذا شكَّ بعد الانتباه من النوم فى كون البلل منيًّا أو مذيًا لم يتحتم عليه الغسل؛ بل له أن يحمله على المنى فيغتسل أو على المذي فيغسله ويتوضأ.
وقال الحنابلة: ينظر فإن قد سبق نومه سبب يوجب لذة كفكر أو نظر فلا يجب عليه الغسل ويحمل ما رآه على المذي، وإن لم يسبق نومه سبب يوجب لذة فيجب عليه الغسل، والأحوط العمل بالحديث(8).
الغسل وأحكامه
ثانيًا: الأسباب التى يسن لها الغسل:
1- الجمعة:
عن ابن عمر رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل" رواه الجماعة.
وعن سمرة بن جندب أن نبى الله صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ للجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فذلك أفضل" رواه الخمسة إلا ابن ماجه؛ فإنه رواه من حديث جابر بن سمرة، وهو سنة مؤكدة حتى قال بعض العلماء بوجوبه.
2- العيدان:
عن الفاكهي بن سعيد (وكان له صحبة) أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يغتسل يوم الجمعة ويوم عرفة ويوم الفطر ويوم النحر، وكان يأمر أهله بالغسل فى هذه الأيام"، رواه عبد الله بن أحمد فى المسند، وابن ماجه ولم يذكر الجمعة.
3- غسل الميت:
عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "من غسَّل ميتًا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ"، وعن عبد الله بن أبى بكر وهو ابن عمرو بن حزم أن أسماء بنت عميس امرأة أبى بكر الصديق رضى الله عنه غسَّلت أبا بكر حين توفى ثم خرجت فسألت من حضرها من المهاجرين، فقالت: "إن هذا يوم شديد البرد وأنا صائمة فهل علىَّ من غسل؟ قالوا: لا"، رواه مالك فى الموطأ.
ولهذا قال أكثر الأئمة -ومنهم مالك وأصحاب الشافعي- بأن الغُسل من غُسل الميت مستحب، وقال أبو حنيفة: لا يجب ولا يستحب: وقال بعض العلماء بوجوبه.
4- الإحرام والوقوف بعرفة ودخول مكة:
عن زيد بن ثابت أنه رأى النبى صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله (أى لإحرامه) واغتسل. رواه الترمذي.
وعن جعفر بن محمد عن أبيه أن عليًا -كرم الله وجهه- كان يغتسل يوم العيدين ويوم الجمعة ويوم عرفة، وإذا أراد أن يحرم. رواه الشافعي.
وعن ابن عمر أنه كان لا يقدم مكة إلا إذا بات بذي طوى (مكان بباب مكة) حتى يصبح ويغتسل ثم يدخل مكة نهارًا، ويذكر عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه فعله. أخرجه مسلم.
5- غسل المغمى عليه إذا أفاق:
عن عائشة رضى الله عنها قالت: "ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أصلى الناس؟ فقلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، فقال: ضعوا لى ماءً فى المخضب (وعاء يوضع فيه الماء) قالت: ففعلنا فاغتسل، ثم ذهب لينوء (أى لينهض) فأغمى عليه، ثم أفاق فقال: أصلى الناس؟ فقلت: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، فقال: ضعوا لى ماء فى المخضب، قالت: ففعلنا فاغتسل، ثم ذهب لينوء فأغمى عليه، ثم أفاق فقال: أصلى الناس؟ فقلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله"، فذكرت إرساله إلى أبى بكر، وتمام الحديث متفق عليه.
وقد زاد الأئمة -رضوان الله عليهم- استحباب الغسل للطواف، ولصلاة الكسوف والخسوف والاستسقاء، ولدخول المدينة، وللطواف، ولمن تاب من ذنب، ولمن قدم من سفر، ولحضور مجامع الناس، وللوقوف بمزدلفة، حتى قال الأحناف: ولمن لبس ثوبًا جديدًا، ولفزع أو ظلمة شديدة، وعند دخول منىً يوم النحر لرمى الجمار، والله أعلم(9).
الغسل وأحكامه
ثالثًا: صفة الغسل:
أى الكيفية التى يعملها الإنسان إذا أراد أن يغتسل، وقبل أن نفصلها نبدأ بذكر صفة غسل النبى صلى الله عليه وسلم مجملة:
عن عائشة -رضى الله عنها- أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه، ثم يُفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يأخذ الماء ويدخل أصابعه فى أصول الشَعر، حتى إذا رأى أنه قد استبرأ حثى على رأسه ثلاث حثيات (يعنى غرفات)، ثم أفاض على سائر جسده، ثم غسل رجليه. أخرجه البخاري ومسلم.
وفى رواية لهما: ثم يخلل بيديه شعره، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات.
وعن ميمونة رضى الله عنها قالت: "وضعت للنبى صلى الله عليه وسلم ماءً ليغتسل به، فأفرغ على يديه فغسلهما مرتين أو ثلاثًا، ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسل مذاكيره، ثم دلك يديه بالأرض، ثم مضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ويديه، ثم غسل رأسه ثلاثًا، ثم أفرغ على جسده، ثم تنحى من مقامه فغسل قدميه"، قالت: "فأتيته بخرقة فلم يردها وجعل ينفض الماء بيده"، رواه الجماعة، وليس لأحمد والترمذي نفض اليد.
وعن جبير بن مطعم قال: تذاكرنا غسل الجنابة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أما أنا فآخذ ملء كفى فأصب على رأسي، ثم أفيض بعد ذلك على سائر جسدي"، رواه أحمد.
تفصيل أحكام الغسل:
1- إذا أردت أن تغتسل فلتسمِّ الله ولتنوِ الغسل لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات"، والنية فرض عند الشافعية والمالكية، وسُنة عند الأحناف، وشرط صحة عند الحنابلة.
2- ثم تغسل الفرج وما يتصل به، وتزيل النجاسة إن كانت على البدن، وتدلك يدك بعد ذلك بالأرض لما علمت من فعله صلى الله عليه وسلم فى حديث ميمونة، وذلك كله سنة؛ أى يصح الغسل بدونه، ولكنه يستحب.
3- ثم تتوضأ وضوءك للصلاة وتؤخر غسل الرجلين إلا إن كنت على شىء مرتفع كالكرسي أو القبقاب؛ فلا بأس بغسلهما مع الوضوء، وذلك كله سنة أيضًا؛ لما علمت من حديث عائشة وميمونة، وتهتم بالمضمضة والاستنشاق؛ لأنهما فرضان عند الأحناف.
4- ثم تفيض الماء على رأسك لما علمت من فعله صلى الله عليه وسلم، ويجب على الرجل أن ينقض شعر رأسه حتى يصل الماء إلى أصوله؛ لحديث علىّ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من ترك موضع شعرة من جنابة لم يصبها الماء فعل الله به كذا وكذا من النار، قال على: "فمن ثم عاديت شعري"، رواه أحمد وأبو داود، وزاد: "وكان يجز شعره رضى الله عنه".
وأما المرأة فإن كان شعرها مضفورًا فلا يجب عليها نقضه عند أبى حنيفة لحديث أم سلمة قالت: "قلت يا رسول الله، إنى امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنتقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا، إنما يكفيك أن تحثى على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين"، رواه الجماعة إلا البخاري، وقال الشافعي بوجوب نقضه، ووافقه المالكية إلا للعروس التى تزين شعرها دفعًا للحرج، وفرّق الحنابلة بين الغسل للجنابة، فقالوا بعدم نقض الشعر فيه، لحديث أم سلمة المتقدم، وبين الغسل للحيض أو للنفاس لحديث عروة عن عائشة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لها وكانت حائضًا: "انقضى شعرك واغتسلى"، رواه ابن ماجه بإسناد صحيح، ولكل إمام مذهبه ودليله.
5- ثم يفيض الماء على بدنه ثلاثًا ويبدأ بالشق الأيمن؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "ابدءوا بميامنكم"، ويعمم بالماء ما غار من جسده كعزق السُرَّة، ويزيل كل حائل يمنع وصول الماء إلى ما تحته كعجين وشمع وقذى فى عينه، وينزع خاتمه الضيق أو يحركه حتى يصل الماء إلى ما تحته، وتحرك المرأة قرطها (الحلق) فى أذنها ليصل الماء إلى ثقبه، ويستتر عن الأعين؛ لحديث يعلى بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يغتسل بالبراز (أى فى الخلاء) فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إن الله عز وجل حيي ستير يحب الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر" رواه أبو داود والنسائي.
ولا يسرف فى الماء؛ فقد روت عائشة أنها كانت تغتسل هى والنبي صلى الله عليه وسلم فى إناء واحد يسع ثلاثة أمداد أو قريبًا من ذلك (والمد ملء اليدين)، ويُدلِّكُ ما يستطيع من جسده؛ لقول الإمام مالك بفرضية الدلك، ولا يكلف استعمال منديل أو غيره للوصول إلى تدليك الأماكن التى لا تصل إليها يده؛ لأن عليه أن يدلك ما يستطيع فقط، ولم ينقل عن النبى أنه استخدم شيئًا للدلك فى غسله، والله أعلم(10).
الغسل
رابعًا: حكمته:
لغسل الجنابة حِكَم عظيمة وأسرار نافعة نذكر منها حكمتين عظيمتين:
الأولى: صحية، وهي أن المشاهد بعد الأسباب الموجبة للغسل من نزول المنى أو الجماع أو الحيض.. إلخ أن الجسم يكون فى همود والدم فى ركود، والغسل يجدد هذا النشاط، ويعيد للجسم حيويته، وذلك إلى ما فيه من نظافة وطهر، ولا تخفى فوائد النظافة على أحد.
والثانية روحية، وهي أن الجسم فى وقت مباشرته لما يوجب الغسل يكون كله مستغرقًا فى اللذة يشعر بها كل جزء من أجزائه، وذلك معلوم معروف؛ فكان من المناسب أن يقوم هذا الجسم بعبادة عامة تشمل كل أجزائه، وتعوض كل ما فقده من غفلته عن الله -تبارك وتعالى- حين استغراقه فى لذته الخاصة؛ فكانت هذه العبادة هى الغسل، وما أمرنا الله بشىء إلا وفيه الخير لنا، وما نهانا عن شىء إلا لضرره }وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف: 157] ولله الفضل والمنة.
خامسًا:
يستحب أن يبادر الإنسان بغسل الجنابة ولا يتأخر فى أدائه؛ فقد ورد وعيد فيمن أخر الغسل بغير عذر، روى البزار بإسناد صحيح عن ابن مسعود قال: "ثلاثة لا تقربهم الملائكة الجنب والسكران والمتضمخ بالخلوق".
(ومعنى المتمضخ بالخلوق: الذي يتطيب بطيب ممزوج من الزعفران وغيره من أنواع الطيب بحيث يكون لونه تغلب فيه الصفرة والحمرة)، وإذا أراد أن ينام وهو جنب، فيستحب له الوضوء قبل النوم؛ لحديث السيدة عائشة -رضى الله عنها- قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب غسل فرجه وتوضأ وضوءه للصلاة" رواه الجماعة، وقال بعض العلماء بوجوب ذلك، والجمهور على أنه مستحب؛ فيلزم المحافظة على ذلك إن لم يتيسر له الغسل أو وجد فيه مشقة.
سادسًا: حكم دخول الحمام:
يحرم على الرجال دخول الحمام بغير إزار، ويحرم على النساء مطلقًا إلا لمريضة أو نفساء، عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر من ذكور أمتى فلا يدخل الحمام إلا بمئزر، ومن كانت تؤمن بالله واليوم الآخر من إناث أمتى فلا تدخل الحمام" رواه أحمد، وأخرج أبو داود والترمذي من حديث عائشة -رضى الله عنها- أنها قالت لنسوة دخلن عليها من نساء الشام: "لعلكن من الكورة (أى من المقاطعة) التى يدخل نساؤها الحمام، قلن: نعم، قالت: أما إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من امرأة تخلع ثيابها فى غير بيت زوجها إلا هتكت ما بينها وبين الله من حجاب" وكل رجاله رجال الصحيح، وعن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنها ستفتح لكم أرض العجم، وستجدون فيها بيوتًا يقال لها الحمامات، فلا يدخلنها الرجال إلا بالإزار، وامنعوا النساء إلا مريضة أو نفساء" رواه أبو داود وابن ماجه.
وإذا كان هذا النهى الشديد للرجال عن دخول الحمامات بدون إزار وللنساء عن دخولها بدون عذر مع أن الحمامات المقصودة فى الأحاديث الشريفة بيوت مستورة، فما بالك بحمامات البحر، وما فيها من منكرات وموبقات يندى لها جبين الإنسانية؟! فمن كان فى قلبه مثقال ذرة من إيمان وجب عليه ألا ينزل حمام البحر إلا بالتحفظ الشديد، وأن يمنع نساءه من زوجته وبناته وأخواته وقريباته ومن له عليهن ولاية من نزول البحر مطلقًا، فمن خالف فعليه إثمه، وحسبه ذنبًا وعذابًا أنه يتحدى أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويخرج عن أمره، ويعرض نساءه لأن يهتكن الحجاب بينهن وبين الله بنص الحديث الشريف، إلى ما فى ذلك من عظيم المفاسد الدينية والخلقية والدنيوية.
سابعًا: دخول الطهارة الصغرى:
وهي الوضوء تحت الطهارة الكبرى وهي الغسل، واعلم أن الغسل يكفي عن الوضوء؛ فمن اغتسل فقد طهر من الحدثين؛ لما روى عن ابن عمر مرفوعًا وموقوفًا أنه قال لما سئل عن الوضوء بعد الغسل: "وأي وضوء أعم من الغسل؟" رواه ابن أبى شيبة، وقد أجمع على ذلك الائمة الأربعة وغيرهم، ولم يخالف فيه إلا داود وأبو ثور.
من نزل البحر وهو ينوى الغسل، ثم تمضمض، واستنشق، ودلك جسمه؛ فقد طهر من الحدثين، وكذلك من وقف تحت المشن (الدش)، وتمضمض، واستنشق، ودلك جسمه؛ فقد طهر منهما كذلك على كل مذهب من الأربعة ومذاهب الجملة، والله أعلم(11).
التيمم
معناه وحكمه:
التيمم فى الشرع معناه: قصد استعمال الصعيد الطاهر لمسح الوجه واليدين بنية استباحة ما منعه الحدث لمن لم يجد الماء، أو خشي الضرر من استعماله، وهو مشروع وثابت بالكتاب والسنة والإجماع خصوصية لهذه الأمة.
فأما الكتاب فقد قال الله تعالى: }وَإِنْ كُنْتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنْكُم مِّن الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيِكُمْ [النساء: 43]، وسبب نزول هذه الآية الكريمة فيما روت عائشة -رضى الله عنها- قالت: خرجنا مع النبى صلى الله عليه وسلم فى بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء انقطع عقد لى، فأقام النبى صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فأتى الناس إلى أبى بكر رضى الله عنه فقالوا: ألا ترى إلى ما صنعت عائشة؟ فجاء أبو بكر والنبي صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام، فعاتبني وقال ما شاء أن يقول، وجعل يطعن بيده فى خاصرتي، فما يمنعني من التحرك إلا مكان النبى صلى الله عليه وسلم على فخذي، فقام حتى أصبح على غير ماء، فأنزل الله تعالى آية التيمم فتيمموا. قال أسيد بن حضير: "ما هى أول بركتكم يا آل أبى بكر"، قالت: "فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته" رواه الستة إلا الترمذي.
وأما السنة فالأحاديث الواردة فى التيمم كثيرة جدًا، ومنها -وهو يدل على الخصوصية كذلك- حديث جابر رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلى، نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لى الأرض (وفى رواية ولأمتي) مسجدًا وطهورًا؛ فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لى الغنائم ولم تحل لأحد قبلى، وأعطيت الشفاعة، وكان النبى يبعث لقومه خاصة وبعثت للناس عامة" رواه الشيخان.
وقد أجمعت الأمة على جوازه ومشروعيته للجنب وغيره، ولم يخالف هذا الإجماع أحد إلا ما حكى عن إبراهيم النخعي من عدم جوازه للجنب، ولا دليل عليه، والسنة خلافه كما رأيت، وكما سترى.
قال فى فتح الباري: واختلف هل التيمم رخصة أو عزيمة؟ وفصل بعضهم فقال: هو عزيمة لفقد الماء، ورخصة للعذر أ هـ. والقول بأنه رخصة أوضح.
أسبابه:
وسببه حدوث ما يوجب الوضوء أو الغسل من الأمور المتقدمة مع فقد الماء، أو العجز عن استعماله؛ فيتيمم المحدث حدًا أكبر أو أصغر إذا فقد الماء الكافي لطهارته، أو عجز عن استعماله، ويؤدى بتيممه هذا ما كان يؤديه بالطهارة المائية. عن عمران بن حصين قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سفر فصلى بالناس، فإذا هو برجل معتزل، فقال: ما منعك أن تصلى؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك" متفق عليه.
وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن أعرابيًا جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: "إنى أكون فى الرمل أربعة أشهر أو خمسة، فيكون فينا النفساء والحائض والجنب.. فما ترى؟ قال: عليك بالتراب"، أخرجه أحمد، والطبراني فى الأوسط، وأبو يعلى، وقال فيه: "عليك بالأرض"، وفى سنده المثنى بن الصباح ضعفه الأكثر، ووثقه ابن معين، وعنه أنه ضعيف يكتب حديثه.
وفقد الماء يتحقق عند الحنفية ببعده مقدار ميل وهو: أربعة آلاف ذراع فلكية (وهي 48.375سنتيمترًا) فيكون الميل 1855مترًا، وعند المالكية ببعده ميلين على هذا الحساب، وعند الشافعية ببعده أكثر من نصف فرسخ؛ أى أكثر من ميل ونصف، وعند الحنابلة ببعده عرفا، ولعل هذا الأخير هو أقرب التقديرات لروح الأحاديث المطهرة.
ومن فقد الماء فى العمران وجب عليه أن يطلبه ما دام وقت الصلاة، وبوجوب هذا الطلب قال الأربعة، ومن فقده فى السفر يطلبه إن ظن قربه، أو كان مع رفقته وظن أنهم لا يمنعونه، أو أمكنه شراؤه منهم أو من غيرهم بغير غبن فاحش ما دام فى الوقت سعة على تفصيل فى كيفية الطلب فى المذاهب.
فإن كانت على بدنه نجاسة وعنده ماء لا يكفي إلا لرفع الحدث إذا زالت النجاسة أزالها ويتيمم اتفاقًا.
ومن كان محدثًا وعنده ماء لا يكفي للطهارة فهو فى حكم المعدوم عند الحنفية والمالكية والثوري والأوزاعي.
وقال الشافعية فى المشهور عنهم وداود: يجب استعماله فيما يفي به، ويتيمم للباقي؛ لحديث: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم".
وأسباب العجز عن استعمال الماء خمسة:
1- خوف الضرر: فمن خاف من استعمال الماء بغلبة الظن، أو تجربة، وإخبار طبيب مسلم حاذق.. حدوث مرض أو زيادته أو تأخير برئه تيمم، والشافعية يرون شرط الطبيب الحاذق فقط متى صدقه المتيمم، ولا تكفي التجربة على الراجح عندهم، وفى حديث جابر رضى الله عنه قال: "خرجنا فى سفر، فأصاب رجلا منا حجر فشجه فى رأسه، ثم احتلم فسأل أصحابه: هل تجدون لى رخصة فى التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبروه بذلك، فقال: قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؛ فإنما شفاء العى السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصر أو يعصب على جرحه ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده" رواه أبو داود والدارقطني، وابن ماجه. وعلى هذا إجماع الأربعة والجمهور.
2- خوف البرد؛ فمن خاف أن يهلكه البرد، أو يضره إذا استعمل الماء فله أن يتيمم لحديث عمرو بن العاص رضى الله عنه أنه: لما بعث فى غزوة ذات السلاسل قال: احتلمت فى ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له، فقال: "يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فقلت: ذكرت قول الله تعالى }وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء: 29] فتيممت ثم صليت، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئًا"، رواه أحمد وأبو داود والدارقطني، وعلقه البخاري.
ومن أمكنه تسخين الماء بحيث يندفع بذلك خوف البرد فلا عذر له.
3- الخوف من عدو يحول بينه وبين الماء.
4- الاحتياج للماء للشرب لنفسه أو رفيقه أو حيوان أو دابة، وكذلك إذا احتاج إليه لعجن، أو إزالة نجاسة لا يعفى عنها، عن على رضى الله عنه فى الرجل يكون فى السفر فتصيبه الجنابة، ومعه الماء القليل يخاف أن يعطش فيتيمم ولا يغتسل. رواه الدارقطني.
5- فقد الآلة التى يستخرج بها الماء، ولو لم يخش فوات الوقت عند الثلاثة، وقال المالكية: بل إن خشي الفوات.
ففى هذه الأحوال يتيمم الإنسان لعجزه عن استعمال الماء مع وجوده(12).
(2) التيمم
كيفيته وأعماله:
1- النية: بأن ينوى التيمم واستباحة ما منعه الحدث، وهي ركن عند المالكية والشافعية، وشرط صحة عند الحنفية والحنابلة، ومحلها القلب، ولا يتلفظ بها.
2- استعمال الصعيد للتطهر: بضربة واحدة للوجه والمرفقين، وهو مذهب أحمد وداود وعطاء ومكحول والأوزاعي وابن المنذر وعامة أصحاب الحديث، وهو رواية عن مالك، والزهري لحديث عمار بن ياسر قال: "سألت النبى صلى الله عليه وسلم عن التيمم، فأمرني بضربة واحدة للوجه والكفين"، أخرجه أحمد وأبو داود والطحاوي والبيهقي، والترمذي وصححه. وقد ورد نحوه من طرق أخرى "أو ضربتين"، وهو مذهب أبى حنيفة والشافعي والثوري وعلى وابن عمر وأكثر الفقهاء؛ لحديث جابر رضى الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: "التيمم ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين" رواه الحاكم والبيهقي، والدارقطني وقال: رجاله ثقات، والصواب وقفه، وقال الحاكم والذهبي: إسناده صحيح، ولا يلتفت إلى قول من يمنع صحته، وقد ورد من طرق أخرى. والمشهور عند المالكية أن الضربة الأولى فرض، والثانية سنة وهو مذهب حسن فى الجمع بين الأدلة.
3- مسح الوجه، وهو ركن اتفاقًا للآية الكريمة }فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ [النساء: 43]؛ فيمسح جميع بشره وشعر الوجه، ومنه العذار، والبياض الذي بينه وبين الأنف والوَتَرَة (بفتحات، وهي الفاصل بين طاقتي الأنف) والأجفان، وما فوق العينين.
4- مسح اليدين، وهو ركن اتفاقًا للآية }فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيِكُمْ [النساء: 43]، ومذهب الحنفية والشافعية أن الفرض إلى المرفقين، وعند المالكية والحنابلة إلى الرسغين، وقد ورد كلاهما فى رواية أحاديث التيمم، قال البغوى: "الأخذ بأحاديث الضربتين والمرفقين أخذ بالاحتياط، وعمل بأحاديث الطرفين لاشتمال الضربتين على ضربة، ومسح الأكثر على الأقل دون العكس".
5- الموالاة: بمعنى أنه لا يفصل بين مسح العضوين بقدر ما يقطع التتابع، وهي ركن عند المالكية مطلقًا وسنة عند الحنفية والشافعية، وعند الحنابلة ركن فى التيمم عند حدث أصغر لا أكبر.
6- الترتيب، وهو ركن عند الشافعية فى التيمم مطلقًا، وعند الحنابلة فى التيمم عن حدث أصغر، وسنة عند الحنفية والمالكية.
ومن سنن التيمم: التسمية، والسواك بعد التسمية، وقيل تفل التراب، وإقبال اليدين بعد وضعهما فى التراب وإدبارهما، ونفضهما بقدر ما يتناثر التراب من يده منعًا من تلويث الوجه وإثباتًا للسنة، وتفريج الأصابع حال الضرب، وتخليل اللحية، وتخليل الأصابع قبل مسح اليدين أو بعده، والتيامن، واستقبال القبلة، وتأخيره إلى الوقت المستحب بحيث يدرك الصلاة قبل خروج الوقت الذي يندب تأخيرها إليه.
ومن مكروهاته: تكرير المسح، وترك سنة من سننه.
ما يتيمم به:
اتفقوا على صحة التيمم بالتراب الطاهر، وقال أبو حنيفة ومحمد: يصح بكل طاهر من جنس الأرض كالتراب والرمل والحجر والحصى والنَّورَة والكحل والزرنيخ، وقال أبو يوسف: لا يصح إلا بالتراب والرمل فقط، وقال مالك: يصح بكل ما كان من جنس الأرض إذا لم يحرق، وجوزه بعض أصحابه بكل ما اتصل بالأرض حتى الثلج، وهو رأى الأوزاعي والثوري، وسبب الاختلاف تحديد معنى الصعيد، وما جاء فى بعض رواية الحديث.
ما يباح بالتيمم:
التيمم يرفع الحدث الأصغر والأكبر، ويباح به كل ما لا يصح إلا بالطهارة كدخول المسجد للمحدث، وحمل القرآن، ويصلى به ما شاء من فرض ونفل ما لم يحدث، أو يجد الماء، وفى حديث أبى ذر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين" أخرجه أحمد والأربعة وحسنه الترمذي وصححه الحاكم، وبهذا قال الحنفيون وإبراهيم النخعي وعطاء وابن المسيب والزهري والليث بن سعد والحسن البصرى، وقال المالكية والشافعية والحنابلة: إن التيمم مبيح فقط لا يرفع الحدث لظاهر حديث عمرو بن العاص المتقدم فلا يصلى به عند المالكية إلا فرض واحد، وما شاء من نفل بعده، وعند الشافعية فرض واحد وما شاء من نوافل قبله أو بعده، وعند الحنابلة ما شاء من فرض ونفل فى الوقت.
نواقض التيمم:
ينقضه ما ينقض الوضوء والغسل، ووجود الماء، والقدرة على استعماله عند الحنفية والشافعية والحنابلة قبل الصلاة أو حال أدائها، وعند المالكية قبل الصلاة فقط، وينقضه طول الفصل بين التيمم والصلاة عند المالكية فقط، وتنقضه الردة، وخروج الوقت، وخلع ما يجوز المسح عليه.
فائدة:
من صلى بالتيمم فلا إعادة عليه إذا وجد الماء؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يأمر عمرو بن العاص بالإعادة، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة ومالك والثوري وابن المنذر، وقال الشافعية: إذا تيمم للمرض أو للخوف أو نحو ذلك فلا إعادة عليه، وإذا تيمم لفقد الماء وهو مسافر لمعصية فى مكان يغلب فيه وجود الماء فعليه الإعادة، فإن كان سفره لطاعة وفى مكان يندر فيه الماء فلا إعادة عليه، ولا دليل على هذا التفصيل. والله أعلم(13).
واجبات الصيام
1- النية: عن ابن عمر عن حفصة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من لم يُجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له" رواه الخمسة، ومعنى هذا أن الذي لا ينوى الصوم قبل الفجر يبطل صومه، وهو مذهب الأربعة رضوان الله عليهم، إلا أن الإمام مالكًا قال بجواز الصيام إذا نوى فى أول الشهر صوم الشهر كله؛ لأنه اعتبره كله عبادة واحدة، فمن يبيت النية للشهر فى أول ليلة أجزأه ذلك عن الباقي.
واعلم أن ذلك فى رمضان، وأما فى النفل فالأمر كذلك عند مالك، وعند الثلاثة لا يشترط تبييت النية لحديث عائشة رضى الله عنها: "دخل علىَّ النبى صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال: هل عندكم من شىء؟ فقلت: لا، فقال: فإنى إذن صائم، ثم أتانا يومًا آخر فقلنا: يا رسول الله أُهْدِى لنا حَيْسٌ فقال: أرينيه، فلقد أصبحت صائمًا، فأكل" رواه الجماعة إلا البخاري.
2- واعلم كذلك أن النية معناها العزم القلبي، ولا يشترط التلفظ.
3- الإمساك: عن إيصال شىء إلى الجوف عمدًا مع تذكر الصوم فيفسد الصوم بالأكل والشرب والسُّعُوط (النشوق) والحقنة الشرجية، وكذلك الإمساك عن قربان النساء؛ لأن هذا هو معنى الصوم شرعًا.
الأعمال التى اختلف فى إفسادها للصوم:
1- الحجامة: وهي الفَصْد المعروف بأخذ الدم، لا تفطر عند الجمهور؛ لحديث ابن عباس رضى الله عنه: "أن النبى صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم" رواه أحمد والبخاري، وقال الحنابلة بأن الحجامة تفطر.
2- القيء: من غلبه القيء قهرًا فليس بمفطر، ومن قاء عمدًا فقد أفطر؛ لحديث أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "من ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمدًا فليقض" رواه الخمسة إلا النسائي، وذرعه يعنى غلبه.
3- الاكتحال: والاكتحال لا يفطر عند الجمهور؛ لحديث عائشة أن النبى صلى الله عليه وسلم اكتحل فى رمضان وهو صائم، رواه ابن ماجه.
ومثل الكحل فى ذلك القطرة فى العين، وهو مكروه عند مالك وأحمد، وقالا: إذا وجد الطعم يفطر.
4- المضمضة أو الاغتسال من الحر: لا يفطر عند الجمهور؛ لما ورد فى حديث ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال له: "أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم؟ قلت: لا بأس بذلك فقال صلى الله عليه وسلم: ففيم؟" رواه أحمد وأبو داود، ومعنى ففيم؟ أى: ففيم تتحرج من عملك الذي تسأل عنه وتظن أنه يفطر؟
وروى أحمد وأبو داود عن أبى بكر بن عبد الرحمن عن رجل من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رأيت النبى صلى الله عليه وسلم يصب الماء على رأسه من الحر وهو صائم".
وقال الحنفية إنه يكره الاغتسال للصائم، ومن غلبه ماء المضمضة والاستنشاق فدخل جوفه خطأ فعليه الإمساك والإعادة عند الحنفية ومالك والشافعي فى أحد قوليه، ولا شىء عليه عند أحمد بن حنبل والشافعي فى القول الثاني.
5- القُبلة للصائم: محرمة عند أبى حنيفة والشافعي فى حق من تحرك شهوته، وقال مالك: هى محرمة على كل حال، وعن أحمد روايتان وهي مع تحريمها لا تفطر؛ لحديث أم سلمة أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم، متفق عليه، فإن أنزل فقد بطل صومه، وإن أمذى لم يبطل عند الثلاثة ويبطل عند أحمد.
6- من أصبح جنبًا وهو صائم: فلا يفطر وهو على صومه عند الجمهور؛ لحديث عائشة وأم سلمة أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنبًا من جماع غير احتلام ثم يصوم فى رمضان.
الأعمال التى يبطل بها الصوم:
1- الجماع: فمن وطئ وهو صائم فى رمضان عامدًا من غير عذر كان عاصيًا وبطل صومه ولزمه إمساك بقية النهار، وعليه الكفارة الكبرى، وهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا. وقال مالك: "هى على التخيير إن شاء فعل الصوم أو العتق أو الإطعام"، والإطعام عنده أولى، وهي على الزوج على الأصح من مذهب الشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة ومالك: على كل واحد منهما كفارة.
عن أبى هريرة قال: "جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت يا رسول الله، قال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي فى رمضان، قال: هل تجد ما تعتق رقبة؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد ما تطعم ستين مسكينًا؟ قال: لا، ثم جلس، فأتى النبى بعرق فيه تمر، فقال: تصدق بهذا، قال: فهل على أفقر منا يا رسول الله؟ فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا، فضحك النبى صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، وقال: اذهب فأطعمه أهلك". رواه الجماعة.
2- الأكل أو الشرب: فمن أكل أو شرب عامدًا صحيحًا مقيمًا فى يوم من شهر رمضان يجب عليه القضاء، وإمساك بقية النهار عند الأربعة، ثم اختلفوا فى وجوب الكفارة؛ فقال أبو حنيفة ومالك: عليه الكفارة، وقال الشافعي فى أرجح قوليه وأحمد: لا كفارة عليه(14).
مرخصات الإفطار
يجب الفطر فى رمضان لأصناف من الناس كما يجوز لأصناف آخرين، وإليك مجمل الأحكام فى ذلك:
أولا: الحائض والنفساء: يجب الفطر عليهما فى رمضان ولا قضاء عليهما، ومن ذلك تعلم أن تمسُّك بعض السيدات بصوم رمضان مع وجود هذا المانع ليس من الدين فى شىء.
ثانيًا: المسافر مسافة تبلغ مسافة القصر أو تزيد عليها، والمريض الذي يرجى برؤه: يجوز لهما الفطر لقول الله تبارك وتعالى: }وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: 185]، ولحديث عائشة رضى الله عنها: "أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبى صلى الله عليه وسلم: أصوم فى السفر (وكان كثير الصيام)؟ فقال: إن شئت فصم وإن شئت فأفطر" رواه الجماعة. فإن صاما صح وإن تضررا بالصوم كره، وأخذ بعض أهل الظاهر بظاهر الأدلة فقال بحرمة الصوم، وقال الأوزاعي بأفضلية الفطر، ومن أصبح صائمًا ثم سافر لم يجز له الفطر عند الثلاثة، وقال أحمد: يجوز، وإذا قدم المسافر وهو مفطر أو برئ المريض أمسكا بقية النهار وعليهما القضاء.
ثالثًا: المريض الذى لا يرجى برؤه والشيخ الكبير: لا صوم عليهما وتجب عليهما الفدية عند أبى حنيفة وهو الأصح من مذهب الشافعي، والفدية عن كل يوم نصف صاع من بر أو صاع من شعير، وعند الشافعي عن كل يوم مد، وقال مالك: لا صوم ولا فدية، وهو قول للشافعية، وقال أحمد: يطعم نصف صاع من تمر أو شعير أو مدًا من بر، لما روى عن عطاء: "سمع ابن عباس يقرأ: }وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ قال ابن عباس: ليست بمنسوخة؛ هى للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينًا" رواه البخاري.
رابعًا: الحامل والمرضع: يباح لهما الفطر إذا خافتا على نفسيهما أو ولديهما، لكن إذا صامتا صح، فإن أفطرتا تخوُّفًا على الولد لزمهما القضاء والفدية عن كل يوم مد على الراجح من مذهب الشافعي، وبه قال أحمد، وقال أبو حنيفة لا كفارة عليهما، وعن مالك روايتان؛ إحداهما الوجوب على المرضع دون الحامل، والثانية لا كفارة، وإن أفطرتا خوفًا على نفسيهما فعليهما القضاء؛ لحديث أنس بن مالك الكعبي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن الحبلى والمرضع الصوم" رواه الخمسة.
ملاحظة: يجوز للمسافر الفطر بالأكل والجماع عند الثلاثة، وقال أحمد: لا يجوز له الفطر بالجماع، فإذا فعل ذلك فعليه الكفارة الكبرى.
من آداب الصوم:
واعلم أن للصوم آدابًا يجب مراعاتها ليحصل ثوابه وتكمل الفائدة منه، ومن هذه الآداب:
أولا: التحفظ من الغيبة واللغو؛ لحديث أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه" رواه الجماعة إلا مسلمًا والنسائي.
ثانيًا: تعجيل الفطر وتأخير السحور: لحديث سهل بن سعد أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" متفق عليه، وعن أبى ذر أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لا تزال أمتي بخير ما أخروا السحور وعجلوا الفطر" رواه أحمد(15).
زكاة الفطر
أولا: حكمها وعلى من تجب:
زكاة الفطر واجبة بالاتفاق عند الأربعة على الصغير والكبير ما دام يملك ما يفضل عن قوت يوم العيد وليلته لنفسه ولعياله الذين يعولهم.
واشترط أبو حنيفة أن يكون مالكًا لنصاب الزكاة المفروضة فاضلا عن مسكنه وفرسه وسلاحه.
وروى ابن عمر رضى الله عنه قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير على العبد والحر والصغير والكبير من المسلمين، وأثوبها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة" متفق عليه.
وهو كما ترى أصل من أصول التشريع فى هذا الباب، وقد علمت آراء فقهاء الأئمة فى حكمها.
ثانيًا: وقت وجوبها:
تجب بطلوع الفجر أول يوم من شوال عند أبى حنيفة، وقال أحمد بغروب الشمس ليلة العيد، وعن مالك والشافعي قولان بالفجر أو بالغروب.
ثالثًا: عمن تخرج:
يخرجها الشخص عن نفسه وعمن تلزمه نفقتهم من عياله الصغار وخادمه وزوجته، وقال أبو حنيفة: هو غير مكلف بالإخراج عن زوجته، وروى الدارقطني "أدوا صدقة الفطر عمن تمونون"، ورواه البيهقي أيضًا.
رابعًا: وقت إخراجها:
أفضل أوقات إخراجها بعد فجر العيد وقبل صلاته إجماعًا، واتفقوا على جواز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين، واختلفوا فى التعجيل قبل ذلك؛ فقال أبو حنيفة: يجوز تقديمها على شهر رمضان، وقال الشافعي: يجوز التقديم من أول الشهر، وقال مالك: لا يجوز التقديم عن وقت الوجوب، ويحرم تأخيرها عن صلاة العيد، فإن أخرها عن الصلاة لم تسقط عنه بل تظل دينًا واجب القضاء.
وقد علمت فى حديث ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر بها أن تؤدى قبل الصلاة"، وللبخاري فى رواية "وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين".
خامسًا: مقدارها ومم تخرج:
اتفقوا على أنه يجوز إخراجها من خمسة أصناف: البر والشعير والتمر والزبيب والأقط، إذا كان قوتًا إلا أن أبا حنيفة قال: الأقط لا يجزئ بنفسه وتجزئ قيمته، وقال الشافعي: كل ما يجب فيه العشر فهو صالح لإخراج الزكاة منه، كالأرز والذرة والدُّخْن، ولا يجزئ الدقيق والسويق عند مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة وأحمد: يجزئان، ويجوز عند أبى حنيفة إخراج القيمة نقودًا، وأفتى بذلك بعض متأخري الشافعي، وقالوا: هو الأحب إذا كان أنفع للفقير، ولا بأس بتقليدهم فى ذلك.
والواجب من كل ذلك صاع بصاع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأصناف الخمسة، وقال أبو حنيفة: يجزئه من البر نصف صاع، روى أبو سعيد الخدري قال: كنا نخرج زكاة الفطر
إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعًا من طعام، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من زبيب، أو صاعًا من أقط؛ فلم نزل كذلك حتى قدم علينا معاوية المدينة فقال: إنى لأرى مُدَّين من سمراء الشام يعدل صاعًا من تمر، فأخذ الناس بذلك. قال أبو سعيد: فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه" رواه الجماعة، لكن البخاري لم يذكر فيه: "قال أبو سعيد فلا أزال..." إلخ.
ثم اختلفوا فى مقدار الصاع؛ فقال الشافعي ومالك وأحمد وأبو يوسف: هو خمسة أرطال وثلث بالعراق، وقال أبو حنيفة: ثمانية أرطال بالعراق، وهو بالمصري قدحان عند الشافعي؛ فالكيلة تكفي عن أربعة، وقدح وثلث عند مالك وأحمد؛ فالكيلة تكفي عن ستة، وهو عند أبى حنيفة قدحان وثلثا قدح؛ فالكيلة من غير القمح عن ثلاثة، ومن القمح عن ستة. وقد علمت أنه يجوز إخراج قيمة ذلك نقودًا عنده، ولا بأس من تقليده إذا كان ذلك أنفع، ويشترط إنقاء الحب من الطين والفلت ونحوه.
سادسًا: لمن تصرف؟
مذهب الشافعية وجوب صرف الفطرة إلى الأصناف الثمانية، وقال الاصطخرى -من أئمتهم-: يجوز صرفها إلى ثلاثة من الفقراء والمساكين، وجوزها مالك وأبو حنيفة وأحمد إلى فقير واحد، قالوا: ويجوز فطرة جماعة إلى فقير واحد، ووافق على ذلك جماعة من أئمة الشافعية كابن المنذر والرويانى وأبى إسحاق الشيرازي. وإذا أخرج فطرته جاز له أخذها إذا دفعت إليه وكان محتاجًا عند الثلاثة، وقال مالك: لا يجوز له ذلك. ولا يجوز دفعها إلى الوالدين أو الأولاد إلا مالكًا؛ فإنه أجاز صرفها للجد والجدة وأبناء البنين لسقوط نفقتهم عنده. ويجوز صرفها إلى الإخوة والعمومة عند أبى حنيفة ومالك والشافعي، وعن أحمد روايتان أظهرهما أنه لا يجوز، ولا يجوز صرفها إلى كافر، وعند أبى حنيفة يجوز صرف الزكوات للذمي، ولايجوز صرفها لبنى هاشم.
واختلفوا فى نقل الزكاة من بلد إلى بلد آخر؛ فقال أبو حنيفة: يكره إلا أن ينقلها إلى قرابة محتاجين أو قوم هم أشد حاجة من أهل بلده فلا يكره، وقال مالك: لا يجوز إلا برأي الإمام لحاجة بلد إليها، وللشافعي قولان أصحهما عدم جواز النقل، والمشهور عن أحمد أنه لا يجوز نقلها إلى بلد آخر يبعد مسافة القصر مع وجود المستحقين فى بلده.
سابعًا: حكمتها وعقوبة من لم يؤدها:
هى طهرة للصائم، وكأنها تطبيق على تأثره بالصوم من حيث السخاء والجود، وهي كذلك غنى للفقراء والمساكين عن السؤال فى هذا اليوم حتى يتساووا مع غيرهم من أبناء الأمة فى السرور بالعيد.
عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث" الحديث رواه أبو داود وابن ماجه، وصححه الحاكم. ومن حديث ابن عمر: "اغنوهم عن الطواف فى هذا اليوم" رواه الدارقطني وابن عدى.
وعن جرير رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صوم رمضان معلق بين السماء والأرض لا يرفع إلا بزكاة الفطر" رواه أبو حفص بن شاهين فى فضائل رمضان، وقال: حديث غريب جيد الإسناد.
وعن كثير بن عبد الله المزنى عن أبيه عن جده قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية }قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى: 14-15] قال: أنزلت فى زكاة الفطر"، رواه ابن خزيمة فى صحيحه(16).
هدى النبى صلى الله عليه وسلم فى العيدين
1- عن أنس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: "قد أبدلكم الله بهما خيرًا منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر" أخرجه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح. أول عيد شرع فى الإسلام عيد الفطر فى السنة الثانية من الهجرة، وفى الحديث دليل على أن إظهار السرور فى العيدين مندوب.
2- عن ابن بريدة عن أبيه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم، ولا يطعم يوم عيد الأضحى حتى يصلى" رواه أحمد.
3- وعن أم عطية الأنصارية قالت: "أُمِرْنا أن نخرج العواتق والحيّض فى العيدين يشهدن الخير ودعوة المسلمين، ويعتزل الحيّض المصلى" متفق عليه.
4- وعن على رضى الله عنه قال: "من السُّنة أن يخرج إلى العيد ماشيًا" رواه الترمذي.
وروى ابن ماجه من حديث أبى رافع وغيره أنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى العيد ماشيًا، ويرجع ماشيًا.
5- وعن أبى سعيد رضى الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، وأول شىء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس على صفوفهم فيعظهم ويأمرهم" متفق عليه.
ومنه تعلم أن صلاة العيد بالمصلى أفضل من صلاتها فى المسجد، وبه قال الأئمة الثلاثة، ووافقهم الشافعي إلا إن كان فى البلد مسجد يسع أهله جميعًا فتكون الصلاة فيه أفضل، وقد كان مصلى النبى صلى الله عليه وسلم مكانًا بينه وبين مسجده ألف ذراع، ولم يترك النبى صلى الله عليه وسلم صلاة العيد فيه إلا يوم أصابهم المطر، كما فى حديث أبى هريرة.
6- وعن ابن عمر قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يصلون العيدين قبل الخطبة" متفق عليه.
وإنما قدّمت الخطبة قبل الصلاة فى عهد عثمان رضى الله عنه وهو اجتهاده، والسنة ما علمت.
7- وعن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم صلى العيد بلا أذان ولا إقامة، واختاره أبو داود، وروى الشافعي عن الثقة عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذن فى العيد أن يقول: "الصلاة جامعة"، وهذا يصلح سندًا لمن يفعلون ذلك.
8- وعن أبى سعيد قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلى قبل العيد شيئًا، فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين"، وهو يدل على منع التنفل قبل العيد.
9- وعن ابن عباس -رضى الله عنهما- أن النبى صلى الله عليه وسلم صلى يوم العيد ركعتين لم يصل قبلها ولا بعدها، أخرجه السبعة.
وهو دليل على أن صلاة العيد ركعتان، وهل هى واجبة أو فرض كفائي أو سنة مؤكدة؟ أقوال عند الأئمة.
10- وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال نبى الله صلى الله عليه وسلم: "التكبير فى الفطر سبع فى الأولى وخمس فى الأخيرة، والقراءة بعدهما كلتيهما" أخرجه أبو داود.
وعليه العمل بين الناس اليوم، وإن كان أبو حنيفة يرى أن التكبير خمس فى الأولى قبل القراءة وثلاث فى الثانية بعدها. قد روى ذلك عن النبى صلى الله عليه وسلم.
11- وعن أبى واقد الليثي رضى الله عنه قال: "كان النبى صلى الله عليه وسلم يقرأ فى الفطر والأضحى بقاف واقتربت" أخرجه مسلم. وفى بعض الآثار أنه كان يقرأ بالأعلى والغاشية؛ فكلاهما سنة.
وكان صلى الله عليه وسلم يسكت بين كل تكبيرتين سكتة لطيفة، ولم يحفظ عنه ذكر معين بين التكبيرتين، ولكن ذكر الخلال عن ابن مسعود أنه قال: "يحمد الله ويثنى عليه ويصلى على النبى صلى الله عليه وسلم".
وكان ابن عمر مع تحريه الاتباع يرفع يديه مع كل تكبيرة.
12- عن ابن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ يوم العيد فى طريق، ورجع فى طريق أخرى.
خاتمة:
التكبير فى العيدين مشروع عند الجماهير، وقد اختلفوا فى وقته، والأوضح أنه فى الفطر من مغرب أول ليلة من شوال إلى خروج الإمام لصلاة العيد فى الأماكن المختلفة جهرًا، والوارد فى صيغه كثير، وروى البيهقي بإسناد إلى سلمان "أنه كان يعلمهم التكبير ويقول: كبروا: الله أكبر، الله أكبر كبيرًا -أو قال كثيرًا- اللهم أنت أعلى وأجل من أن تكون لك صاحبة أو يكون لك ولد أو يكون لك شريك فى الملك أو يكون لك ولى من الذل وكبره تكبيرًا، اللهم اغفر لنا، اللهم ارحمنا". وأصح ما ورد فيه ما رواه عبد الرازق عن سلمان بسند صحيح قال: "كبروا: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرًا"، وفى الأمر سعة ويندب لبس أحسن الثياب والتطيب والغسل، وقد ورد ذلك فى عدة آثار(17).
الأضحية
حكمها وفضلها والترهيب من تركها:
1- عن عائشة رضى الله عنها أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "ما عمل ابن آدم يوم النحر عملا أحب إلى الله من هراقة دم، وإنه لتأتى يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها وإن الدم ليقع من الله -عز وجل- بمكان قبل أن يقع على الأرض؛ فطيبوا بها نفسًا" رواه ابن ماجه والترمذي.
2- وعن زيد بن أرقم قال: "قلت أو قالوا: يا رسول الله ما هذه الأضاحي؟ قال: سنة أبيكم إبراهيم، قالوا: ما لنا منها؟ قال: بكل شعرة حسنة قالوا: فالصوف؟ قال: بكل شعرة من الصوف حسنة" رواه أحمد وابن ماجه.
3- وعن أبى هريرة قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا" رواه أحمد وابن ماجه.
وهي سنة مؤكدة عند مالك والشافعي وأحمد وصاحبي أبى حنيفة رضى الله عنهم، وواجبة عند أبى حنيفة على المقيمين فى الأمصار.
وقتها:
1- عن أنس قال: قال النبى صلى الله عليه وسلم يوم النحر: "من كان ذبح قبل الصلاة فلْيُعِدْ" متفق عليه، وللبخاري "من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين".
ومن ذلك تعلم أن وقتها بعد صلاة العيد إجماعًا، ثم إن الشافعي رضى الله عنه قال: يدخل وقتها بطلوع الشمس يوم النحر ومُضىِّ قدر صلاة العيد والخطبتين، صلى الإمام أو لم يصل، وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: من شروط صحة الأضحية أن يصلى الإمام ويخطب إلا أن أبا حنيفة قال: يجوز لأهل السواد أن يضحوا إذا طلع الفجر التالي.
2- وعن سليمان بن موسى عن جبير بن مطعم عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "كل أيام التشريق ذبح" رواه أحمد، ومذهب الشافعي أن آخر وقت للتضحية آخر أيام التشريق، وقال أبو حنيفة ومالك: آخر الثاني من أيام التشريق.
نوعها وشروطها:
1- عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تذبحوا إلا مسنة، إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن" رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي.
2- وعن عقبة بن عامر قال: "ضحينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجذع من الضأن" رواه النسائي، والجذع من الضأن: ما له سنة تامة، وقيل: ما له ستة أشهر، وقيل: سبعة، وقيل: ثمانية.
3- وعن جابر بن عبد الله قال: "نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة" رواه مسلم.
4- ومن حديث ابن عباس قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى السفر، فحضر الأضحى، فاشتركنا فى البقرة سبعة، وفى البعير عشرة".
ومن ذلك تعلم أن الأضحية تجوز من الماعز مما زاد عن سنة، وتجوز من الضأن مما بلغ سنة، وقيل ثمانية أشهر، وقيل ستة كما علمت، ومن البقر عن سبعة، ومن الإبل عن عشرة، وتجزئ الأضحية عن أهل بيت، والأفضل الإبل ثم البقر ثم الغنم، وهو مذهب الشافعي، وعند مالك بعكسه.
5- عن على رضى الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضحى بأعضب القرن والأذن" رواه الخمسة (والعضب النصف فأكثر)، وعن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربع لا تجوز فى الأضاحي: العوراء البَين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضلعها، والكسير التى لا تنقى" رواه الخمسة وصححه الترمذي.
وتجوز التضحية بالخصى، ومنه تعلم أن من الواجب أن تختار ضحيتك سليمة من العيوب حتى تجزئ عنك.
آدابها:
1- يستحب لمن عزم على التضحية ألا يأخذ من شعره وأظافره أيام العشر حتى يضحى؛ لحديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحى فليمسك عن شعره وأظافره" رواه الجماعة إلا البخاري.
2- عليه أن يسمى ويكبر ويدعو بمأثور الدعاء، والأفضل أن يذبح بيده؛ لأن هذا فعل النبى صلى الله عليه وسلم؛ فقد جاء فى حديث عائشة: "وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه، ثم قال: بسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد، ومن أمة محمد، ثم ضحى" رواه أحمد ومسلم وأبو داود.
3- أن يأكل من لحمها، ويتصدق منه، ويهدى منه؛ لفعله صلى الله عليه وسلم فى حديث شريف: "كلوا وأطعموا وادخروا" رواه أحمد ومسلم.
4- ألا يعطى الجزار شيئًا من جلودها وبقاياها؛ لحديث على -كرم الله وجهه- "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بُدُنه، وأن أتصدق بلحومها وجلودها وأجلتها، وألا أعطى الجزار منها شيئًا، وقال: نحن نعطيه من عندنا" متفق عليه.
ومن ذلك تعلم خطأ الناس فى مصر فى الذبح قبل صلاة العيد، وفى إعطاء الجزارين جلد الأضاحي، وإنما عليهم أن يتصدقوا بها أو يستخدموها. والله أعلم(18).
"أنواع الربا وأحكامه"
بحث فقهى واقتصادي
أولا: النصوص فى تحريم الربا:
جاء القرآن الكريم بتحريم الربا، ونهى الناس عن التعامل به، وبين أنه ضار بهم غير مفيد فى التعامل، بل يجلب عليهم وعلى أموالهم النقص والبوار، وأنهم سيحاسبون على هذه المعاملة فى الآخرة كذلك، وينعى على الأمم التى تعاملت به من قبل.
1- فالآية الكريمة فى سورة آل عمران تقول: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى أُعِدِّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران: 130-132].
2- والآية الكريمة فى سورة النساء تبين أن اليهود نُهوا عن الربا، ولكن أكلوه وتعاملوا به، فعاقبهم الله عليه؛ فذلك قوله تعالى: }فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء: 160-161].
3- وفى سورة الروم يقول القرآن: }وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِى أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِنْدَ اللهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ [الروم: 39].
4- ولا خلاف بين العلماء فى أن من آخر آيات القرآن نزولا آيات الربا فى سورة البقرة، وقد عرضت له بشىء كثير من التفاصيل والتحديد، وتلك هى قول القرآن الكريم: }الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ * وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة: 275-281].
أخرج البخاري عن ابن عباس أن آخر آية نزلت آية الربا. وأخرج البيهقي عن عمر مثله.
قال فى الإتقان: والمراد بها }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَا [البقرة: 278]. وعن أحمد، وابن ماجه عن عمر: "من آخر ما نزل آية الربا".
وعن ابن مردويه عن أبى سعيد الخدري قال: خطبنا عمر فقال: "إن من آخر القرآن نزولا آية الربا".
وقد ورد من طرق كثيرة أن بين نزول هذه الآيات وبين وفاة النبى صلى الله عليه وسلم واحدا وثمانين يومًا، وفى بعضها تسع ليال.
وإنما أوردنا هذه الروايات؛ ليعلم أن هذه الآية هى التى تقيد ما سبقها من الآيات التى لا تحديد فيها.
وقد وردت الأحاديث الكثيرة بالنهى عن الربا، والتنفير منه، وبيان أضراره، ونهى المسلمين عن التعامل به؛ وذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الربا: آكله وموكله وشاهديه وكاتبه" من حديث البخاري ومسلم، وهو من السبع الموبقات، كبائر المعاصي فى حديث آخر، وهكذا.
ثانيًا: تحديد معنى الربا الشرعي:
من النصوص السابقة لفظًا وروحًا نعلم أن تعريف الربا فى الإسلام هين واضح، لا جدل فيه، وهو "ما زاد على رأس المال"، وسمه بعد ذلك ما شئت: سعر الفائدة، أو الربا، أو ثمن الأجل؛ فتلك أسماء لا تغير حقيقة المسمى، وذلك مأخوذ من قول الله تبارك وتعالى: }وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ [البقرة: 279].
وأكد هذا المعنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فى خطبة حجة الوداع -وهي من آخر خطبه وبياناته-: "ألا وإن كل ربا موضوع، وأول ربا أبدأ به ربا العباس بن عبد المطلب".
وروى ابن جرير عن السدى: أن الآيتين نزلتا فى العباس بن عبد المطلب عم النبى، ورجل من بنى المغيرة سلفا فى الربا إلى أناس من ثقيف من بنى عمرو هم: بنو عمرو بن عمير، فجاء الإسلام، ولهما أموال عظيمة فى الربا، فأنزل الله }ذَرُوا مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ [البقرة: 278].
وأخرج عن ابن جريج قال: كانت ثقيف قد صالحت النبى صلى الله عليه وسلم على أن ما لهم من ربا على الناس، وما كان للناس عليهم من ربا فهو موضوع، فلما كان فتح مكة استعمل عتاب بن أسيد على مكة، وكانت بنو عمر بن عمير بن عوف يأخذون الربا من المغيرة، وكان بنو المغيرة يربون لهم فى الجاهلية، فجاء الإسلام ولهم عليهم مال كبير، فأتاهم بنو عمر يطلبون رباهم، فأبى بنو المغيرة أن يعطوهم فى الإسلام، ورفعوا ذلك إلى عتاب بن أسيد، فكتب عتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية، فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: إن رضوا وإلا فأذنهم بحرب.
فهانحن نرى أن كل ما زاد على رأس المال قد وضع، ولم يجز للمقرض أن يأخذ إلا رأس ماله فقط.
وأما الاحتجاج بقيد الأضعاف المضاعفة فى آية آل عمران، فهو احتجاج فى غير موضعه؛ فإن ذلك تصوير للظلم الفاحش فى الربا، ولم يرد به تحديد معناه. على أن آية البقرة آخر الآيات نزولا فالتحديد لها، وقد جرى عليها عمل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، وهم أعرف الناس بمدلولات القرآن؛ فلا محل بعد ذلك للجدل والخلاف.
ثالثًا: الصور التطبيقية المنصوص على أنها ربا:
وردت النصوص فى عدة صور بأنها ربا محرم شرعًا؛ فمن هذه الصور:
1- القرض بالزيادة على رأس المال، وهو: ربا الجاهلية المنصوص عليه فى الآيات الكريمة، والمعبر عنه فى كتب الفقه الإسلامي: "أَنظِرنى أزدْك" فهذا ربا محرم بالإجماع، وقد سبق دليله، ولعل هذا هو الربا الشائع الآن فى المعاملات الاقتصادية العصرية.
2- النقص فى المال فى نظير تقريب الأجل، وهو المعبر عنه فى عرف الفقهاء "ضع وتعجل" وهو محرم كذلك، وقد مر الخلاف فيه عن بعض الفقهاء.
3- الربا فى البيع، وفيه تفصيل.
أ- الأصناف التى نص على أنها ربوية ستة، جمعها حديث عبادة بن الصامت رضى الله عنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح إلا سواء بسواء عينًا بعين. فمن زاد أو ازداد فقد أربى".
ويشير إليها كذلك حديث عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء" أى إلا يدًا بيد.
ب- هل لا يكون الربا فى البيع إلا فى هذه الأصناف على اعتبار أنها منصوص عليها أم يكون فى غيرها قياسًا عليها؟ وهل علة القياس والتحريم الكيل والوزن والجنس أم بعض هذه؟ أم يعتبر معها الطعم والادخار أو لا يعتبر ذلك؟ كل هذا موضوع خلاف مفصل فى كتب الفقه الإسلامي.
ج- يحرم فى الأصناف الستة، وكل ما يلحق بها -عند من ألحق بها غيرها- النَّساء وهو التأخير فى التقابض بالإجمال، والدليل على ذلك حديث عمر رضى الله عنه، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الربا فى النسيئة".
د- ويحرم فى هذه الأصناف الستة، وما يلحق بها -عند من ألحق بها غيرها- التفاضل، وهو:
الزيادة فى المقدار من غير تأجيل عند الجمهور من الفقهاء، ودليلهم فى ذلك حديث عبادة، وأحاديث أخر كثيرة. وخالف فى ذلك ابن عباس، وبعض أهل الفقه مستدلين بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ربا إلا فى النسيئة"، ثم صح عنه أنه رجع عن رأيه هذا، وتبع رأى الجمهور فى القول بتحريم التفاضل.
هـ-لفقهاء المسلمين فى بيان الأصناف والعلل والملحقات، وما إلى ذلك تفصيل واسع، وأظن أن هذا النوع من التعامل ليس كثير التداول الآن فى صور المعاملات العصرية.
4- بيوع الآجال: ومنها أن يبيع الرجل نقدًا بثمن، وإلى أجل بثمن أكثر منه، أو أن يبيع السلعة بثمن إلى أجل، ثم يشتريها نقدًا بثمن أقل منه فى صور كثيرة مفصلة فى كتب الفقه.
وهذه البيوع محل خلاف فى الحكم بين فقهاء المسلمين؛ فمنهم من اعتبرها ربا، واستدل بحديث عائشة رضى الله عنها، وقد قالت لها امرأة: "يا أم المؤمنين إنى ابتعت (أى اشتريت) من زيد عبدًا على العطاء بثمانمائة درهم، فاحتاج إلى ثمنه، فاشتريته منه قبل محل الأجل بستمائة، فقالت عائشة: بئسما شريت، وبئسما اشتريت، أبلغى زيدًا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب، قالت: أرأيت إن تركت وأخذت الستمائة دينار؟ قالت: نعم فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف"، ومنهم من اعتبرها بيعًا لا ربا فيه ولا حيلة، وأخذ بالقياس، ولم يثبت عنده حديث عائشة.
ملاحظة: ولعل ما يجمع كثيرًا من الصور التطبيقية المنصوص عليها ما ذكره بعض الفقهاء من أن أصول الربا فى الإسلام خمسة:
أنظرنى أزدك – ضع وتعجل – والتفاضل – والنساء – وبيع الطعام قبل قبضه.
رابعًا: صور تطبيقية لم ينص عليها:
وهناك صور أخرى للتعامل لم ينص عليها، أوجدها اتساع العمران، وتشابك المصالح، واستبحار الاقتصاد عند الأفراد والأمم.
مثال ذلك: صناديق التوفير، وما يؤخذ من الفائدة عن الأموال المودعة فيها، وشركات التأمين، وسلفيات الصناعة والتجارة والزراعة، وقطع السندات والكمبيالات، وهكذا. من هذه الصور: مثل هذه الطرائق التى أوجدتها الحضارة الحديثة، منها: ما هو ربا لا شك فيه فهذا يحرم قطعًا، ويبحث عن وسائل أخرى تؤدى فوائده، وتخرج عن نطاق التحريم، ومنه: ما هو موضع شبهة قد يكون بيعًا، وقد يكون شركة، وقد يكون إجارة، وقد يكون ربا، وباب التطبيق والاجتهاد واسع كل السعة فى الإسلام.
وهناك أصل جليل ينتظم كثيرًا من فروع الحياة وشئونها فى كل نواحيها هو: إباحة النظر فى المصالح المرسلة للإمام، وتقرير ما يناسب حال الناس منها، ويحظر ما يتعارض مع هذه المصالح فى حدود القواعد الشرعية العامة.
مثال هذه المحدثات وأنواع التعامل الجديدة تختلف فيها أحكام الأفراد قطعًا بحسب ما عندهم من سعة العلم.
ولأجل أن ترتكز على أساس من المصلحة العامة لا بد من تأليف لجنة فنية من علماء الشريعة والاقتصاد تقلب وجوه الرأي، وتطبق هذه الطرائق على ما عندها من العلم، ثم تصدر للناس حكمًا يكون هو المعول عليه والمأخوذ به.
خامسًا: تبرير نظرة الإسلام للربا وبيان حكمة التحريم:
ليس الإسلام الدين الوحيد الذي انفرد بتحريم الربا، بل سبقته فى ذلك الشرائع القديمة، وقد جاء القرآن مشيرًا إلى هذا بالنسبة لليهود، فقال: }وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ [النساء: 161]، وأن كل القوانين الحديثة التى أباحته قد اشترطت فيه عدم الفحش والزيادة البالغة؛ مما يدل على شعور المقنن بما فى الربا من حيف وإرهاق.
وإذا عرفنا أن المهمة الأولى للأديان هى: تزكية النفوس وتطهير الأرواح، والبعد بها عن حدة الانغماس فى المادة، وعن الأخذ بمقاييس المادة وحدها؛ فليس يعيش الإسلام آلة مادية، لا عاطفة لها ولا روح بها، بل هو روح وإنسانية قبل أن يكون جسمًا ولحمًا ودمًا؛ ولهذا عُنيت الشرائع بالنفس البشرية كل العناية }وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا [الشمس: 7-10] }إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد: 11]، ومن العبث أن نفرض الحياة البشرية مادة، لا تسمو إلا بالأرقام وقواعد الميكانيكا.
إذا عرفنا هذا، عرفنا أن الإسلام لا يقيس الأمور فى تشريعه بالمقياس المادي فقط، بل يضع فى حسابه كذلك المعنى الروحي الإنساني الذي تهذب به النفوس وتسمو به الأرواح، وما من شك فى أن النزول عن فائدة رأس المال للمحتاج إليه مقاومةٌ للنفس وتهذيبٌ لها، وإيثارٌ للمعنى الإنساني العام عن المعنى الفردي الخاص، ويقابله كذلك النزول عن شىء من المال الخاص للفقير المحتاج دون مقابل مادي تطهيرًا وتزكية كذلك.
ففرض الزكاة وتحريم الربا مقاومةٌ للمعنى المادي فى النفس البشرية، وإيثارٌ للإنسانية العامة على الفردية الخاصة.
قد يكون فى ذلك شىء من الغرم المادي، وإن كان فى هذا نفسه نظر، ولكن ليكن هذا؛ فإن ما يربحه الإنسان من تزكية نفسه وكسب قلب أخيه أفضل عند الشريعة من هذه الدريهمات التى يبيع لها أسمى العواطف بين بنى البشرية: الرحمة والحب.
ولهذا لم يقف الإسلام -كما قدمت- عند حد تحريم الربا؛ بل أوصى بالانتظار حتى يجد المدين السعة فيسدد ما عليه، بل أوصى بما هو أكثر من ذلك: أن يتصدق الدائن برأس المال على المدين الذى لا يجد سبيلا إلى السداد؛ فذلك قول الله تبارك وتعالى: }وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ * وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 279-280]، فالذين يعيبون الأديان فى تحريم الربا غافلون عن مهمة الأديان فى إصلاح البشرية والسمو ببنى الإنسان.
والذين يريدون منها أن تنزل على حكم الجشع المادي فى نفوس الذين لم يتهذبوا بعد، يريدون منها أن تنزل لهم عن أهم أعمالها فى الحياة، وأن تعارض الحكمة فى وجودها، ومثلهم فى ذلك كمثل الذي يريد من الطبيب أن يدع المريض، بل أن يمرض مثله؛ لأن الداء قد أخذ من جسمه مأخذه.
هذا من الوجهة الروحية البحتة، ثم نعود فنلقى بعض نظرات على حكمة تحريم الربا من الوجهة المادية.. فماذا نجد؟
1- أنه يحمل على التواكل والكسل؛ فإن من الناس من يجعل كل عمله فى الحياة الإقراض بالربا.
2- ونجد: أنه يعطل النقد عن التداول، وكثرة تداول النقد فى السوق هى روح النشاط الاقتصادي.
3- ونجد: أنه غير عادل؛ فإننا نفرض المدين رابحًا دائمًا، وبذلك نبرر ما نأخذ من زيادة على رأس المال، ونقول: إنها بعض الربح الذي جاء عن هذا المال، فليس فى ذلك ظلم، مع أن هذا المدين قد يخسر بسبب العمل فى هذا المال؛ فكيف يكون الموقف إذن؟ وهل من العدل أن نأخذ منه الفائدة فى الوقت الذي سيدفع هو الخسارة الكاملة؟
4- ونجد: أنه يلقى العداوة والبغضاء فى النفوس؛ فيساعد على الجريمة والثورة.
هذه بعض الأضرار المادية الملموسة، فضلا عن انحطاطه بالمعنى الإنساني إلى هذا الدرك الواطئ من دركات المادة البحتة؛ فهل يعيب إنسان بعد هذا على الشرائع السماوية أنها حرمت الربا؟! أم من العدالة أن نعيب على البشرية المقيدة بالشهوات والأطماع أنها عاجزة عن السمو إلى هذه النظرات الكريمة؟!
سادسًا: كيف نعالج داء الربا مع عدم الاختلال الاقتصادي؟:
يتصور كثير من الاقتصاديين -ولهم بعض العذر- أن من المستحيل أن يسير النظام الاقتصادي على غير أساس الفائدة، وحجتهم فى ذلك: تركز كل الأعمال الاقتصادية الحالية على هذا النظام، وارتباط بعضها ببعض؛ مما يجعل من المستحيل على دولة من الدول أن تخرج على هذا النظام.
هذا كلام له دليله العملي القائم، ولقائليه بعض العذر؛ لأنهم ألفوا هذا النظام، ولكن هل من الصواب أن يعتقد الناس أن أى نظام من النظامات لا يمكن تغييره مهما ترسخت أصوله وتثبتت قوائمه؟ فكم من النظم خرجت عليها الإنسانية، واستبدلت بها غيرها، وظروف الحياة قُلَّب، وليس هذا فى النظام الاقتصادي وحده؛ بل هو فى كل شئون الدنيا من سياسية واجتماعية واقتصادية، بل وفى النظريات العلمية الكونية التى تعتمد على الأرقام والتجارب المحسوسة؛ فهل يقال بعد هذا: إن نظام الفائدة فى الاقتصاد لا يمكن العدول عنه؟ ومتى رضى العقل البشرى بهذا العجز واستكان إلى هذا الخمول؟ وما خلق إلا ليجاهد ويكافح فى سبيل الحق والخير، وتلك مهمته وخاصته.
أعتقد أنه لمن الممكن الميسر أن يعالج النظام الاقتصادي العام علاجًا يشفيه من داء الربا، لا أقول: إن جريمة الربا ستمحى من نفوس البشر؛ فإنه متى كانت هناك بشرية فهناك جرائم ولا بد، حتى يتطهر الناس بالروحانية الكاملة، فسيظل -مهما كان من علاج- أفراد يرابون، ولكنى أقول: إن النظام العام فى الاقتصاد يمكن أن يقوم على غير أساس الربا (الفائدة) إذا صدق العزم، واقتنع الاقتصاديون بشناعة هذه الجريمة.
لقد كان نظام الاسترقاق ضرورة بشرية فى عرف الإنسان، وما كان يشعر أحد بانحطاطه بالإنسانية وبخسه قيمتها، وما كان يجرؤ مشرع على أن يمسه أو ينال منه؛ حتى هذه الأدمغة الكبيرة من الفلاسفة لم تستطع إلا الاعتراف به وبضرورته، حتى جاء الإسلام فحاربه، وسد منافسه، ووقف فى طريقه، وقامت الدول الحديثة تحاربه كذلك؛ فنجحت، وتحررت نفوس وأرواح، وتطهرت الإنسانية من عار لصق بها منذ القدم.
ولكن الإنسانية التى تحررت من قيود الاسترقاق الأدبي وقفت أمام عبودية المال وشهوة المال، ورضيت بهذه القيود الربوية الثقيلة ولم تتحرر منها بعد. فلو هيأ الله للإنسانية أمة فاضلة توقظ ضميرها، وتفتح عينها على فظاعة هذا الجرم الشنيع، وتأخذ فى محاربته بالحزم لتعدل النظام الاقتصادي العالمي ولم يختل التوازن.
ولا نذهب بعيدًا؛ فقد وضع الإسلام علاج ذلك بالزكاة، ولأمر اقترن الربا بالزكاة فى كثير من الآيات القرآنية، فليؤخذ من مال الزكاة وصندوقها ما يغنى المقرضين عن الربا.
وعلاج فنى آخر يراه بعض الاقتصاديين: ذلك أن المهيمن على السوق الاقتصادية فى نظامنا الحديث هو: المصارف المالية، وهى التى تعتمد أكثر ما تعتمد على الفوائد إيداعًا وإقراضًا، وفى وسع هذه المصارف أن توظف معظم ودائع العملاء فى الأسهم، فتستفيد وتفيد، وتربح لنفسها ولعملائها وتقاسمهم هذا الربح، وتفيد السوق الاقتصادية فائدة جمة، وتستطيع المصارف أن تجد من أبواب الإيراد، وخدمة الاقتصاد ما لا يقع تحت حصر لتوظيف الأموال فى التجارة والصناعة، والعمولة والوساطة فى بيع المحاصيل، وبيع العملة الأجنبية، وصرف الشيكات، وتأجير الخزن، وحفظ الودائع وغيرها، وهذا من حيث إفادة نفسها وعملائها.
ومن حيث الإقراض للمحتاجين للمال؛ ففى وسعها أن تتخذ لهذا الإقراض بصورة تجعله من صلب الشركة، أو من باب العوض، أو نحو ذلك، وبهذا تستغنى تمام الاستغناء عن نظام الفائدة.
وبعد، فحسبنا دليلا على فساد التعامل بالفائدة هبوط سعرها، وبخاصة فى أيام الكساد النسبي حتى صارت اليوم فى بنك إنجلترا 2 فى المائة، وذلك مما يخفف بعض أضرار الربا، ويجعل الناس لا يشعرون بها شعورًا قويًا، ولكن الإسلام لا يعرف أنصاف الحلول، بل هو حازم فيما يريد، عملىٌّ يواجه الأحكام فى صراحة ووضوح؛ فهو يحرم الربا من أساسه، وإن كان ذرة على حمل.
ولا شك أن تعامل المصريين بالربا، وبخاصة مع الأجانب منهم قد أضر بالدولة والأفراد ضررًا نشكو منه مر الشكوى.
وإنا لنأمل أن يثابر أساتذة الاقتصاد على درس هذه الموضوعات دراسة وافية شافية حتى يرفعوا عنا هذا الكابوس الربوي، ويقدموا بذلك لأمتهم وللعالم كله أجل الخدمات(19).
المصادر
- مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 2 – صـ10 : 11 – 28صفر 1352هـ / 22يونيو 1933م.
- مجلة التعارف – السنة الخامسة – العدد 21 – صـ4 – 7جمادى الآخرة 1359هـ / 13يوليو 1940م.
- مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 2 – صـ10 : 11 – 28صفر 1352هـ / 22 يونيو 1933م.
- مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 5 – صـ8 : 10 – 20ربيع الأول 1352هـ / 13يوليو 1933م.
- مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 6 – صـ7 : 9 – 27ربيع الأول 1352هـ / 20يوليو 1933م.
- مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 8 – صـ8 : 10 – 11ربيع الآخر 1352هـ / 3أغسطس 1933م.
- مجلة التعارف – السنة الخامسة – العدد 15 – صـ5، 6 – 25ربيع الآخر 1359هـ / 1يونيو 1940م.
- مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 10 – صـ11 : 13 – 25ربيع الآخر 1352هـ / 17أغسطس 1933م.
- مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 11 – صـ14، 15 – 3جمادى الأولى 1352هـ / 24أغسطس 1933م.
- مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 12 – صـ9، 10 – 10جمادى الأولى 1352هـ / 31 أغسطس 1933م.
- مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 13 – صـ7، 8 – 17جمادى الأولى 1352هـ / 7سبتمبر 1933م.
- مجلة التعارف – السنة الخامسة – العدد 16 – صـ5 – 2جمادى الأولى 1359هـ / 8 يونيو 1940م.
- مجلة التعارف – السنة الخامسة – العدد 20 – صـ4 – 29جمادى الأولى 1359هـ / 5يوليو 1940م.
- مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 25 – صـ5 : 6 – 18رمضان 1352هـ / 4يناير 1934م.
- مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 26 – صـ10، 11 – 25رمضان 1352هـ / 11يناير 1934م.
- مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 26 – صـ12 : 14 – 25رمضان 1352هـ / 11يناير 1934م.
- مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 26 – صـ15 : 16 – 25رمضان 1352هـ / 11يناير 1934م.
- مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 33 – صـ8-9 – 6 ذي الحجة 1352هـ / 22مارس 1934م.
- مجلة النذير – السنة الثانية – العدد 14 – صـ11 : 18 – 3ربيع الآخر 1358هـ / 23مايو 1939م.