مناجاة من تلميذ إلى أستاذه

بقلم الأستاذ عمر التلمساني

وبدأ العام الرابع يطوي من الصفحات ما ستظل رسومه خالدات على وجه الزمان، وباعدت الأيام بيننا وبين الحبيب مرحلة أخرى، كلا، والحق أنها قاربت المدى بيننا وبين النّجي مرحلة حتى نلقاه في مقعد صدق عند مليك مقتدر، إخوانًا على سرر متقابلين، وأمسكت بالقلم، أنا أكتب عن حسن البنا؟ يا للقدر المرير! لقد كنا نؤثر بأعمارنا أن يكتب هو فينا جميعًا، ولكنها إرادة الله، ولا راد لقدره، وإنا لمحتسبون.

أيها الحبيب: أية ناحية من نواحيك يستطيع هذا القلم الهزيل أن يتحدث عنها؟ وكل نواحيك كريم جليل. حنوك علينا؟ برك بنا؟ كنت تحنو حتى لنلمس الحنان مجسمًا، وتدنو حتى يخيل إلينا أنك صنونا، وتتواضع وتتواضع حتى نظن في أنفسنا أننا شيء مرموق، ونفيق ونعود إلى أنفسنا، فيبهرنا ضياؤك، ويغمرنا فيض فتوحاتك القدسية، فنعلم أننا السري في ضياء القمر، والضاربون في وضح النهار.

كذاك الشمس تبعد أن تُسامى               ويدنو الضوء منها والشعاع

أيها الحبيب: لقد صاغك الله بقدر، فجئت على قدر، وكذلك الأفذاذ، ومنحك الله المدد، ففاض من معينك الصافي ونبعك المتدفق أعطرُ ورد ينهل منه الناهلون، لا مددك ينتهي ولا هم يرتوون.

سقاني الحب كأسًا بعد كأس                 فما نفد الشراب وما رويت

أيها الحبيب: نحن الظامئون إلى حوضك المورود، وأنت الناهل من غياض الكوثر سقيًا وريًا، نحن المتشوقون إلى الفيض منك والنور، وأنت المشرف من علياء جنانك ومستقرك الخالد، نحن الضارعون هداية وتوفيقًا، فاسأله لنا بمقامك عنده رضا وفضلا، وتألقًا وحبًا، عسى نلقاك راضين مرضيين في الجنات العلى.

أيها الحبيب: إن زرعك يينع عامًا بعد عام، وإن غرسك ليزدهي حينًا بعد حين، وإن آثارك الجُلَّي ستبقى كما هي منيعة على عاديات الزمان، وإن دعوة زعيمك ونبيك - صلوات الله وسلامه عليه - التي جليتها في أبدع حلة وأبهى بيان ستظل تقارع الدهر فتقرعه، وتصارع الضلال فتصرعه، وتقيم الشواهد كل يوم على صدق ما تقول فيه، ألم ترو أرضَ فلسطين الشهيدة دماءُ الأبرار استجابة لداعي الله؟؟

ألم تشهد رُبَى القنال صولات الخُلَّص من إخوانك، يبعثون الرعب والفزع رهيبًا في قلوب العشرات من الألوف المُسْتَخْفين وراء الخنادق والأسلاك، أليس هذا كله جنى يديك الكريمتين ونبت رُبَاك الوارفة.

أيها الحبيب: لسنا البالغين فيك بعض ما نريد، ولسنا القادرين على أن نوفيك حقك، ولكن عندما يباعد التاريخ بين ما قدمته لدينك وقومك، وبين هذا الجيل، سيبصر الناس أيَّ رجل كنت، وأيَّ مكافح متواضع أنت، وما كان لمن هذا شأنه أن يُعَدّ في الذاهبين.

أيها الحبيب: إن ذكرنا لك لا يجدينا قدر ذكرك لنا، وهكذا يتعاظم فضل الله عليك، حتى لنستمد منك أينما كنت، فاذكرنا عند ربك، واذكر مريديك فهم على العهد باقون، ولله عاملون.

أيها الحبيب: لقد كانت الجنة مثواك، فقلوبنا الحري محاريب أوتْ إليها روحك الطاهرة، تطوف بها آناء الليل وأطراف النهار، فسبحان الذي خلقك فسواك فعدلك، ثم اجتباك إلى الرفيق الأعلى شهيدًا مبرورًا، لئن كانت الغرفات وعدن بعض ما وعد الله جزاء حقًا وأجرًا وفاقًا، فقرارة المُهَج معقل حبك الذي لا تزيده الأيام إلا جوى وضرامًا فيرده اليقين والصبر بردًا وسلامًا.

أيها الحبيب: إنا لموقنون بأنك قد وجدت ما وعدك ربك حقًا، وإنا لموقنون بأن مقامك في الذين يرفع الله الحجاب عن وجهه الكريم ليمتعهم بالنظر إليه غُدُوًّا وعشيًّا، فليس للذين أحسنوا سوى الحسنى وزيادة، "وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة".

أيها الحبيب: وهكذا يقف العيّ بي عند حد النجوى الخالصة، وحسبي أنها فيض قلب محب ما ترك الدعاء لك فاتحة النهار وخاتمة الليالي عَلّهُ يحظى بالوصول.

أيها الحبيب: إن مناجاتك تبعث في القلب من المعاني ما لا أقدر على تبيانه، وتثير من المشاعر ما يقصر قلمي عن الإفصاح به، عليك صلوات من الله ورحمة، ولئن قصر اللسان، وكثيرًا فعل، فقد يفي القلب، وربما ولعل، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

المصدر: الدعوة – السنة الثالثة – العدد (104) – 25جمادى الأولى 1372هـ / 10فبراير 1953م

المقال التالي بناء الأخلاق
المقال السابق الدستور في فكر الإمام حسن البنا