كتابات الإمام حسن البنا الأدبية

إعداد موقع الإمام حسن البنا

انطلق الإمام الشهيد حسن البنا في شئون حياته من منطلق إسلامي شامل لكل معانيه، فلم يفرق بين السياسة والدين، ولا بين الاقتصاد والجندية، فالكل سواء في شريعة الإسلام.

لكن السؤال: هل كتب الأستاذ البنا شيء في الآدب؟؟

فيما يبدوا وما تركه لنا الإمام البنا أنه اهتم بالآدب كونه معلما للغة العربية وخريج كلية دار العلوم المهتمة بشئون اللغة العربية وآدابها، إلا أنه لم يشتهر أو يعرف عنه أنه ترك تراث في الأدب أو دواوين شعر. لكن مع ذلك ترك بعض الكتابات في النقد الأدبي أو تشجيع بعض الأدباء الذين اهتموا بالشأن الإسلامي. لكن مع ذلك ترك الإمام البنا عدة مقالات أشبه بالقصص القصيرة التربوية التي هدف من ورائها بث المضامين التربوية في نفوس الناس.

 

فوق المصطبة

أخذ الطالبان يمشيان وسط الحقول الخضراء ويمتعان أنظارهما بجمال الكون ساعة الأصيل، وقد أخذت الشمس تميل للغروب وتلون الأفق بلونها الأحمر القاني، وتختفي شيئا فشيئا فى طيات الليل المقبل، والفلاحون يروحون من حقولهم يرددون أغانيهم وأناشيدهم الوطنية المشجية ويسوقون أثقالهم ومواشيهم إلى حيث الراحة من عناء النهار.

علا صوت المؤذن بتسبيحة الليل وارتفع يذكر الله، فقصد الطالبان مصلى على شاطئ الترعة وأديا فريضة الصلاة ثم انصرفا على أن يقضيا جزءا من الليل فى "الدوار" عند العمدة، حيث يجتمع رجال القرية يسمرون فى ليالي الصيف الصافية.

تكامل المجلس وأخذ القوم يتجاذبون أطراف الحديث فقال العمدة:

إن الحكومة أخذت تجمع من الناس تبرعات للدفاع الوطني حتى تستطيع أن تدافع عن البلاد وأن يكون لها جيش قوى يحميها من هجوم الأعداء، فليستعد كل منكم يا رجال للتبرع بما تجود به نفسه وكله خير وفى سبيل الله والوطن، وطبعا سيظهر فى هذا الأمر من عنده وطنية ممن ليست عنده وطنية.

فقال عم الحاج إبراهيم: وطن إيه ووطنية إيه يا عمده! ونحن ماذا يعود علينا من الوطن والوطنية، الباشوات والرؤساء هم الذين يستفيدون وهم الذين يحبون أنفسهم ويعملون على أخذ الفوائد كلها لهم والفلاحون محرومون من كل شىء، فعلى هؤلاء الرؤساء أن يقوموا بحقوق الوطن، أما نحن فلا نعرف هذه الأشياء التى تتحدثون عنها، والوطن ماذا فعل لنا؟ والوطنية ماذا استفدنا؟ منها وما معنى هذا الوطن الذي تتحدثون عنه؟ وما معنى هذه الوطنية التى يقولون عنها؟ فهمونا أولا معنى هذا الكلام وفائدته ثم اطلبوا منا بعد ذلك ما تريدون.

فضحك على أفندي الطالب بالجامعة المصرية والتفت إلى زميله الشيخ محمد الطالب بالجامعة الأزهرية، ثم توجه بالكلام إلى الحاج إبراهيم وبقية الآخرين من رجال العزبة وقال لهم: 

الحق يا إخواني كلام عم الحاج إبراهيم فيه حق وفيه ما يحتاج إلى بيان وتفصيل؛ أما الحق الذي فيه فهو أن رؤساءنا وزعماءنا والظاهرين فينا لا يزالون يحبون أنفسهم أكثر من الأمة ويعملون لمصلحتهم قبل مصلحة الفلاح والصانع والعامل والناس أمثالنا وأمثالكم. هذا صحيح ولكن نحن نتحمل بعض الذنب لأننا لا ننصحهم، ولا نصارحهم بهذا، ولا نرفع أصواتنا بالشكوى، ولا نخاصمهم فى الحق، بل نجاملهم ونخضع لهم ونرفعهم ونجعلهم رؤساء، مع أن هؤلاء الناس فى البلاد الأخرى فى أوربا مثلا وفى أمريكا وفى غيرها من البلاد الراقية يعتبرون أنفسهم خداما للشعب وموظفين عند الأمة، لأنهم يأخذون مرتباتهم التى يعيشون منها من عرق الفلاحين والصناع وغيرهم من الضرائب التى يدفعها هؤلاء الناس، فهم يعلمون أن سعادة هؤلاء الناس وراحتهم ستريحهم هم الآخرين، ولكن عندنا لأننا لا نجالس هؤلاء الرؤساء ولا نراقبهم فى أعمالهم ونخاف أشد الخوف من الحكومة والحكام، ونظن أنهم ناس من غير الناس، فنخافهم ونرشوهم ونتمسكن لهم ونسكت على مساويهم، لأننا نتصور أن مصالحنا فى أيديهم ونريد أن ننال حقوقنا بمصاحبتهم ومصادقتهم والتوسط عندهم، لهذا كله هم يخرجون على الحدود ولا يفكرون إلا فى المصلحة الشخصية لهم، ولكن من الواجب علينا أن نعرف حقوقنا ونحتفظ بكرامتنا مع كل الناس، ونؤدى للحكام حقهم قدرا من الطاعة والتعاون على المصلحة والخير، فإذا خرج الحاكم أو الرئيس الزعيم على وحدتنا وقفنا له بالمرصاد ورفعنا أصواتنا بالشكوى منه حتى يعزل من وظيفته أو يسقط من زعامته وحينئذ يضطرون إلى التفكير فينا وفى مصالحنا. هذا بخصوص الرؤساء. أما الوطن والوطنية فأمر آخر يحتاج إلى بيان وتفصيل وسأشرح لكم معنى الوطن وحقوقه، ومعنى الوطنية وفائدتها، ومعنى الأمة والحكومة لتكونوا من ذلك على بينة.

فقال الشيخ إبراهيم: كلامك جميل جدا يا على أفندي، ولكن أحب قبل أن تشرح لنا معنى الوطن والوطنيين والأمة والحكومة أن أبين لك ولحضرات المحترمين من أعمامنا وإخواننا الحاضرين نقطة تسرون لها وتعجبون منها. إنك قلت فى كلامك إن الرؤساء فى أوروبا وفى غيرها من البلاد الراقية يعتبرون أنفسهم خداما للشعب، وأن الشعوب تعرف هى الأخرى حقوقها عند الرؤساء، ولذلك يتعاون الجميع على المصلحة. وأحب أن أقول لحضراتكم أن هذا ليس خاصا بأوروبا ولا غيرها من البلاد الراقية، بل إن ديننا الإسلام الحنيف فيه هذا النظام نفسه، ولا يبعد أن تكون أوروبا نفسها قد عرفته من تاريخ إسلامنا ونقلته عن سيرة جدودنا وآبائنا ونحن قد نسينا هذا. إن سيدنا أبى بكر رضى الله عنه لما تولى الخلافة أراد أن يتاجر فقال له عمر: لا يا أبا بكر. إنك لا تستطيع أن تجمع بين التجارة والإمارة وقد اختارك المسلمون أميرا. فلا تغفل عنهم بتجارتك. فقال: ومن أين أطعم يا عمر؟ فقال: من بيت مال المسلمين. تأخذ منه راتبا يكفيك. فجمع أبو بكر رضى الله عنه الناس فى المسجد وقال لهم. أيها الناس لقد كنت أحترف لعيالي فأكتسب قوتهم وأنا الآن أحترف لكم فافرضوا لى من بيت مالكم. ففرضوا لهم نفقة رجل متوسط لا بالغنى ولا بالفقير، وكان ذلك نحوا من أربع جنيهات فى الشهر الواحد، فانظروا يا حضرات الإخوان إلى قوله رضى الله عنه "وأنا الآن أحترف لكم" ترون أنه كان يعتبر نفسه موظفا ومحترفا عند المسلمين.

وقد روى كذلك أن رجلا دخل على معاوية فقال: السلام عليك أيها الأجير. فقال له الحاضرون: قل أيها الأمير: فقال مرة ثانية: السلام عليك أيها الأجير. فأنكروا ذلك عليه فقال؛ ويحكم أليس يأكل من بيت مال المسلمين فهو أجير عندهم! فقالوا: نعم. وقال معاوية: نعم أنت محق وهم مبطلون. فانظروا كيف كانت الأمة تعرف أن الرئيس مهما علا -حتى ولو فى درجة الخلافة- فهو أجير عندها. ومن هنا كان التعاون سائدا بينهم، لا يطغى الأمير، ولا تتمرد الأمة، وكان يعمل لمصلحة الجميع. وهكذا ترون أن ديننا الحنيف لم يترك شيئا، وأن أسلافنا رضوان الله عليهم كانوا مثال الكمال فى كل شىء. 

وهنا قال على أفندي: شكرا لك يا شيخ محمد، فقد زدتنا علما بديننا، وبما أننا تأخرنا الليلة كثيرا فموعدنا السهرة القادمة إن شاء الله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(1).

 

عم سيد

كنا أطفالاً فى المدرسة ننتظر فترة الراحة بين زمن الدروس بشوق وشغف، حتى إذا جاء الوقت وثبنا إلى فناء المدرسة الفسيح فى خفة وفى نشاط، هذا يعدو وهذا يطفر وهذا يثب، وكل تلميذ يكاد يخرج من إهابه حركة ونشاطًا. وعم سيد خادم عجوز مضى عليه دهر فى المدرسة، فيه تقوى وفيه صلاح وفيه خلق ودين وفيه شفقة وعطف، فكان محببًا إلى الجميع لعطفه وشفقته ولما يقصه علينا من قصص وحكايات تتخللها حكم بارعات.

دعانا ذات يوم لنجلس إليه بعد الغداء حتى يحدثنا عن قصة طريفة، يقول عنها هو "حكاية الأندلس"، وقد عرفنا فيما بعد أنها "مأساة الأندلس الفردوس الإسلامي المفقود،" فجلسنا حوله وكأن على رؤوسنا الطير، وأخذ هو فى حديثه، فوعيت مما قال هذه الحكاية التى أنقلها طبق الأصل للقراء.

كان فى قديم الزمان بلاد واسعة تسمى "الأندلس" وكانت هذه البلاد غنية عامرة مملوءة بالخيرات، وأهلها فى نعيم عظيم وخير عميم، وكان لهم أعداء بجوارهم من الكفار، فأرادوا أن يأخذوا بلادهم ويستولوا على ملكهم، فنادى الملك وزيره وقال: دبرني يا وزير، فقال له: لبيك يا ملك الزمان، فقال له: إننا نريد أن نستولي على بلاد المسلمين المجاورة لبلادنا فما الرأي عندك فى ذلك؟ فقال الوزير: الرأي عندي أن نرسل رسولاً يزور البلاد ويتعرف أخبار الديار ثم يعود إلينا، وبعد ذلك ننظر فى الأمر، فقال الملك قد أشرت بالصواب ونطقت بالقول الذي لا يعاب، ثم أرسل فى الحال جاسوسًا خبيرًا إلى تلك البلاد ليأتيه بخبرها.

فسار هذا الجاسوس يواصل الليل بالنهار ويقطع البراري والقفار حتى وصل إلى عاصمة تلك البلاد، فإذا هى مدينة عظيمة متينة الأسوار، قوية الأبراج، محكمة التحصين، فدخلها فى زي التجار وأخذ يخترق شوارعها وطرقاتها ويتأمل نظافتها وحسن نظامها حتى اعترضه فى الطريق ولد يبكى بكاء مرًا؛ فسأله عن سبب بكائه وتلطف فى سؤاله لعله يظفر منه بخبر، فأجابه الغلام انظر أيها الرجل إلى هذه الشجرة التى تراها مد البصر، انظر إلى هذا العصفور فوق أغصانها، فنظر الرجل فإذا شجرة على بعد عظيم وفوقها عصفور لم يره إلا بصعوبة لبعد المسافة، ثم نظر إلى الولد وقال له ما لهذه الشجرة يا بنى؟ فقال الولد: إنني رميت هذا العصفور بنبلة من قوسي فلم أصبه فأنا أبكى لهذا الفشل الذي لحقنى، فقال له الرجل: خذ يا بنى ثمن النبلة ولا تبك، فقال له أيها الرجل: أنا لا يهمني ثمن النبلة، ولكن يهمني أننى أخطأت المرمى وكان يجب ألا أخطئ، فنظر إليه الرجل مستغربًا حماسته وشجاعة نفسه وعاد راجعًا إلى بلاده، فقال له الملك: ما وراءك أيها الرسول؟ فقال أيها الملك: إن هؤلاء القوم لا يمكن أن يغلبوا أبدًا، ثم حكى له ما رآه من الولد الصغير، وقال له: إذا كان هذا صغيرهم وناشئهم فكيف بأبطالهم وفرسانهم؟ فاقتنع الملك بكلامه وأحضر وزيره وقص عليه القصص، فقال أيها الملك: دعني أدبر حيلة تفسد عليهم شأنهم وتقضى على ملكهم، فقال له الملك: لك ما تريد. فغاب الوزير أيامًا ثم عاد إلى الملك فقال: أيها الملك قد رأيت رأيًا فيه القضاء عليهم وضياع ملكهم وعزتهم، فقال الملك: هات أيها الوزير.

قال عم سيد: فقال الوزير: أيها الملك. الرأي أن نذهب حماستهم ونقضي على رجولتهم ونفسد أخلاقهم ونغلبهم على آرائهم، ولا يكون ذلك إلا بأن نظهر لهم المودة والولاء، ثم نهاديهم بالجواري والغلمان والسراري الحسان والخمور والدنان والمزاهر والقيان والمغنيات والعبدان، حتى إذا تعودوا اللهو واللعب واستغرقوا فى العبث والشهوات ألهاهم ذلك عن الجد وشئون الملك، ثم نرسل لهم من يوقع بينهم، ويفرق كلمتهم، ويفسد ارتباطهم حتى تتفكك وحدتهم، وحينئذ يكون التغلب عليهم من أيسر الأمور.

فقال الملك: نعم الرأي رأيك، ثم أنفذه بحملة، وأرسل الهدية بعد الهدية، والجارية بعد الجارية، وفيهن الجواسيس والعيون والمغريات المفسدات، حتى عم اللهو واشتغل الناس بالشهوات، ودب دبيب الخلاف بين رؤساء البلاد، فتدخل العدو بينهم وضرب عليهم الجزية، ثم هددهم بقوته فلم ير منهم إلا غفلة عن الواجب، ورضا بالذلة، وضعفًا فى العزيمة، وتفككًا فى الوحدة، حمل عليهم بخيله ورجله فأهلك رجالهم، وخرب ديارهم، وأجلاهم عن أماكنهم، وتحكم فيهم بما شاء من جور وظلم، وكل ذلك يا أولادي لأنهم أغضبوا الله، واشتغلوا باللهو، وتركوا الواجبات عليهم لربهم ودينهم وبلادهم ومجدهم، ذلك بأن الله لم يك مغيرًا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

 إلى هنا انتهى عم سيد من قصته، وما كنا نرى فيها يومذاك إلا تسلية وتفكهة رغم إعجابنا ببسالة الغلام وغضبنا على أولئك الذين قطعوا الأرحام، أما اليوم فنحن حين نذكرها لقراء جريدة الإخوان نرى فيها معنى من معاني العبرة القاسية والذكرى المؤثرة، ودرسًا من أقسى دروس هذه الحياة، وعلى الأندلس التى قطعت من قلب كل مسلم تحية وسلام(2).

 

متعتان

فى ضاحية من ضواحي القاهرة المترفة الجميلة، وبعد العشاء من إضحيانة قمراء مشيتُ لشأن من شئوني، فرأيت من المناظر ما أثار فى النفس هذه الخواطر التى أكتبها لقراء جريدة الإخوان المسلمين.

الشوارع هادئة ساكتة لا يعكر سكونها إلا صوت سيارة آتية، أو وقع أقدام خفيفة بين الفينة والفينة، وينبعث فيها نور المصابيح الضئيل ممتزجًا بنور القمر الفضي فيزيدها ذلك جمالاً وروعة، والمساكن بديعة التنسيق والتقسيم تحوطها البساتين والحدائق، وترف على جنباتها نضرة النعيم، ويطل من شرفاتها لين العيش وجمال الحياة، وفى أبهائها المضيئة بنور الكهرباء صفت الكراسي والمناضد؛ وجلس أفراد الأسر رجالاً ونساء يتمتعون بالنسيم العليل وأشعة القمر المترقرقة خلال الشجر، وقد حنت عليهم أغصانه وأفنانه حنو المرضعات على الفطيم.

وفى خلال هذه الجلسات الممتعة يرتفع صوت الراديو بغناء عذب مطرب معجب، أو ينبعث من أحد المنازل توقيع موسيقى سحري، أو يتسلى هؤلاء الجالسون بلعبة من الألعاب المسلية كالشطرنج والنرد، أو يأخذون فيما بينهم بأطراف الحديث.

هذا لون من ألوان الحياة المترفة يستمتع به صنف من الناس ويراه الشاب الطموح المتوثب المتفتح النفس لمسرات الحياة ومباهجها فتنزع به نفسه إليه نزوعًا قويًا، فإن كان موسرًا اندفع فى تياره وإن كان معسرًا احترق بناره، وتبرم بحظه من الحياة تبرمًا يجعله يتمثل بقول ابن الرومي:

أترانى دون الألى بلغوا الآ                مال من شرطة ومن كتََّاب

أصبحوا يلعبون فى ظل دهر             ظاهر السُّخف مثلهم لعَّاب

ويظلون فى المناعم واللذ                 ات بين الكواعب الأتراب

لهم المسمعات ما يطرب السا            مع والطائفات بالأكواب

عندهم كل ما اشتهوه من الآ             كال والأشربات والأشواب

لم أكن دون مالكي هذه الأ               ملاك لو أنصف الزمان المحابى

وهناك لون آخر من ألوان الحياة يستمتع به صنف آخر من الناس؛ إذا أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، وهبت نسمات السحر، فترى هؤلاء وقد استيقظوا والناس نيام، وقلقوا والخليون هجع، وقاموا بين يدى محبوبهم وسيدهم يناجونه بقلوب والهة وأفئدة حيرى، يقبضها الخوف ويبسطها الرجاء، يدعونه خوفًا وطمعًا ورغبًا ورهبًا فى خشوع العبد الذليل، وفى رجاء الآمل الواثق، وفى حب المخلص الفاني فى محبوبه، فمنهم من يسبح ويستغفر ينادى فى الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين؛ وبين ذاكر متفكر حاضر اللب، مطمئن القلب، مستقر من النفس فى استحضار جلال رب العالمين، وبين قارئ متدبر يرتل آيات الله تعالى تقشعر منها جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، وبين مصل قانت آناء الليل ساجدًا وقائمًا يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، ترى أحدهم فى موقفه ماثلاً فى محرابه فتذكر قول ابن الرومي أيضًا:

بات يدعو الواحد الصمدا        فى ظلام الليل منفردًا

خادم لم تُبق خدمته              منه لا روحًا ولا جسدًا

قد جفت عيناه غمضهما         والخلى القلب قد رقدا

فى حشاه من مخافته            حرقات تلذع الكبدا

لو تراه وهو منتصب             مشعر أجفانه السهدا

كلما مر الوعيد به               سح دمع العين فاطردا

ووهت أركانه جزعًا              وارتفعت أنفاسه صعدا

قائل يا منتهى أملى              نِّجنى مما أخاف غدا

هذان لونان من ألوان الحياة التى يحياها الناس، وهاتان متعتان من أصناف المتع يستطيب كلا منهما فريق منهم، فالأولى متعة المترفين الماديين، والثانية متعة الروحيين الربانيين.

وأنت إذا كنت معي فى أن السعادة واللذة والسرور والفرح- وما إلى ذلك من المعاني- لا تعدو أن تكون شعورًا تثور به النفس، وتمتلئ به الروح، وتتملك مسالك القلب، رأيت أن كلا من هذين الصنفين يشعر باللذة والسعادة والسرور فى لون المتعة التى يتمتع بها، ولكن الصنف الثاني يشعر بهذه المعاني كلها شعورًا أقوى وأحد وأبقى أثرًا وأخلد مظهرًا، فهو أسعد من سابقه وأعظم لذة وسروراً.

وثم معنى آخر من معاني التفضيل هو ما يعرض لبعض المستمتعين بالمتعة الأولى من وخز الضمير أحيانًا على ضياع الوقت والإسراف فى الوقت، على حين يجد الآخرون من الأمل فى ثواب الله ورضوانه ما يهدئ بالهم ويطمئن خواطرهم ويريح ضمائرهم، ويجعل ذكريات هذه الساعات المقدسة فى نفوسهم مبعث فرح وسرور متجدد دائم.

أما المتعة الأولى فهي متعة الحياة المادية وثمرة المدنية الحديثة التى تقوم على الإباحة وإمتاع الشهوات وإمتاع الجسوم، وأما المتعة الثانية فهي وليدة الإيمان والسمو الروحي، وثمرة معرفة الله تعالى والاتصال به، وطلب الرقى بالنفس إلى أبعد من حدود المادة الضيقة حيث الكمال الإنساني المنشود.

ولكل من المعنيين أثره فى حياة الأفراد والأمم؛ فالمتعة الأولى تنتج الإخلاد إلى الترف والدعة، والميل إلى السكون والراحة، وتعود الإسراف والتبذير وتقوية الأثرة والأنانية فى نفس المستمتع بها، وإغراءه بالطمع والربح حتى يستطع أن يثابر على استبقاء هذه المطالب، والغفلة عن آلام الناس ومواساتهم، وإثارة نفوس المحرومين والبائسين.

وأما المتعة الثانية فأظهر آثارها يقظة الضمير حتى يصبح حكمًا عادلاً ساهرًا يقظًا يدفع صاحبه إلى معالى الأمور، ويحول بينه وبين سفاسفها، وإحساس الروح ورقة الشعور حتى يشارك هذا الروحاني الناس جميعًا فى آلامهم وآمالهم، ويحس بأجسامهم ويفرغ الوسع فى مواساتهم، وتصغير هذه المفاخر المادية تصغيرًا يدفع إلى تقديس المثل العليا والتضحية بالمادة الثانية فى سبيل المعاني الإنسانية السامية، وعلى هذه المادة قامت الأخلاق، وقامت الجماعات، وقامت الأمم، وانتصرت الفضيلة، وهذه المبادئ هى كل ما فى الحياة الإنسانية من جمال وبهجة وروعة وجلال فإذا ولت فعلى الدنيا السلام.

ألا إن الله تبارك وتعالى وازن بين المتعتين وقارن بين الحياتين فاختار لصفوة خلقه الحياة الثانية، فذلك قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾[طه: 131-132].

فأي المتعتين تختار قارئنا الكريم(3).

 

1-حديث الجمهور

اجتمع الإخوان الأربعة "الشيخ على" و"سيد أفندي" و"عم إبراهيم" و"المعلم صالح" حول تلك المنضدة التى اعتادوا الجلوس عليها فى ناديهم العفيف، وهنا بدأ الشيخ على الكلام فقال: هل رأيتم يا إخوان هذه الجريدة التى تسمى جريدة الإخوان المسلمين، إنى قرأت فى أولها كلامًا حلوًا لذيذًا، ويا ليت الناس جميعًا يتمسكون بهذه العقيدة التى تنادى بها هذه الجمعية، فلم يتركه المعلم صالح يتم كلامه وقاطعه بشيء من الحدة مع التأدب قائلاً: يا عم الشيخ على اعمل معروف، جمعية إيه، وجريدة إيه، هم الناس فى هذه الأيام نافع فيهم وعظ أو كلام أو جمعيات، سمعنا وعظ كثير ورأينا جمعيات كثير والدنيا لا تزداد إلا فسادًا فى فساد، وهنا تقدم عم إبراهيم مؤيدا للمعلم صالح وقال: صحيح يا معلم صالح كما تقول تمام، وأنا قضيت هذا العمر الطويل فما رأيت إلا أن اليوم الذى يذهب يأتى بعده شر منه. الله. زمان أيام ما كانت المرأة تخرج من بيتها لضرورة، فتمشى فى جوار الحيطان وهي ملفوفة فى ملابسها ولا يظهر منها أى عضو، ومع هذا تكاد تتعثر من الحياء والخجل، زي اليوم الذي رفع فيه النساء والبنات برقع الحياء، ما سمعتش يا شيخ على عن الحفلة التى عملتها بنات المدارس إلى فى سن الزواج وكان فيها خيالات وبنات على عجلات وموتوسيكلات، وهؤلاء المتعلمات الراقيات. فقال سيد أفندي: من فضلك يا عم إبراهيم أنت كلامك معقول وفى محله، والمعلم صالح كلامه معقول وفى محله، لكن هو ما فيش إلا البنات والحفلات، ما هى الدنيا كلها صارت فساد، وأنا قرأت فى بعض الكتب أن هذا آخر زمن ولا يمكن إصلاحه، وهكذا الدنيا تزداد فساد فى فساد، أليس كذلك يا عم الشيخ على؟ إن فيه أحاديث تدل على هذا الكلام وإن هذا الزمن آخر زمن لا يمكن فيه الإصلاح؟

فقال الشيخ على: أيها الإخوان أرجو أن تخففوا من حدتكم وغضبكم على الزمن وأهله وتسمعوا لى قليلاً وبعد ذلك لكم الخيار، إما أن تتبعوا رأيي وإما أن تستمروا على رأيكم، أما أنا فأقول لكم بصراحة إنني أخالفكم وأعتقد تمامًا أن هذا الزمن يمكن فيه الإصلاح ويأتي فيه الإصلاح بالخير إن شاء الله، فقال المعلم صالح: يا عم الشيخ على بعد هذا كله يكون فيه إصلاح من أين يأتى هذا الإصلاح؟ فقال: يا إخواني إن انتظرتم على حتى أتم كلامي تعرفوا إن شاء الله أنه يمكن الإصلاح، وإذا كنتم ستقاطعونني فالأحسن أسكت ونترك هذا الموضوع وهيا نتكلم فى غيره فإنى أكره الجدال والخلاف.

فقال سيد أفندي: يا عم الشيخ على قد عرفنا عنك أنك طويل البال فلماذا تتأثر بسرعة، طول روحك وتفضل بين لنا رأيك، فنحن والله نتمنى أن نعرف هذا الإصلاح وكيف يكون، ولاحظ يا أخي أن الأغنياء والكبار غافلون والعلماء ساكتون، والمدارس لا تعنى بأمر الدين، والناس كلهم مع شهواتهم سايرين وبعد ذلك قل لنا الإصلاح يأتى من أين؟

فابتسم الشيخ على وقال: يا إخواني ألستم مؤمنين بالله مصدقين؟ قالوا جميعًا: نعم والحمد لله رب العالمين، فقال: وإذا أتيتكم بأدلة من القرآن والأحاديث والتاريخ والحوادث تصدقون؟ قالوا: نعم، قال فاسمعوا أولاً لقول الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾[يوسف: 87] يعنى أن المؤمن لا ييأس أبدًا ولا ينقطع أمله فى الخير، كما قال فى آية أخرى: ﴿قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ﴾[الحجر: 56] وقد ذكر الله لنا فى كتابه أن كثيرًا من الرسل من قبلنا رأوا من أممهم أكثر مما رأينا حتى كادوا يظنون أنه لا صلاح أبدًا ثم جاءهم من بعد ذلك النصر من عند الله، فهدى الله بهم الخلق وأرشد الناس إلى الحق وهداهم إلى الخير وصلح حال الأمة، وهذا هو معنى قول الله تبارك وتعالى فى سورة يوسف ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّىَ مَن نَّشاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ * لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِى الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُّفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ  يُّؤْمِنُونَ﴾[يوسف: 110-111] صدق الله العظيم، ويقول الله تبارك وتعالى فى آية أخرى فى سورة البقرة: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللهِ ق قَرِيبٌ﴾[البقرة: 214] ومعنى هذا أن الله تبارك وتعالى يبتلى الأمم ويختبر الرسل والمصلحين، حتى إذا جاهدوا وتعبوا ورأوا هذا الفساد وظنوا أنهم لا يقدرون على إزالته جاءهم نصر الله تبارك وتعالى، وكتب الله لهم الجنة ثوابًا لجهادهم وجزاءًا لعملهم والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

وفى الحديث أيها الإخوان يقول النبى صلى الله عليه وسلم ما معناه: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق يقاتلون حتى تقوم الساعة لا يضرهم من ناوأهم" -يعنى من خالفهم- فأهل الخير فى الدنيا كثير وفى التاريخ قصص كثيرة سأقص عليكم بعضها، وقد قص الله علينا واحدة منها أقصها عليكم، وهنا نظر سيد أفندي فى ساعته فاعتذر لإخوانه بموعد لابد له من الوفاء به، فقال الشيخ على نقوم إذن.

وموعدنا الجلسة القادمة إن شاء الله(4).

 

2-حديث الجمهور

تركنا الإخوان الأربعة الشيخ على وسيد أفندي وعم إبراهيم والمعلم صالح وقد انصرفوا على أن يكون مدار حديثهم فى الجلسة القادمة حول إثبات ما يدعيه الشيخ على من إصلاح حال الناس ممكن لو أرادوا أن يعملوا له.

وما جاء الموعد الذى تعودوا الاجتماع فيه حتى توافدوا وجلسوا حول تلك المائدة التى اعتادوا الجلوس حولها، وكان مع سيد أفندي شيخ آخر يسمى الشيخ عبد السلام، وبعد أن حيا بعضهم بعضًا بدأ سيد أفندي الكلام فقدم إلى إخوانه رفيقه الشيخ عبد السلام قائلاً: هذا صديقي الشيخ عبد السلام من الناس المخلصين، وهو من القراء المحترمين ومنفعة فى الدين، وقد أخبرته بما دار بيننا من الحديث فرغب فى أن يتناقش مع أخينا الشيخ على فقال الشيخ على: مرحبًا بالأخ الفاضل شرفت يا عم الشيخ عبد السلام، فقال الشيخ عبد السلام: أهلاً وسهلاً يا أخي أنا تشرفت بكم، وإن أخي سيد أفندي أخبرني بما دار بينكم: فاستغربت كيف تقولون إن هذا الحال يمكن إصلاحه مع أن هذا شىء محال، والأحاديث تقول غير ذلك لهذا جئت لنتحاور فى هذا الموضوع، وأنا أعتقد أن الأفضل للإنسان أن يترك هؤلاء الناس حتى ينتقم الله منهم بعدله.

فقال الشيخ على أما أنا يا أخي فأعتقد تمام الاعتقاد أن الأحاديث تدل على أن صلاح هذا الحال ممكن جدًا ومن أسهل الأمور، وسأتكلم فى هذا، ولكن أحب يا أخي أن تتفق معنا فى أن يكون كلامنا على سبيل التفاهم فقط لا على سبيل الجدل والمراء، فالنبي  صلى الله عليه وسلم نهانا عن الجدل والمراء فى الدين وغضب على أولئك الذين كانوا يتجادلون غضبًا شديدًا، وقال فى كثير من أحاديثه ما معناه "أنا زعيم ببيت فى وسط الجنة لمن ترك الجدال وهو محق وبيت فى ربضها لمن تركه وهو مبطل" فأنا لهذا أكره الجدل وأنفر من المناقشات التى تدور حول المراء، وذلك كثيرًا ما يؤدى إلى الخلاف والبغضاء وإفساد ذات البين، وإنما هلك السابقون باختلافهم وتباغضهم، فقال الشيخ عبد السلام: هذا كلام غريب يا شيخ على. وما الفرق بين المناقشة للجدل وبين المناقشة للتفاهم، أوليس كل هذا جدل وخلاف؟ فقال الشيخ على: يا عزيزي الشيخ عبد السلام الفرق بينهما عظيم؛ فإن كنت تناقشني لتتغلب على بالحق أو الباطل وتقصد بذلك أن تظهر أمام الإخوان، وتغضب إذا رأيت الحق فى غير صفك، فهذا هو الجدل الممقوت وإذا كنت تقصد الوصول للحق فقط سواء كان معي أو معك، وتملك نفسك فلا تغضب ويتسع صدرك لذلك وتمشى مع الدليل بدون مكابرة فهذا هو النقاش للوصول للفهم، وهو لا بأس به، أفليس الفرق بينهما عظيمًا أيها الأخ المفضال؟

فقال الشيخ عبد السلام الآن علمت الفرق بينهما، وثق يا عزيزي الشيخ على أنك سوف لا ترى فى مناقشتي لك إلا حبًا للوصول إلى الحق وسعة صدر واحتمال فاطمئن، وهنا سر الجماعة وفرحوا بهذه المحاورة الشائقة وأرهفوا آذانهم ليسمعوا حجج كل من الشيخين؛ وإذا بداع يدعو الشيخ عبد السلام لمهمة خاصة فأذن الجميع له بالانصراف، على أن يعودوا فى الجلسة الثالثة لدراسة هذا الموضوع الطريف(5).

المصادر

1-     مجلة النذير، العدد (1)، السنة الأولى، 30 ربيع أول 1357- 30 مايو 1938، ص(19-20).

2-     جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (9)، السنة الأولى، 18ربيع الثاني 1352ﻫ/ 10أغسطس 1933م، ص(23-24).

3-     جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (2)، السنة الأولى، 28صفر 1352ﻫ/ 22يونيو 1933م، ص(19-21).

4-     جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (1)، السنة الثانية، 19محرم 1353ﻫ / 4مايو 1934م، ص(27-28).

5-     جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (9)، السنة الثانية، 23ربيع الأول 1353ﻫ / 6يوليو 1934م، ص(25-26).

المقال التالي كتابات الإمام البنا إلى الأقباط
المقال السابق الدستور في فكر الإمام حسن البنا