إعداد موقع الإمام حسن البنا
تعتبر حركة الإخوان المسلمين من أوضح الحركات الإسلامية منهجا وفكرا، وأكثرها اعتدالا ويسرا، ذلك لكونها سارت على المنهج الإسلامي الوسطي الصحيح الشامل الذي لا يفرق بين جوانب الحياة.
فالعبادة كالسياسة كما الجندية كالاقتصاد الكل يحيط به الإسلام ووضع شرائعه تفصيلا.
ولذا نظر الإمام حسن البنا إلى تعظيم شعائر الله سبحانه وإظهار المناسبات الإسلامية للناس والحث على حسن الطاعة والاقتداء بالنبي فيها وهو ما كان يحاول المستعمر وأعاونه من طمس أي مظهر من هذه المظاهر الإسلامية، ولذا جاءت كتابات الإمام حسن البنا في كثير من هذه المناسبات يوضح أهميتها وفضلها وكيف الاحتفال بها.
مناجاة
قلت للرجل الواقف على باب العام الجديد: أعطني نورًا أستضئ به فى هذا الغيب المجهول فإنى حائر، وقال لى: ضع يدك فى يد الله فإنه سيهديك سواء السبيل.
وعلى مفترق الطرق وقف الساري الكليل فى موكب الزمن يلقى نظرة إلى الآراء؛ ليستعرض ما لقى من عناء السفر ومتاعب المسير، ويلقى بنظرة إلى الأمام يتكشف ما بقي من مراحل الطريق.
أيها الحائر فى بيداء الحياة، إلى متى التيه والضلال وبيدك المصباح المنير }قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِى بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [المائدة: 15-16].
أيها الحيارى والمتعبون الذين التبست عليهم المسالك، فضلوا السبيل، وتنكبوا الطريق المستقيم، أجيبوا دعاء العليم الخبير }يَا عِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ [الزمر: 53-54]، وترقبوا بعد ذلك أنين النفس وحسن الجزاء وراحة الضمير }وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران: 135-136].
أيها الأخ العاني المتعب الرازح تحت أعباء الخطايا والذنوب، إياك أعنى، وإليك أوجه القول، إن باب ربك واسع فسيح غير محجوب، وبكاء العاصين أحب إليه من دعاء الطائعين، جلسة من جلسات المناجاة فى السحر، وقطرة من دموع الأسف والندم، وكلمة الاستغفار والإنابة.. يمحو الله بها زلتك، ويعلى درجتك، وتكون عنده من المقربين، وكل بنى آدم خطاؤون، وخير الخطائين التوابون }إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222].
ما أقرب ربك إليك وأنت لا تدرك قربه! وما أحبك إلى مولاك وأنت لا تقدر حبه! وما أعظم رحمته بك وأنت مع ذلك من الغافلين! إنه يقول فى حديثه القدسي: "أنا عند ظن عبدي بى، وأنا معه إذا ذكرني؛ فإن ذكرني فى نفسه ذكرته فى نفسي، وإن ذكرني فى ملأ ذكرته فى ملأ خير منهم، وإن تقرب إلى شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إلى ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشى أتيته هرولة" وفى حديث آخر: "يا ابن آدم، امش إلىَّ أُهرول إليك، وإنه ليبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وإنه لأعظم رحمة بعبده المؤمن من الأم الرؤوم بواحدها الحبيب }إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [الحج: 65].
من عرف حق الوقت فقد أدرك قيمة الحياة؛ فالوقت هو الحياة، وحين تطوى عجلة الزمن عامًا من أعوام حياتنا لتستقبل عامًا آخر؛ فقف على مفترق الطريق، وما أحوجنا فى هذه اللحظة إلى الفارقة أن نحاسب أنفسنا على الماضي وعلى المستقبل من قبل أن تأتى ساعة الحساب، وإنها لآتية؛ على الماضي فتندم على الأخطاء، ونستقيل العثرات، ونقوم المعوج، ونستدرك ما فات، وفى الأجل بقية، وفى الوقت فسحة لهذا الاستدراك، وعلى المستقبل فنعد له عدته من القلب النقي، والسريرة الطيبة، والعمل الصالح، والعزيمة الماضية السباقة إلى الخيرات، والمؤمن أبدًا بين مخافتين؛ بين عاجل قد مضى لا يدرى ما الله صانع فيه، وبين آجل قد بقى لا يدرى ما الله قاض فيه؛ فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الهرم، ومن الحياة قبل الموت، وما من يوم ينشق فجره إلا ينادى: "ابن آدم، أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد؛ فتزود منى فإنى لا أعود إلى يوم القيامة".
لقد حاولت أن أكتب بمناسبة العام الجديد فى ذكريات الهجرة وقصص الهجرة وعيد الهجرة، وكيف نحتفل بالهجرة؛ فوجدتني مسوقًا على غير هذا كله إلى مناجاة هؤلاء الإخوة الأعزاء الذين أهملوا حق الوقت، وغفلوا عن سر الحياة، ولم يتدبروا حكمة الابتلاء الذي وجدنا من أجله }الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك: 2]، }إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ [الإنسان: 2]. رأيتني مسوقًا إلى مناجاة هؤلاء الإخوة الأعزاء بهذه الكلمات؛ لعلنا نستطيع أن ننزع يدنا من قياد الشيطان، ونسير مع كتائب الرحمن فى موكب المغفرة والرضوان؛ فتكون غرة المحرم الحرام صفحة بيضاء نقية مشرقة فى سجل الحياة إن سودت الذنوب كثيرًا من الصفحات يبدلها الله بالتوبة الصادقة حسنات مباركات، }وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ [الشورى: 25-26].
ما أعظم رقابة الله على عباده }لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 16-18]، }أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف: 80]. وما أدق الحساب يوم الجزاء }فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7-8]، }وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: 47].
وما أجزل المثوبة للعاملين }وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى [النازعات: 40-41]، }وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 40]، }مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ [النمل: 89]، وما أعظم العفو عن التائبين }إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الفرقان: 70] }وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِّمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه: 82].
أيها الأخ المتعب العاني والرازح تحت أعباء الخطايا والذنوب، لا تيأس، ولا تقنط؛ فهذه ساعة المغفرة تؤذن مع أول العام الجديد، وهذه نسمات القبول ترف على قسمات وجهه الصبوح، وهذه أضواء الهداية تشع مع هلاله المشرق الجميل(1).
فى مستهل عام جديد
"ذكرى"
لعل هذا العام الجديد من أعظم الأعوام خطرًا، وأعمقها أثرًا فى حياة هذا الجيل والأجيال المقبلة بعده عامة، وفى حياتنا نحن العرب والمسلمين بصفة خاصة، فإن ما تكشف عنه العام الماضي من حوادث، وما ينتظر من تطورات ومفاجآت فى هذا العام.. كل ذلك يهيب بنا أن ننظر إلى المستقبل بعين كلها يقظة وترقب، وينادينا ألا نضيع لحظة واحدة فى غير عمل وإعداد؛ فاذكروا أيها المسلمون فى مشرق هذا العام أنكم ورثة القرآن الكريم، وهو الهدى الجامع لخير الدنيا والآخرة، وأنكم حملة رسالة الإسلام، وهي النعمة الكبرى والمنة العظمى ورحمة الله للعالمين، وأنكم تستطيعون بهذا الدواء الرباني النافع أن تطبوا داء العالم كله، لا يضركم أن الناس لا يسمعون لكم لأول مرة؛ فكذلك دعوات الحق جميعًا، لا بد فيها من الصوت العالي وطول الأناة حتى تظهر فائدتها فيعم نفعها.
لقد جاء الإسلام الحنيف يحمل فى ثنايا أحكامه الصلاح كله للنفس الإنسانية والجماعة الإنسانية، وتحل بكلمات هذه المشاكل العالمية التى عجز عن حلها المصلحون والفلاسفة، وحسب الناس أن يضعوا نصب أعينهم مثل قول الله تبارك وتعالى: }وَشَاوِرْهُمْ فِى الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران: 159].
} وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة: 228].
} وَالَّذِينَ فِى أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج: 25-26].
} فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ [الحجرات: 9] ،} إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28].
وإلى جانب قوله تعالى: }وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا [الشمس: 7-10].
حسب الناس أن يطيلوا النظر فى هذه القواعد بإخلاص ليضعوا أيديهم تمامًا على مفاتيح الإصلاح الكامل، وعلى الحلول الموافقة لمشاكل الدنيا المعذبة بأسرها لو كانوا يعملون.
إننا نحن المسلمين لا نريد علوًا فى الأرض ولا فسادًا؛ لأن الله عوضنا عن ذلك الآخرة، ولكنا كذلك نجد من العقوق لأنفسنا وللناس أن نرى الدنيا تحترق فى نيران الأهواء الفاسدة والآراء الفاشلة ولا نتقدم للإنقاذ وفى يدنا مضخة الإطفاء، ولو كان للأصوات الفردية أثر لاكتفينا بهذه الصيحات، ولكان فيها للناس بلاغ، ولكن هكذا كان رأى الإنسان ألا يسمع دائمًا إلا الصوت القوى الداوى المجهز بالصفات الرسمية والمظاهر القوية، لهذا كان على دول الإسلام ألا تخشى، وأن تتقدم فى شجاعة وثقة بنفسها، وبما يحمل دينها من معادن الخير والصلاح لتقول للناس جميعًا: }هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ [الحاقة: 19]، وهى إن فعلت ستفتح عين الدنيا الحائرة على طريق الاستقامة والسعادة والسلام }قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِى بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [المائدة: 15-16].
اذكروا هذا أيها المسلمون، واذكروا معه أن الدنيا لن تصغى لكم، ولن تستمع منكم، ولن تجيبكم إلى ما تطلبون إليها إلا إن كنتم أنتم نماذج صالحة للتمسك بما تدعون الناس إليه والعمل بهذا المنهاج الكريم القويم كتاب الله الذي }لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 42]، وكنتم مع هذا يدًا واحدة وقلبًا واحدًا واتجاهًا واحدًا؛ لأن الإسلام وِحدة وتوحيد، ولا شىء بعد هذا. إن الوحدة واجتماع الكلمة وائتلاف القلوب هى لب الإسلام ولا شك، والأمة الإسلامية أمة واحدة بحكم أخوة الإسلام }وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران: 103] "ولن تؤمنوا حتى تحابوا".
فإذا وفق العرب والمسلمون فى مفتتح عامهم هذا الجديد إلى أن يؤمنوا بأنفسهم كأمة واحدة مجيدة تحمل رسالة الحق والخير والنور، ثم حملوا أنفسهم بإخلاص على اتباع هدى كتابهم وسنة نبيهم، وتآخوا فى سبيل هذه الغاية، واجتمعت كلمتهم عليها؛ فلا شك أنهم واصلون إلى أهدافهم بإذن الله، ويأبى الله إلا أن يتم نوره.
وإن الإخوان المسلمين ليعملون بهذا ولهذا، وإنهم ليأخذون أنفسهم به أخذًا شديدًا، وإنهم ليهيبون بالأمة الإسلامية كلها أن تكون كذلك، وإن هذه المجلة ستكون المصباح المتواضع الذي يضئ للسائرين ممن أعجبتهم هذه الفكرة طريقهم؛ حتى يصلوا إلى ما يبتغون من إعزاز للإسلام، وإعلاء لتعاليمه، وجمع لكلمة المؤمنين به، والعاقبة للمتقين(2).
ذكرى الإسراء والمعراج
يصدر هذا العدد من جريدة الإخوان المسلمين فى اليوم الذي يوافق صبيحة ليلة الإسراء المباركة التى شرف فيها ملكوت السماوات والأرض بزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد اثنتين وخمسين وثلاثمائة وألف سنة يتردد صدى هذه الذكرى المقدسة فى أقطار العالم الإسلامي؛ فتهتز لها نفوس المسلمين فرحًا واستبشارًا.
إن فى السيرة النبوية وفى التاريخ الإسلامي حوادث غراء وأيامًا مجيدة، على المسلمين أن يتذكروها، ويتذكروا ما صحبها من الظروف والملابسات؛ لينتفعوا بما فى ذلك من العظات والعبر، وليس هناك أشد أثرًا فى النفوس من تذكيرها بالحوادث الواقعة، وتجلية آثارها الناصعة أمام أعين الناشئين من أبناء الأمم.
ولست هنا بصدد تفصيل القول فى قصة الإسراء والمعراج وحوادثها، واختلاف العلماء فيها؛ فذلك بحث نستوعبه -إن شاء الله تعالى- فى مقال خاص، ولكنا نقصد إلى أمرين هامين:
أولهما: أن نقول للمحتفلين بذكرى الإسراء والمعراج من أبناء الإسلام: إن خير ما يحتفل به فى مثل هذه الليلة أن يتفقه المسلمون فى سيرة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويتدارسوها بينهم دراسة منتجة عميقة تدفعهم إلى الاقتداء به صلى الله عليه وسلم فى أقواله وأفعاله وأحواله، وأما المظاهر اللاهية وقضاء الوقت فى العبث والمجون والمطاعم والمشارب فأمر انتهى أوانه، وليس من الدين فى شىء، ولم يبق إلا الجد والعمل }وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة: 105].
وثانيهما: أن نقول لمن يكبر عليهم أن يتصوروا وقوع هذه الخوارق فى ليلة الإسراء والمعراج: هونوا عليكم، وأربعوا على أنفسكم؛ فإن الأمر أيسر مما تظنون من عدة وجوه، منها:
1- أن الإسراء والمعراج معجزة له صلى الله عليه وسلم، والمعجزة أمر خارق للعادة، وقد وقعت المعجزات له صلى الله عليه وسلم مرارًا فى غير هذه الليلة، ووقعت لغيره صلى الله عليه وسلم من الأنبياء؛ فاستعظام خوارق الإسراء والمعراج معناه استعظام لكل ما وقع من ذلك مع تواتره وتوارده، ولا يقال فى المعجزة: "كيف كانت؟"؛ فحسبك أنها أمر خارق للعادة.
2- وأن نواميس هذا الكون الصغير ينكشف لنا منها كل يوم غرائب وعجائب، ما كانت عقولنا لتصدقها قبلا لولا أنها تأيدت بالدليل الساطع والبرهان القاطع، يقولون: إن الضوء يقطع فى الثانية 18000 ميل أو يزيد، والأرض تسبح فى الفضاء بسرعة 107000 كيلومتر فى الساعة، والشمس ترسل لنا على الدوام بإشعاعات مغناطيسية تؤثر عن بعد 150مليون كيلومتر على الإبرة المغناطيسية لدرجة لا تشعر بها مشاعرنا، وكل هذه النواميس تعطينا صورة مصغرة عن إمكان حدوث أى شىء يبدو غريبًا أمام عقولنا لأول وهلة.
3- وإن وراء هذا الكون عوالم أخرى لها نواميس أوسع نطاقًا، وأدق إحكامًا مما نتصور، ولا سيما ذلك العالم الروحي الذي أدهشت عجائبه عقول الباحثين وهم لم يزالوا بعد على شاطئ البحث، ولما يخوضوا لُجَّته.
ذكرت بعض المجلات أن أحد المشتغلين بالأبحاث النفسية وهو المسيو "هيوم الإنجليزي" تمكن بقوة تأثيره الروحي فى نفسه أن يرتفع بكرسيه إلى عشرين مترًا مع اتخاذ الاحتياطات اللازمة لمنع أى مؤثر آخر فى هذا الارتفاع غير قوته النفسية، والغرائب والمدهشات فى هذا الباب لا نهاية لها، والعوائق المادية لا تثبت أمام قوى الأرواح؛ فليس ثمة ما يمنع من خضوع الجسم للروح فى كل إرادتها إذا قويت إلى الدرجة الكافية من التأثير، فإذا كان هذا يجوز للأرواح العادية؛ فهل يكون شىء من الظواهر على أية صورة من صورها ممتنعًا فى حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟!
الحق أن وقوع الإسراء والمعراج للنبى صلى الله عليه وسلم أمر لا غرابة فيه، ولا معنى لإنكاره على الصورة التى وردت بها الآيات والأحاديث الصحيحة، والمهم أن تُجْمَع كل الآيات وكل الأحاديث التى تعرضت لهذه المعجزة الرائعة، وتُمحص تمحيصًا دقيقًا تتجلى فيه الحقائق تجليًا لا يدع مجالاً للاختلاف والتضارب فى الأقوال، وذلك ما ندعو إليه جمهرة المحققين من علمائنا الأعلام، ونسأل الله تعالى أن يوقفنا للقيام بما يجب علينا من ذلك، وهو ولى التوفيق(3).
متى عيدنا
} وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة: 185].
أما عيدنا الشرعي فهو عيد الفطر غرة شوال، بعد أن تتم فريضة الصوم التى هى ركن من أركان الدين، وحق من حقوق رب العالمين، وصدق الله العظيم }وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة: 185].
ولهذا العيد شعائر يجب أن نعرفها ونعلنها، ونحافظ عليها ونقوم بها }ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج: 32].
فمن شعائره زكاة الفطر التى شرعها الإسلام برًا بالفقراء والمساكين، وتدعيمًا لروح التكافل الاجتماعي بين الأمة الواحدة بمناسبة هذا الموسم المبارك، وأنسب أوقاتها قبيل العيد وليلة العيد، وأفضلها شرعًا بعد صلاة الفجر من يوم العيد إلى الصلاة، ويجوز إخراج قيمتها نقودًا إذا كان ذلك أنفع للفقراء، والكيلة من الحبوب تجزئ عن أربعة أو ستة؛ فمن كان فى يسر فليأخذ بالأول وهو الأحفظ، ومن قدر عليه رزقه فليأخذ بالثاني، ذلك تخفيف من ربكم ورحمة، ويخرجها الإنسان عن نفسه وعمن تلزمه نفقتهم، وتجب على كل قادر عليها مستطيع لها، ومن تطوع خيرًا فهو خير له.
ومن شعائر العيد إحياء ليلته بذكر الله تبارك وتعالى، وشكره على ما وفق إليه من إتمام شهر الصوم، وتجديد التوبة، والاستعداد لما بعد رمضان بالعزم الأكيد على المحافظة على طاعة الله -تبارك وتعالى-، والبعد عن معصيته؛ فإن الله -تبارك وتعالى- باق لا يفنى، ولا يزول، ولا تغيره الأيام ولا الشهور، وهو المعبود المقصود فى كل آن؛ فعلينا أن نجدَّ فى طاعته فى غير رمضان، كما كنا نجدُّ فى رمضان.
ومن شعائره أن تؤدى صلاته فى وقتها، وأن يشترك المسلمون فى إحيائها وحضورها، حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بإخراج النساء والفتيات وذوات الخدور إليها حتى الحائض منهن يشهدن الخير وجماعة المسلمين.
ومن شعائره بعد ذلك التزاور والتواد، ونسيان الشحناء والبغضاء والحزازات، وصلة الأرحام، وتفقد الأقارب، والإكثار من الصدقة على الضعفاء والأيتام.
ومن شعائره التحرز من معصية الله؛ فإن شكره -تبارك وتعالى- لا يكون بمعصية، ولكن يكون بطاعته، وما درج عليه الناس وخاصة الشباب من التحلل من القيود والانطلاق من حدود الفضيلة والخلق بدعوى أنه يوم عيد ليعوضوا ما فاتهم فى رمضان وسوسة شيطانية، وإغراء وفساد، والأولى بهم والأخلق أن ينصرفوا إلى الطاعة والشكر لا إلى العربدة والسكر، والقلوب بيد الله، ونسأله تعالى صلاح الحال.
ذلك عيدنا الشرعي نقوم بشعائره امتثالا لأمر الله، واحتسابًا لما عنده، وإحياء لشعائره، ولكن عيدنا الحقيقي ليس اليوم أيها المسلمون؛ فإن دعوتنا وبها حياة أرواحنا، وأرضنا وفيها صلاح أمرنا.. كل ذلك اليوم فى الميزان؛ فإن انتصرت دعوة الإسلام، وسادت غيرَها من الدعوات الفاسدة الطائشة الضالة المضلة التى لا حق فيها ولا خير، وتحررت أرضنا من براثن الغاصبين الظالمين المعتدين؛ فانتصرت إندونيسيا على الغاصبين، وتحررت الباكستان من الهندوسيين والبريطانيين، وتجمعت حرية العرب حول لواء القرآن المبين.
وقذفت بالصهيونية الغاشمة إلى الهاوية، واستكمل وادي النيل حريته واستقلاله ووحدته، وانجلب عن ليبيا شبح الإدارة البريطانية العسكرية، وأجليت فرنسا عن أفريقية الشمالية، وارتفعت الحواجز بين هذه الأمة الإسلامية من المحيط إلى المحيط؛ فحينئذ ننعم بالعيد الحقيقي إلى جوار العيد الشرعي، وسيكون إن شاء الله }وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُّتِمَّ نُورَهُ [التوبة: 32].
والله أكبر ولله الحمد(4).
عرفات العالمية الإسلامية
فى حيز الفعل لا فى حيز الأقوال
كنت أتحدث إلى صديق عن العالمية الإسلامية؛ فكان من قولي له: إن الإسلام يدعو إلى العالمية بأسمى وأجلّ مما يدعو إليها الفلاسفة والساسة؛ إذ إنه يلزم كل مسلم أن يعمل ليعم الناسَ مبدأٌ واحد هو الحب والإخاء والعدل والمساواة تحت ظل القرآن الكريم لا تعصبًا لجنس ولا تحيزًا لشخص أو فئة.
فكان هذا القول غريبًا أمامه مستبعدًا لديه، وبدت على وجهه علائم الدهشة والاستغراب، وأخذ يتساءل فى شك: وهل ذلك ممكن؟ وهل حقيقةً يأمر الإسلام بهذا ويقرره؟
فقلت له: يا صديقي إنك -بحمد الله- مسلم، وقد وجهت إلىَّ سؤالين: هل يدعو الإسلام إلى عالمية المبادئ السامية؟ وهل ذلك ممكن؟ فلنتفاهم فيهما واحدًا واحدًا.
فأما أن الإسلام يأمر بهذا ويدعو إليه؛ فأمر بدهي معلوم من الدين بالضرورة؛ إذ إن رسالة النبى صلى الله عليه وسلم عامة للبشر جميعًا، والله -تبارك وتعالى- يقول: }وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ: 28]، والقرآن الكريم -وهو دستور الإسلام الذى لم يترك من أصوله صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها- مملوء بالآيات الواضحة البينة التى تأمر المسلمين بتعميم الدعوة فى آفاق الأرض؛ حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله، وما كنت أظن أن مسلمًا يجهل ذلك وهو من أصول الإسلام وقواعده؛ فهل اقتنع صديقي بهذا؟.
فسكت برهة ثم قال: علمت أن ذلك من الإسلام، ولكن ألا ترى أن ذلك غير ممكن التحقيق وهو إلى الخيال أقرب؛ فهو إلى أن يكون من المثل العليا التى توضع ليسير الناس إليها لا أن يحققوها أقرب منه إلى العمليات التى تسعى البشرية لتحقيقها، فقلت له: ذلك سؤالك الثاني الذي أريد أن أجيبك عليه فاسمع:
أما أن ذلك أمر بعيد التحقيق فمغاير لحكم التاريخ، ومغاير لقواعد الاجتماع التى تسير عليها الإنسانية، فأما مغايرته للتاريخ فقد حدثتنا أدلته، وروت لنا براهينه أن العرب -وهم فئة قلائل أميون- تمكنوا فى أقل من نصف قرن من تعريب نصف العالم المعروف لهم حينذاك، وصبغوه بدينهم ولغتهم وعقائدهم وشعائرهم، وبعبارة أدق انصبغوا هم ونصف العالم بصبغة الله التى أودعها كتابه، وبعث بها نبيه، وأطلق عليها اسم الإسلام، ولولا الحوادث السياسية والاجتماعية التى تعلمها والتي وقفت بالفتح الإسلامي عند حدود جبال البرانس لرأيت تلك الحقيقة ماثلة يُغنى وجودها عن الكلام فيها.
وأما أنه مغاير لسنن الاجتماع فلأن كل الحوادث والحركات الفكرية والاختراعات والمواصلات ونحوها كلها تعمل على توحيد العالم؛ فالعالم يسير إلى الوحدة رغم ما فيه من تنافس وعصبيات، ولعل اشتداد هذا التنافس سيكون أقرب السبل إلى الوحدة.
وإذا كانت الأمم التى لا تخرج مبادئها عن حدودها، ولا يصلح نظامها إلا فيها -وفى ذلك شك- تطمع أن توحد العالم وتخضعه لثقافتها وسلطانها، ولا تأمل من وراء ذلك إلا الاستغلال المادي، وترى أن ذلك فى إمكانها لو قويت؛ فكيف بنا ونحن أمة كلفها الله -بارك وتعالى- إرشاد العالم، ووضع لها النظام الذى يكفل سعادة الدنيا والآخرة فى كل زمان ومكان، ألا يجدر بنا أيها الصديق أن نعتز بالمهمة التى أسندها الله إليها، والتي عبر عنها بقوله: }وَجَاهِدُوا فِى اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [الحج: 78]. الحق يا صديقي أننى لا أرى ما يمنع من تحقيق هذا المثل الأعلى، وجعله فى حيز العمليات إلا ضعف أمثالك، واستكانتهم ويأسهم من أنفسهم، وجهلهم بما كلفهم الله إياه.
بدا على وجه صديقي تأثر وحماسة ونعى على تربيتنا، وتعليمنا الذي أبعده عن روح العزة الإسلامية، ووعدني أن يعمل للإسلام وأن يقف جهوده على نشر دعوته.
ومرت الأيام سراعًا حتى أسفر هلال ذى الحجة، وهبت نسمات العشر، وتمثل فى الخاطر يوم عرفات فهز النفس ونبه المشاعر.
فى يوم عرفة يجتمع الحجيج فى وقت واحد وفى مكان واحد وفى زي واحد، وترتفع أصواتهم بدعاء واحد على قلب رجل واحد، ومن أولئك الحجيج يا صاحبي: المصري والهندي والشامي واليمنى والعراقي والحجازي والشرقي والغربي، والمسلم الإنكليزي والفرنسي، وكل شعب من شعوب العالم وصلته دعوة الإسلام، وترددت فى أجوائه كلمة الإسلام.
ما أروع الموقف، وما أجل المغزى الذي قصد إليه فيه الإسلام وهو دين التوحيد، وما أجزل ثواب الله ورحمته وأعم فيضه ورضوانه الذي يتغشى عباده الأكرمين؛ فيعودون من موقفهم أطهارًا أبرارًا أتقياء أنقياء كيوم ولدتهم أمهاتهم.
وهل علمت يا صاح مؤتمرًا من مؤتمرات الأمم والشعوب وحَّد بين هذه الأجناس المختلفة، وجمع هذه الشعوب المتفرقة، وضم تلك الصفوف؛ فجعلهم أمة واحدة وشعبًا واحدًا وقلبًا واحدًا وأملا واحدًا وعاطفة واحدة إلا مؤتمر الإسلام فى عرفات؟!
اللهم إنى أتوجه إليك برحمتك التى تفيضها على عبادك فى البلد الحرام، فى الشهر الحرام، فى المشعر الحرام وفى عرفات المعظم أن تقدر لنا من التمتع بحرمك، وزيارة نبيك صلى الله عليه وسلم ما نستوجب به رضوانك، وأن تجمع قلوب أمة الإسلام على إعلاء كلمتك ونصرة شريعتك وإعزاز دينك، والتعاون على البر والتقوى إنك سميع مجيب.
"وبعد" فياليت صديقي الذي كان يرى العالمية الإسلامية خيالا بعيدًا تحقيقه يذهب إلى عرفات العظيم؛ فيرى هناك رأى العين أنها حقيقة ماثلة فى حيز الفعل لا فى حيز الأقوال، }وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُّتِمَّ نُورَهُ [التوبة: 32](5).
لبيك اللهم لبيك
ما أجل عظمة الربوبية، وما أعظم فضل الألوهية، وما أجمل أن يتفضل الله على عباده فيدعوهم إلى بيته العتيق؛ ليغفر ذنوبهم، ويطهر قلوبهم، ويضاعف أجورهم، ويجدد أرواحهم، ويمنحهم من فيض فضله ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وما أجمل أن يتفتح قلب المؤمن على هذا النداء العلوي، ويتلقاه كما تتلقى الزهرة الناضرة قطرات الندى؛ فيحيا به ويسعد، ويتجهز من فوره لإجابة دعوة الله والانضمام إلى وفده الكريم، مهاجرًا إلى حرمه المقدس وبيته الأمين، هاتفًا من أعماق قلبه: لبيك اللهم لبيك.
أيها الأخ الكريم، إن كنت ممن سمعوا هذا النداء فأجابوا الدعاء، وقدر لهم أن يكونوا فى وفد الله -تبارك وتعالى- فاعلم أنها غرة السعادة، وفاتحة الخير كله، وعنوان رضوان الله، فما دعاك إلا وهو يحبك، وما ناداك إلا ليمنحك، والله يعدكم مغفرة منه وفضلا، والله واسع عليم؛ فَهَنِّئ نفسك بهذا الفضل المبين، وتقبل منا تهنئة الإخوان المحبين، وسترى فى هذه الكلمات صورة موجزة من السنة المطهرة فى أداء الفريضة، فاذكرنا بصالح الدعوات فى تلك الأوقات الكريمة والأماكن المشرفة، وإن حالت دون ذلك الحوائل فصاحب الحجاج بقلبك، ورافقهم فى أداء المناسك بروحك، فإن لك مثل ثوابهم إن شاء الله، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد القائل لأصحابه ما معناه: إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم، قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: حبسهم العذر.
وفقنا الله وإياك إلى حج بيته، وزيارة رسوله، وكتب لنا ولك القبول(6).
الحج والعمرة فى الإسلام
الحج فريضة من فرائض الله، أمر بها عباده وكلفهم أداءها، وأعد لهم جزيل الثواب إن فعلوها، وتوعد بأشد العقوبة من تركها وهو عليها قادر ولها مستطيع. وهو ركن من أركان الدين الخمسة، يتم بتمامه وينقص بنقصه، وهو من بين هذه الأركان عبادة العمر وتمام الأمر، وفيه نزل قوله تعالى: }الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة: 3]، وقد وردت بذلك آيات الكتاب الكريم وأحاديث الرسول العظيم..
1- قال الله تعالى: }وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران: 97].
وهذا تركيب يدل على عظيم العناية بالحج وتأكُّد فرضيته، ألست ترى أن الحق -تبارك وتعالى- اعتبره دينًا له على عباده فى قوله }وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ؟ وألست ترى أنه -تبارك وتعالى- جعل مقابل القعود عن أدائه الكفر، وهو أشد المقت، فقال تعالى: }وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ؟ ولم يعهد هذا التركيب فى فريضة أخرى فى كتاب الله غير الحج تنبيهًا على عظيم قدره وجليل أهميته.
2- قال تعالى: }وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ [البقرة: 196].
والمعنى: أكملوا الحج والعمرة خالصين لله، وأنتم ممتثلين لأوامر الله مجيبين دعوة الله، ولعلك لاحظت هنا أيضًا فى هذه الآية أنه -تبارك وتعالى- جعل الحج والعمرة ملكًا له تأكيدًا للمعنى الأول، وتنبيهًا على مزيد العناية بهذين العملين الجليلين.
3- وقال تعالى: }وَأَذِّن فى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج: 27-28].
والمعنى أن الله -تبارك وتعالى- أمر خليله إبراهيم -عليه السلام- بعد أن أتم بناء البيت أن يعلن فرضية الحج منذ تلك الساعة، فامتثل أمر ربه، ونادى فى الناس: "أيها الناس إن ربكم بنى بيتًا فحجوه"، وكان ذلك بمنزلة إعلان ما كان فى وقته -عليه السلام- وما سيكون بعده إلى يوم القيامة من تقديس البيت والمبادرة إلى حجه وعمارته.
وذهب بعضهم إلى أن الأمر فى ذلك للنبى -عليه وعلى آله وصحبه الصلاة والسلام- وتكون الآية بذلك إعلامًا بفرضية الحج فى الشريعة المحمدية، ولكلٍ وجهة، والأول هو الذي عليه جمهور العلماء. وفى الآيات الكريمة بيان بعض فوائد الحج من المنافع الدنيوية والأخروية ودوام ذكر الله، وهو صقال النفوس، ونور الأفئدة، وطمأنينة القلوب، والطهارة الحسية والمعنوية، والوفاء بنذور البر، والطواف بالكعبة المشرفة، وتعظيم حرمات الله -تبارك وتعالى- وشعائره.
1- عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه.
2- وعن ابن عباس رضى الله عنهما: "تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الذنوب كما ينفى الكير خبث الحديد" أخرجه النسائي.
ومعنى المتابعة بين الحج والعمرة: تكرارهما مرات لمن يستطيع ذلك حرصًا على هذه المزية -مزية التطهير من الذنوب والآثام- أو المتابعة بينهما بمعنى الجمع بينهما؛ فيحج ثم يعتمر مرة أو مرات؛ فتحصل له هذه الفضيلة، كل ذلك مندرج تحت هذا اللفظ الجامع، ومن استكثر من الخير استكثر من ثوابه.
3- وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" رواه البخاري وأحمد والنسائي وابن ماجه، والمعنى أن من حافظ على آداب الحج فترك اللغو والحرام؛ فقد تطهر من ذنوبه، وغفر الله له خطاياه فيعود نقيًّا تقيًّا مغفورًا له.
4- وعن أبى هريرة رضى الله عنه: "الحجاج والعمار وفد الله -عز وجل- وزواره؛ إن سألوه أعطاهم، وإن استغفروه غفر لهم، وإن دعوا استجيب لهم، وإن شَفَعوا شُفِّعوا" رواه ابن ماجه وابن حبان.
5- وعنه رضى الله عنه قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أى الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله وبرسوله، قال: ثم ماذا؟ قال: ثم الجهاد فى سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: ثم حج مبرور" رواه البخاري ومسلم، والحج المبرور هو الذي لا يعقبه معصية لله.
6- وعنه رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديًا وإن شاء نصرانيًا" أخرجه الترمذي.
وفى ذلك أشد الوعيد للذين يستطيعون الحج ويقعدون عنه تكاسلا عن أدائه، وإهمالا لشأنه، وتضييعًا لحقه، وغفلة عن تأكد فرضيته، وفى الحديث روايات. وقد كان عمر رضى الله عنه يقول: "لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار، فينظروا كل من كان له جِدّةٌ ولم يحج فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين" رواه سعيد فى سننه.
7- وعن ابن عمر رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استمتعوا من هذا البيت؛ فإنه هدم مرتين، ويرفع فى الثالثة" رواه البزار وابن حبان والحاكم وصححه.
والمعنى: أن النبى صلى الله عليه وسلم يأمر أمته باغتنام فضل وجود الكعبة المشرفة التى جعلها الله بركة وهدى ورحمة وأمنًا، قبل أن تذهب بها حوادث الدهر إذا ما أَذِنَ الله بانقراض الدنيا؛ فقد هدمت قبل البعثة ثم بنيت، بناها العمالقة مرة وبنو جرهم مرة أخرى، ثم هدمها قصى بن كلاب جد النبى صلى الله عليه وسلم فى القرن الثاني قبل الهجرة، وشيدها تشييدًا محكمًا وسقفها بخشب الدوم وجذوع النخل، وبنى بجانبها دار الندوة، ثم هدمها السيل وبنتها قريش، والنبي صلى الله عليه وسلم معهم وسِنُّه 35 سنة فى قصة الرداء المشهورة.
ولعل الإشارة فى الحديث إلى هاتين المرتين لأهميتهما، وما عداهما كان ترميمًا واستكمالا لأسباب متانتها، أو أن العدد فى الحديث يفيد التكرار فحسب دون الحصر.
ويوشِك أن يهمل الناس أمر الحج ؛فيرفع الله بيته، ويستأثر به، وينزع البركة السابغة من أهل الأرض الذين أغفلوا نداء ربهم، وأهملوا فريضة حجهم، وهجروا سيدهم.
ومن ذلك تعلم تأكد فريضة الحج وعظيم ثواب الله لمن أداها، وشديد العقوبة لمن تركها وتكاسل عن أدائها.
لهذا أجمعت الأمة على فرضية الحج على القادر المستطيع، ثم ذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد وبعض أصحاب الشافعي، ومن أهل البيت زيد بن على والهادي والمؤيد بالله والناصر إلى أنه واجب على الفور؛ فمن استطاع لزمه الأداء لوقته.
ودليلهم فى ذلك ما رواه ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "تعجلوا إلى الحج (يعنى الفريضة) فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له" رواه أحمد.
وما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس عن الفضل أو أحدهما عن الآخر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أراد الحج فليستعجل، فإنه قد يمرض المريض، وتضل الراحلة، وتعرض الحاجة" رواه أحمد وابن ماجه.
وذهب الشافعي والأوزاعي وأبو يوسف ومحمد، ومن أهل البيت القاسم بن إبراهيم وأبو طالب إلى أنه واجب على التراخي، واحتجوا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم حج سنة خمس أو ست، ولكلٍ وجهة هو موليها.
وأما العمرة:
فقد رأى وجوبها فى العمر مرة الإمام أحمد بن حنبل، وهو المشهور عن الإمام الشافعي رضى الله عنه، وبه قال إسحاق والثوري والمزنى والناصر، ودليلهم فى ذلك أن الله -تبارك وتعالى- قرن الحج بالعمرة فى الآية الكريمة: }وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ [البقرة: 196]، وأكد ذلك عندهم حديث أبى رزين العقيلي "أنه أتى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبى شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن، فقال: حج عن أبيك واعتمر" رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وصححه الترمذي.
وقد روى القول بالوجوب عن على وابن عباس وابن عمر وعائشة وزين العابدين وطاووس والحسن البصري وابن سيرين وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء.
والمشهور عن المالكية أن العمرة ليست بواجبة، وهو قول الحنفية وزيد بن على والهادوية، وحجتهم فى ذلك ما أخرجه الترمذي وصححه أحمد والبيهقي وابن أبى شيبة وعبد بن حميد عن جابر "أن أعرابيًا جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أخبرني عن العمرة أواجبة هى؟ فقال: "لا، وأن تعتمر خير لك" وفى رواية: "أولى لك".
ولهذا لا خلاف بين الأئمة فى أنها مطلوبة، وفى أنها من أفضل القربات إلى الله تبارك وتعالى.
وأما زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فمطلوبة وقربة إلى الله -تبارك وتعالى- فقد روى الدارقطني بإسناده عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني فى حياتي"، وروى بهذا المعنى آثار أخرى.
وذهب بعض العلماء إلى تضعيف هذه الآثار، ولم يأخذ بها على أن زيارة القبور عامة مطلوبة بقوله صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروا القبور؛ فإنها تزهد فى الدنيا، وتذكر الآخرة" رواه ابن ماجه عن ابن مسعود، وفى حديث آخر عن أنس "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها؛ فإنها ترق القلب، وتدمع العين، وتذكر الآخرة، ولا تقولوا هجرًا" رواه الحاكم.
فإذا صح طلب زيارة قبور عوام المؤمنين؛ فقبور الأولياء أولى بذلك؛ لما فيها من زيادة العظة، وقبر الرسول صلى الله عليه وسلم أولى وأولى؛ لما فيه من زيادة العظة والبركة معًا.
والاحتجاج على المنع بحديث: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى" رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم.. احتجاج فى غير موضع الخلاف؛ فإن الحديث إنما يصح حجة لمنع شد الرحال لمسجد غير الثلاثة المذكورة، وأما ما عدا ذلك من الأغراض الجائزة شرعًا فلا يكون الحديث حجة فى منع شد الرحال لها، وقد أطال كثير من الباحثين فى هذا بما خلاصته ما ذكرت، }وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ [الأحزاب: 4](7).
شهر فى الأرض المقدسة
شعور شائع: منذ عزمت على زيارة الأرض المقدسة كان يشيع فى نفسي شعور غريب قوى فعال يهز روحى هزًا قويًا، ويتأثر به قلبي تأثرًا غريبًا، ومن العواطف القوية ما لا يعرف لونه؛ فهو مزيج من الأمل، ومن الإشفاق، ومن الخوف، ومن الرجاء، ومن الحب، ومن الوله، ومن الشوق، ومن الحنين، وكذلك كان شعوري كلما تذكرت عزمي على زيارة الأرض المقدسة.
وكثيرًا ما تكون تلك العواطف المركبة أبعد أثرًا وأعمق غورًا مما يظن الناس؛ فلقد كنت أجلس إلى نفسي فأتمثل لها مكة ومقدساتها، وطيبة وأنوارها، وأصعد بها إلى الماضي البعيد؛ فتستعرض قريشًا وآثارها والدعوة الأولى وأسرارها، ثم تستمر سائرة مع تاريخ الإسلام الحي القوى، فإذا ساعات عظيمة وانتصارات تسمو على البشرية، وتتعالى على التاريخ نفسه، وتتحدى الأرض ومن فيها، وإذا ساعات من الضعف تثير الشجون وتستدر العيون.
وكذلك كان شأني فى هذه الجلسة التى أخلو فيها بنفسي قبل السفر؛ فأستعرض الخواطر جميعًا، وكثيرًا ما كنت أرى نفسي مندفعًا فى بكاء صامت أو مغمورًا فى فيض من الشعور بالسرور، أو ذاهلا لا أذكر مما حولي إلا هذه الخواطر التى تجسمت أمامي، فتخيلتها الحقوق الماثلة.
ولبعض الألفاظ سلطان قوى على النفس لارتباطه القوى بذكريات مسميات هذه الألفاظ، ولصلته المتينة بشعور سابق ولاحق، تثيره هذه الذكريات؛ فإذا ما ذكرت هذه الألفاظ أهاجت الساكن، وحركت الكامن؛ فاندفعت تتأثر للكلمة، وتبكى للفظ وما هو إلا المعنى الرمزي لكل ما تعلق به من مشاعر وذكريات؛ فالكعبة، والبيت الحرام، وحراء، وزمزم، ومقام إبراهيم، وغار ثور، وخيف منى، ووادي عرفة، ومسجد نمرة، وبطن الصفا، ومسجد بلال، ومصلى التنعيم، والمشعر الحرام، وشامة، وطفيل، ومزدلفة، وثبير، وحرة واقم، وبنى سالم بن عوف، ومسجد قباء، وبئر آريس، وجبل أحد، وروضة البقيع، والروضة بين القبر والمنبر، وآثار الخندق.
كل هذه الأسماء فى مكة والمدينة، لها على نفسك سلطان أى سلطان، حين تذكرها، وحين تمثلها لنفسك، وحين تمنى نفسك برؤيتها ومشاهدتها، وما ذلك إلا لأنها تصور لك ما كان فيها من حادثات جسام تهتم لها وتتأثر بها.
ولا أطيل عليك ولا أسترسل فى وصف شعور يتجدد كلما ذكر، ويستفيض كلما تجدد، وينهمر هذا الفيض حتى لا تكاد تشعر بنهاية أو تدرك مدى غاية.
ولكنى أقول لك: إن أهم ما حدا بى إلى زيارة هذه البقعة المباركة غير ما يحدو بكثير من الناس؛ فإن أعظم ما يسير بالناس إلى هذه البقاع المطهرة الرغبة الملحة فى أداء الفريضة والزيارة المباركة رجاء الثواب أو خوفًا من التبعة يوم القيامة، أو الرغبة الملحة فى التمتع بما أفاضه الله على هذه الديار وساكنيها من بركة وخير، وذلك جميل حقًا، وذلك بعض ما حدا بى إلى الرحلة.
أما السبب الأول فى الحقيقة فهو "دعوة الإخوان المسلمين"، ولعله يسبق إلى ذهنك من هذا الاعتراف أنه الرغبة فى نشر دعوة الإخوان المسلمين وتلمس الأنصار والمؤمنين بها من آفاق الأرض، ومن القلوب الطاهرة التى تهوى إلى هذه الأرض المقدسة، وليس ذلك كذلك، وإن كان أملا من الآمال، وفائدة من الفوائد المنتظرة، ولكن الذي أقصده أن دعوة الإخوان المسلمين، وهي دعوة خالصة لوجه الله من أول يوم، مؤسسة على تقواه، مستندة إلى عظمته سبحانه، هذه الدعوة أعتقد أنه لا بد لنجاحها من أمرين أساسيين:
أولهما: طهارة القائمين بها، ونزاهة نفوسهم حتى تصلح لتلقى المعونة والنصر من الحق تبارك وتعالى.
وثانيهما: صلة هذه القلوب بالداعي الأول صلى الله عليه وسلم، صلة روحية قوية تؤدى إلى حسن الاتباع والاستمساك بالسنة، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
فأما الطهارة النفسية فأول سبلها حج بيت الله الحرام؛ حيث تحط الذنوب والأوزار، وأما المدد الروحي من الداعي الأول صلى الله عليه وسلم فسبيله زيارة حرمه والتمتع بروضته، ويلحق بهذه الأسباب جميعًا ما تستقيده روح الداعية من معاهدة مواطن الدعوة الأولى، واستعراض حوادثها استعراضًا عمليًا على أديم الصحراء العربية لا فى صفحات الكتب وآراء الرجال.
ذلك أهم ما أثار النفس وهفا بالقلب إلى أرض الوحي ومهابط التنزيل، والقلوب بيد الله يقلبها كيف شاء؛ فاللهم ثبت قلوبنا على دينك(8).
المصادر
- مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 10 – صـ10، 11 – 3محرم 1362هـ / 9يناير 1943م.
- مجلة الإخوان المسلمين – السنة الثانية – العدد 25، 26 – صـ4، 35 – 26محرم 1363هـ / 22يناير 1944م.
- مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 18 – صـ18، 19 – 27رجب 1352هـ / 16نوفمبر 1933م.
- مجلة الإخوان المسلمين – السنة الخامسة – العدد 165 – صـ3 – 29رمضان 1366هـ / 16أغسطس 1947م.
- مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 33 – صـ1 : 3 – 6ذى الحجة 1352هـ / 22مارس 1934م.
- مجلة الإخوان المسلمين – السنة الثانية – العدد 37 – صـ1 – 17ذو القعدة 1353هـ / 21فبراير 1935م.
- مجلة الإخوان المسلمين – السنة الثانية – العدد 37 – صـ4 : 7 – 17ذو القعدة 1353هـ / 21فبراير 1935م.
- مجلة الإخوان المسلمين – السنة الرابعة – العدد 6 – صـ14، 15 - 28صفر 1355هـ / 19مايو 1936م.