الامام حسن البنا في عيون أخيه جمال البنا
في قصيدة مشهورة، رائعة، يرمز الشاعر الكبير أحمد شوقي بشخصية المعلم - كما ينبغي أن تكون عليه - إلى حامي الحقيقة، والبطل الذي يقف وحده أمام الطغاة والمتجبرين، والجماهير والكتل، والأوهام والتقاليد، يحارب دون هوادة هؤلاء جميعًا ليصل إلى الحقيقة التي يؤمن بها، وينصرها عليهم، ويتعرض في سبيل ذلك لكل صنوف الاضطهاد، ثم يغلب دائمًا أن تتحكم هذه الحقيقة في موته، كما تحكمت في حياته، فيقبل ذلك راضيًا، مختارًا، مفضلا الموت في سبيل الحقيقة، على العيش وسط الأوهام، ضاربًا المثل بسقراط الحكيم.
شَفَتَىْ مُحِبٍّ آثَرَ التقبيلا سقراطُ أعطى الكأس وهي منيَّة
فأبى، وآثر أن يموت نبيلا عرضوا الحياة عليه وهي غباوة
ولقد كان المظنون أن الجهاد في سبيل الحقيقة قد غدا أهون وأسهل، وأن أصحابه أصبحوا محلا للتكريم والتعظيم، وأن الجهالات والخرافات التي كانت تحجب العقول والأفهام، والقيود والأصفاد التي كانت تضم في أسرها الجماهير والشعوب.. وهذه كلها تساقطت فصار حماة الحقيقة أبطال الموقف وغدا واجبهم الوحيد أن يتقبلوا فروض التقدير وآيات الاحترام وأن يقطفوا ثمار الجهود التي وضع بذورها، ورواها طويلا بالعرق والدم أسلاف شردوا.. واضطهدوا وعذبوا.. وصلبوا.
ولكن وأسفاه.. إن حياة حسن البنا، وميتة حسن البنا أوضحت أن المرارة التي توارثتها البشرية أجيالا وراء أجيال، وأن المركبات العديدة من النقص والحسد والجهل والضغينة والأثرة والأنانية وأن ضعف الأمناء.. وقوة الخائنين، وتعقد الجهاز الاجتماعي.. هذه كلها أعمق جذورًا وأعظم تأثيرًا وأشد فاعلية من العناصر الطيبة، والسبل الهاوية التي جاهد لها المصلحون، واختطها المرسلون، وأن قوى الظلام والشر والضعف أغلب في النفس الإنسانية من قوى النور والهداية.. وأن الإنسانية مهما علمت، فهي جاهلة.. مهما تحررت فهي أسيرة.. مهما جددت فلها إلى الدأب القديم عودةٌ كلما تطلبت الحقيقة.. كلما خلقت لها الأوضاع الخاطئة والتقاليد الموروثة.. أصنامًا جددًا، تحول دون الغاية وتجعل لكل جيل صنمه المعبود.. فلو رد سقراط اليوم لكان عليه أن يحارب آلهة مزيفين، أكثر مما حارب في أثينا، وأن يقوِّم اعوجاجًا أشد ميلا مما قوَّم ولَحُكِم عليه أيضًا بأن يموت ميتة أقسى من تلك الميتة الهادئة الوادعة التي ماتها بين أصدقائه وحوارييه ومريديه يحدثهم حديث فيدون عن خلود الروح، ولكان عليه كما كان على حسن البنا، أن لا يكتفي بأثينا وشبابها، وأن يضرب في أربعة أركان البلاد، وأن يغرب ويشرق، وأن يتعرض لأقسى أنواع الاضطهاد وأشد صنوف الآلام النفسية كتلك التي تعرض لها حسن البنا، من حل الإخوان إلى الاستشهاد، ثم أخيرًا يتلقى في صدره عشرات الرصاصات تخلف في جسده تلك الثقوب السبعة الواسعة الشهيدة بشجاعته وإقدامه، وأن تنزف دماؤه كلها، ثم بعد ذلك ينام ضمير الدولة سنوات، على الجريمة، يحارب فيها حسن البنا، وآل حسن البنا، وذكرى حسن البنا، ويتقاسم تراثه الأغراب والأعداء، ويرقى فيها القاتلون المجرمون الآثمون.
تلك هي مغزى حياة حسن البنا وموته، وهكذا دائمًا كنت أتمثله وأثبتت حياته صدق تمثلي له، وهذا هو الدرس القيم الذي تطبعه في النفس تأمل حياة هذا الرجل من نشأته حتى استشهاده منذ أن بدأ في بلد ناءٍ، يلفه المنكر والخمول، وتتقاذف البلاد موجات الإباحية الوافدة والإلحاد الناهض، والاستسلام الغالب على جموع المسلمين، حتى تفتحت له الآفاق واستمعت لكلماته الملايين، ورددت نداءه الألوف المؤلفة، أن كل واحد شاهده منذ أيام الإسماعيلية الأولى حتى عالمية دعوته يشهد أنه هُو هو لم يتغير ولم يتبدل هو نفسه معلم الخط كما قال حساده، هو نفسه الزاهد المتواضع المؤدب، هو نفسه الكريم السخي الأبي، هو نفسه المستزيد من العلم المقبل على الدرس النافر من كل بارقة ثراء أو مظهر تبذير، هو نفسه الذي يسعى على قدميه وقد طبقت الدنيا دعوتُه، وسار العالم بذكره كما كان يسعى أول أمره في أزقة الإسماعيلية.
هكذا كانت حياة حسن البنا وما كان ليستطيع غيرها لو أراد، وما كان يريد ذلك مهما قويت المغريات؛ لأن الحقيقة في قلبه وفكره وإرادته دون شهوات النفس ومغريات النجاح فما كان له أن يتطلع إلى غيرها، ولو تطلع إلى غيرها لما أبصر فيها إلا ما تريد له حقيقته أن يبصر من زيف أو رياء أو تظاهر، ما كان لحسن البنا أن يشرك في حياته بالحقيقة التي آمن بها شيئًا؛ لأن الحقيقة لا تقبل الشركة فهي تستغرق حياة حاميها استغراقًا تامًا يحقق قول الصوفي القديم:
على خاطري سهوًا حكمت بردتي فلو خطرت لي في سواك إرادة
ثم كانت ميتة حسن البنا، جاءت أنباؤها ونحن في المعتقل، فذهلت النفوس، وهلعت الأفئدة، وكادت الظنون أن تكذب اليقين وعجز الجميع عن أن يتصوروا أنهم لن يروا بعد "الأستاذ" لن يستمعوا لألفاظه الفتية الموحية، ولن يستمتعوا بلفتاتها الحانية.. وفي ليالي المعتقل الساكنة، الساجية الطويلة، عندما ينفرد كل واحد بنفسه وفي لحظات السحر الأخاذة.. يا طالما سألت نفسي أحقًا لن أرى بعد الأستاذ؟ يا طالما رددت معاتبًا متحسرًا.
يا كبير الفؤاد.. والنفس والآمال.. مهلًا.. مهلًا.. رويدًا.. لماذا يا أستاذ تعرض نفسك للموت وتحرم آلك ودعوتك وأنصارك وبلادك من نفسك أشد ما يكونون حاجة إليها؟ ثم آبت النفس وسكنت الحواس دون أن يفتر التفكير في هذه النهاية وحكمتها، وأخيرًا تبلج اليقين.
كان يجب أن يستشهد حسن البنا، وأن يموت هذه الميتة نفسها، إنها وحدها الجديرة بما في الحقيقة، إنها وحدها "جناس" حياته، والتكملة الطبيعية للكفاح العظيم الذي لا ينتهي؛ لأنه كفاح موضوعي دائم ما دامت قوى الظلام في حياة البشرية.. ولا الكفاح الصغير الذي يتكلل بالنجاح، ويعيش فيه البطل في تبات ونبات كما تروى الأقاصيص الشعبية الهزيلة.
إنها وحدها الدليل الذي لا يقهر على الصدق والإخلاص، وعلى أن الفكرة أقوى من الحياة، إنها الميتة الحية الموحية الغنية الخصبة! الميتة التي تعمل لدعوة حسن البنا بعد غياب شخصه، كما لو كان موجودًا، بل أكثر.
إنها الميتة الأمينة الحافظة على حياة حسن البنا وذكرى حسن البنا، إنها الحارسة التي تزرى بكل حراسة دنيوية، القائلة بلسان الحقيقة والواقع "لقد كان صادقًا".
إنها الميتة التي تلخص فلسفة الإنسانية المصلحة البانية "لا الهادمة" العاملة لا الخاملة، ولا المستسلمة التي ترشد التائهين والحائرين، وتشجع الخائفين والجزعين، وترد اليقين إلى الشاكين والظانين الذي لا يقتنعون إلا بمنطق العمل والحواس.
من هذه الميتة تنبعث الذكرى الحية تتغلغل في أعماق الشباب، وتجلجل في نفوس الرجال والنساء وتفعل في الجماهير، كما كان بيان حسن البنا وشخص حسن البنا.
ومن هنا كانت قيمتها، ومن هنا كان الشهداء خالدين، ومن هنا أيضًا كان الخلود، وقفًا على الشهداء، ومن هنا أيضًا كان ترحيب الشهداء بخاتمتهم الرائعة، وأريد هنا أن أجلي حقيقة كان الأستاذ يعلم أنه سيقتل، وكان إيمانه ذاك يغلب كل ما يأخذ فيه من وسائل الوقاية، آخذًا بالأسباب لا محاولة لدرء النهاية المشرقة المحتومة.
ومن قبل كان على بن أبي طالب كلما يرى عبد الرحمن بن ملجم يرى فيه رأي العين قاتله، فإذا قيل له "ولم لا تقتله" قال: كيف أقتل قاتلي؟!
ومن قبله قال هابيل رمز الخير لأخيه رمز الشر: }لَئِنْ بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ{.
هذا هو الدرس الذي فهمته من حياة الأستاذ واستشهاده، والذي أحب أنه يفهمه الشباب الذين تجمعهم رابطة الكفاح ويوجد بينهم الصدق والإخلاص، والإيمان بما يرونه الحقيقة؛ لأن ذكرى الأستاذ الآن ملهمة المكافحين بلا استثناء.
إنها الدليل على أن قوة العقيدة تغلب غريزة الحياة، وأن الخلود أعظم جزاء وأسمى احتفالا بالمكافح مما يعرض له من مغريات دنيوية وأمجاد محلية.
نشر هذا المقال في الدعوة – الثالثة – العدد (104) – 25جمادى الأولى 1372هـ / 10فبراير 1953م.