الدستور في فكر الإمام حسن البنا

إعداد موقع الإمام حسن البنا

رغم أن الإمام حسن البنا حرص على تأليف الرجال زاهداً في تأليف الكتب، فإن الواقع أكد أنه ترك تراثا عظيما، حرصت الجماعة على جمعه في العديد من المجلدات الفكرية، تناول في كل جزء منها نوعاً معيناً من الموضوعات سواء الدعوية أو التربوية أو السياسية أو الفكرية والاقتصادية وغيرها.

حسن البنا الذي نشأ في بيئة كان يسيطر عليها الاستعمار الغربي والذي سعى منذ أيامه الأولى على أرضنا لطمس الهوية الإسلامية والعربية، وربط الدول المحتلة به ارتباطا فكريا ولغويا وسياسيا - وحتى جغرافيا- بهدف الحصول على أكثر قدر من الموارد الطبيعية التي تخدم مصلحة بلاده (بريطانيا)، واستعمل في سبيل ذلك نشر الجهل والفقر والرعب في قلوب هذا الشعوب، فكان لهذه النشأة أثرها على كتابات حسن البنا، والتي ما زالت كثيرا منها تعالج واقعنا لانطلاقه من منهج قرآني وإسلامي، وبعضها أنتهى مع انتهاء الأوضاع التي عاش فيها الإمام حسن البنا.

منهجية إسلامية شاملة

انطلقت أفكار حسن البنا من خلال تربيته الإسلامية التي حرص والده على غرسها فيه منذ صغره، إلا أنه استطاع –بما حباه الله من فهم وعلم– أن يبلور هذا الفكر وفق معطيات الواقع مغلفاً بالمنهج الشمولي للإسلام الذي يشمل كل مناحي الحياة.

ويرى الشيخ القرضاوي أن البنا اهتم اهتماما واضحا بالجانب السياسي، ويعود السبب في ذلك إلى أن الناس في ذلك الوقت رجلان: إما رجل دين وإما رجل سياسة، حيث رأى الناس – وما زالوا- أن الذنب الذي لا يُغتفر ولا يُتسامح فيه هو أن يتدخل رجل الدين أو الجماعة الدينية في القضايا السياسية!

وهو ما جعل الإمام البنا يخوض معركة حامية الوطيس لمطاردة المفاهيم الخاطئة عن العلاقة بين الدين والسياسة، ويبذر مكانها المفاهيم الصحيحة التي جاء بها الإسلام وعاش بها المسلمون قبل ولوج الاستعمار أرضنا، أن الإسلام يشمل الحياة كلها بتشريعه وتوجيهه.

لقد تناول المنهج الفكري لحسن البنا العديد من القضايا كالديمقراطية ومفهومها في المنظور الإسلامي والدستور والقانون، ورؤيته للحزبية، وأيضاً رؤيته للدولة الدستورية، وغيرها.

لقد حاول الغرب وأعوانه – وما زالوا –يلبسون الحق بالباطل من أجل حصر الدين في الزوايا والمساجد وإبعاده عن حياة الناس السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، وهو ما جعلهم يفزعون حينما طالب الإمام حسن البنا بتطبيق الشريعة الإسلامية كما جاء بها الشرع الحنيف واتهموه بأنه يدعو إلى عودة الدولة الدينية الثيوقراطية ذو القوانين المقدسة. وهو محض افتراء كون الإمام البنا لم يعارض الدستور ولا القانون لكنه طالب بتعديل القوانين التي تتعارض مع الشرع الحنيف.

رؤية البنا للدستور

لم يدرك الكثيرون ما يهدف إليه الإمام البنا فى حديثه عن نظام الحكم فى الدولة والدستور والقانون وتطبيق الشريعة ، فظنوا أنه يعارض الأحزاب والتعددية السياسية، والنظام البرلماني.

والواقع أنه لا يرفض الحكم الدستوري، بل يرفض أن يكون شكلا معطلا ، وينتهك سيادته.

كما أنه لا يرفض النظام النيابي، بل يرفض الوصول إلى مجلس النواب بالتزوير، لذا فإنه دعى إلى تعديل قانون الانتخاب بما يمنع من التزوير.

ويرفض الحزبية ومفاسدها فى عصره ، ولا يرفض نشاط الأحزاب كمبدأ عام.

لقد دعا البنا إلى تطبيق الدستور والقانون ، ودفع بعدم دستورية بعض القوانين مما يعكس رؤية قانونية دستورية لدى الإمام البنا على نحو يجهله كثيرون عنه.

لقد كان الإمام حسن البنا يؤيد النظام الدستوري والنيابي صراحة، ويرحب به، ويراه أقرب الأنظمة إلى الإسلام، لكونه دستور وقانون يعبران عن تطلعات الشعب وسلطته وحرياته، ويتم تطبيقهما واحترامهما، فيقول في "رسالة الانتخابات": "فالدستور المصري بروحه وأهدافه العامة من حيث الشورى، وتقرير سلطة الأمة، وكفالة الحريات لا يتناقض مع القرآن، ولا يصطدم بقواعده وتعاليمه، وبخاصة وقد نص فيه على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام.

لقد احترم الإمام البنا الدستور – رغم أنه من وضع البشر- لكونه اشتمل على المعاني والمفاهيم التي دعى إليها الإسلام، ويتضح سعة أفق الإمام البنا في الوقوف على مفاهيم الإسلام الشاملة وليس الوقوف والتشدد على الجزيئات الضيقة التي تحصر الإسلام في نمط معين.

بل إن الإمام البنا مع ذلك توافق مع الحكم الدستوري الذي يطبق فيه مفاهيم الإسلام مهما اختلفت المسميات فيقول: أن الباحث حين ينظر إلى مبادئ الحكم الدستوري التى تتلخص فى المحافظة على الحرية الشخصية بكل أنواعها، وعلى الشورى واستمداد السلطة من الأمة، وعلى مسئولية الحكام أمام الشعب ومحاسبتهم على ما يعملون من أعمال، وبيان حدود كل سلطة من السلطات، هذه الأصول كلها يتجلى للباحث أنها تنطبق كل الانطباق على تعاليم الإسلام ونظمه وقواعده فى شكل الحكم.

ولهذا يعتقد الإخوان المسلمون أن نظام الحكم الدستوري هو أقرب نظم الحكم القائمة فى العالم كله إلى الإسلام، وهم لا يعدلون به نظامًا آخر.

ويضيف: كما أن هذه السياسة الإسلامية نفسها لا تنافى أبدًا الحكم الدستوري الشورى، وهي واضعة أصله ومرشدة الناس إليه فى قوله تعالى من أوصاف المؤمنين: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾[الشورى: 38]، وقوله تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾[آل عمران: 159].

كما أن تعاليم الإسلام وسياسته ليس فيها معنى رجعى أبدًا، بل هى على أدق قواعد التشريع الصالح، وقد اعترف التشريع لكثير منها .. وأكدت ذلك مؤتمرات التشريع الدولية على أن الإسلام قد وضع من القواعد الكلية ما يترك للمسلم بابًا واسعًا فى الانتفاع بكل تشريع نافع مفيد لا يتعارض مع أصول الإسلام ومقاصده، وأثاب على الاجتهاد بشروطه، وقرر قاعدة المصالح المرسلة، واعتبر العرف، واحترم رأى الإمام، وكل هذه القواعد تجعل التشريع الإسلامي فى الذروة السامية بين الشرائع والقوانين والأحكام.

بل حينما ترشح الإخوان للانتخابات البرلمانية اندهش الناس كيف يرشح الإخوان أنفسهم ويدركون أنهم سيقسمون على الدستور فجاء جواب الإمام البنا لرؤيته للدستور الموجود بقوله: ويوجه بعض المتسائلين سؤالاً جميلاً فيقولون: وماذا تصنعون فى اليمين الدستورية إذا نجحتم، وفيها النص على احترام الدستور، وأنتم -معشر الإخوان- تهتفون من كل قلوبكم: القرآن دستورنا؟

والجواب على ذلك واضح مستبين: فالدستور المصري بروحه وأهدافه العامة من حيث الشورى، وتقرير سلطة الأمة، وكفالة الحريات لا يتناقض مع القرآن، ولا يصطدم بقواعده وتعاليمه، وبخاصة وقد نص فيه على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام، وإذا كان فيه من المواد ما يحتاج إلى تعديل أو نضوج، فقد نص الدستور نفسه على أن ذلك التعديل والنضوج من حق النواب بطريقة قانونية مرسومة، وتكون النيابة البرلمانية حينئذٍ هى الوسيلة المثلى لتحقيق هتاف الإخوان.

بل إن الإمام البنا أعلن أنه ملتزم وجماعة الإخوان بالعمل مع أي حكومة تعمل وفق الدين الإسلامي وتنفذ الدستور فقال: إننا نؤيد أى وزارة تنفذ برنامجا قائما على الدين الصحيح، سواء أكنا نحن الذين نتولاها بأنفسنا أم كان غيرنا، وفى الدستور الحالي سند لنا فيما أقول؛ لأنه ينص فى مادته الأولى على أن "دين الدولة الإسلام"، ومعنى هذا أن تكون جميع نظمنا وقوانيننا وتصرفاتنا مبنية على قواعد الإسلام.

بين الدستور والقانون

بلا شك يختلف الدستور عن القانون، كون الدستور سلطة أعلى من القانون لأنه ما توافق عليه الشعب، لكن القانون هو من وضع السلطة التنفيذية لترتيب الحياة بين الشعب.

وهو ما وضع الإمام البنا في خلده حينما تحدث عن الدستور والقانون وفرق بينهما حيث قال: وأحب قبل هذا أن نفرق دائمًا بين (الدستور) وهو نظام الحكم العام الذي ينظم حدود السلطات، وواجبات الحاكمين، ومدى صلتهم بالمحكومين، وبين (القانون) وهو الذي ينظم صلة الأفراد بعضهم ببعض، ويحمى حقوقهم الأدبية والمادية، ويحاسبهم على ما يأتون من أعمال.

قدسية الدستور

لم يكن الدستور شيئا مقدسا عند الإمام البنا، لكنها مجرد مواد تحفظ حقوق الناس وفق رضائهم عنه، فالدستور المقدس فقط هو ما جاء من عند الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

حيث طالب بأن يستمد دستور البلاد مواده من كتاب الله وسنة نبيه بما يتوافق مع مقتضيات العصر وتطوره دون التعدي على نصوص الشرع أو التلاعب بها فيقول في ذلك: إن لكل أمة من أمم الإسلام دستورًا عامًّا فيجب أن تستمد مواد دستورها العام من أحكام القرآن الكريم، وإن الأمة التى تقول فى أول مادة من مواد دستورها: إن دينها الرسمي الإسلام، يجب أن تضع بقية المواد على أساس هذه القاعدة، وكل مادة لا يسيغها الإسلام ولا تجيزها أحكام القرآن يجب أن تستبدل بما يتفق وهذه الأحكام؛ حتى لا يظهر التناقض فى القانون الأساسي للدولة.

كما رأى أن بعض مواد الدستور قد تكون غامضة أو مبهمة أو تحمل أوجه كثيرة في التفسير وهو ما يجعل البعض يستغل هذه الثغرات في نشر الظلم أو ضياع الحقوق، ولذا يجب أن تكون مواد الدستور واضحة وصريحة، وهو المعنى الذي يذكره الإمام البنا بقوله:

بقي بعد ذلك أمران: أولهما: النصوص التى تصاغ فى قالبها هذه المبادئ، وطريقة التطبيق التى تفسر بها عمليًّا هذه النصوص.

 إن المبدأ السليم القويم قد يوضع فى نص مبهم غامض، فيدع مجالاً للعبث بسلامة المبدأ فى ذاته، وإن النص الظاهر الواضح للمبدأ السليم القويم قد يطبق وينفذ بطريقة يمليها الهوى وتوحيها الشهوات، فيذهب هذا التطبيق بكل ما يرجى من فائدة.

وإذا تقرر هذا فإن من نصوص الدستور المصري ما يراه الإخوان المسلمون مبهمًا غامضًا يدع مجالاً واسعًا للتأويل والتفسير الذي تمليه الغايات والأهواء، فهى فى حاجة إلى وضوح وإلى تحديد وبيان هذه واحدة، والثانية: هى أن طريقة التنفيذ التى يطبق بها الدستور، ويتوصل بها إلى جنى ثمرات الحكم الدستوري فى مصر، طريقة أثبتت التجارب فشلها، وجنت الأمة منها الأضرار لا المنافع، فهى فى حاجة شديدة إلى تحوير وإلى تعديل يحقق المقصود ويفي بالغاية.

وحسبنا أن نشير هنا إلى قانون الانتخاب، وهو وسيلة اختيار النواب الذين يمثلون إرادة الأمة، ويقومون بتنفيذ دستورها وحمايته، وما جره هذا القانون على الأمة من خصومات وحزازات، وما أنتجه من أضرار يشهد به الواقع الملموس، ولابد أن تكون فينا الشجاعة الكافية لمواجهة الأخطاء والعمل على تعديلها.

ويضيف في موضع أخر: ومع أن النظام النيابي والدستور المصري فى قواعدهما الأساسية لا يتنافيان مع ما وضعه الإسلام فى نظام الحكم، فإننا نصرح بأن هناك قصورا فى عبارات الدستور، وسوءًا فى التطبيق، وتقصيرا فى حماية القواعد الإنسانية التى جاء بها الإسلام وقام عليها الدستور، أدت جميعًا إلى ما نشكو منه من فساد، ما وقعنا فيه من اضطراب فى كل هذه الحياة النيابية.

وهو ما أكده من خلال كلام بعض البرلمانيين أمثال الدكتور "إبراهيم مدكور" عضو مجلس الشيوخ المصري، والأستاذ "مريت غالى حينما ذكروا في مذكرتهما لمجلس الشيوخ: تحت عنوان "الدستور وغموضه":

"فأما العامل الأول فملخصه أن دستورنا على الرغم من دقته وضبط عبارته، قد وقع فى نفس الغموض الذي وقعت فيه دساتير أسبق منه، وترك أهم نقطة فى الحكم النيابي دون أن يحددها التحديد الكافي، ونعنى بها سلطة الوزراء وصلتهم بالشعب ممثلا فى نوابه من جهة، وإشرافهم على ما يؤدى إليه من خدمات عن طريق المصالح والإدارات من جهة أخرى.

مشكلة الدستور لدى البنا لم تكن في مواد الدستور لكن كانت في إسقاط مواده على الواقع وتنفيذها، لأنه وجد أن المكتوب شيء وما تقوم به السلطة بتنفيذه شيء أخر، ففي وقت أقر الدستور أن دين الدولة الإسلام ولغتها العربية كانت الحكومة تسن قوانين تخالف الدين وتبيح الزنا والقمار والخمر، وهو ما كان سببا في اعتراض الإمام البنا حيث أكده هذا الأمر في موضع أخر بقوله: فأي الموقفين يريد حماة الدستور وواضعوه أن يضعوا أنفسهم فيه أمام الأمة؟ وهل يرضيهم أو يروقهم أن يظل هذا التناقض قائما بين الدستور المكتوب والدستور المنفذ؟ وما قيمة نصوص لا تتحقق؟ أفتونا -أيها الفقهاء الدستوريون- أثابكم الله!!

ذلك موقف الإخوان المسلمين من القرآن والدستور منذ عشر سنين، وذلك موقفهم منهما الآن وذلك موقفهم الذي سيظل قائما فى المستقبل؛ حتى تتحقق غايتهم فيتفق تعليم الدستور مع تعليم القرآن، وتكون تعاليم القرآن هى لب الدستور ومحوره، والحكم بيننا وبين الفقهاء الدستورين كتاب الله على أوسع حدوده، ومدلولاته فى غير سرف ولا تحكم ولا جمود ولا اشتطاط.

مطالب البنا لتعديل الدستور

لم يعارض الإمام البنا الدستور والقانون من حيث المبدأ، لكنه عارض ما علق به من شوائب، فيقول :" نحن لا نعترض على الحكم الشورى النيابي من حيث هو، فإن الإسلام قد وضع الأساس للشورى وللتناصح، ولحرية الرأي ولسلطة الأمة، ولتبعة الحكام، وهي أركان الدساتير العصرية، ولكن الذي نعترض عليه ونطالب بالتحرر منه هذه الشكليات الفارغة التقليدية التى جربناها عشرين سنة، فلم نجن منها إلا الفرقة والخلاف والشوك والحسك والصاب والعلقم.

نريد تعديلات فى النصوص والأشكال توفق بين تعاليم الإسلام وما نحن عليه، وتخلصنا من هذا البلاء الداهم الذي وقعنا فيه من جراء تقليد الغرب من غير تبصر ولا تقدير لعواقب الأمور.

وهو ما ظل يشدد على أن الشرع الحنيف وضع مواد دستوره وقوانينه واضحة لا لبس فيها ذاكرا بعض نماذجها بقوله: فإن الإسلام الذي قدس القوة هذا التقديس، هو الذي آثر عليها السلم فقال تبارك وتعالى بعد آية القوة مباشرة: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾[الأنفال: 61].

وهو الذي حدد ثمن النصر ومظاهره فقال تعالى: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِى الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾[الحج: 41].

وهو الذي وضع أساس القانون الدولي الحربي فقال تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾[الأنفال: 58].

ومن ثم طالب بإصلاح الدستور حتى يتفق مع التشريع الإسلامي فى كل فروعه، وأن بأصوله الكلية، وقواعده العامة ومقاصده الجامعة سهل الأمر على كل واضعي الدستور في الدول الإسلامية قبل غزو الاستعمار لها والعمل على فرض دساتيره، حيث يذكر الإمام البنا: فالقوانين الدستورية والمدنية والجنائية بفروعها المختلفة عرض لها الإسلام، ووضع نفسه منها بالموضع الذي يجعله أول مصادرها وأقدس منابعها. وهو حين فعل هذا إنما وضع الأصول الكلية، والقواعد العامة، والمقاصد الجامعة، وفرض على الناس تحقيقها، وترك لهم الجزئيات والتفاصيل يطبقونها بحسب ظروفهم وأعصارهم، ويجتهدون فى ذلك ما وسعتهم المصلحة وواتاهم الاجتهاد.

وقد قرر الإسلام سلطة الأمة وأكدها، وأوصى بأن يكون كل مسلم مشرفًا تمام الإشراف على تصرفات حكومته، يقدم لها النصح والمعونة ويناقشها الحساب، وهو كما فرض على الحاكم أن يعمل لمصلحة المحكومين بإحقاق الحق وإبطال الباطل فرض على المحكومين كذلك أن يسمعوا ويطيعوا للحاكم ما كان كذلك، فإذا انحرف فقد وجب عليهم أن يقيموه على الحق، ويلزموه حدود القانون، ويعيدوه إلى نصاب العدالة، هذه تعاليم كلها من كتاب الله تبارك وتعالى.

ثم طالب بتعديل الدستور الذي شُرع على أساس الدساتير الغربية فقال: تعديل الدستور المصري "الذي يستمد الآن أصوله وقواعده من الدستور البلجيكي وغيره من دساتير أوروبا" تعديلاً يحقق نظام الحكومة الإسلامية، ويقضى على الخلاف والحزبية، ويتفق مع تعاليم القرآن الكريم.

وعن القانون قال: إصلاح القانون بحيث يتفق مع الشريعة الإسلامية فى كل فروعه من مدني وجنائي وتجارى وغير ذلك، مع إفهام الأجانب عن الإسلام والجاهلين بتشريعه أن التشريع الإسلامي يتفق مع أحدث التشريعات وأوفاها بمحاربة الجريمة ومناصرة الفضيلة، ورفع مستوى الشعوب، ويلحق بذلك إصلاح السجون، وتهذيب وسائل العقوبات تهذيبًا إسلاميًّا عصريًّا.

لم يطالب الإمام بالبنا بتعديل الدستور نكاية فيمن وضع الدستور لكن لما ترتب من آثار على دستور فرق الأمة ولم يوحدها، وتستغله كل حكومة في تبرير تصرفاتها وهو المعنى الذي ذكره بقوله: تعديل الدستور المصري تعديلا جوهريا يوحد فيه السلطات، ويقضى على الحزبيات، ويشحذ العزائم والهمم، ولا يوجد مجالا لهذه الرخاوة التى لا يمكن أن تنقذ أمة فى مستهل عصر جديد.

وحينما سأل عن آلية تعديل الدستور أجاب: هذا باب واسع ويجب تأليف اللجان الفنية المختصة لإعادة النظر على ضوء التطورات الموضعية والعالمية، والقاعدة التى يتمسك بها الإخوان فى ذلك وجوب الأخذ عن التوجيهات والمبادئ التى جاء بها الإسلام الحنيف، والاعتماد على كل ما يقوى روح القومية، والتخلص من نير التقليد الأجنبي.

ويشير إلى هذا فى موضع آخر بقوله :"لهذا يعمل الإخوان المسلمون جهدهم حتى تحدد النصوص المبهمة في الدستور المصري ، وتعدل الطريقة التي ينفذ بها هذا الدستور في البلاد ، وأظن أن موقف الإخوان قد وضح بهذا البيان ، وردت الأمور إلى نصابها الصحيح ..... فنحن نسلم بالمبادئ الأساسية للحكم الدستوري باعتبارها متفقة ، بل مستمدة من نظام الإسلام ، وإنما ننقد الإبهام وطرائق الإنفاذ.

بين الدستور والنظام النيابي

لم ير الإمام البنا ضرر في النظام النيابي طالما يقر الحق ويلتزم بمصالح الدين والعباد وينظم العلاقات في جميع مناحي شئون البلاد، وهو ما عبر عنه البنا بقوله: يقول علماء الفقه الدستوري: إن النظام النيابي يقوم على مسئولية الحاكم وسلطة الأمة واحترام إرادتها، وإنه لا مانع فيه يمنع وحدة الأمة واجتماع كلمتها، وليست التفرقة والخلاف شرطًا فيه، وإن كان بعضهم يقول: إن من دعائم النظام النيابي البرلماني "الحزبية". ولكن هذا إذا كان عرفا فليس أصلا فى قيام هذا النظام أنه يمكن تطبيقه بدون هذه الحزبية وبدون إخلال بقواعده الأصلية. 

وعلى هذا فليس فى قواعد هذا النظام النيابي الأساسية ما يتنافى مع القواعد التى وضعها الإسلام لنظام الحكم، وهو بهذا الاعتبار ليس بعيدًا عن النظام الإسلامي ولا غريبا عنه، وبهذا الاعتبار يمكن أيضًا أن نقول فى اطمئنان: إن القواعد الأساسية التى قام عليها الدستور المصري لا تتنافى مع قواعد الإسلام، وليست بعيدة من النظام الإسلامي ولا غريبة عنه، بل إن واضعي الدستور المصري -رغم أنهم وضعوه على أحدث المبادئ والآراء الدستورية وأرقاها- فقد توخوا فيه ألا يصطدم أى نص من نصوصه بالقواعد الإسلامية، فهى إما متمشية معها صراحة كالنص الذى يقول: "دين الدولة الرسمي الإسلام" أو قابلة للتفسير الذى يجعلها لا تتنافى معها كالنص الذى يقول: "حرية الاعتقاد مكفولة".

ولقد قدم الإمام البنا تصورا للدولة الدستورية على نحو ما تدعو إليه النظم الدستورية الحديثة ،وسار هذا التصور ملازما لتصور الجماعة للحكم الدستوري، فقد وصفت صحيفة الأهرام جماعة الإخوان المسلمين نظام الحكم الدستوري بأنه أقرب نظم الحكم القائمة في العالم كله إلي الإسلام‏،‏ وأن الحكم الدستوري قرره الإمام المؤسس حسن البنا في رسالة المؤتمر الخامس الذي عقد في2 فبراير1939، حيث قال: الواقع -أيها الإخوان- أن الباحث حين ينظر إلي مبادئ الحكم يجدها تنطبق كل الانطباق علي تعاليم الإسلام ونظمه وقواعده في شكل الحكم.

المصادر

  1. يوسف القرضاوي: التربية السياسية عند الإمام حسن البنا، مكتبة وهبة، القاهرة،2007م.
  2. رسالة الانتخابات: مجموعة رسائل الإمام حسن البنا، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، 2008م، صـ823.
  3. رسالة المؤتمر الخامس: المرجع السابق، صـ394.
  4. رسالة مؤتمر طلبة الإخوان: صـ263- 264.
  5. رسالة الانتخابات: صـ823.
  6. إحسان عبد القدوس: الرجل الذي يتبعه نصف مليون، مجلة روز اليوسف، العدد900، بتاريخ 19/9/1945،ص (6-7)
  7. رسالة مؤتمر طلبة الإخوان: مرجع سابق، صـ264.
  8. رسالة إلى أي شيء ندعو الناس: مجموعة رسائل الإمام البنا، صـ71
  9. المرجع السابق.
  10. رسالة مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي: دار التوزيع والنشر، 2006، صـ726.
  11. المرجع السابق: صـ728.
  12. حسن البنا: الدستور والقرآن، مجموعة من تراث الإمام البنا، الكتاب التاسع، الإصلاح السياسي، دار التوزيع، صـ203
  13. المرجع السابق: صـ205
  14. رسالة نحو النور: صـ181.
  15. رسالة مؤتمر طلبة الإخوان: صـ256.
  16. رسالة المنهج: صـ286.
  17. المرجع السابق: صـ288.
  18. حسن البنا: أيها الزعماء عدلوا النفوس قبل المناصب، مجلة النذير، العدد (5)، السنة الأولى، 28 ربيع الثاني 1357ﻫ/ 27 يونيو 1938م، ص(3-4).
  19. واجبنا فى الظروف الحاضرة!: نداء الوطن، العدد 25، 1صفر 1366- 25/12/ 1946، صـ 14.
  20. الإخوان المسلمون في عشر سنوات: مجلة النذير ، العدد (35)السنة الأولى ، 17 من ذى الحجة 1357هـ / 7فبراير 1939 ص3ـ
  21. رسالة مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي: مرجع سابق، صـ725.
  22. صحيفة الأهرام : الإخوان تصف الحكم الدستوري بأنه الأقرب للإسلام ، الأربعاء 27 رجب 1431هـ/ 29 من يونيو 2011، العدد (45495) صـ 5.
المقال التالي حسن البنا ونظرته للأمن القومي المصري والإسلامي