مقدمة
احتل الإنجليز مصر عام 1882، وقد تمكنوا من استيعاب المقاومة ضدهم وأخضعوا المنظومة السياسية لإرادتهم، وسيطروا على عناصرها يتلاعبون بها، وأحدثوا تغييراً اجتماعياً نشأ عنه ارتباط شريحة من المثقفين والرموز السياسية ورجال الأعمال وأصحاب الأراضي بهم وبأفكارهم، وارتبطت مصالحهم بمصالحها.
لكن رغم كل هذا استمرت الروح الوطنية ترفض هذا الاحتلال، وتسعى للاستقلال، حتى مع احتواء المحتل لكثير من المقاومة أو القضاء عليها، لكنها ظلت نار مشتعلة تحت الرماد.
حيث زادت من حدتها نشأة جماعة الإخوان المسلمين التي سعت لنشر المفاهيم الصحيحة للإسلام والدفاع عن الوطن وعدم الاستلام أو إعطاء الدنية في دينهم ووطنهم لأحد، حيث جعل الإمام الشهيد تحرير الوطن من هذا الاحتلال هدفاً رئيسياً من أهداف المشروع الإسلامي، حيث لم يرد إخراجه من الأراضي الإسلامية فحسب، بل أراد نزع جذور الاستعمار الأجنبي من العقول والأفكار ومن النفوس والقلوب، ومن تبعية السلوك والتقليد وادعاءات المصالح والارتباطات، كان يريد تحريراً واستقلالاً كاملاً شاملاً لا يقتصر فقط على مجرد رحيل القوات الأجنبية.. وهو ما نلمسه في كتاباته وتصرفاته على أرض الواقع.
بيان من الإخوان المسلمين إلى شعب وادي النيل
هدف الإخوان المسلمون منذ نشأتهم أن يجددوا لهذه الأمة شبابها، ويبعثوا إليها مجدها، ويخلقوا روحا جديدا في الجيل الجديد على أسس الإسلام، والإسلام كما عرفوه وآمنوا به نظام شامل لمختلف نواحي المجتمع، وبرنامج كامل يبنى الأمة على أقوم الدعائم، وأرقى المبادئ، وأروع المثل، كما يكفل لجميع العناصر والأديان حياة هانئة تحت ظلال العدالة، والإخاء، والمساواة، فهو كافل الحريات، وحامى الأقليات، ومحقق الإنصاف بين مختلف الطبقات.
ولقد كان من البديهي أن يطبع الإسلام تابعيه على الحرية التامة، والعزة المطلقة فلا يرتضون ذلا في الأرض ولا هوانا: ﴿وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾[المنافقون: 8].
لهذا كان لزاما عليهم- لكي يحققوا للأمة ما يرتجون لها من عزة وكرامة- أن يعملوا جاهدين على تحريرها من نير الأجنبي، واستخلاصها من براثن الاستعمار الغاشم مستوحيين في ذلك روح الحق، ونزاهة القصد ونهج السبيل.
فلما أن وضعت الحرب أوزارها، هب الإخوان يفقهون الأمة في حقوقها، وينبهون الشعب إلى مطالبه المشروعة، ويستنهضون العزائم للعمل على نيل هذه الحقوق، فأصدروا البيانات وعقدوا المؤتمرات، وطلعوا على الأمة في كل مطلب من مطالبها بمختلف الدراسات، ونادوا بإلحاح أن تنسى الأحزاب ما بينها من اختلافات ومهاترات فتتجمع الأمة صفا واحدا، فلا يجد الأجنبي منفذا من بين هذه الخلافات للمماطلة والمراوغة والتسويف، وأهابوا بأولى الأمر أن يعملوا من جانبهم وبحكم أوضاعهم الرسمية على تحقيق أهداف الوطن ونيل حقوقه المغتصبة.
ومرت الأيام والشهور والإخوان يستحثون الخطى، ويستثيرون الهمم حتى طلعت الصحف ذات يوم بأن الهيئة السياسية قد اجتمعت، وأن المطالب قد تحددت، وأن الحكومة المصرية قد أرسلت مذكرتها إلى الحكومة الإنجليزية؛ تطلب تحقيق هدفي الجلاء ووحدة وادي النيل.
انتظر الشعب نتيجة ما سعت إليه الحكومة، وإذا بتصريح من وزير الخارجية المصرية تهتز به أمواج الأثير وتتناقله الصحف، كان له أثره السيئ في نفوس أبناء النيل خاصة، ودول العروبة بوجه عام، فلقد صرح الوزير –كما أذيع- بأن مشاكل مصر والعالم العربي ليست مما تمخضت عنه الحرب وأنها لهذا لا تدخل في اختصاص مجلس الأمن.. ولقد دهش الجميع لهذا التصريح الخطير الذي تسببت عنه أزمة وزارية، والذي قال عنه أحد وزراء الحكومة الحاضرة: (إنه وضع القضية المصرية في قفص) ومن عجب أن قابلت الحكومة هذا التصريح بالصمت التام فلم تعلن رأيها فيه.
الأمر الذي يسجل عليها رضاءها عنه وتسليمها به.
وفى يوم 31 يناير الماضي، طلعت علينا صحف الصباح بالنص الرسمي للمذكرة المصرية والرد البريطاني.
المذكرة المصرية
الذي يلفت الأنظار في المذكرة المصرية أنها سلكت مسلك الضعف والاستجداء في أسلوبها مما يسر للإنجليز التهرب من الاعتراف بحقوقنا التي انعقد إجماع الأمة عليها.
فأولا: بنت الحكومة مطلبها على تعديل المعاهدة التي أثبتت الظروف أنها لم تعد صالحة لأن تكون أساسا للعلاقات بين الدولتين، بل إن هذه الظروف نفسها قد فرضت بطلان هذه المعاهدة وإلغاءها إلغاء تاما لأسباب أهمها: زوال عصبة الأمم من الوجود، وقيام ميثاق الأمم المتحدة الذى اشتركت مصر في توقيعه، وتغير الظروف الاستثنائية التي أبرمت فيها للمعاهدة فضلا عما بذلته مصر من مجهود أثناء الحرب فاق ما قررته المعاهدة بمراحل كثيرة، وفاق ما كان منتظرا منها مما أدى إلى تغيير مجرى الحرب في جانب الحلفاء كما اعترف بذلك قادة الحرب وزعماء الدول الكبرى أنفسهم.
ثانيا: لم تحدد الحكومة في مذكرتها مطالب البلاد في قوة وصراحة، وكان أولى بها -وهي صاحبة الحق- أن توضح هذا الحق توضيحا قويا تؤكد فيه أنها لن ترضى عن الجلاء ووحدة وادي النيل بديلا.
ثالثا: السودان، شطر الوادي، لقد فجع أبناء النيل جميعا لهذا الأسلوب المتخاذل الذي صاغت فيه الحكومة قضية السودان، بل قضية وادي النيل، فلقد طلبت في ذيل مذكرتها أن تشمل المحادثات مسألة السودان "مستوحية" مطالب السودانيين وأمانيهم، وكان أحرى بها ألا تردد هذه النغمة الملتوية التي يذكرها الإنجليز على الدوام ليفرقوا بين شطري الوادي، ولقد أعلنا غير مرة أن مطالب السوداني وأمانيه هي بعينها مطالب المصري وأمانه: جلاء تام، ووحدة كاملة.
هذا فيما يختص بالمذكرة المصرية، ضعف في الأسلوب، وغموض في الطلب، وتراخ في الحق الواضح!!
الرد البريطاني
أما الرد البريطاني، فقد جاء متمما لسلسلة المراوغات التي بدأت منذ الاحتلال البريطاني المشئوم سنة 1882 إلى الآن، والتي توالت فيها النكبات على مصر- رغم الوعود التي بذلت بسخاء ولم تف إنجلترا بشيء منها- وكان منها هذه الاتفاقات الباطلة التي أبرمت ففصلت السودان عن مصر، والمفاوضات الفاشلة التي انتهت بمعاهدة سنة 1936 وهي التي لم تكن سوى قيود كبلت البلاد، واتخذت منهما انجلترا ذريعة للاحتلال الصريح الذي نواصل الجهاد اليوم للتحرر منه.
وأهم ما يستوقف النظر في هذا الرد:
أولا- أن أسلوبه هو عين الأسلوب الذي تعودته مصر منذ أول أيام الاحتلال المشئوم فهو- كما قلنا- التواء وتهرب وتسويف.
ثانيا- تتمسك بريطانيا بالأسس التي قامت عليها معاهدة 1936 متجاهلة الظروف الجديدة التي هدمت هذه الأسس، وقضت على هذه المعاهدة بالبطلان كما سبق أن أوضحنا.
ثالثا- تتجاهل بريطانيا مركز مصر الدولي، وما بذلت من جهود حربية عظيمة في صفوف الأمم المتحدة فتقرنها مع مجموعة الأمم البريطانية والإمبراطورية رغم مركزها الملحوظ في الشرق الأوسط والجامعة العربية، وعضويتها في هيئة الأمم المتحدة وفى مجلس الأمن الدولي، وفى ذلك ما فيه من جرح لكرامتها وإنكار لوضعها الدولي القائم.
رابعا- المشاركة: إنه لفظ جديد في قاموس السياسة الاستعمارية البغيض، ولا يقبلها المصريون بحال من الأحوال. إذ ليس من المعقول أن نعمل على الخلاص من براثن هذه الشركة الممقوتة في جنوب الوادي لنلقى ويلاتها في الشمال من جديد.
خامسا- أما الرد على المذكرة المصرية في شأن السودان فقد اكتفى بهذه الإشارة العابرة التي أتى بها عقب فراغه من تنظيم الأسس للمحادثات المقبلة مقتصرا على مجرد العلم، وفى هذا إهدار للحقوق وتجاهل لما أجمع عليه أبناء الوادي من وحدة كاملة.
سادسا- وفى الوقت الذي تطلب فيه الحكومة المصرية إشخاص وفد للمفاوضة في لندن، إذا بالحكومة البريطانية تحيل الأمر على سفيرها في مصر بعد أن حولته من مفاوضة إلى محادثة مع هذا السفير الذي يعلم أبناء الوادي مدى ما ذهب إليه في تطبيق المعاهدة المشئومة بما يخالف نصها ولا يطابق روحها.
يا أبناء النيل
هذه هي المذكرة المصرية وهذا هو الرد البريطاني عليها، وإن الإخوان المسلمين في أنحاء الوادي ليعلنون في قوة ووضوح أنهم لن يرتضوا بعد اليوم ذلا ولا هوانا، ولا يقبلون ترددا في نيل حقوقهم ومطالبهم ويدعون الشعب كله، أفرادا وجماعات، أحزابا وهيئات أن يقفوا معهم صفا واحدا في المطالبة بهذه الحقوق والعمل على تحقيقها أو الفناء في سبيلها.
أيها المواطنون، إن الإخوان المسلمين ليسجلون على الحكومة هذا الموقف الضعيف، ويسجلون على الإنجليز هذا الجحود، ولقد علمتنا التجارب أن الاستقلال والحرية ما كانت يوما من الأيام صكا يكتب أو اتفاقا يعقد، لا يشفى غلة ولا يطفئ أوارا، ويهيبون بالأمة أن تستعد لجهاد متصل عنيف، فليس للهوان بعد اليوم من سبيل.
ولتعلموا أن المفاوضة وسيلة وليست غاية مقصودة لذاتها، ولا يمكن أن تقدم الغاية على الوسيلة إلا إذا اطمأنننا على أسس بينة لتحقيق هذه الغاية، فلنتعظ بالماضي، وليحذر الساسة ألاعيب المستعمرين، ولتتوحد الصفوف وتتحد الجهود بتوجيه وطني خالص لوجه الله والوطن.
أيها المواطنون: إن حقوقكم قد اجتمعت عليها كلمتكم، وارتبطت على المطالبة بها قلوبكم، وهي الجلاء التام عن وادي النيل بلا مراوغة ولا تسويف، ووحدة الوادي بلا تردد ولا إمهال، وحل المشاكل الاقتصادية المعلقة بيننا وبين الإنجليز على وجه السرعة، حتى تتنسم البلاد ريح الحرية، ويطمئن الناس على حياتهم ومستقبلهم.
والإخوان المسلمون إذ يضعون هذه الحقوق والأهداف من رسالتهم موضع العقيدة والإيمان أنها ليست مما يصح أن يكون محلا للمساومة على الإطلاق، وكل من حاول ذلك فهو خارج على وطنه متحمل وحده تبعة عمله منبوذ من سائر المواطنين.
يا أبناء النيل
هذه صيحتنا تدوي في جنبات الوادي نعذر بها إلى الله وإلى الناس، معاهدين رب السماء أن نمضي قدما في تحقيق ما نهدف إليه، وأن نواصل الجهاد حتى يعود للوطن مجده في ظل الحرية الكاملة والاستقلال التام: ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾[يوسف: 21] – (1)
بيان من الإخوان المسلمين إلى شعب وادي النيل
لقد رأى الإخوان المسلمون -وهم الهيئة الشعبية الكبرى التي تغلغلت مبادئها في مختلف طبقات الشعب، وانتظمت تشكيلاتها أكثر مجموعاته- بعد أن انتهت هذه الحرب، وبعد أن بذل فيها هذا الشعب الأبي الوفي ما بذل من مساعداته وأقواته ودماء أبنائه، أن استقلال البلاد منقوص بالتدخل البريطاني، وأن حريتها مقيدة بقيود المعاهدة، وأن وحدة الوادي ممزقة بهذه القيود، وأن الاقتصاد الوطني معتدى عليه بالاحتكار والاستغلال، وأن مرافق البلاد جميعها في مسيس الحاجة إلى الإصلاح الشامل السريع، ولهذا دعا المركز العام الجمعية العمومية للإخوان المسلمين فأصدرت قراراتها المفصلة في 2 من شوال سنة 1364 كما دعا بعد ذلك إلى عقد مؤتمرات شعبية في كثير من عواصم البلاد ومدنها الكبيرة، وأرسل بعثة إلى السودان العزيز فعقدت اجتماعات عدة تناولت مطالب البلاد وحقوقها القومية، وكان عن ذلك أن تنبه الوعى وتركزت هذه المثل في أذهان الأمة على اختلاف طبقاتها في يقظة رشيدة وإيمان راسخ عميق، كان له أثره العملي ولا شك فيما تلا ذلك من أحداث.
ولقد دعا الإخوان إلى وجوب توحيد الجهود، وضم القوى للعمل على تحقيق هذه الأهداف، وكان يسرهم أن يتم ذلك في هذه الظروف العصيبة والساعات الفاصلة، فيواجه زعماء الأحزاب والهيئات هذا الموقف -وهم يد واحدة- مقدرين أن الوحدة أضمن الوسائل للتوجيه السليم، وأقواها في الوصول إلى الحقوق والغايات.
ولقد بذل الإخوان نصحهم في بيان ووضح للحكومة السابقة، وحاولوا أن يدفعوا بها في قوة وحزم لمواجهة الموقف، ومسايرة الشعور الوطني الجارف الذي تغلى به النفوس والأفئدة ولكنها سلكت الطريق الذي رأته لنفسها والذي انتهى بالمذكرة المصرية والرد البريطاني كما انتهى باستقالتها.
وجاءت الحكومة الحالية فتقدم الإخوان إلى دولة رئيسها بالنصح الخالص كذلك لا يبتغون من ورائه إلا وجه الله وخير الوطن، وصارحوه بأن عليه لهذه الأمة واجبين: أولهما: تقدير شعورها الوطني، وتقويته وتغذيته فهو شعور حق لا إثم فيه ولا جريرة. وثانيهما: الحزم الكامل في المطالبة بحقوقها الوطنية ومواجهة الإنكليز مواجهة صريحة بأن هذه الأمة قد تنبهت فلن تغفل وصممت فلن تتردد.
وأن المماطلة والتسويف، وسياسة كسب الوقت أو ضياع الوقت لن تخدع هذا الشعب الواعي عن حقه الكامل.
كما أن من واجبات دولته كحاكم أتيحت له فرصة –قد تكون الأخيرة- أن يعمل جاهدا في ترميم حياتها الاجتماعية الداخلية على ألا يشغله ذلك عن قضية الساعة –وهي قضية الحقوق الوطنية- وقد وعد دولته بأن يكون عند هذه النصيحة، وذكر أنها تتفق تماما مع ما يعتزمه وما يود أن ينهجه.
وإن موقف الإخوان المسلمين من هذه الحكومة أو سواها إنما تحدده هذه الخطوط الرئيسية في سياستها، فهم يقدرون ما تقوم به من أعمال نافعة، ومواقف شريفة كريمة، وينقدونها حينما تزل بها قدم أو تنحرف عن الطريق لا تأخذهم في ذلك لومة لائم، ولا يقعدهم عنه رغب أو رهب.
أيها الشعب الأبي الكريم، والآن وقد شكلت الحكومة وفد المفاوضات واعتزمت أن تواجه مهمتها الأولى في تحقيق المطالب القومية، يريد الإخوان المسلمون أن يضعوا أمام أنظار الجميع هذه المطالب:
- إن الحقوق الطبيعية القومية لشعب وادى النيل محدودة معروفة لا تقبل جدلا ولا مساومة، وهى الاستقلال الكامل لهذا الشعب، ولن تكون لهذا الاستقلال حقيقة إلا بجلاء هذه القوات جميعها عن الوادي في أقرب وقت، ولن تكون لهذه الوحدة حقيقة حتى تشمل كل مظاهر الحياة السياسية والاجتماعية في جميع أنحاء الوادي شماله وجنوبه، وإن قناة السويس جزء من أرضنا يجب أن نقوم نحن بحمايته وحراسته، وإن مرافق بلادنا الاقتصادية من حقنا وحدنا أن ننصرف في الانتفاع بها كما نشاء، وإن وضعنا الاجتماعي وحياتنا المدنية نحن الذين نرسمها ولا نقبل فيها تدخل أحد فعلى الشعب أن يحفظ هذه الحقوق، ويتفقه فيها ويتحمس لها ولا يغفل عنها طرفة عين.
- والمعاهدة المصرية الإنجليزية لم تعد أساسا صالحا بحال للعلاقات بيننا وبين الإنجليز، والمفاوضة وسيلة لا غاية رفضها فريق من المصريين لما لمحوا وتوقعوا، وصدقت الحوادث توقعهم من آثارها ونتائجها، وقبلها الباقون جريا على الأساليب السياسية الدولية وتعللا بالأمل في الوصول إلى الغاية من أسلم الطرق.
- وإذا كان الأمر كذلك، إذا كانت الحقوق الوطنية التي لا تقبل مساومة ولا انتقاصا، هي الجلاء التام، ووحدة وادي النيل، وتسوية المسائل الاقتصادية المعلقة بيننا وبين الإنجليز تسوية تصون حقوق البلاد وتحقق فائدتها. فإن الإخوان المسلمين يرون أن تتقدم الحكومة المصرية من الآن بخطاب تبلغ به الحكومة البريطانية أن هيئة المفاوضة ستقوم بمهمتها على هذا الأساس ولتحقيق هذه الغايات، كما أن على المفاوض المصري أن يقرر ذلك في أول اجتماع للمفاوضة تقريرا صريحا، وأن يتمسك به إلى النهاية فإن أجيب إليه فقد نجح في مهمته النجاح الكريم، وإلا فإنه ينسحب انسحابا كريما وهو في كلتا الحالتين قد أدى واجبه مشكورا أو معذورا.
- وقد كان المنتظر أن يتألف وفد المفاوضة ممثلا لكل هيئات الأمة وأحزابها وفى مقدمتها هيئة الإخوان المسلمين التي تمثل ولا شك مجموعة كبرى من الشعب، وتقوم على توجيه الرأي العام فيه، ولكن الوفد أبى الاشتراك في هيئة المفاوضات للشروط التي أعلنها، وأبت اللجنة الإدارية للحزب الوطني الاشتراك كذلك للأسباب التي ذكرتها ورأت الحكومة أن تؤلف هذه الهيئة على النحو الذي أعلنته وأمام ذلك يقرر الإخوان أمرين مهمين. أولهما: أن نتيجة المفاوضة يجب أن تعرض على الأمة في استفتاء عام؛ لتقول كلمتها فهي صاحبة الحق الأول والأخير في القبول أو الرفض. وثانيهما: أن شعب وادي النيل الآبي لن يسمح بعد ذلك بتكرار تجربة المفاوضة بيننا وبين الإنجليز، وأن يدع السياسة الاستعمارية بعد التجارب العديدة الماضية أن تساوم أو توقع بين أشخاص الوطنيين على حساب القضية، فإما أن تنتهي هذه المفاوضات إلى نجاح وإلا فإن الشعب لن يتردد بعد ذلك في متابعة حركته القومية بعرض قضيته على مجلس الأمن استكمالا للمراحل القانونية الدولية وبالجهاد المستمر حتى يتم تحقيقها. فليعلم الإنجليز وليعلم الزعماء أن الشعب لن يمنحهم المفاوضة إلا هذه الفرصة فقد سئم المداورات والمحاولات التي لا طائل من ورائها.
- وعلى هذا فإن الإخوان المسلمين يهيبون بكل هيئات الأمة ورجالها وبالحكومة نفسها، أن يتكاتف الجميع على تغذية هذا الشعور القومي، وتنظيم الأمة تنظيما دقيقا، وإعدادها إعدادا كاملا لمواجهة نتيجة المفاوضة فإن كانت النجاح وتحقق المطالب والآمال- وهو ما نرجو أن يكون –فلن يضرنا هذا الإعداد شيئا بل هو أول ما يلزمنا في بناء حياتنا الداخلية، وإن كانت الأخرى لم نؤخذ على غرة، ولم نؤت من غفلة والله غالب على أمره - (2)
الإخوان المسلمون والمفاوضات
الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
حضرة صاحب الدولة إسماعيل صدقي باشا رئيس الحكومة المصرية ورئيس وفد المفاوضة المصري:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فالآن وقد وصل الوفد البريطاني المفاوض، وانتهت المحادثات التمهيدية، واستعد الطرفان للقيام بمهمتهما. أحب أن أذكر دولتكم بما أعلنتموه في مجلس الشيوخ والنواب، وبعثتم به إلى سفير مصر في إنجلترا، ليبلغه رسميا إلى الحكومة البريطانية من أنكم تدخلون هذه المفاوضة أحرارا من كل قيد غير متأثرين بمذكرة الحكومة المصرية السابقة ولا بالرد البريطاني عليها.
وأزيد على هذا "ولا بقيود معاهدة 1936 التي عقدت في ظروف خاصة تغيرت الآن تغيير كاملا جعلها غير ذات موضوع كما أعلن ذلك معالي وزير الخارجية المصرية في مجلس النواب.
وإذن فالهدف المقصود من وراء هذه المفاوضة هو تحقيق مطلب الأمة الأساسي، وهو الجلاء التام عن وادي النيل، والحرص على وحدة تجعل من أهله أبناء وطن واحد يشتركون في الحقوق والواجبات، ويتبع ذلك أن تتحرر مصر تحررا كاملا من كل القيود التي تعوق نهضتها الاقتصادية، ويسدد إليها دينها المستعان به في ترميم ما أتلفت الحرب من حياتها الاجتماعية.
فليكن ذلك- يا صاحب الدولة- هدفكم فإن وصلتم إليه فذاك، وإلا فبادروا بمكاشفة الأمة (ولها الكلمة الأخيرة) فورا بحقيقة الموقف على جليته وارفعوا الأمر إلى مجلس الأمن قبل انتهاء دورته، وثقوا بأن الأمة لن تقصر في الجهاد وهي على أتم استعداد لمواجهة تبعته وقسوته، وليس طعم النجاح في فمها بأعذب من طعم الكفاح وهو إحدى الحسنيين.
يا صاحب الدولة: إن الفرصة التي بين أيدينا الآن لا تعوض ومن التفريط والظلم لحقوقنا الوطنية أن نغفل عن قيمة الوقت، وقضيتنا واضحة عادلة لا تحتاج إلى كبير دراسة أو تمحيص، وقد درست وبحث عنها من الجانبين منذ وضعت الحرب أوزراها، فمن الواجب الحتم ألا يطول وقت المفاوضات، حتى تفلت منا فرصة عرض قضيتنا على مجلس الأمن ونحن ممثلون فيه، وكم يكون جميلا أن تتم المفاوضات قبيل عيد الجلوس الملكي في 6 مايو، فتحتفل مصر بعيدين عيد الفاروق وعيد الفوز أو الجهاد.
ومن الخير أن تكاشفوا المفاوض البريطاني في وضوح بأن الأمة قد صممت على أن تصل إلى حقها أو تموت دونه، وأنها لن تجرب طريق المفاوضة إلا هذه المرة فقط فإما نجاحاً وإما كفاحاً.
يا صاحب الدولة: إن الظروف العامة والخاصة جميعا تلح علينا أن نعمل في سرعة وقوة وثقة وحزم، فكونوا كذلك ونسأل الله لكم التوفيق.
وإن الإخوان المسلمين ليركون واجبهم حيال الموقف من كل وجوهه تمام الإدراك وهم على استعداد للقيام به كاملا غير منقوص مهما كانت الظروف والتضحيات – (3)
إلى الرجال السبعة
صاحب المقام الرفيع/ مصطفى النحاس باشا رئيس الوفد المصري.
صاحب المقام الرفيع/ على ماهر باشا رئيس هيئة جبهة مصر.
صاحب الدولة/ محمود فهمي النقراشي رئيس الهيئة السعدية.
صاحب المعالى/ محمد حسين هيكل باشا رئيس الأحرار الدستوريين.
صاحب المعالى/ مكرم عبيد باشا رئيس الكتلة الوفدية.
صاحب السعادة حافظ رمضان باشا عن الحزب الوطني.
صاحب العزة الأستاذ/ عبد الرحمن الرافعي بك عن الحزب الوطني.
إلى هؤلاء الرجال السبعة الذين يعملون على مسرح السياسة بمصر أوجه هذه الكلمات المتواضعة:
إن حكومة مصر الآن في مفاوضات مع الحكومة البريطانية، وشعب وادي النيل يرقب وينتظر ومعه سبعون مليونا من العرب وأربعمائة مليون من المسلمين.
وعليكم أمام ذلك واجبان، لا شك أنكم أول المسئولين عنهما بين يدي الله والناس:
أولهما- توجيه المفاوض المصري، وإمداده بالآراء، والنصائح إبان المفاوضة سواء منكم من قبل الاشتراك فيها ومن لم يقبل فإنه إنما يفاوض لهذا الوطن وأنتم أهلوه.
ثانيهما- توجيه الشعب بعد نهاية المفاوضة فإن نجحت وجهتموه إلى الصلاح. وإن أخفقت وجهتموه إلى الكفاح ولابد لذلك من إعداد دقيق منذ هذه اللحظة.
ولن تستطيعوا أداء واحد من هذين الواجبين إلا إذا اجتمعتم فتدارستم الأمر، وفحصتموه، وتناسيتم كل ما سوى ذلك من نزعات حزبية، وخصومات شخصية، وحق الوطن أعلى وأجل، وبهذه الوحدة تمهد أمامكم السبل وتزول كل العقبات، ويظهر الله على أيديكم المعجزات والخوارق، فليس أجدى ولا أعظم بركة من الوحدة وهي سلاح الأمم المجاهدة.
وثقوا بأن الناس لا يعذرونكم، والوقت لا ينتظركم، والتاريخ يسجل عليكم، والله تبارك وتعالى لكم بالمرصاد.
هذه كلمة بريئة ونصيحة مخلصة أشرف بتوجيهها إليكم في هذه الساعات الحاسمة عن الإخوان المسلمين الذي نذروا أرواحهم ودماءهم وجهودهم لله، ولهذا الوطن لعل فيها تبصرة وذكرى والذكرى تنفع المؤمنين، ألا هل بلغت اللهم فاشهد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته – (4)
حول المفاوضات
الجلاء التام عن وادي النيل والمحافظة على وحدته، هما المطلبان الرئيسيان للأمة جميعا من الشمال إلى الجنوب، وقد أعلنت ذلك هيئاتها وأحزابها في حكوماتها.
والجلاء كما يفهمه شعب وادي النيل، ويريده هو ترحيل القوات الأجنبية جميعها عن أرض الوادي ومائه وهوائه في الحال.
والوحدة كما يفهمها المصريون فمعناها: أن المواطن المصري يعتبر أرض وادي النيل وطنا واحدا، وأهله شعبا واحدا، لكل فرد منهم ما للآخر من الحقوق وعليه ما عليه من الواجبات، وكما يفهمها السودانيون أو جزء منهم معناها: الاتحاد مع مصر تحت التاج المصري مع وحدة الجيش والتمثيل السياسي... إلخ، ومع قيام حكومة داخلية من أبناء السودان تقوم على إدارته باعتبارهم أدرى بما فيه.
ومهما يكن من أمر هذا الخلاف فهو خلاف داخلي بحت بين أبناء الوطن الواحد يعملون على تسويته بحسب ظروفهم وأحوالهم، ولكن الذي لا شك فيه أن إجماعهم قد انعقد على المطالبة بأن تحيا هذه البلاد حرة مستقلة لا يهدد استقلالها احتلال الأجانب لها.
والمفاوض المصري يفاوض لأمته، وهو مقيد بمطالبها بحكم وطينته، وبحكم مهمته فضلا عن أنها مطالب عادلة حقه لا غلو فيها ولا إسراف...
وليس هناك من الظروف ما يدعونا إلى أن نخشى فشل المفاوضة، أو أن نرضى منها بأقل من حقنا الطبيعي، بل لعل هناك من الظروف ما يجعل غيرنا يخشى نتيجة الفشل ويحسب لعواقبه ألف حساب.
وإذا كان الأمر كذلك فمن واجب المفاوض المصري أن يحسم الأمر وألا يتهيب النتائج ووراءه شعب طال به الانتظار وأقلقه المطل وآذاه التسويف وتهيأت نفسه فعلا للكفاح والجهاد.
يقال: إن الجانب البريطاني لا مانع عنده من الجلاء عن مصر برا وجوا وبحرا، ولكن على شرط أن تبقى البعثة العسكرية وتزاد، وأن يضاف إليها مستشارون عسكريون، وأن يظل شرط التقيد باستيراد الأسلحة من إنجلترا وحدها قائما وأن تكون هناك محالفة عسكرية دائمة بيننا وبين بريطانيا، وإذا صح هذا وسلم به المفاوض المصري فقل على الجيش السلام...!!
ويقال كذلك: إن هناك مئات كثيرة من الأسر البريطانية ما بين زوجات أو أبناء من أسر الضباط والجنود البريطانيين الحاليين أو أسر جديدة لغيرهم تستقدم من إنجلترا، وتهيأ لها سبل الإقامة في مصر فتصبح الجالية البريطانية أكبر جالية في هذه الديار إذا صح هذا ولم تكن الحكومة المصرية متفطنة له فهو احتلال مستتر أفظع من الاحتلال السافر، وكأن جهاد المصريين في سبيل الجلاء لم تكن له بعد من نتائج إلا أن تستبدل الحلة المدنية بالحلة العسكرية والمسدس بالبندقية...!!
ويقال أيضا: إن المفاوض البريطاني آثر أن يستلب من المفاوض المصري ما يشاء بالتقسيط لا بالجملة، وأن يجعل ذلك على صورة اتفاقيات مقررة لا في صلب معاهدة لها أثرها العميق في النفوس ومظهرها المؤثر على الجماهير، فبادر بعقد اتفاقية الدولارات وعقد اتفاقية الطيران.. إلخ جريا على القاعدة الجديدة التي سارت عليها الدول المتحالفة من عقد مؤتمرات متعددة تحل فيهما المشكلات الدولية مجزأة في غفلة من الشعوب، وتهاون من أصحاب الحقوق بدلا من عقد مؤتمر واحد تقوم له الدنيا وتقعد وتسترعى مظاهره الأسماع والأبصار! وإذا صح هذا فما كان أولى المفاوض المصري أن يتريث، وأن ينتظر بهذه الاتفاقيات حتى يعقدها في ظل حرية صحيحة واختيار سليم.
ويقال أخيرا: إن المفاوض المصري سيقنع هذه المرة بالجلاء، ويرجئ إلى حين أمر الوحدة وقضية السودان.
هذه خواطر تجول في النفوس وأقوال تنطلق بها الشفاه وإشاعات تروج في المجالس والأندية..
وعند المفاوض المصري الخبر اليقين يتكلم ليسمع الناس...!
حول المفاوضات أيضًا
قرأت في إحدى المجلات الأسبوعية أن المفاوضات المصرية الإنجليزية تحرجت في وقت من الأوقات إلى درجة تهددها بالانقطاع، وأن دولة صدقي باشا فكر حينئذ في أن يطير إلى إنجلترا ليقابل المستر بيقن، وأن دولته أمر بإعداد الطائرة فعلا، وتجهز للرحلة تجهزا تماما، لولا أن السفارة البريطانية اتصلت به بعد ذلك ووصلت ما كاد ينقطع.
قرأت هذا الكلام فإذا بي أسائل نفسي في شيء من المرارة والألم، ولماذا يتجه صدقي باشا للمستر بيقن ولا يتجه إلى الأمة المصرية؟
قابلت دولة النقراشي باشا في أثناء وزارته الماضية، وتحدثت إليه ساعة كاملة ولم يعد الآن من الأسرار ما دار بيننا من حديث، وأذكر أنى قلت لدولته حينذاك: إن شعور الأمة قوى ووعيها ناضج كامل، وإن الفرصة سانحة والجميع ينتظرون قولا فصلا وعملا حازما. فقال دولته: أليس من حقي أن أتبصر في الأمور، وأتخير أحسن الأساليب، وأجس النبض حتى لا نفاجأ بما لم نكن ننتظر؟ فقلت لك ذلك طبعا يا باشا، وإنني أشعر بأن من واجبى الوطني أن أقول لك سر على بركة الله، فإن عبرت الطريق أمامك ويسر الأمر بين يديك فالحمد لله رب العالمين، وإن كانت الأخرى فقد أديت واجبك، وعليك أن تكاشف الأمة، وأن تدعوها للجهاد ولن تجد منها إلا سامعا مطيعا، حتى من تراهم في صف المعارضة الآن سيكونون معك أول المجاهدين حينذاك، ولو فرضنا أنهم آثروا التخلف لوقفوا وحدهم، ولانفضت الأمة عنهم، وكل الذي أرجوه أن تسرع بالعمل فالوقت من ذهب والفرصة لا تعوض. فقال: إذا لم أوفق فسأستقيل، وأنا لا أرغب في حكم ولا منصب ولا أعتبر الحكم غنيمة، وإنما هو ضريبة ثقيلة الأعباء. فقلت: ولماذا تستقيل؟ إن من الخير لك وللأمة معك أن تقودها إلى الجهاد وأنت حاكم، والحكم سلاح فلماذا تدعه يسقط من يدك؟ وانتهى حديثنا على هذا النحو ومضت الأيام بعضها أثر بعض على النحو الذي يعرفه القراء جميعا.
يظهر أن زعماءنا وحكمانا لا يؤمنون الإيمان الكامل بالحق الذي ينادون به وهو حق طبيعي واضح، ولا بالشعب الذي يعيشون فيه، وهو شعب باسل مكافح ولا بالفرصة التي أتاحها الله لهم، وهي فرصة نادرة قلما يجود بها الزمن، ولا يريدون أن يجربوا ولو مرة واحدة ثمرة الإقدام وفضل الاتجاه إلى الأمة، وأثر التوكل على الله العلى الكبير.
ويظهر أنهم قد وطنوا أنفسهم على أننا لا يمكن أن نصل إلى حقنا إلا بهذه الملاينة وهذا الرجاء، فما وصلنا إليه فمن فضل الله وما لم نصل إليه اليوم فسنصل إليه غدا، وعلينا أن نرضى ولو كنا كارهين وليس في الإمكان أبدع مما كان، ولا شك أن في ذلك أعظم الخطر على قضيتنا الوطنية.
إننا نريد أن نقول لدولة صدقي باشا الآن كما قلنا له ذلك من قبل إن الفرصة سانحة، والأمة مهيأة والحقوق ثابتة، ولست بذي حاجة إلى مال فتطمع فيه، أو جاه فتحرص عليه، أو حزب فتتقيد به فلا تتردد أبدا في أن تأخذ الأمر في هذه المفاوضة بالحزم الكامل.
فإن حق الوطن واضح ثابت ولا تتردد في الإيمان بهذا الشعب، فإن له من خصائصه النفسية، وحيويته الكامنة ووعيه الناضج، واستعداده الكامن ما ستظهره الأيام، وتجليه الحوادث وإن شأنه اليوم ليس كشأنه بالأمس القريب، فلقد قضينا سبعة عشر عاما نلقن شبابه دروس التضحية والصبر وآيات الجهاد والبذل ونروضهم على ذلك بكتاب الله، وسيرة أسلافهم، وتاريخ آبائهم وأجدادهم؛ حتى صار الموت في سبيل الحق أحب إليهم من الحياة ولكنهم لقنوا مع ذلك قداسة القانون وحرمة النظام، ولن يكون القانون قانونا حتى يصدر عن إرادة المؤمنين به، وينظم حاجة المتفقين عليه لا أن يكون سيفا مسلولا على أعناقهم، وحرجا دائما لصدورهم وحاجزا مانعا دون الوصول إلى حقهم.
لقد أعطانا الزعماء والحكام السوريون اللبنانيون درسا رائعا في الوطنية المجاهدة الظافرة حين وقفوا في مقدمة الصفوف وخاضوا مع الشعب ميادين العمل، فعجل الله لهم بالنصر، وظفروا بالجلاء من غير قيد ولا شرط..، ولقد أراد الفرنسيون أن يستدرجوا المفاوض اللبناني في باريس إلى نواح ذات شعب، فقطع عليهم طرق المماطلة، وحصر معهم الموضوع في نقطة واحدة..
متى يكون الجلاء؟ فلما أرادوا أن يسوفوا قطع المفاوضة على عجل، ورفع الأمر إلى مجلس الأمن وظفر بما يريد.
يا دولة الباشا، الأمر واضح.. فإلى الفوز السريع، أو إلى الشعب المكافح – (5)
نداء
من المركز العام للإخوان المسلمين
إلى شعب وادي النيل
أيها الشعب الأبي:
الآن وقد وصلت المفاوضات بين الحكومة المصرية والحكومة البريطانية إلى هذه المرحلة الدقيقة يرى المركز العام للإخوان المسلمين لزاما عليه أن يتقدم إلى الأمة وإلى المفاوضين بهذا النداء:
لقد أعلنت الأمة إرادتها، وأجمعت كلمتها، على أنها لا ترضى بغير الجلاء التام عن الوادي، والمحافظة على وحدته، وأعلن المفاوضون أنهم إنما يفاوضون على هذا الأساس، وبدأت المفاوضات حتى انتهت أو كادت، فإذا بالمفاوض المصري قد أجل الكلام عن السودان حتى ينته من أمر الجلاء وهي مخاطرة لا ندرى ما وراءها.
كما أراد الإنجليز في مقابل الجلاء -وهو حقكم الطبيعي- ما لا يمكن أن تسلم به أمة حرة من أثمان مادية ومعاهدة سياسية أو محالفة عسكرية لا نتفق أبدا مع ما تطالبون به من حرية حقيقية واستقلال تام، كما [...] وجود مجلس الأمن ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة:
وذاع في الأوساط السياسية أن مذكرات ووثائق تتبادل وأن معاهدات ستمضي ومحالات ستوقع، وأما هذا الوضع أصبح واجبا على الديدبان اليقظ والحارس الأمين أن يصيح:
أيها الشعب الأبي:
حذار فإن الأمر جد لا هزل فيه، وهو مستقبل الأوطان والبلاد ومصير الأبناء والأحفاد، فاذكروا ذلك جيدا واحذروا من أن تخدعكم المسكنات أو تصرفكم عن الغاية الوعود والكلمات وصارحوا المفاوضين من الآن بأنكم ترفضون كل الرفض:
- كل تأجيل لأمر السودان وكل حل لا يحقق وحدة الوادي.
- أية معاهدة أو محالفة تحت ضغط الحراب وسلطة الاحتلال.
- أى ثمن مادي أو أدبي لهذا الجلاء، وهو حقكم الذي لا ينكره عليكم إلا جاحد منكر للجميل.
- أى اتفاق اقتصادي ينقص حقوق مصر، ويقيد حريتها ويضيع عليها دينها الثابت الذي اقتطع من دم للفلاح المتعب وعرق العامل المجهود.
كما نقول في النهاية للمفاوضين من أبناء مصر حذار أن تنقضوا عهدكم لأمتكم، أو تهدموا الأساس الذي أعلنتموه غير مرة، فإما نجاح يحقق الآمال وإما جهاد في سبيل الحرية والاستقلال.
والله يقول الحق وهو يهدى السبيل – (6)
بين استقلال المجاهدين ... واستقلال المفاوضين
حين يضعف إيمان أمة بحقها وبوجودها وبمعاني القوة في يدها تلجأ دائما إلى الوسائل الضعيفة، والأساليب الهزيلة لتحقيق غايتها والوصول إلى أهدافها، وتهرب من ميادين العمل الجدي إلى الألفاظ المعسولة والأقوال المملولة، والأخذ والرد والإرخاء والشد مع خصومها وغاصبي حقها، وتسمى ذلك أحيانا محادثات وأخرى مفاوضات وثالثة لباقة سياسية أو كياسة دبلوماسية أو أخذا بالحكمة أو خوفا على مستقبل الأمة إلى غير ذلك من هذه الكلمات التي لا تدل إلا على التردد والحيرة، والتهرب من الجهاد والتضحية. وكلما نصح الناصحون أو أهاب بها المؤمنون، كان الجواب: ماذا نفعل؟ ولكن لهذا السؤال جوابا هي تعلمه ولا تعلنه وتعرفه ولا تريده، وإنها لتظل هكذا في حيرتها كحمار الرحى يدور والمكان الذي بدأ منه هو الذي انتهى إليه.
فإن أسعفتها المقادير وواتتها الحوادث العالمية والظروف الدولية فستظفر بمغنم شكلي واستقلال صوري، وحق مبتور وحرية شوهاء وطول مرخى وثنياه بيد الخصوم، فإن شاءوا مدوا لها السبيل فتنفست، وإن شاءوا قصروا طرف الحبل فشعرت بالضيق وانحرفت عن الطريق، وذلك استقلال المفاوضين، وجزاء القاعدين المتخلفين، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه.
أما الأمة القوية بحقها، المؤمنة بنفسها وبوجودها، العارفة بما يحيط بها، وبعناصر السلامة فيها ومعاني القوة بين أيديها، والتي وطنت النفس على البذل في سبيل الحق، والجهاد لتصل إلى الفوز والنصر، وعرفت أن الناس من خوف الذل في الذل، ومن خوف الفقر في الفقر، ومن حرص على الموت وهبت له الحياة، ولن يكون الموت إلا مرة وهو أولى بالمؤمنين من حياة مرة، وأن للمجاهد إحدى الحسنيين إما سعادة بالفوز، وإما شهادة وخلد، وكلا الأمرين حبيب إليه، عزيز عليه.
هذه الأمة لن ترضى بالدون من المقاصد، ولن تخدع بالهزيل من الوسائل، ولن تضيع الوقت في غير طائل، ولن ترضى بأنصاف الحلول ولن تقف عند القول المعسول، فهي إما أن يسلم لها بحقها من أول الطريق فتعود ظافرة قاهرة، وإلا فطريق الجهاد معروفة واضحة فيها متسع للجميع: ﴿وَالَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ**سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ*وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾[محمد: 4-6].
وهذه الأمة لن ترد عن حقها أبدا فهي واصلة إليه كاملا، حاصلة عليه غير منقوص، سعيدة باستقلال المجاهدين وحرية العاملين المخلصين، وشعب وادي النيل الأبي هو بحمد الله شعب مؤمن لم تضعف معاني الإيمان في نفسه، ولم تمح ذكريات الجهاد من صفحة فؤاده، وهو مستعد لذلك في كل وقت، وما نهضة هذا الشعب القريبة وثورته في سنة 1919 عنا ببعيد، يوم أن كانت الأمة شعبا لا زعماء له، وإنما زعيمه إيمانه وفطرته، وقائده حقه وضميره وغايته، ولقد كان جادا محقا يوم انطلقت حناجر الصغار والكبار منه: الاستقلال التام، أو الموت الزؤام.
ولكنه نكب بزعماء ورؤساء وكبراء نشأوا في أحضان الاستعمار، وشربوا من معين الغاصبين ودرجوا على أساليبهم، وأعجبوا بصداقتهم وأحسنوا الظن بهم، وتبوأوا المناصب الحكومية واحتلوا مراكز القيادة الشعبية، وأداروا الأمور بهذه العقول المقلدة والنفوس الخامدة والقواعد الفاسدة، فكانوا نكبة هذا الشعب والحاجز الحصين بينه وبين حقوقه الوطنية ومطالبه القومية.
وهل ترى المشاعر تكبت، والحريات تصادر، والاجتماعات تفض والحركات الوطنية المخلصة تقمع بأيد غير أيدينا، أو بأموال غير أموالنا، أو بسلاح غير سلاحنا، أو بأوامر تصدر من قوم يشاركوننا في الوطن بالاسم والتبعية، وإن تجردوا في الحقيقة من أبسط معاني الوطنية؟!
ولكن هذه الحال لن تدوم أبدا، والشعب الذي يصمم على الحياة لا يمكن أن يموت، وستصقل الحوادث هذه النفوس وتبرز خصائصها العليا للناس، ويومئذ يعلم الذين لا يعلمون أنه لا قيام للباطل إلا في غفلة الحق، وأن وادي النيل الأبي إذا كان قد قنع في الماضي باستقلال المفاوضين في معاهدة الشرف والاستقلال، فإنه لا يرضى اليوم إلا باستقلال المجاهدين في ساحات الاستشهاد وتحقيق الآمال والله أكبر ولله الحمد – (7)
أيها الشعب الأبي العظيم
في هذه اللحظات الحاسمة من تاريخ الوطن العزيز يتقدم إليك المركز العام للإخوان المسلمين بهذا البيان عن القضية الوطنية والحقوق القومية، وهو يعلم تمام العلم أن وقت الكلام قد انتهى ولم يبق إلا العمل، ولكنها الذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[التوبة: 105].
نكبة الاحتلال
أيها الشعب الأبي العظيم:
في غفلة من الزمن، نكب هذا الوطن المجيد بالاحتلال الإنجليزي، فدخلت الجنود الإنجليزية عاصمته الشمالية (القاهرة) في سبتمبر سنه 1882، وادعت احتلال عاصمته الجنوبية (أم درمان) في سبتمبر سنة 1898 وأعلن المحتلون أمام الاعتراضات الدولية من كل مكان والشعور بفداحة هذا العدوان، أنه احتلال مؤقت لأسباب اختلقوها لا يلبث أن يزول في أقل من بضع سنوات، ووجه اللورد جرانفيل سنة 1883 إلى الدول بلاغا رسميا قال فيه: "ستبقى في مصر قوة حربية لحماية النظام العام، وحكومة جلالة الملكة راغبة في استدعائها حالما تسمح بذلك حالة البلاد". كما وقع السير دراموندورلف المندوب الإنجليزي فوق العادة في الأتانة اتفاقا مع وزارة الخارجية التركية في مايو سنة 1887 جاء فيه: "تسحب الجنود البريطانية من مصر خلال ثلاث سنوات. وتبقى حقوق تفتيش وتعليم الجيش المصري التي يقوم بها ضباط بريطانيون بعد سنتين من جلاء جيش الاحتلال "وصرح اللورد ساسبورى بمجلس اللوردات في 10 يونية سنة 1887 بناء على هذا الاتفاق بأنه: "لا تستطيع الحكومة الإنجليزية وضع مصر تحت حمايتها، وذلك بناء على تعهداتها السابقة واحتراما لقواعد القانون الدولي... ولقد عقدت اتفاقية في هذا الصدد مع تركيا تقضى بأن ينتهي الاحتلال الإنجليزي بعد ثلاث سنوات"
ولكن مصر وضعت تحت الحماية البريطانية، ومضى على الاحتلال البريطاني أكثر من ستين سنة بذل فيها الغاصبون أكثر من خمس وستين وعدا بالجلاء، ولم يكن لهذه التعهدات والوعود ولا لقواعد القانون الدولي من أثر مع قوم لا يفقهون إلا منطق القوة والمصلحة المادية، ولم تستح إنجلترا أن تعرض على مصر في سنة 1946 أقل مما تعهدت به فعلا في سنة 1887، فأي عبث هذا بالعقول والحقوق، أيها المخادعون؟
وفى ظل هذا الاحتلال فقد هذا الوطن حريته وثروته وخلقه وصحته وجيشه وعدته وقوته وكرامته وكل مقومات حياته الأدبية والمادية، وصدق الله العظيم ﴿إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾[النمل: 34].
ومع هذا يقف المستر تشرشل في مجلس العموم ليشيد بالعمل العظيم الذي نهضت به بريطانيا خلال ستين عاما من احتلالها المبارك لهذه البلاد وصدق رسول الله (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت).
الجهاد في سبيل الحرية
أيها الشعب الأبي العظيم:
ما كان لأمة يجرى في عروقها دم الأكرمين الأمجاد من الآباء والأجداد، ويهز نفوسها القرآن المجيد ببالغ آياته، والإسلام العزيز بعالي غاياته، أن تخضع لهذا العدوان أو تستسلم لهذا الهوان، وكذلك كانت أمة وادي النيل.. فقد جاهدت هؤلاء الغاصبين ما وسعها الجهاد طول عهد الاحتلال البغيض، بالقول واللسان، ثم بالسيف والسنان، ثم الثورة والعصيان، واضطرتهم في كثير من المواقف أن ينزلوا عند إرادتها ويستكينوا أمام ثورتها، ولكنهم مع ذلك عرفوا كيف يحولون الجهاد عن وجهته، وينحرفون بالشعب عن غايته، وأعانهم على ذلك الضعفاء من الحاكمين، والأغرار من المتزعمين، فوقفوا عند المفاوضة بعد المعارضة، ورضوا بالمعاهدة هربا من تبعات المجاهدة، فكانت ثمرة جهاد هذه السنوات الطوال معاهدة الشرف والاستقلال، والتي أطالت عمر الاحتلال الظالم، ومدت في أجله عشرين سنة فضلا عما فيها من التزامات تتعارض مع الحرية وثمراتها وتنتقص من معانى السعادة وحدودها "وما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا"
تقصير الحكومات المصرية بعد الحرب .. وفشل خطة المفاوضة
أيها الشعب الأبي العظيم:
كنا ننتظر بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزراها، وبذلت مصر فيها ما بذلت دفاعا عن الديمقراطيات، وأنفقت ما أنفقت من الجهود والأموال والأقوات، وشاركت فيها قانونا بالإعلان، وعملا بحماية ظهر الحلفاء ومواصلاتهم، وإيواء جنودهم وقياداتهم، وإشراك الجيش المصري في الدفاع عن معاقلهم ومعسكراتهم وعتادهم، وتسخير قواها جميعا في سبيلهم، وكان لها من المواقف ما تغير به مجراها ورجحت به إلى جانبهم كفة النصر فيها، واعترف بذلك ساستهم وزعماؤهم. كنا ننتظر أن تنتهز الحكومة المصرية الفرصة السانحة بمجرد إعلان الهدنة، وقيام هيئة الأمم المتحدة، فتتصرف كما تتصرف الدول المستقلة التي تحترم نفسها وتعرف حقها وتعتز بكرامتها وحريتها، وتعلن إلغاء هذه المعاهدة وتنادى بحقوق مصر كاملة، وتطلب في حزم وتصميم جلاء القوات الأجنبية عن أرض الوطن فورا، وتعمل للحصول على نصيبها من مغانم هذه الحرب وتعويضاتها بتعديل حدودها واسترجاع ما فقدته ظلما وعدوانا من أرضها، في الغرب تارة وفى الجنوب والشرق تارة أخرى، ولكن الحكومات المصرية لم تفعل شيئا من هذا، وجرت على خطة الضعف التقليدية، ورضيت بالمفاوضة لتعديل المعاهدة، وكان هذا أول الوهن، فثارت الأمة ثورتها، وقالت كلمتها وحددت أهدافها: "الجلاء التام الناجز عن الوادي كله، والمحافظة الكاملة على وحدته واستقلاله" وسقطت حكومة وقامت أخرى لتفاوض على هذا الأساس الواضح المستبين، فإما تسليم الحق وهو ما يجب أن يكون، وإما جهاد في سبيل هذا الحق، وكل شيء في سبيله يهون، ولكن الإنجليز وهم أساتذة في الدهاء والختل عرفوا كيف يستغلون في نفوس الساسة من المصريين مواطن الضعف، ويخدعونهم بالصيغ والمشروعات والألفاظ والعبارات، كسبا للوقت حتى مضت سبعة أشهر في وقت أغلى ما فيه الزمن، إذ تتأثر فيه مصائر الشعوب والأمم بيوم أو بعض يوم.
ومع توالى هذه اللطمات، ووضوح سوء المقاصد والنيات، والعبث بكرامة المفاوضين المصريين، ووقتهم وحقوق أمتهم لا يزال صدقي باشا يأمل أنه سيصل معهم إلى اتفاق، ويعتزم السفر إلى لندن لاستئناف المفاوضات، وقد نسى أن السياسي الإنجليزي تاجر أصيل كلما زاد عليه الطلب تجنى في العرض وغال في الثمن.
ولا ندرى ما يرجو صدقي باشا من وراء هذه المفاوضة، وقواعدها الأساسية مرفوضة من أصلها، فالمحالفة العسكرية التزامات قاسية لا تسلم بها الأمة بحال، وليست مصر مستعدة للتضحية بأي شيء في سبيل غيرها، لا في البلاد المجاورة، ولا في البلاد المتاخمة ولا في صميم أرضها، إلا أن يكون ذلك دفاعا عنها وذودا عن حريتها وكرامتها.
ولجنة الدفاع المشترك مهما قيل في شوريتها أو إلزاميتها تسليم بالشراكة والتدخل في أخص شئوننا الوطنية، وتعطيل نهضتنا العسكرية، وورقة بيضاء لا ندرى ما يكتب فيها الغد المجهول، ولقد جربنا هذه الأوضاع من قبل ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين.
قضية السودان
أما أمر السودان فأغيظ ما يغيظ فيه خداع المفاوضين البريطانيين وغباء الساسة المصريين، وترديد الفريقين لنغمة رفاهية المواطنين السودانيين، وهي كلمة حق يراد بها باطل، وخدعة استعمارية لا تروج على فطن عاقل، فمن الذي منع المواطن السوداني أن تكون له حقوق المواطن المصري إلا الاحتلال البريطاني والاستئثار الإنجليزي؟! وما هذه الكلمة البغيضة كلمة (السيادة) يديرونها على غير وجهها، ويثيرون الضجيج من حولها! مع أن وجهة النظر السليمة الطبيعية التي أدركها شعب وادى النيل بفطرته الصافية النقية، تتلخص في أن وادى النيل قطر واحد، وأن سكانه شعب واحد، وآية ذلك ودليله القاطع أن قبائل: البجة والنوبة والعبابدة والبشاريين والكنوز والسكوت وبنى عامر وبنى سليم والمناصير وحرب وجهينة، وعشرات غيرها، وهى أغلبية السكان في السودان الشمالي، نصفها في مديريات مصر من الشرقية وقنا وأسوان وسوهاج وغيرها، ونصفها في مديريات السودان من دنقلة وبربر ودارفور وغيرها، وأن مقر مشايخ بعض هذه القبائل السودانية في البلاد المصرية من دراو وأسوان وكورسكو والدر.
وإذا قيل: إن الزنوج في السودان الجنوبي شعب آخر، قلنا: ولكنا أولى الناس بهم وأحقهم برعايتهم وتمدينهم وأقدرهم على ذلك، وقد عجز الحكم الأوربي خلال هذا الزمن الطويل عن أن يرفع مستوى حياتهم عن هذه البيئة التي يعيشونها، على حين كان للحكم المصري على قصر أمده أجمل الأثر في الرقى بهم ووصول أضواء الحضارة والمدنية إليهم، وتلك حقائق تاريخية لا ينكرها إلا جاحد أو مكابر.
فإلى متى يظل الساسة المصريون يجارون الخدعة البريطانية التي تحتج برفاهية السودان ومصالح السودانيين، ونحن أعرف الناس بمشاعر إخواننا، وارتياحهم الكامل لتحقيق وحدتنا، واعتقادهم معنا أنه ليس هناك ما يحول دون رفاهيتهم إلا وجود هؤلاء البريطانيين عسكريين أو مدنيين! فليقرروا الجلاء عن الوادي إن كانوا في هذه الدعوى صادقين، وليتركوا للشقيقين تسوية أمورهم وتصفية حسابهم فلا حياة لمصر بغير السودان ولا رفاهية للسودان بغير مصر، وما وصلته يد الله لا تقطعه أيدي البشر ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾﴾[يوسف: 21].
واجبنا الشعبي أمام تقصير الحكومة وعدوان الإنجليز
أيها الشعب الأبي العظيم:
لقد صار واضحا أن الإنجليز حين يفاوضوننا لا يقصدون من وراء ذلك إلا أن يظفروا منا بإقرار واعتراف بمصالح وحقوق والتزامات تتعارض مع استقلالنا وسيادتنا، وأن الحكومة المصرية بوقوفها هذا الموقف من قضية البلاد، وإصرارها على استئناف المفاوضات، إنما تضيع الفرص السانحة، وتنطق بأوهام باطلة، مع أنها تستطيع لو أرادت، أن تعلن فشل المفاوضات، وأن تعمل بعد ذلك الكثير.
فهي حكومة مستقلة عملا وقانونا باعتراف دول العالم كله، وهي ممثلة في هيئة الأمم المتحدة، وقد رأس مندوبها مجلس الأمن، ولها عضو في محكمة العدل الدولية، ولا ينكر أحد عليها صفة الاستقلال والسيادة فكان عليها أن تتصرف كدولة مستقلة، وتتحرر من الشعور بالضعف و الذلة، وتعلن فشل المفاوضة، وبطلان المعاهدة، وتطالب بالجلاء وترفع الأمر إلى هيئة الأمم المتحدة، وتستنصر بأخواتها من حكومات وشعوب الدول العربية والإسلامية، وتهدد باستخدام سلطتها في التشريع والاقتصاد، كان في وسعها أن تفعل ذلك وغيره، ولكنها لم تفعل.
وأما هذا كله يعلن المركز العام للإخوان المسلمين باسم شعب وادي النيل هذه الحقائق الآتية:
أن معاهدة سنة 1936 ملغاة بحكم الحوادث والظروف، ولن تفيد بنودها ونصوصها والتزاماتها هذا الشعب بشيء فقد حل محلها ميثاق الأمم المتحدة وأصبحت غير ذات موضوع.
وأن حكومة صدقي باشا بإصرارها على المفاوضة لا تمثل إرادة الأمة، وكل معاهدة أو محالفة مع بريطانيا تعقدها قبل جلاء قواتها باطلة، لا ترتبط الأمة بها في كثير ولا قليل.
وأن بقاء القوات الأجنبية عدوان مسلح على سيادة الوطن وحريته يترتب عليه آثاره القانونية والعملية.
أيها الشعب الأبي العظيم:
إن من واجبك بعد ذلك أن تتصل بالشيوخ والنواب كل في دائرته، وتتفاهم معهم على تزكية هذه المطالب وعدم الموافقة على أية معاهدة أو مخالفة في ظل الاحتلال، ومن تخلف عن ذلك منهم أعلنت دائرته أنها لا تثق به وأنه لا يمثلها في شيء.
وأن تسجل إرادتك في عرائض ترفع إلى مقام صاحب الجلالة الملك وإلى رئيس الحكومة المصرية، وإلى جامعة الدول العربية، وإلى هيئة الأمم المتحدة، وإلى السفارات والمفوضيات والهيئات السياسية العربية والإسلامية والأجنبية، وتتضمن إعلان فشل المفاوضات وبطلان معاهدة 1936 وطلب الجلاء والتمسك بوحدة الوادي وحريته كاملة واستقلاله غير منقوص.
وأن تعلن من هذه اللحظة عدم التعاون مع الإنجليز اقتصاديا والإضراب عن شراء كل ما هو إنجليزي أو البيع لأية جهة إنجليزية أو التعامل مع أى بيت أو شركة أو محل إنجليزي كائنا ما كان، وثقافيا بمقاطعة الصحف والمجلات والكتب والجرائد الإنجليزية الامتناع من التحدث أو الاستماع للغة الإنجليزية, واجتماعيا بقطع علائق المودة والصداقات الشخصية والعائلية، والانسحاب من عضوية الأندية أو الهيئات التي تضم العناصر البريطانية، وهكذا يجب أن يشعر الإنجليز المحليون والإنجليز الاستغلاليون والإنجليز في بلادهم، أن حرب السخط قد أعلنت, وأن وادى النيل غاضب ثائر لا يرضى بغير حقه بديلا.
وهناك سلاح أقوى وأحد وأنكى وأشد هو سلاح التوجه إلى الله العلى الكبير، يذل الجبارين وقاصم المتكبرين، والإلحاح في الدعاء أن يرد عن الوطن كيد الكائدين وطغيان المعتدين، وأن يحقق له الآمال في الحرية والاستقلال، إنه نعم المولى ونعم النصير.
أيها الشعب الأبي العظيم:
لقد استقمت على الطريق فإلى الأمام، وعليك أن توطد النفس على جهاد شاق المراحل طويل الآماد، وهذه بعض واجباتك اليوم، وإن عليك في كل يوم لواجبات "ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر"
ومع الصبر النصر، ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ*بِنَصْرِ اللهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾﴾[الروم: 4-5] والله أكبر ولله الحمد – (8)
صداقة بعد جهاد"
وضع الإنجليز نصب أعينهم منذ قرنين مضيا أن يضعوا أيديهم على هذه البلاد، وأن يضموها إلى إمبراطوريتهم الضخمة، وأعدوا لذلك عدة مشروعات وعدة حملات، وهاجموها في عهد محمد على باشا، وتربصوا بها الدوائر بعد ذلك حتى تم لهم ما أرادوا من احتلالها بأسباب اختلقوها وأحكموا تدبيرها وخدعوا بها الحاكم والمحكومين على السواء، ووقعت مصر فريسة بين مخالهم منذ ستين سنة، وأخذوا يخدرون أعصاب الحكومة التركية والشعب المصري وبقية الدول بالوعود الخلابة ثم يختلقون أسباب البقاء حتى بلغت وعودهم خمسة وستين وعدا بالجلاء.
لم تطل خديعة الشعب المصري بالضيوف الثقلاء الذين استأثروا دونه بكل ما في البيت ونبذوه إلى العراء، وأدرك أنه احتلال دائم بيت أمره بليل، فانطلق الوطنيون يجاهدون بكل ما وسعهم من قوة للتخلص من هذا الكابوس الجاثم على صدر البلاد.
وكانت السياسة المصرية الوطنية حينذاك تقوم على دعائم سليمة قوية قويمة.
كانت تقوم على مصارحة الإنجليز بالعداوة والبغضاء ومجابهتهم بكذبهم وريائهم ومظالمهم واعتداءاتهم، وما ارتكبوا من فظائع وجرائم في هذه البلاد، وما ترك احتلالهم إياها من آثار سود في الأخلاق والأوضاع والعقائد والأفكار والثروات وكل مرافق الحياة.
وكانت تقوم على تربية الشعب تربية وطنية صحيحة وإمداده بالمعلومات الحقة، ورفع مستواه الفكري والروحي والمادي بالمنشآت العلمية والاقتصادية والوطنية، فكان الزعماء يؤلفون ويكتبون ويصدرون الجرائد والمجلات ويفتتحون الأقسام الليلية والمدارس النهارية لتعليم الشعب ويحضون على المشروعات الاقتصادية ويشجعونها بكل سبيل.
وكانت تقوم على انتهاز كل فرصة لطرح القضية المصرية على كل مجمع دولي أو مؤتمر سياسي في الداخل أو الخارج وعلى الدعاية المستمرة القوية الواضحة للقضية المصرية في كل مكان.
على هذه الدعائم كانت تقوم السياسة المصرية حتى جاءت ثورة سنة 1919 وأنبتت في مصر ما أنبتت من زعماء وأحزاب وحكام ارتضوا أن يدخلوا مع الإنجليز في تفاهم ومفاوضات ونقلوا ميدان القضية من المحيط الدولي الواسع إلى المحيط الثنائي المحدود، محيط المفاوضات والمداورات، وانصرفوا عن تربية الشعب وإعداده الإعداد الروحي والعملي إلى التشكيلات السياسية الصورية التي تجهز للنجاح في الانتخاب والظفر بكراسي البرلمان ومن وراء ذلك الحكم طبعا، واستتبع ذلك بحكم الضرورة أن ينصرف الناس عن المعاني الوطنية العليا العامة إلى المعاني الحزبية الشخصية الخاصة، وأن تكون بضاعة السياسيين هذه المهارات التي لا أول لها ولا آخر، ولا تتفق مع دين أو خلق، ولا تفد قضية ولا وطنا، وتكررت كلمات الصداقة والمحالفة والمصالح المشتركة، والتعاون بين الحليفتين إلى آخر هذه العبارات، عبارات المجاملة والرياء التي قتلت الوطنية وخدعت الشعب عن الحق وصرفته عن الإعداد والاستعداد.
وكانت تلك نقطة التحول في السياسة المصرية.
والآن وبعد مضى على ثورة سنة 1919 أكثر من ربع قرن من الزمان تعود القضية الوطنية سيرتها الأولى فتفشل المفاوضات أو تكاد وتغلق كل الأبواب في وجوه العاملين لهذه البلاد إلا بابا واحدا، لا باب للحرية الحقيقية سواه، هو باب العداء الصريح والإعداد الكامل والجهاد الواثب، ومرحبا به. ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون – (9)
بين قوانين الحرية.. وقيود الاستبداد
كان طبيعيا وقد احتل الإنجليز هذا الوطن بالحيل والخداع، وأخذوا يوطدون أقدامهم في أرضه بالمكر والدهاء تارة، وبالتفريق وبذر بذور الخلاف تارة أخرى، والعنف والقسوة مرة ثالثة، أن يضعوا لأهله وأبنائه ومجاهديه وأحراره القيود والأغلال يسمونها قوانين محتمة الطاعة واجبة النفاذ، حتى يحيطوا أنفسهم وصنائعهم بلون من ألوان الحماية ظاهره فيه الرحمة وتتوفر فيه الشكلية القانونية، وباطنه فيه العذاب وتخفى وراءه المظالم الوحشية، ومن أقدر على هذا منهم، وقد برعوا في هذا الفن وطبقوه في كل قطر ووطن؟!
وأظهر مثل لذلك قوانين التجمهر، وقوانين منع الاجتماع، وما يلحق بذلك من قوانين كبت الشعور الوطني ومصادرة الحريات.
وإذا أضيف إلى ذلك سوء الاستعمال، وقسوة التطبيق وتغلغل هذه المعاني في كل النظم والأوضاع، رأينا مبلغ ما تجر هذه السطور القليلة على كيان الأمة من ضعف وانهيار.
إن الحرية أيها الناس هي الإنسانية، ولا إنسانية بغيرها، فلن يكون الإنسان إنسانا إلا إذا كان حرا، يشعر أنه يستطيع أن يعبر عن خوالج نفسه، وأن يفعل ما يشاء- ما دام ذلك لا يؤذى الآخرين- وهي أم الفضائل جميعا، ففي ظل الحرية تنمو الشخصية الكاملة، ويترعرع الصدق والشجاعة والنجدة والإباء وحب العدل والنصفة وإغاثة المكلومين وحمل الكل والإعانة على نوائب الحق.
ومصادرة الحرية قضاء بالإعدام الأدبي، وتحطم لكل مقومات الإنسانية ومشخصات الأفراد والأمم، ولن تجد الرذيلة مرتعها الخصب إلا في ظل الاستعباد والاستبداد والكبت، فالكذب والخداع والرياء والنفاق والجبن والمهانة والنفعية وإيثار لمصالح الدنيا على المصالح العليا، كل هذه جراثيم ومكروبات لا تفرخ ولا تنمو إلا في هذا المرتع الوخيم.
والقانون لا يكون قانونا إلا حين ينظم مصالح الذين يوضع لهم، ويكمل حرياتهم ويحقق لهم مطالب الإنسانية الكاملة الضرورية، فإذا جاوز ذلك إلى الإخلال بطمأنينتهم وراحة أنفسهم ومصادر حرياتهم، كان قيدا لا قانونا، مهما تلمس له الحاكمون من الأسانيد الفقهية والشكليات التشريعية، ويكون مصيره ولا شك أن يحطم بثورة جامحة لا يستطيع أحد أن يمسك بخطامها أو يقودها بزمامها، وكل التاريخ شواهد على ذلك. ومن هنا جاء في رأس قائمة الإصلاحات الاجتماعية والقواعد التي يريد زعماء العالم أن يشيدوا عليها النظام الجديد كفالة الحريات وحقوق الأفراد والأمم، وأفلحوا إن صدقوا.
ولقد قيل: إننا انتقلنا من عهد الاحتلال إلى عهد الاستقلال ولو إلى درجة. والواقع يعطينا كل يوم الدليل بعد الدليل على أننا ما زلنا نعيش بعد العملية الاحتلالية القديمة، وفى محيط أوضاعها الفاسدة. ولا ندرى إلى متى يظل هذا الحال؟!
إننا نريد أن نغرس بذور الاستقلال في نفوسنا، ثم نتعهدها بالسقي الدائب بماء الحرية والكرامة وذلك يقتضي حتما أن تحطم هذه القيود التي تصادر الشعور والحريات باسم قوانين حماية الأمن والنظام، ولا ندرى هل سيدرك الساسة والحكام هذه الحقائق ويبادرون بالأخذ بها، أم سيظلون على ضلالهم القديم؟
وإذًا:
﴿فَسَوْفَ يأتي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يجاهدون في سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ﴾[المائدة: 54] – (10)
خطاب مفتوح
من المرشد العام
إلى زعماء الوادي وساسته
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى حضرات:
صاحب المقام الرفيع شريف صبري باشا.
صاحب المقام الرفيع مصطفى النحاس باشا- رئيس الوفد المصري.
صاحب المقام الرفيع على ماهر باشا رئيس جبهة مصر.
صاحب الدولة عبد الفتاح يحي باشا.
صاحب الدولة حسين سرى باشا.
صاحب الدولة محمود فهمي النقراشي باشا- رئيس الهيئة السعدية.
صاحب المعالى محمد حسين هيكل باشا- رئيس الأحرار الدستوريين.
صاحب المعالى إبراهيم عبد الهادي باشا.
صاحب المعالى مكرم عبيد باشا- رئيس الكتلة الوفدية.
صاحب السعادة أحمد لطفي السيد باشا.
صاحب السعادة على الشمسي باشا.
صاحب السعادة حافظ عفيفي باشا.
صاحب السعادة محمد حافظ رمضان باشا- رئيس الحزب الوطني.
الأستاذ الجليل السيد إسماعيل الأزهري – رئيس الوفد السوداني.
إليكم "أيها السادة" وفيكم رؤساء الأحزاب الموقرون، وأعضاء الهيئة السياسية السابقة المحترمون، والسادة الأجلاء المفاوضون. فأنتم عنوان المجموعة السياسية لهذا الوطن تضمون أقطابه، وتمثلون بصفاتكم وأشخاصكم أحزابه، أوجه القول:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فقد جمعتكم الأمة مرة حين أعلنت أهدافها، وحددت مطالبها وحقوقها، ونادت بالجلاء التام الناجز السريع، ووحدة وادي النيل فرددتم نداءها وأجبتم دعاءها، واجتمعت كلمتكم على هذه الغاية وعلى العمل لها.
وجمعكم الإنجليز مرة ثانية حين أبوا على الأمة هذه المطالب العادلة الحقة فأوقفوا المفاوضات، وظهروا بأسوأ المقاصد والنيات فوقفتم جميعا تنددوا بمواقفهم، وتتبرمون بظلمهم وإجحافهم.
وجمعكم جلالة الملك المعظم مرة ثالثة حين أبدى رغبته السامية في أن تتوحد كلمتكم، وتتجلى وحدتكم في هذا الظرف العصيب، فعهد إلى رجل منكم تقدرونه جميعا، وتحترمونه جميعا أن يكون رسول سلام ووسيط وفاق ووئام.
وجمعكم صدقي باشا أخيرا حين سافر منفردا بصفته الرسمية وحدها، ليرمي بآخر سهم في كنانته، وترككم وراءه تنظرون ماذا يفعل؟ وبم يعود؟ فالظروف كلها قد اجتمعت ملحة عليكم بأن توحدوا الصف، وتلموا الشعث، وتواجهوا الموقف في حزم وقوة لا مصدر لها إلا الوحدة وفى عزم وإصرار لن يكونا مع خلاف وفرقة، وليس بعد هذه الظروف إلا قارعة من السماء أو معجزة ليس لها كفاء، والأمة لا تعذركم والفرص لا تنتظركم.
وسيعود صدقي باشا بعد أسبوعين على الأكثر ومعه أحد أمرين: إما معاهد على أساس المشروع المصري بالنص أو بالتعديل، وإما يأس من المفاوضات وإعلان لفشلها بعد طول رجاء وتأميل. وفى كلتا الحالتين يجب عليكم أن تطلعوا على الأمة بالبيان الشافي، والشرح الكافي؛ لتقول كلمتها بالرفض أو القبول عن بينة؛ ولترسم خططها في العمل والجهاد عن دراسة ومعرفة، وكل ذلك يحتاج منكم إلى اجتماع وإعداد منذ هذه اللحظة.
أيها السادة الفضلاء الأجلاء:
أرجو أن يخلو كل رجل منكم بنفسه ساعة من ليل أو نهار، وأن يذكر وليس عليه من رقيب إلا ربه وضميره ووطنية، إنكم أنتم المسئولون الأول عن مجد هذا الوطن وعظمته وحقوقه وحريته وعن ثلاثين مليونا من العرب، وأربعمائة مليون من المسلمين. كل هذا أنتم مسئولون عنه بين يدي الله والتاريخ؛ لأنكم بحكم وضعكم ومنزلة وطنكم تقفون في أول هذا الصف الطويل القوى المؤمن المرصوص المتأهب للسير إلى غايته لا يأبه بتضحية ولا يخشى لومة لائم، تحولون باختلافكم وفرقتكم بينه وبين أن يتحرك في ثبات أو ينطلق إلى هدف أو اتجاه فما أعظمها من تبعات وما أضخمها من مسئوليات.
أيها السادة الفضلاء الأجلاء:
تناسوا في هذه اللحظات الدقيقة كل خصومة شخصية، وكل عاطفة حزبية، واذكروا وادي النيل ومجد العروبة وعزة الإسلام.
وليتقدم أحدكم مأجورا من الله مشكورا من الوطن بدعوة الباقين إلى اجتماع سياسي جامع وميثاق وطني شامل تجتمع كلمتكم عليه فتهوى أفئدة الأمة إليه، وحينئذ تقفون والله معكم ويد الله مع الجماعة والأمة من ورائكم صفا واحدا على السمع والطاعة إلى إصلاح في الداخل تصحح به الأوضاع الفاسدة أو إلى جهاد دائب دائم لإجلاء الدولة الغاصبة المعاندة.
أيها السادة الفضلاء الأجلاء:
إن لوطنكم هذا رسالتين عظيمتين جليلتين: رسالة الحرية والاستقلال ورسالة الإسلام والسلام وكل واحدة منهما جليلة الخطر عظيمة الأثر، فلا تلهيكم الدنيا العاجلة والمطامع الزائلة عن منزلة الإمامة التي أنزلكم الله إياها وسجلها لكم في محكم كتابه فقال ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾[البقرة: 143] فاعملوا والله معكم ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين.
أما نحن -معشر الإخوان المسلمين- فلن نقحم أنفسنا في مجموعكم، ولن نزاحمكم مكانتكم ولن ننازعكم رياستكم، وقد أبيتم علينا سواء أكنتم في الحكم أم خارجه أن نظهر بأية صورة على المسرح السياسي أو ننفذ من أى طريق مهما كان صحيحا سليما قانونيا إلى ميدانه الرسمي، فرضينا صابرين وعملنا كوطنيين مجاهدين وسنقف في صف هذا الشعب- ونحن أعرف بمكاننا منه- نوجهه ونسدده ونقوده ونرشده ونرقب معه ما أنتم فاعلون، فإن اجتمعتم وأحسنتم وجاهدتهم أيدناكم وناصرناكم وكنا لكم الفداء وإن أبيتم إلا الفرقة والخلاف، واتباع الأهواء، وآثرتم القعود وممالأة الغاصبين والأعداء، فسنمضى وهذا الشعب معنا بإيمائه وبقينه ووطنية ودينه وتنظيمه وتكوينه إلى الغاية مجاهدين، وفى سبيل الله والوطن مستشهدين، وندعكم مع القاعدين من المخلفين فإما إلى النصر وإما إلى القبر وكلاهما بركة وخير ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ﴾[التوبة: 52] والله أكبر والله الحمد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته – (11)
بين الحب والبغض
في مصر، وفى الجزيرة العربية وفى غرب هذا الجزء من الأرض، وفى شرقه كذلك، نبتت الفلسفات والحضارات، ونزلت الكتب والرسالات، وعاش سكان هذه الأوطان حينا من الدهر مثلا للمثل العليا من الحب الخالص والوفاء البالغ والكرم الشامل والشجاعة النادرة والإيثار العجيب.
وغمر الإسلام أخيرا هذه البقاع بما فيه من فيض الربانية الغامر، وأفق الإنسانية الواسع، فركز معاني هذه الأخلاق في النفوس، وثبتها بين حنايا الضلوع، وأخرج أمة نموذجية في خلائقها ومثلها فكانت خير أمة أخرجت للناس، وأقام دولة نموذجية كذلك في عدلها وإنصافها للقريب والبعيد ومناصرتها للحق وأهله في كل مكان، شعارها "ألا إن أقوى الأقوياء الضعيف المحق حتى ينال حقه، وأضعف الضعفاء القوى المبطل حتى يؤخذ الحق منه"
وإن خصائص الأمة التي تطبع بمثل هذه الطابع الخلقي الإنساني الرباني أن تعيش بقلبها وعاطفتها وشعورها إلى جانب عقلها ومصلحتها، وأن تكون عنيفة البغض بقدر ما هي صافية الحب صلبة في اقتضاء حقها لا تساوم فيه ولا تلين ولا تنثني أمام تهديد أو وعيد، ومن هنا حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان في الحب والبغض فقال: "وهل الإيمان إلا الحب والبغض".
فنحن المصريين والعرب والمسلمين نخلص إذا أحببنا، ونفى إذا عاهدنا ونعنف كذلك ونشتد إذا خاصمنا، وبقدر إفراطنا في التسامح والصفح يكون تشددنا في الخصومة والغضب.
ولقد احتل الإنجليز أوطاننا بالخديعة والمكر والخيانة والغدر ولم يدخلوها أبدا فاتحين ولا منتصرين، فهم أنفسهم أعلنوا ستين مرة أنهم دخلوا مصر بدعوة من أميرها إلى أجل معدود ووقت محدود، وهم قد وطئوا أرض الجزيرة العربية باتفاق مع أهلها الذين أحسنوا بهم الظن، وتوسموا فيهم الخير، وأملوا على أيديهم الحرية والخلاص، ثم قد استعمروا الهند بدكان بقال انقلب إلى شركة ثم إلى معسكر يتلوه احتلال وهكذا كانت سبيلهم إلى كل بلد نكبه سوء الطالع بمعرفتهم والاتصال بهم.
ولقد تصنعوا الإحسان، وأسرفوا في الوعود، وأبدعوا في زخرف القول فصدقنا لأننا صرحاء صادقون، ونعلم أن كذبة الأمير بلقاء مشهورة، وما كنا نظن أن عظيما يكذب أو شريفا ينصب شباك الخديعة للناس.
وانتظرنا مصداق هذه الوعود، فإذا هي كلها سراب خادع، وإذا بنا بعد قليل من الوقت نفيق على حريتنا وقد سلبت، وعلى استقلالنا وقد ضاع، وعلى ثروتنا وقد انتقلت إلى أيدى الأجانب والشركات وإلى أسواق لندن ولانكشير ومانشستر وليفربول، وقد ضربت عليها النطق والقيود من كل مكان، فلا إصدار إلا بضريبة، ولا توريد إلا باستئذان, ومع هذه الأضرار البالغة سياسيا واقتصاديا، فقد فقدنا كذلك خلقنا وتقاليدنا وأوضاعنا السليمة القويمة، فبدلت أحكاما وفشا فينا المنكر حتى أصبح معروفا، واختفى من بيننا المعروف حتى أصبح منكرا، وتخلفنا عن ركب الحياة السائر إلى الأمام ألف عام.
وجاهدنا بالأنفس والأموال وأرقنا الدماء الزكية وقمنا بالثورات تباعا في سبيل الحق والحرية، وخدعنا مرة ثانية – والكريم تخدعه الكلمة الطيبة- وسلكنا سبيل التناغم والإقناع ووقفنا إلى جانبهم في ساعة العسرة، ولكن ذلك كله لم يغير من تلك الطبيعة المادية التجارية ولم يؤثر في هذه النفوس الوصولية النفعية، وكان جزاؤنا بعد هذا كله ثنى الأعطاف، وهز الأكتاف، وبطر الحق، وغمط الخلق، والمراوغة لكسب الوقت، واللف والدوران.
لقد غضبت هذه الأمة، وسيشتد غضبها، وسيتحول هذا الغضب إلى بغض وكراهية وخصومة وعداء، وحينئذ سيرى الإنجليز نتائج غضب العزل الضعفاء من المادة والسلاح الأقوياء بالعقيدة والحق والإيمان، ولقد أعلن المركز العام للإخوان المسلمين ألا تعاون بعد اليوم مع الإنجليز فسرعان ما استجابت الأمة لهذا النداء, لقد توالى على المركز العام رجال مؤمنون ممن يعملون في الشركات الإنجليزية والمؤسسات الإنجليزية مستعدين لترك هذه الأعمال منتظرين التوجيه لما يعملون، ولقد ترك بعض العاملين فعلا أعمالهم استجابة لهذا النداء، ولقد وجههم المركز العام إلى الانتظار حتى تفرغ اللجنة المؤلفة لتنظيم هذه الناحية من عملها وتطالعهم بما يفعلون فأطاعوا كارهين وعادوا متألمين.
وتلك هي حقيقة شعور أفراد الأمة جميعا أنهم وقد انكشفت لهم هذه النيات السيئة لن يصبروا بعد ذلك على هذا الهوان، وحين يفعل هذا الشعور فعله في نفوس ثلاثين مليونا من سكان وادي النيل، فسيسري بسرعة البرق إلى قلوب سبعين مليونا من العرب وثلاثمائة مليون من المسلمين، فهل ترى إنجلترا أن هؤلاء جميعا لا يستطيعون أن يفعلوا معها شيئا؟ فلندع الجواب للأيام، وهي خير مجيب – (12)
نستطيع أن نفعل كثيرًا لو أردنا
يقول العاجزون الذي يريدون أن يصلوا إلى الغايات العظيمة والآمال الجسام بالأماني والأحلام، والمنى بضائع الموتى: ماذا عسى أن نصنع أمام الإنجليز؟ وهل لنا من سبيل غير هذه المفاوضات؟ وهبوها قد قطعت من جانبنا أو من جانبهم فما الذي ربحناه؟ ونقول: إن هذا المنطق لا يمليه إلا العجز وحب الراحة والدعة والهروب من تبعات النضال والكفاح في سبيل الحرية والاستقلال وتحقق المطالب والآمال.
ولكن الحقيقة أننا نستطيع أن نفعل كثيرا لو أردنا ذلك، وكنا جادين في هذه الإرادة، ونزع الله من قلوبنا هذا التهيب الكاذب من قوة الخصم، أو الوهم الخادع من حسن الظن.
نستطيع أن نتقدم فورا إلى محكمة العدل الدولية بطلب إلغاء معاهدة سنة 1936 لمناقضتها لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة الذي وقعناه نحن والإنجليز، ولزوال الدوافع والأسباب التي دعت إليها وتغير الظروف والملابسات التي صاحبتها، ولأن الإنجليز أنفسهم نقضوها بتدخلهم وتصرفاتهم عدة مرات، وبأسباب كثيرة تؤيد هذا الإلغاء ونكسب من ذلك تعطيل مفعولها على الأقل حتى يفصل في هذا النزاع، وليس ذلك رأينا وحدنا ولكنه رأى كثير من الخبراء القانونيين البريطانيين أنفسهم كما جاء في برقيات الأمس .
ونستطيع أن نرفع قضيتنا إلى هيئة الأمم المتحدة فورا وأقل ما ننتظره فيها من نجاح أن نحصل على الجلاء عن أرض مصر بدون قيد ولا شرط، ولا محالفة عسكرية هي شر من الاحتلال مع الضمانة الدولية العامة التي ستكون في أيدينا نتيجة لقرار مجلس الأمن، فلا يكون الأمر مجرد وعد أو معاهدة بيننا وبين الإنجليز ونحن قد بلونا المر من هذا الثمر ستين عاما أو تزيد.
ونستطيع أن نطالب برصيدنا وديننا البالغ قدره خمسمائة مليون من الجنيهات، وأن نتحرر من امتيازات الشركات الإنجليزية ومن المهاجرين البريطانيين ومن سلطان رءوس الأموال الأجنبية في هذه البلاد، وأن نتحرر من يد الكتلة الإسترلينية.
فلنستفد بذلك فائدة لا حد لها، ونتخلص من هذا الاستعباد الاقتصادي وهو أقسى وأشد من الاحتلال العسكري.
ونستطيع أن نحول دون كل تدخل يريد القوم أن ينالوا به من حريتنا واستقلالنا وشئوننا الداخلية أو الخارجية، ونستعدى عليهم هيئة الأمم المتحدة والرأي العام العالمي كلما امتدت أصابعهم بهذا العدوان المستحقة عليهم.
ونستطيع بعد ذلك أن نفكر تفكيرا جديا في صلاتنا بدول العالم، وأن نتحرر بالمقاطعة من هذا النطاق الظالم الذي ضربته علينا إنجلترا فلا نتعاون معها في شأن من شئون الحياة.
نستطيع الكثير لو أردنا، وبعض هذا مما يضايق الإنجليز ويدعوهم إلى التفكير الجدي في الاحتفاظ بصداقة المصريين، وعدم التجني عليهم، والعبث بحقوقهم ومطالبهم، وإضاعة الوقت في المحاولات الفاشلة والمناورات الباطلة.
والأمة كلها – هيئاتها وأفرادها- مجمعة على أن المفاوضة وانتظار تعطف الإنجليز لم تعد بحال الوسيلة إلى تحقيق مطالب شعب وادي النيل والاعتراف بحقه الواضح الصريخ.
وعجيب ألا تتجاوب خطة الحكومة المصرية مع مشاعر شعبه وعواطفه، وأن تظل في واد وهو في واد آخر، ولا تجد معه سبيلا إلا كبت الشعور ومصادرة الحريات والاعتماد على سلطة الحكم وأدوات الجبروت والقهر، وتدعى مع هذا أنها تحكم باسمه وتتكلم بلسانه وتعبر عن إرادته وتعمل لخيره ومصلحته متجاهلة صيحته الداوية بالاحتجاج والاستنكار.
نضع هذه الكلمة بين يدي الحكومة المنتظرة، لعل فيها عظة وعبرة، ولعلها تراجع نفسها وترى من تعنت الإنجليز معها وغضبة الشعب من حولها لحقه المسلوب، واستقلاله المغصوب، ما يحملها على اختصار الطريق واحترام إرادة الأمة وإنهاء مهزلة المفاوضات وسلوك سبيل الجهاد – (13)
مسألة وقت
حدد شعب وادي النيل مطالبه واضحة سافرة صريحة عادلة، وأعلن أنها الجلاء التام الناجز بلا قيد ولا شرط؛ حتى يتم بذلك له معنى الاستقلال الكامل، ويتذوق طعم الحرية الصحيحة والوحدة الحقيقية التي تجعل من الوادي وطنا واحدا لشعب واحد ألفت بين بنيه. كل العوامل الطبيعية والاجتماعية والتاريخية ثم المصلحة المادية بعد ذلك فلا غنى لمصر عن السودان ولا غنى للسودان عن مصر، وإذا كان بعض أبناء هذا الوادي قد انخدع بالدعايات الأجنبية والمغريات الإنجليزية، فألقى بنفسه في أحضان الإمبراطورية يطالب بالانفصال والاستقلال اليوم ليكون السودان فريسة لبريطانيا في الغد، فمن حسن الحظ أن هؤلاء أقلية لا يقام لها وزن، وأن الشعب السوداني في الجنوب يدرك تماما العوامل الخفية والدوافع الشخصية التي تدفعهم إلى مثل هذا القول. وإذا كان البعض الآخر يتمسك بالحكومة الديمقراطية والاستقلال الذاتي وما إلى ذلك من التحفظات مع تسليمه بالوحدة وإيمانه بضرورتها إيمانا لا يرقى إليه الشك، فإن الحوادث وضرورة الكفاح اليوم والإصلاح غدا ستقنعه تمام الاقتناع بأنه لا مناص من الاندماج الكامل والوحدة التامة، وهى على كل حال قضية بين شقيقين لا يريدان دخيلا بينهما، ولا يستطيع أحد في الدنيا أن ينكر أن الانفصاليين والمتحفظين ودعاة الاندماج والمصريين قد اتفقت كلمتهم جميعا على المطالبة بجلاء الإنجليز عن السودان، فإذا كان الإنجليز صادقين في دعواهم العمل على رفاهية السودانيين، وتحقيق مطالبهم فليحققوا إذن هذا المطلب المجمع عليه، وليدعونا مع إخوتنا نتفاهم، وسنصل إلى ما يرضى الفريقين، ويؤدى إلى خير الشطرين ويريح أهل الشمال وأهل الجنوب على السواء، أما التعلل بالتزامات بريطانيا نحو السودان وواجبها الدولي نحو أهله...إلخ، فحجج واهية وتستر بغير الحق، وإذا كان هناك التزام يحاسب عليه ملتزمة فهو التزام مصر للسودان أن تخلطه بنفسها وأن ترقى به كما ترقى بأي جزء من أرضها، وأن تعمم فيه معالم الإصلاح، ومصر على أتم الاستعداد للنهوض بهذا الواجب، ولا يحول بينها وبين أدائه إلا استئثار بريطانيا دونها بالتحكم في مقدراته تحكما لم ينتج بعد خمسين سنة تقدما في أية ناحية من نواحي الحياة.
ولقد جاء هذا التحديد نتيجة لهذا الوعي القومي البالغ واليقظة الوطنية الكاملة التي تأججت شعلتها في صدر أبناء الوادي منذ وضعت الحرب أوزراها، بل منذ نشبت هذه الحرب وقدم لها هذا الشعب دمه وأقواته ومرافقه جميعا رجاء أن يصدق المنادون بمبادئ الحرية والعدالة، والواضعون للمواثيق والعهود والمقسمون بأغلظ الأيمان أن يحققوا للشعوب المهضومة حرياتها، ويقفوا إلى جانبها حتى تصل إلى حقها. كما جاء هذا التحديد نتيجة حتمية لهذا التطور العالمي في تفكير البشر ومشاعر الناس بحيث صار الاستعمار بكل أنواعه وصوره وأشكاله معنى من معاني الرجعية التي يجب أن تحارب بكل سلاح حتى يزول من الوجود، وحتى يبطل هذا الرق السياسي الاجتماعي، ويقضى على استعباد الشعوب للشعوب فلم تكن المطالب القومية نتيجة لدعاية حزبية أو لعاطفة وقتية.
ومن هنا كان من الخير كل الخير أن يعلم البريطانيون أن قضية هذا شأنها لا يمكن أن ينساها أهلها بالزمن، أو تنفع في شغلهم عنها وصرفهم عن الجهاد في سبيلها مناورات المفاوضات أو مداورات النصوص والمعاهدات أو الوقوف عند الصيغ والتفسيرات، فلن يزيد الزمن أهل الحق الواعين إلا تمسكا بحقهم وجهادا في سبيله ورغبة في الوصول إليه كاملا غير منقوص، ومن الخير للحكومات المصرية أن تدرك هذه الحقيقة وهي لا شك تدركها، وهل هي إلا من أبناء هذا الشعب ومن واجبها أن تحس بإحساسه وتشعر بشعوره؟! ولكنا لا نريد أن تقف عند حد الإدراك أو الشعور بل إن عليها أن تصارح البريطانيين رسميا بهذه الحقيقة، وأن يقوى إيمانها بها إيمانا يحول دون كل مظهر من مظاهر الضعف أو الوهن.
وإذن فالمسألة مسألة وقت فقط أما النتيجة فلن تكون إلا الوصول إلى هذه الحقوق كاملة، وخير لإنجلترا أن تدرك هذه الحقيقة فتعجل بالجلاء عن أرض الوادي وتعترف بوحدته وتكتسب بذلك عن إخلاص جميل معاونته وكريم صداقته وخير البر عاجله.
أما إذا تغلبت روح الرجعية الاستعمارية فستخسر بريطانيا صداقة هذا الشعب ومعه الشعوب العربية والإسلامية إلى الأبد، وسيظل أبناؤه يجاهدون بكل وسيلة حتى يصلوا إلى الغاية، فإما النصر وإما القبر والله غالب على أمره – (14)
خلال أسبوعين
تقول المصادر المتصلة بدولة رئيس الحكومة أنه قد عزم على استئناف المفاوضات مع الحكومة البريطانية على أساس تفسيرات دولة صدقي باشا، وأنه سينتظر أسبوعين فقط بعد عودة مستر بيقن من أمريكا فإذا سلمت الحكومة البريطانية بوجهة نظر الحكومة المصرية فبها وإلا رفعت القضية إلى مجلس الأمن.
ولا ندرى ما الذي يحدو بالحكومة المصرية إلى هذا الانتظار، وهي تعلم تمام العلم أن الفريق الأكبر من شعب وادي النيل قد أعلن في صراحة ووضوح معارضته في مشروع المعاهدة حتى بعد هذه التفسيرات، وهي تعلم كذلك أن الإنجليز يتذرعون بشتى الوسائل ليكسب الوقت والمماطلة، وأن الزمن في جانبهم وأن الظروف الدولية تمر فلا تعوض، وحسبنا ما أضعنا على أنفسنا من وقت وما فاتنا من فرص. ولسنا في حقنا ضعفاء بحمد الله وهو واضح كفلق الصبح لا يكابر فيه إلا كل معتد أثيم.
لا ينفع الحكومة المصرية ولا يجدي في الحصول على الحق المهضوم مع هذه المناورات إلا موقف الحزم الكامل، ولقد كان علينا أن نأخذ به الأمر من أول يوم منذ أعلنت الهدنة في يونيو سنة 1945. كان علينا منذ هذا التاريخ أن نطلب إلى الحكومة وإلى غيرها من الحكومات الأجنبية سحب قواتها، والجلاء عن أرض الوطن ومائه وهوائه ثم نعلنها ببطلان معاهدة 1936، فإذا نازعت في هذا ولم ترض به رفعنا أمره إلى محكمة العدل الدولية، وفى أيدينا الحجج القانونية والمستندات التي تؤيد حقنا وتؤكد ما ذهبنا إليه، ونلجأ في الوقت نفسه إلى هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن إذا شعرنا بمعنى المراوغة والتهرب من الجلاء، ونتفاهم بعد ذلك في أمر الشطر الجنوبي من أرض الوطن(السودان) فأما اتفاق وإما تحاكم كذلك، ولنا في النهاية النصر والفوز لأننا لا نطالب إلا بالحق، وهو دامغ، ولا نسير إلا في طريق وهو واضح.
كان علينا منذ يونيو سنة 1945 أن نختط هذه الخطة وأن نسلك هذه السبيل ولكنا سلكنا سبيل المفاوضات، وأضعنا هذا الوقت الطويل في المذكرات والخطابات والمشروعات والتيسيرات والقطع والوصل والتشاؤم والتفاؤل حتى انتهينا بعد كل هذه المحاولات إلى نقطة الابتداء.
هذا الدرس كاف لنتعظ به ونعتبر ولا أظن أننا في أسبوعين سنصل إلى ما عجزنا عن الوصول إليه في قرابة عشرين شهرا، ومن واجب الحكومة الآن أن تختصر الطريق تتخلص من هذه المفاوضات، وتخرج من هذه الدائرة المفرغة التي لا يدري أين طرفاها، وتطرق باب التحاكم الدولي، وتهيئ الأمة لأسباب الكفاح والجهاد. ولا يضيرنا أبدا عدم تكافؤ القوى المادية والأدبية بيننا وبين خصومنا ففي كفتنا الحق، وفى ميزانهم الباطل وفى يدنا العدل ومعهم الجور والعدوان والله مولانا ولا مولى لهم ولله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم – (15)
بيان وقرار
انتظر الناس بفارغ الصبر ببيان رئيس الحكومة المصرية، وترقبوا فيه جديداً يريح النفوس القلقة، ويطمئن الخواطر المضطربة، ويجلو غوامض الأمور، ويرسم الطريق العملي، ويشير إلى الخطوات التي ستسلكها الحكومة؛ لتحقيق الأهداف القومية بعد أن أعلنت في خطاب تأليفها أنها ستسلك إلى ذلك كل طريق موصلة.
ولكن البيان جاء على غير ما كان ينتظر المترقبون، فاكتفى بالإشارة إلى حقوق الوطن في إجمال لم يزد على أنها "تلك المطالب التي نقشت على قلب كل مصري، وهي الجلاء، ووحدة وادي النيل طبقا لمشيئة أهل الوادي ورغبتهم وهي رغبة طبيعية.. مع بذل الجهد في السير بالسودان إلى الحكم الذاتي، وتهيئة أهله لتولى شئونه" ونحن لا نكره لإخوتنا في السودان أن يتولوا شئون هذا الشطر من الوطن فهم أحق بهذا التولي وأهله، على ألا يكون وسيلة إلى الانفصال الذي ليس في صالحنا ولا في صالحهم بحال. وكم كان الناس في الجنوب وفى الشمال مشوقين إلى وضع هذا التحفظ في بيان رئيس الحكومة؛ حتى تقطع جهيزة قول كل خطيب وتقف المناورات البريطانية، والتلاعب السياسي الماكر بالألفاظ عند هذا الحد الواضح المستنير.
وكم كان الناس مشوقين كذلك إلى أن يتعرفوا خطة الحكومة العملية كما قدمنا، وهل هي ستستأنف المفاوضة من جديد، وعلى أى أساس يكون هذا الاستئناف إذا فكرت فيه، أو ترفع القضية مباشرة إلى مجلس الأمن؟ هذه أسئلة لم يفصح البيان عن الإجابة عليها مع شدة ترقب الرأي العام لهذه الإجابة، وسأمه من سياسة الغموض والتلويح.
ولعل الحكومة في الأيام القريبة تكشف بالعمل ما أغفلته بالقول، ولعلها تستجيب لهذه الرغبة الملحة التي رددها أبناء الوطن بكل لسان، وهي التخلص من هذه المفاوضات العقيمة، والتفكير في سواها من الوسائل القانونية والعملية، للتخلص من بلاء التحالف والتدخل والاحتلال وإذا صدق العزم وضح السبيل.
ولقد طالعتنا الصحف منذ يومين بإقرار هيئة الأمم المتحدة لاقتراح مندوب مصر عبد الرازق السنهوري باشا الذي نصه: "وينبغي تنفيذا لميثاق الأمم المتحدة بنصه وروحه أن تشرع الدول المشتركة في هيئة الأمم المتحدة في العمل بلا إبطاء على سحب قواتها المسلحة المرابطة في أراضي الدول الأخرى من أعضاء هذه الهيئة بغير موافقتها"
وقد اعتبرت الحكومة وأنصارها هذه الموافقة انتصارا لها، وسلاحا في يدها تبرزه عند اللزوم إذا رفعت الأمر إلى مجلس الأمن، واعتبرت موقف السنهوري باشا عملا مشرفا يشكر عليه، ولكن ما عرف من أن السنهوري باشا قدم هذا الاقتراح منفردا برأيه في هذا التقديم، وأن سفير مصر في الولايات المتحدة عضو وفدها لدى هيئة الأمم محمود حسن باشا قد اعترض على هذا التصرف، وأبرق إلى دولة صدقي باشا قبل سقوط حكومته محتجا عليه احتجاجا صارخا، وأن الاقتراح الذى تقدم به محمود بك فوزى عضو الوفد أيضا تعديلا للاقتراح الروسي كان أدق وأحكم وأوفى بالغرض إذ كان نصه "وترى الجمعية العمومية طبقا لنص الميثاق وروحه ولمبدأ المساواة في السيادة، أنه لا يحق لأى دولة أن ترابط قواتها المسلحة في أراضي دولة أخرى من أعضاء هيئة الأمم المتحدة إلا في الحالات المنصوص عليها في الميثاق، وعملا بهذا توصى الجمعية العمومية كل دولة مشتركة في عضوية هيئة الأمم المتحدة، ولها قوات مسلحة في أراضي غيرها من أعضاء من أعضاء الهيئة أن تسحب قواتها فورا" ويضاف إلى هذا ما قيل من أن اقتراح السنهوري باشا كان أخذا بتوجيه المستر بيقن، وتحقيقا لسياسته، وأنه فتح بالتحفظ الأخير الوارد فيه باب المراوغة والتهرب والتلاعب بالألفاظ أمام الدول المعتدية. كل ذلك آثار الغبار الكثيف حول بريق الفوز الذي تدعيه الحكومة لرئيس الوفد المصري في الهيئة، وإن كانت ترد على هذا كله بأنه إذا كان الاقتراح الأول قد رفض فما فائدة التمسك به والموازنة بينه وبين غيره؟ وشيء خير من لا شيء ولسنا راضين عن الاحتلال بحال حتى نتقيد بالتحفظ الوارد في التعديل. والرأي العام في حاجة إلى بيان من الحكومة؛ تكشف به غوامض هذه المسألة، ويجليها على حقيقتها للناس وإنا لمنتظرون – (16)
كلام صريح
حول الموقف الحاضر
لا شك أن فكرة التحاكم الدولي ورفع قضية الوطن إلى هيئة الأمم المتحدة، وإلى محكمة العدل الدولية، وإلى مجلس الأمن، وإلى كل مؤتمر دولي ومجمع عالمي، ونبذ فكرة المفاوضة مع بريطانيا والتفاهم الثنائي كوسيلة لتحقيق أهداف البلاد، فكرة صائبة بعد أن أرغمتنا عليها التجارب والظروف، ودفعنا إليها دفعا مكر إنجلترا وتجنيها وتعنتها وتنكرها لحقوقنا ولمواثيقها، وللجميل البالغ الذي أسدته إليها هذه البلاد في محنتها.
وكان يجب علينا أن نتلقى هذا الدرس في وقت مبكر وأن نخطو هذه الخطوة منذ زمن بعيد.
ومهما قيل من أن هذه الهيئات الدولية خاضعة لنفوذ الدول الكبرى راضخة لسلطانها متأثرة بتوجيهها فإننا سنجنى فوائد كثيرة لهذا التحويل في أسلوب السياسة المصرية، منها جمع كلمة الأمة ومصارحتها بحقيقة نيات البريطانيين، ووقفوها وجها لوجه أمام اعتدائهم على حقوقها وسيادتها، ومنها فضح سياسة الإنجليز وخداعهم أمام دول العالم وأممه وشعوبه، وتصحيح آراء هذه الدول المخدوعة بهم عن العلاقة بين مصر وبريطانيا، وعن حقيقة هذا الوطن مع القضاء على الصور المشوهة التي وضعها الاستعمار البغيض بين أيديهم ومنها تبين نيات هذه الدول نفسها نحو مصر وانكشاف مطامعها أو عواطفها نحوها، حتى تصادق من تصادق عن بينة، وتخاصم من تخاصم عن بينة كذلك، وهى التي أوسعت صدرها وأرضها ومرافقها ومواردها للجميع ومن واجب الجميع أن يقفوا إلى جانبها وبخاصة ومعها الحق ومع غيرها الإثم والبطلان.
ومن هنا سمعنا أن إنجلترا تبذل جهودا كثيرة؛ لتحول دون سلوك مصر هذا المسلك، فتارة تعلن حرب الأعصاب، وتارة تشكك في النتائج، وتارة تعلن سرورها بهذه الخطوة ونرى ذلك واضحا في صحافتها الملتوية المقصد والأساليب.
ولا شك أن الشعب كله على اختلاف هيئاته، وطبقاته، أفراده، وساسته قد صادفت منه هذه الفكرة في الفؤاد لا لأنه لا يثق بالنتائج مائة في المائة ولكن لما ذكرنا من فوائد هذا الاتجاه والنتائج بعد ذلك بيد الله والعاقبة للمتقين، وما زلنا نحسن الظن بالضمير الإنساني العالمي، فإذا خذلتنا الهيئات الدولية في هذا الحق فنحن نعرف طريق الجهاد لاستخلاصه وعليها إثم الظالمين المعتدين، ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُون﴾[الشعراء: 227].
لكن التفكير في هذه الخطوة وحدها لا يكفى والإقدام عليها مجردة لا يفيد، فإن لها ملحقات وتوابع يجب أن نتهيأ لها ونهتم بها، وهذا واجب الحكومة ولاشك، فمن ذلك الدعوة الجدية إلى توحيد الصفوف وجمع الكلمة حتى تواجه الأمة عدوها صفا واحدا، ومنه تنظيم الدعاية في كل مكان في الداخل والخارج، ومنه استصدار التشريعات والقوانين التي تحبط على الغاصبين ما يبيتون، وتشعرهم أننا جادون لا هازلون، وهناك واجب آخر على الأمة بهيئاتها وأحزابها وزعمائها وأفرادها، أن يرسموا للحكومة خطة وطنية محكمة مفصلة ويطالبوها بالعمل على أسسها والسير على منهاجها، ويستعدوا لمؤازرتها إن سارت في هذه الخطة بجرأة وإقدام للعمل على إسقاطها إن آثرت السكوت والإحجام، ولقد كنا نفضل أن يسلك الوفد في بيانه هذا السبيل، ويمد يد المعاونة للحكومة على أساس خطة ومنهاج، فينفى بذلك عن نفسه شبهة التعنت والتصلب وترقب سلطة الحكم والجهاد في سبيل الوصول إليه لا في سبيل حقوق البلاد، كما كنا نفضل أن يتريث رئيس الحكومة في رده، أو أن يرد بما يمهد السبيل للتفاهم، ولا يقطع خط الرجعة على وسطاء الخير.
على أننا نرى أن الفرصة لم تفلت بعد، وأنه ما زال في وسع رئيس الحكومة أن يعلن من جانبه خطة عملية ويدعو القوم إليها في رفق ولين وإخلاص، وليذكر قول الله تعالى: ﴿إِن يُّرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا﴾[النساء: 35] ولقد حدثوا أن عمر اختصم إليه زوجان فبعث حكما من أهله وحكما من أهلها فلم يوفقها إلى إصلاح. فخفقهما بدرته، وقال ويحكما لم تريدا إصلاحا ولهذا لم توفقا عودا مخلصين وستوفقان، وقد كان، وصدق الله العظيم. فإن أجابوه فهو حظ الوطن في محنته الحاضرة والخير للأمة جميعا، وإن لم يفعلوا فحسبه أن أعذر إلى الله، وإلى الناس، وسيجد من المخلصين العاملين في هذه الأمة من يشد أزره، ويعينه على الحق ما دام يعمل له ويجاهد في سبيله.
أما الإخوان المسلمون، وهم الذين لم يفكروا في يوم من الأيام بغير عقولهم المخلصة البريئة، فقد حددوا موقفهم في الخطاب الذي قرر مكتب الإرشاد العام رفعه إلى رئيس الحكومة غدا (اليوم) ويبنوا فيه تفصيلا الخطة التي يرون أنها واجبة الاتباع، ولعل في هذه الخطة هدى ونورا للذين ما زالوا حائرين في الطريق بعد، وعلى كل حال فستكون هذه الخطة للإخوان هي أساس موقفهم من الساسة حاكمين أو محكومين، والله يقول الحق وهو يهدى السبيل – (17)
قبل انعقاد الجامعة العربية
تأجل موعد انعقاد مجلس الجامعة العربية في هذه الدورة إلى يوم 17 مارس سنة 1947، ولا شك أن المسائل التي ستكون في جدول أعمال المجلس قضية وادى النيل وحقوق مصر القومية، أو أن مصر ستطلب أن يكون هذا من جدول الأعمال إن لم يكن منه فعلا، فإن هذه فرصة يجب ألا تضيع على الوطن، كما أن وجود وزراء خارجية الدول العربية أو مندوبيها في المجلس فرصة أخرى يجب أن تنتهزها الحكومة المصرية فتبسط وجهة نظرها لحضراتهم وتتعرف وجهات نظرهم كذلك، وتتفق معهم على الخطوات الموحدة التي يجب أن تخطوها الدول العربية متضامنة مع مصر في قضيتها العادلة، فإنما نحن وطن واحد وأمة واحدة ومصلحة مشتركة واحدة، وبهذا التكاتف على خير هذا الوطن العام سنصل إلى كل خير لأوطاننا الخاصة ويد الله على الجماعة، وبذلك يقضى على الإشاعات الكاذبة والأخبار المضللة التي يحاول خصوم القضية العربية سواء في وادى النيل أو فلسطين أو في غيرهما أن يذيعوها وأن يسمموا بها الأجواء الصافية وينالوا بها من الوحدة الكاملة القوية، ولن يستطيعوا بإذن الله وسيرون ممن نتائج هذا الاتحاد وآثاره ما لم يكونوا يحتسبون.
ولكنا نريد أن نقول للحكومة المصرية أليس هذا مما يستدعى أن تكون الدراسات الفنية قد انتهت وقد تم كل شيء وتحددت وجهة النظر واضحة في جهة الاحتكام؟ أهي مجلس الأمن أولا. فالجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة بعد ذلك أم الجمعية العمومية قبل مجلس الأمن؟ وفى المطالب نفسها كذلك، أهي الجلاء عن الوادي كله أم عن مصر وحدها؟ مع أن الإيمان بالوحدة يستدعى الجلاء عن شطري الوادي جلاء تاما، بحيث لا يكون هناك أثر للاحتلال الأجنبي ولا يستدعى نوع الإدارة ونظام الحكم كائنا ما كان وجود قوات أجنبية لدولة كل ما تستطيع أن تدعيه أنه كان لها نوع من الاشتراك في الإدارة أخذته غصبا واستأثرت به غدرا وأساءت استخدامه فلم ينتج خيرا، وفى معاهدة سنة 1936 كذلك، وهل ستعلن الحكومة بطلان مفعولها أو إلغائها من الآن، أم ستترك هذا الأمر وتدعه الآن مع تظاهر الأدلة عليه ووضح السبيل إليه؟
فجهة الاحتكام وموضوع عريضة الدعوى ورأى الحكومة المصرية في معاهدة 1936 وفى اتفاقية 1899 أمور يجب أن يتحدد منها موقف الحكومة جليا، ويجب أن يتكشف أيها فيها واضحا قبل انعقاد مجلس الجامعة في 17مارس القادم.
وقد ذكرت الجرائد أن دولة رئيس الحكومة سيلقى بيانا في البرلمان يوم الثلاثاء القادم يتحدث فيه إلى النواب والشيوخ عن رأى الحكومة في هذه الشئون، وإن الأمة لفي شوق شديد إلى أن تسمع في هذا البيان جوابا شافيا عن كل هذه المعاني، وما يوم الثلاثاء بعيد – (18)
بالحساب
500.000.000 | = | مليم 412 | جنيه 29 |
17.000.000 |
ليتذكر كل مصري ومصرية صغيرا أو كبيرا غنيا أو فقيرا أن له طرف الإمبراطورية البريطانية تسعة عشرين جنيها ونصفا، فإذا كانت هناك أسرة مكونة من زوج وزوجة وولد واحد، فلهذه الأسرة طرف الحكومة البريطانية والخزينة البريطانية نحو تسعين جنيها أو تزيد.
وذلك أن دين مصر على إنجلترا ورصيدها الإسترليني عندها قد جاوز الخمسمائة مليون جنيه، والمصريون يبلغون بالتقريب سبعة عشر مليونا من الأنس، وبالحساب الرقمي تصل إلى القيمة المذكورة كما هو مبين أعلاه وهو المطلوب.
لقد أعلنت الحرب وأبت إنجلترا إلا أن تجعل أرضنا وبلادنا ووطننا قاعدة حربية، وإلا أن تسخر كل مرافقنا وقوانا وضروريات حياتنا للدفاع عن أرضها وإمبراطوريتها ومصالحها المزعومة، ووجودها المهدد بالرق والهزيمة والفناء.
لقد اتخذت من أرضنا مأوى للملايين من الجنود المجلوبة من كل مكان، وتحولت صحارى مصر إلى معسكرات تزخر بالمؤن والجنود والذخائر والمطارات والمعاقل والمصانع والمستشفيات والمعتقلات واستخدمت كل طرق مواصلاتنا من السكة الحديدية إلى البواخر إلى السيارات إلى الدواب في الأغراض العسكرية، وصودرت أقواتنا وحاصلتانا وخيرات أرضنا؛ لتكون طعاما للجنود؛ ولتصدر إلى خارج هذا الوطن؛ حيث تباع بأضعاف ثمنها وتمد بها البلاد الجائعة والجنود الضائعة في مختلف الميادين، فعرفنا الجوع والعرى والبؤس والشقاء، وقاسينا ويلات الحرمان والفاقة، وانتشرت بيننا الأمراض الفتاكة والأوبئة القتالة، وعضنا الغلاء الفاحش بأنيابه القوية الصارمة، وعرفنا كيف يكون الضيق في المسكن، وأرض الله واسعة، وصب علينا البلاء من كل مكان.
كل هذا والإنجليز الذين ينعمون بهذه الخيرات دوننا، ويستأثرون بها في أرضنا، لا يدفعون لها ثمنا إلا سندات على الخزينة البريطانية، وإلا أوراقا نقدية لا رصيد لها، وإلا وعودا معسولة بالسداد والوفاء وحسن المثوبة والجزاء، حتى بلغ مجموع الدين الذي لمصر على بريطانيا خمسمائة مليون من الجنيهات.
ومرت هذه الأيام السود والأمة المصرية صابرة محتسبة تنتظر طلوع الفجر وإشراقه الصباح ووضوح النهار لتنال حقها، وتستكمل استقلالها، وتساهم مع ركب الأمم العزيزة في بناء العالم الجديد والحضارة الإنسانية المترقبة.
وإذا بها تفاجأ من بريطانيا بالجحود والنكران بعد التغافل والنسيان، وإذا بالحكومة البريطانية التي ملأت الدنيا بكاء وندبا لحرية الشعوب المغصوبة، وشفقة وعطفا على استقلال الأمم المغلوبة، تأبى إلا أن تغلبها الطبيعة الاستعمارية الرجعية البائدة فتنكر على مصر حقها السياسي في أن تتحرر من القيود والأغلال، وأن يجلو كل جندي أجنبي عنها، وأن تعود للوطن حريته ووحدته، وتحاول أن تنكر عليها حقها الاقتصادي فتساومها في هذا الدين، وتعتذر عن سرعة سداده بشتى المعاذير، وتدعى باطلا أن الكثير منه قد أنفق في سبيل الدفاع عن مصر، كأن ألمانيا أو إيطاليا أعلنتا الحرب على مصر لا على بريطانيا، وكأنهما – رحمهما الله- لم تستمرا تجاملان مصر مع أن موقفها إلى جانب بريطانيا وحلفائها هو الذى غير وجه الحرب ولولاه لما كان يعلم أحد إلا الله لمن يكون النصر.
حجة داحضة، وقول لا وزن له، وأغلب الظن أن حكومة مصر لن تعبأ به، وستطالب بحق بلدها كاملا غير منقوص، أما شعب مصر فقد عرف الصغير والكبير فيه أن له عند بريطانيا دينا لن يفرط فيه، ولن ينزل عنه، والأخلاق بشرف بريطانيا ألا تساوم في هذه الحقوق المقررة، وألا تتستر بالمعاذير الباطلة ومطل الغنى ظلم – (19)
حول بيان رئيس الحكومة
ترقب الجميع بيان رئيس الحكومة بفارغ الصبر، لأن مما لا يستطيع أحد أن ينكره- حتى رئيس الحكومة نفسه- أن حالة القلق ومرارة الترقب والانتظار بلغت أقصاها في كل النفوس، بل أدت بالكثير منها إلى حال من الشك والحيرة والارتياب، غزتها الشائعات الكثيرة، وأمدها التردد المتكرر من جانب الحكومة، وكثرة المواعيد التي أشارت إليها الصحف للتقدم بالقضية، فلم يكن عجيبا أن ينتظر من الجميع رئيس الحكومة بعد هذه الفترة الطويلة بيانا شافيا وافيا يهدئ الخواطر، ويطمئن النفوس ويكشف للناس عما يدور وراء الستار من مناورات، وما اعتزمت الحكومة من خطوات.
لقد ألقى رئيس الحكومة بيانه ردا على ملاحظات النائب المحترم الأستاذ فكرى أباظة، فأخذ ينصح بعدم الإصغاء إلى الإشاعات، وتقدير خطورة الموقف، ويعتذر عن تأخر الحكومة إلى هذا الوقت بأعذار كان في الوسع التغلب عليها لو كانت الحكومة قد أعددت عدتها، واطمأنت إلى نتائج بحوثها، وذكر دولته بعد ذلك أن الجهة التي انتهى إليها الرأي هي مجلس الأمن، وأنه أعلن ذلك صراحة من قبل وأن إعلان بطلان المعاهدة واتفاقية 1899 من جانب مصر ليس من رأى الخبراء القانونيين الذين استشارهم، وأن الوقت في جانبنا ولعل تأخرنا إلى اليوم مما يفيد القضية ولا يضرها بشيء.
وهذه كلها قضايا فيها نظر وعلى كل حال فليس هناك ما يمنع من اختلاف وجهات النظر في أمر هام يتوقف عليه إلى أكبر حد مصير البلاد، ولا نحب أن نشتغل بالجدل حول النظريات عن الإقدام على العمليات، فإذا كان رئيس الحكومة قد انتهى من بحثه واطمأن – كما ذكر في آخر بيانه إلى حقه- وحدد الجهة التي يريد أن يرفع بها القضية، واقتنع بأن هذا الوقت هو أنسب الأوقات ففيم التردد والتأخر بعد الآن، إن النفوس البشرية طاقة لا تتعداها وإن للصبر حدا إذا تعدته الحوادث حرجت الصدور، وفرغت الأفئدة، وتحرجت الأمور، ولسنا نتقدم بقضيتنا ونحن يائسون، أو معتقدون أن هذه هي نهاية الخطوات أو أنها آخر سهم في الكنانة كما يقولون، بل نحن نخطو إلى التحكيم مبالغة في الأعذار واستقصاء لخطوات الحلم والسلم معا فإن لم نتصف فسنعرف الطريق إلى حل قضيتنا بأنفسنا، وبتأييد الله تبارك وتعالى، ونصره، ولن نيأس أبدا، ولن نستسلم للجور أو الظلم سواء أكان مصدره دولة واحدة أو دول العالم بالإجماع. وليست الأرض ملكا للغاصبين، ولكنها لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
على أن بيان الحكومة قد عرض لنقطتين هامتين، فأشار إلى أن المطلب الذي تتقدم به الحكومة هو وحدة الوادي والجلاء، الجلاء عن وادي النيل مصره وسودانه كما أشار إلى تصميم الحكومة على المضي في خطة التحاكم الدولي، وفى ذلك تأكيد لما تقرر من عدم الرجوع إلى المفاوضات الثنائية مرة أخرى، ونرجو أن تكون الحكومة جادة في هذه المعاني، حازمة في تنفيذها فقد سئم الجميع الانتظار. وعلى الحكومة منذ هذه اللحظة، بل منذ أعلنت فشل المفاوضات، والالتجاء إلى الميدان الدولي واجبات جسام من الإعداد الكامل في الداخل والخارج حتى إذا تغلبت المطامع الأشعبية والمصالح الاستعمارية على حقنا الواضح، فلم تنتصر الدول له ولم تؤيدنا فيه واجهنا الموقف ونحن على استعداد، ولم نؤخذ فيه على غرة، وسنفصل ذلك في كلمة تالية إن شاء الله – (20)
ماذا أعددنا لما بعد الاحتكام؟
ستتوجه الحكومة بالقضية إلى مجلس الأمن، ولن تعدو النتيجة أحد أمرين: فإما أن تعترف لنا الدول بحقنا فتطالب بريطانيا بالجلاء عن أرض الوادي وتعترف بوحدته الحقيقة، وحينئذ ما أحوجنا إلى التفكير الطويل في بناء حياتنا الداخلية، وتنظيم علائقنا الخارجية، على قواعد تستمد من معاني قومتينا الصريحة، ومن نظام الإسلام الحنيف، ومن روح هذا التطور العالمي الإنساني الجديد، نحو المثل العليا، والأهداف النافعة، والمعاني العالية السامية.
وإما أن تتغلب المصالح الاستعمارية على الحق الواضح المنير، فلا نظفر بما كنا ننتظره ونرجوه من تقدير الدول الكبرى لمعاني الحرية والحق والنصفة، وذلك أمر محتمل غير بعيد الوقوع، وإن كنا لا زلنا نرجو أن يكون الضمير العالمي قد استيقظ، والفكر الإنساني قد اتجه نحو الخير بعد هذه الدروس القاسية التي ذاقتها الأمم والشعوب في هذه الحرب الضروس، ولذلك كان من الواجب أن نعد أنفسنا من الآن لمواجهة هذا الموقف.
وإنما يكون الإعداد من جانب الحكومة بأن تكاشف الأمة في صراحة ووضوح بتطورات القضية، ولا تدعها تتلقف أخبارها من هنا ومن هناك، فليس أضر من سياسة الصمت في الموضوعات التي لا سناد فيها للحكام إلا قوة الشعوب ويقظة الأمم.
كما أن من واجب الحكومة منذ الآن أن تسرع في تأليف لجان فنية للنظر في كل النواحي والمواقف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي تترتب على موقف الخصومة الجادة مع الإنجليز ومناصريهم، ذلك الموقف الذي سنلجأ إليه مضطرين بعد إن فقدنا الأمل في عبارات السلام والوئام والحق والإنصاف.
ومن واجب الحكومة كذلك أن تدعو كل الهيئات الوطنية، التي تستجيب لها، لتكاشفها بحقائق الموقف حتى تستطيع هذه الهيئات أن تعد نفسها، وتعد الشعب على اختلاف طبقاته لمواجهة هذا الموقف بما يجب أن يواجه به من جهاد وكفاح.
وأذكر أن الملك فيصل بن الحسين رحمه الله حين ذهب إلى مؤتمر الصلح بعد الحرب الماضية- وقد كان ملكا لسوريا حينذاك- استدعى إليه رؤساء الناس وشيوخ العشائر والقبائل، واتفق معهم على ما يجب أن يعمل إذا خذلته الدول الغربية، وأخلفت عهودها ومواثيقها مع العرب، ولو استمر -رحمه الله- في خطته هذه ولم يعدل عنها، وهو في أشد الأوقات حاجة إليها لكان للأمم العربية وضع آخر فيما نظن، ويجب أن نعتبر بتاريخنا ونستفيد مما مر بنا من حوادث وعبر.
ومن واجب الحكومة كذلك أن تهيئ الفكرة في الشعوب الغربية والدول العربية، وتبصرها في وضوح وصدق لباقة بالنتائج الخطيرة التي تترتب على مثل هذا التحدي للحق وللعرب والشرق حتى تكون على بينة من الأمر.
كل هذه واجبات حتمية يجب أن تشرع الحكومة سريعا في العمل على تحقيقها، وإذا كان الشعب المصري يبدو الآن هادئا ساكنا، فإن في أفئدته من مراجل القلق ما لو انفجرت لدوى صوتها بين المشرق والمغرب، ولكنه يريد أن يقطع السبيل على المتربصين، ويقيم الحجة على الكاذبين ويمضي في شوط الحلم الحكيم إلى نهايته، حتى إذا يئس من إنصاف الناس إياه عرف كيف ينصف نفسه ﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيل﴾[الشورى: 41] – (21)
نحن أنفسنا
ألقى المستر بيفنبيانه في مجلس العموم فكشف كشفا واضحا عن نيات بريطانيا نحو مصر ونحو الشرق الأوسط، حيث قال عن قضية مصر: "إن الحكومة البريطانية لا تستطيع أن تتقدم أبعد مما تستطيع في سبيل مقابلة المصريين أو السودانيين في منتصف الطريق، وأنه لا يستطيع الآن شيئا سوى رفع الأمر إلى مجلس الأمن أو غيره، فإن بريطانيا لا تستطيع أن تسير في هذا السبيل أكثر من الجهود التي بذلتها إلى الآن." وقال عن علاقة بريطانيا بالشرق الأوسط: "إنه أصبح من الأمور الحيوية للإمبراطورية البريطانية والسلام العالمي أن لا يحدث أى تغيير في تلك المنطقة من العالم، وبالرغم من كل ما قيل فإن بريطانيا رأت حسن النية متوفرا من الدول المستقلة التي بينها وبيننا صلة مشتركة في الشرق".
وجاءت الأخبار متضاربة عن موقف روسيا من القضية المصرية، وكان أحدثها ما نقلته وكالة "تاس" وجاء فيه بالنص "إن حكومة الاتحاد السوفييتي قد وعدت خلال حديث جرى بين المارشال ستالين ومستر بيقن بعدم تأييد مصر في هيئة الأمم المتحدة لا يطابق الحقيقة. فلم يعرض في الحديث مسألة الأمم المتحدة ولا مسألة تأييد أو عدم تأييد من قبل الاتحاد السوفيتي أى مطالب لمصر فيها، وفيما يختص بالعلاقات الإنجليزية المصرية قيل بصددها أنها مسألة بين مصر وإنجلترا، وأن الاتحاد السوفيتي تبعا لسياسته الثابتة في عدم التدخل لا يعتزم التدخل في هذه المسألة".
والذي يتأمل الجزء الأخير من هذا التصريح يرى أى موقف تقفه روسيا من مصر، ويرى هذا الفتور البادي في نظرها إلى قضية وادي النيل.
وكان موقف هيئة الأمم المتحدة في دورتها الاستثنائية بخصوص قضية فلسطين موقفا عجيبا لم يقم فيه للحق ولا للعدالة أو المنطق وزن، وتغلبت سياسة المراوغة والمداورة واللف والتسويف على سياسة الحزم والبت والإنصاف.
إننا لا نحب أن نناقش المستر بيقن فيما قال فإن المنطق مع المكابرين المتلونين الذين لا ينظرون إلى الأمور إلا من وجهة نظرهم الخاصة ولمصلحتهم وحدهم هذا المنطق لا يجدي شيئا، ولا نحب أن نقول لروسيا أو غيرها: إن قضية مصر حين ترفع إلى التحكيم الدولي سيكون من شأنك أن تقولي كلمة الحق، لأنها لم تعد من شأن مصر وبريطانيا وحدهما، ولكنها صارت امتحانا للعدالة الدولية. لا نحب أن نقول هذا لأننا جربنا أن الكلام مع الدول الكبرى المحترمة لا يجدي إلا إذا كان لها مصلحة وحينئذ فستدفعها مصلحتها إلى العمل بلا كلام.
والاستقلال والحرية والحقوق الوطنية لا تنال على كل حال بالجدل والنقاش والرجاء ولكنها تنال دائما بالعمل والكفاح والجهاد والفداء.
ومعنى هذا أننا يجب أن نعتمد على أنفسنا قبل كل أحد، وأن نطيل التفكير فيما يجب أن نفعله، فنحن أنفسنا الذين نستطيع كسر قيودنا، وتحطيم أغلال الاستعباد والتحكم والظلم التي أحاطت بنا من كل مكان.
لقد قالت الحكومات المتعاقبة: إنها ستكون أول المجاهدين في سبيل حقوق الوطن إذا عجزت الدبلوماسية عن الوصول إليها وإحقاقها، وذكر رؤساء الحكومات أنهم على استعداد للنزول – إلى الشارع- ليكونوا مع الشعب جنبا لجنب في كفاحه القوى المرير ضد الظلم والاستعباد، ونحن لا نكلفهم هذا كله، ولكنا نرضى منهم بأن يدعوا الشعب ينظم نفسه، وألا يكونوا يد الغاصب في كبح جماحه والضغط عليه وكبت حرياته.
وكل الأحزاب والهيئات الشعبية تنادى بأنها تعمل للوطن وتجاهد في سبيله، فإذا كانت جادة في هذه الدعوى، فهل ترى ساعة يكون الوطن فيها أشد حاجة إلى أبنائه المجاهدين في سبيل حريته من الساعة التي يتجنى فيها الغاصبون كل هذا التجني، وتتدلل الهيئات الدولية هذا التدلل، فلا تنصر حقا ولا تخذل باطلا!؟ أفلا توجب عليهم هذه اللحظات الحرجة التي يتقرر فيها مصير مصر وطنهم أن ينسوا أشخاصهم وأحزابهم، وأن يتوحدوا حول "ميثاق" قدس ومنهاج عملي تنصلح به الأحوال، وتتحقق بعده الآمال؟
نحن أنفسنا الذين نستطيع أن نحل قضايانا، ونحقق مطالبنا؛ بالوحدة والجد والعمل الدائب والإخلاص والجهاد فهل تجمعنا المصائب على ذلك جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (319)، السنة الأولى، 27جمادى الآخرة1366/ 18 مايو 1947، ص(1). – (22)
حول بيان رئيس الحكومة
بعد عام
في 2 رجب سنة 1365 الموافق 2 يونية سنة 1946 عقد الإخوان المسلمون مؤتمرهم الوطني وأصدروا فيه قراراتهم الحكيمة التي رفعوها إلى الجهات المختصة مطالبين بإنفاذها والتي كان منها:
"القرار الثاني: مطالبة الحكومة المصرية بإعلان قطع المفاوضات الحالية مع الحكومة البريطانية فورا بعد أن كشفت مناقشات مجلس العموم، ومناورات الوفد البريطاني عن نيات الإنجليز ومقاصدهم وأنهم لا يريدون من وراء المفاوضة إلا ضياع الوقت وخداع الشعب بالألفاظ والوعد وتخدير الحركة الوطنية وتفريق الكلمة بالدورات الملتوية".
"القرار الثالث: مطالبة الحكومة المصرية بإعلان اعتبار معاهدة سنة 936 باطلة بطلانا أصليا، وعدم التقيد بأحكامها بعد أن أصبحت منافية لروح التعاون العالمي ومناقضة لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة".
"القرار الرابع: مطالبة الحكومة بأن تتقدم رسميا إلى الحكومة البريطانية بطلب جلاء قواتها جميعا عن أرض الوطن ومائه وهوائه بلا قيد ولا شرط، وأن يبدأ هذا الجلاء في بحر أسبوعين على الأكثر من تاريخ تقديم الطلب، وأن يتم في حدود المدة التي قررها الخبراء العسكريون المصريون وإلا فعلى الحكومة المصرية أن تعلن صراحة اعتبار بقاء هذه القوات العسكرية البريطانية اعتداء مسلحًا على السيادة المصرية وشعب وادى النيل وأن تبادر فورا بعرض القضية على مجلس الأمن، وتعمل في ذات الوقت مع الأمة على تنظيم وسائل الجهاد لرد هذا العدوان.
"القرار السادس: يدعو المجتمعون شعب وادى النيل إلى أن يهيئ نفسه منذ اللحظة الأخيرة لتحمل تبعات الجهاد في سبيل حقوقه وتنظيم وسائله".
"القرار السابع: يقرر المجتمعون اعتبار أية حكومة لا تعمل مع الأمة لتحقيق أهداف البلاد الوطنية، وتنظيم وسائل الجهاد في سبيلها أداة استعمارية لا تمثل البلاد وتسقط طاعتها عن المحكومين".
والآن... وبعد مضى عام كامل يتحدى المستر بيقن الوطنية المصرية والحقوق القومية لشعب وادى النيل ويكابر في الحق الواضح، ويعلن أن إنجلترا لن تتساهل مع المصريين أكثر مما تساهلت، وأنها لن تتخلى عن الشرق الأوسط، ويغالط المستر بيقن نفسه ويخدع العالم كله حين يقول: إن السر في هذا التشدد مع مصر هو أن بريطانيا لا تريد أن تخل بوعودها للسودانيين مع أنه يعلم تمام العلم أن إنجلترا لا تملك هذا الوعد وأن هذا اعتراف صريح منه بأن إنجلترا تغرى السودانيين بالمصريين وتعمل بينهم بالوقيعة والدس، وكأنه نسى وعود إنجلترا لمصر وما صدر عنها من أقوال رسمية تعبر عن وجهة نظرها في صلة السودان بمصر من قبل كاحتجاجها على الحكومة الفرنسية في احتلال فاشودة الذى جاء فيه: "إن للسودان مالكا هو الخديوي فلا يجوز لدولة من الدول احتلال هذا الملك مع وجود مالكه".
وكقول (السير إدوارد جراي) في خطبه التي ألقاها لهذه المناسبة: "إننا لا نستطيع التسليم للفرنساويين باحتلال أعالي النيل لأن النيل هو مصر ومصر هي النيل".
نسى المستر بيقن هذا كله ووقف في مجلس العموم يتحدى وطنية أبناء الوادي جميعا، وينكر عليهم حقهم في الحرية والوحدة، ويهدد ببقاء الاحتلال طبقا لمعاهدة سنة 1936.
ودعا رئيس الحكومة المصرية الصحفيين ووزع عليهم بيانه الذي نشر بالأمس، ويذكر دولته أسباب بطلان معاهدة عام 1936 فيقول: "لقد أبرمت معاهدة 1936 في ظروف خاصة زالت ولم يبق لها وجود الآن، فإن الحرب التي كانت على الأبواب قد انتهت من زمن بعيد، وقد استنفدت معاهدة 1936 أغراضها في هذه الناحية وفى نواح أخرى. ولن نستطيع أن نقبل استمرار سريان معاهدة تتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة. وإنني لواثق أنه لا توجد دولة من أعضاء هيئة الأمم المتحدة ترضى بإرغامنا على قبول جنود أجنبية في أراضينا" ويطالب بالجلاء الكامل.
وهذا إعلان جميل عن حق مصر في هذه الناحية، ولكنه إعلان صحفي "وكلام جرائد" لا يقدم ولا يؤخر ولا يفيد مصر في قليل ولا كثير، والعمل النافع المجدي في هذه الناحية هو الإقدام وأخذ الأمور بالحزم وإخطار الإنجليز ببطلان المعاهدة، ومطالبتهم بالجلاء فورا، وأن تكون عريضة الدعوى لمجلس الأمن على هذا الأساس، ثم تجيز الأمة من الآن للعمل، أعنى تنفيذ قرارات "الإخوان المسلمين" المشار إليها في صدر هذا المقال ولو بعد عام من تاريخ صدورها وما أرخص الوقت عند زعماء هذا الشعب وحكامه.
ولقد جاء في البيان بعد ذلك أن سياسة بريطانيا بالنسبة للسودان عدائية، وتكررت هذه العبارة اليوم، كما جاءت في البيان السابق من قبل في مجلس النواب، ولكن ما الذي ترتب أو يترتب على هذا العداء من الخطوات العملية. تريد الأمة مواقف حازمة يفهم منها الإنجليز والعالم أن مصر قد تألمت لهذه السياسة العدائية وقابلتها بالمثل وأنفذت قول الله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾[البقرة: 194] وفى أيدينا وسائل كثيرة تستطيع أن نظهر بها هذا السخط على هذه السياسة، فإذا منعنا عن استخدام حقنا في إدارة السودان بالقوة التي يملكها الإنجليز ولا نملكها، فحسبنا أن نشهد العالم هذا العدوان، وأن تظهر مصر بمظهر الجاد في خصومته وسنصل إلى حقنا بالعمل متى ثابرنا عليه.
كما جاء البيان معلنا أن الوحدة هي مشيئة أهل الوادي، وأنها ضرورة لأمن السودانيين، وتنمية مصالحهم الحيوية، وهو كلام غامض يحتاج إلى كشف ووضوح، وكان من الواجب أن نواجه الخصم المتحدي بالكشف عن نيته الحقيقة، وأنه لا يقصد مصالح السودان، ولكن يقصد فصم وحدته عن مصر ليسهل على الإمبراطورية ازدراده واستعماره وضمه إلى أرضها الواسعة، وتحقيق حلم الإمبراطورية الأفريقية. وإن إدارة الإنجليز للسودان خمسين سنه لم تحقق من مصالح السودانيين شيئا، فلا يزال السودان هو الجائع العاري البائس إلى اليوم.
يا رئيس الحكومة إن البيانات الصحفية لا تحسب عملا، ولا تحقق أملا، فإلى العمل فهو وحده الذي ينقذ الموقف.
ونرجو ألا تدعنا نتمثل بقول القائل:
فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد
أمرتهمُ أمري بمنعرج اللوى والله أكبر ولله الحمد – (23)
بم يسمى هذا الموقف
ومن الذي يستفيد منه؟
دهشت أعظم الدهشة حين قرأت أمس برقية صاحب المقام الرفيع مصطفى النحاس باشا إلى رئيس مجلس الأمن وسكرتير هيئة الأمم المتحدة، وراجعت تلاوتها مرات وأنا أكاد أكذب نظري كل مرة، وأسائل نفسي أحقية هذا الذي أقرأ؟! وفى أسف شديد وحزن عميق أخذت أسائل نفسي مرة أخرى: بم يسمى هذا الموقف ومن الذي يستفيد منه؟ وما الدوافع إليه، وبم تتحدث عنا بعده الأمم العربية والشعوب الإسلامية ودول العالم أجمع؟
يقول رفعة النحاس باشا في برقيته: إن شكوى مصر إلى مجلس الأمن "بعيدة عن أن تعبر عن وجهة نظر الشعب المصري الذي انعقدت إرادته الجماعية على تحرير وادي النيل كله وتثبيت دعائم استقلاله" وهو قول غير صحيح فقد طلبت الحكومة في عريضة الدعوى صراحة وفى غير لبس الجلاء التام عن وادي النيل كله مصره وسودانه"
وفى الفقرة الثانية يستعدى رفعة النحاس باشا مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة على حكومة مصر الديكتاتورية، ويطلب إلى هذه المؤسسة الدولية ألا تصغى إلى هذه الحكومة في شيء وأن تستمع إلى صوت الوفد وحده صاحب الأغلبية الساحقة في مصر، ولا أدرى ما الذى يريده رفعة الباشا بهذا الاستعداء، وما القيمة العملية له، وهل من اختصاص مجلس الأمن أو هيئة الأمم أن تفرض الحكومات فرضا على الأمم والشعوب، وأن تتدخل في أخص خصائص الأمور الداخلية للأمم، وهل يستطيع رفعة الزعيم أن يقول أن الوفد المصري صاحب الأغلبية في جنوب الوادي في السودان وليس للوفد هناك لجنة واحدة، وقد أيد وفد السودان عريضة الحكومة، وقال رئيسه في عبارة صرحية واضحة جوابا على سؤاله رأيه فيها: "ليس في الإمكان أبدع مما كان".
وفى الفقرة الثالثة يرى رفعة الباشا من واجبه أن يعلن على الملأ أمام هيئة الأمم المتحدة أن شكوى تلك الحكومة التي تحكم مصر فعلا لا يمكن أن تكون لها قيمة الوثيقة القومية المعبرة عن مطالب شعب وادي النيل، ومعنى هذا أن رفعة رئيس الوفد المصري يحرض مجلس الأمن في صراحة على رفض هذه الشكوى، وحذف هذه الوثيقة من جدول الأعمال ليرجع وفد مصر خاسئا وهو حسير، ولا ندرى هل سيكون الخاسر في هذه الحالة النقراشي باشا وحده، أم ستكون اللطمة القاسية إذا جارى مجلس الأمن رفعة الرئيس على ما يريد؟ [ولن يفعل للحكومة المصرية وللأمة المصرية جميعًا]، وإذا كانت البرقية قد أخذت على عريضة الحكومة أنها لم تطلب في أمر السودان إلا إنهاء النظام الإداري، فقد كان من الإنصاف أن تذكر كذلك أن هذه العريضة قد أشارت إلى أهمية الوحدة وضرورتها وأنها أمر طبيعي لا مناص منه كما أشارت إلى بطلان اتفاقية 1899 ومعاهدة 1936 وإنما صيغت الفقرة المشار إليها هذه الصياغة لتفوت على الإنجليز دعواهم الفاسدة واتهاماتهم الباطلة لمصر بأنها تريد استعباد السودان والسيادة عليه، ولتطمئن الإخوان السودانيين في الجنوب على هذا المعنى فلا يكونوا إلبًا عليها.
وقد نجحت هذه الخطة فعلا فارتفع صوت السودان مؤيدا لمصر، وفات على الإنجليز ما يقصدون. على أن أمر الوحدة لا يعنى المجلس ولا يسمح للإنجليز أن يتحدثوا عنه، لأنه أمر بين المصريين والسودانيين كأبناء وطن واحد يسوونه بينهم كما يريدون والعقبة الوحيدة التي تحول دون ذلك هي الاحتلال الإنجليزي والإدارة الثنائية، فإذا طالبت مصر بالجلاء عن الوادي، وبإلغاء الإدارة الثنائية فقد صار معنى هذا قيام الوحدة فعلا بين السودان ومصر، وإذا كان هناك ما يتنازع عليه قائما يعنيهم وحدهم.
لو أن رفعة الباشا اقتصر في برقيته على الفقرات الأخيرة منها، وشرح للمجلس وللهيئة ما غمض من نصوص عريضة الدعوى لكان ذلك أمرا مشكورا وموقفا وطنيا رائعا محمودا، أما وقد جاءت برقيته على النحو الذي رآه القراء فإن ذلك أمر يوجب مزيد الأسى والأسف ولا نجد ما يوصف به هذا الموقف بأقل من أنه سقطة سياسية وعثرة وطنية لا يقيل منها شيء إلا أن يشاء الله.
نكتب هذا الكلام مع أن بيننا – نحن الإخوان المسلمين- وبين رئيس الحكومة حسابا طويلا في كثير من المواقف والشئون الداخلية، ولكننا نستطيع أن نفرق بين ما نتحاسب عليه اليوم وما نؤجله إلى الغد القريب، ونعلم تمام العلم أنه لا خلاف بين أحد من المصريين في أمر السياسة الخارجية وحقوق هذا الوطن، وأن قضيتنا وقد برزت إلى الميدان الدولي أحوج ما تكون إلى أن تؤيدها كل الجهود، وتلتقي على هذا التأييد كل الأصوات والأعمال – (24)
برقية الإخوان المسلمين إلى مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة
شعب الوادي لا يسمح لأية دولة أجنبية أو هيئة دولية
أن تتدخل في شئونه الداخلية
جناب رئيس مجلس الأمن
مناورة حزبية
يستنكر شعب وادي النيل البرقية التي بعث بها إلى المجلس وإلى هيئة الأمم المتحدة رئيس حزب الوفد المصري ويراها مناورة حزبية لا أثر للحرص على الاعتبارات القومية فيها.
لا دخل لأحد في شئوننا الداخلية
وسواء أكانت حكومة مصر ديموقراطية، أو ديكتاتورية، فإن الشعب المصري يعلن على الملأ أمام هيئة الأمم المتحدة أن ذلك أمر يعنيه وحدة ولن يسمح لأية دولة أجنبية أو هيئة دولية أن تتدخل في أخص شئونه الداخلية فله وحده الحق في أن يختار نوع الحكم الذي يريده طبقا لميثاق الأطلنطي، ومبادئ هيئة الأمم، وله وحده الحق في أن يفرض على حكومته ما يريد وأن يؤاخذها على كل تقصير بما يراه.
الجلاء والوحدة
كما يعلن كذلك أن حقوقه الثابتة في الجلاء التام عن مصره وسودانه والحرص الكامل على استقلاله أمر لا يقبل جدالاً ولا مساومة، وأن الوحدة الدائمة بين شماله وجنوبه حقيقة واقعة وضرورة لا محيص عنها ولا يحول بينها وبين الظهور على حقيقتها وروعتها إلا هذه الإدارة المتعالية التي فرضتها بريطانيا عليه بألا تراه والتي طلبت الحكومة المصرية في عريضة دعواها إنهاءها، وأشارت إلى بطلان المعاهدة التي سجلتها بريطانيا، والتي لم يرض عنها الشعب المصري ولم يسلم بها يوما من الأيام.
الضمير العالمي
وأنتهز هذه الفرصة وأؤكد لأعضاء المجلس والهيئة أن شعب وادي النيل عظيم الأمل في أن تنصفه المؤسسة الدولية الناشئة، أزيد بذلك اطمئنان الأمم والشعوب إليها وتضاعف ثقتهم بمبادئ العدالة الدولية ويقظة الضمير العالمي، وإنه لن يستقر سلام في الشرق ولن تهدأ ثائرة شعوب العروبة وأمم الإسلام حتى ينال وادي النيل حقه كاملا، وليس إرضاء مجموعة من البشر قوامها أربعمائة مليون بالشيء الذي يستهين به الحريصون على الأمن والسلام – (25)
الثلاثاء 5 أغسطس 1947
"نداء"
أيها المواطنون الأعزاء في وادي النيل.
أيها الأشقاء الأحباء في بلاد العروبة والإسلام:
في يوم الثلاثاء 5 أغسطس 1947 ستعرض قضية الوادي على مجلس الأمن الممثل لهيئة الأمم المتحدة، وليست قضية الوادي قضية هؤلاء الثلاثين مليونا من أبنائه وحدهم، ولكنها قضية هؤلاء الأربعمائة مليون من العرب والمسلمين الذين ربطتهم وحدة اللغة والعقيدة والمصلحة والألم والأمل بأوثق رباط.
وإن في هذه الأوطان العزيزة المباركة نبتت الفلسفات واستقرت الحضارات وهبطت الرسالات منذ استعمر الجنس البشرى هذه الأرض إلى الآن ولا زالت، وستظل هذه الأوطان كما كانت مبهت النور ومصدر الإشراق وواسطة العقد بين الأرض والسماء.
وستصادف ساعة عرض القضية وقت الظهر تقريبا في آفاقنا الشرقية، ولهذا أتوجه إليكم بالرجاء أن ننصرف في هذه الساعة جميعا إلى معابد الله على اختلافها؛ لنسأل الله لقضيتنا النجاح ولمجلس الأمن أن يلهمه الله فيها التوفيق والرشد، فلا يجور عن الحق، ولا يميل مع الأهواء، فتكون الكارثة ولن يستقر في الأرض مع الظلم طمأنينة ولا سلام.
إلى معالي رئيس الحكومة بالنيابة، وإلى حضرات أصحاب المعالى الوزراء، وإلى رؤساء المصالح والدواوين في أنحاء المملكة المصرية، وفى السودان العزيز:
أتوجه بالرجاء أن يسمح للموظفين على اختلاف درجاتهم وفى مقدمتهم رؤساؤهم جميعا بالانصراف من الساعة الحادية عشر والنصف، لأداء الصلاة، ولحضور هذا الدعاء في بيوت الله.
وإلى حضرات التجار وأصحاب المهن الحرة: أتوجه بالرجاء كذلك أن يغلقوا أماكنهم ومكاتبهم ومحال أعمالهم هذه الساعة من هذا اليوم من الساعة الثانية عشرة إلى الساعة الواحدة ظهرا، وأن يتوجهوا إلى المعابد وبيوت الله يسألونه للوطن الفوز وللقضية النصر والتأييد.
وإلى الشركات الكبرى وأصحاب المصانع والمعامل ومديريها من أجانب ومصرين:
أتوجه بالرجاء كذلك أن يسمحوا لعمالهم بأداء واجبهم الوطني في هذه اللحظة الحاسمة من تاريخ الوطن العزيز.
وإلى الطلاب في أجازتهم والمستريحين في دورهم وأنديتهم:
أتوجه بالرجاء أن يسترعوا هذا اليوم خفاقا إلى أقرب المعابد إليهم يسألون الله من فضله لوطنهم وقضيتهم.
وإلى حضرات أئمة المساجد، ودعاة المعابد: أتوجه بالرجاء أن يحضروا قبيل هذا الوقت ليدلوا المجتمعين على الخير وليرشدوهم إلى كيفية الدعاء بعد أداء الصلاة.
وإلى حضرات رؤساء الأحزاب جميعا، والهيئات والجمعيات السياسية والخيرية والاجتماعية كائنة ما كانت: أتوجه بالرجاء أن يوجهوا الدعوة إلى أعضاء جماعاتهم وأحزابهم وهيئاتهم، وأن يتقدموهم إلى أقرب المعابد إليهم.
وإلى شعب الإخوان المسلمين في المملكة المصرية والسودان والبلاد العربية والإسلامية جميعا: أتوجه بالرجاء أن ينشروا هذه الفكرة، ويحثوا المواطنين الكرام على الاهتمام بها، وإن لهم جميعا من وطينتهم العالية ومن مشاعرهم الكريمة ما يدفعهم إلى إجابة هذا النداء، لولا أنها الذكرى والذكرى تنفع المؤمنين، وسيضع المركز العام للإخوان المسلمين أنموذجا لهذا الدعاء ننشره غدا إن شاء الله، والله أكبر ولله الحمد – (26)
برقية الإخوان المسلمين
أرسل فضيلة المرشد العام للإخوان المسلمين إلى رئيس مجلس الأمن البرقية التالية:
في هذا اليوم الذي تنظرون فيه قضية وادي النيل تأمل الأمة المصرية الديمقراطية حكومة وشعبا أن تظفر من المجلس بقرار يؤكد حقها الثابت في الجلاء والوحدة، ويعيد ثقة الشعوب بالعدالة الدولية ويصون الأمن والسلام في ربوع الشرق وديار العروبة والإسلام – (27)
حول بيان رئيس الوزراء بمجلس الأمن
"بدء المعركة"
دوى صوت رئيس الحكومة المصرية بمجلس الأمن يعلن حقوق مصر القومية الثابتة على العالم كله لا ليقرها هذا المجلس، ولكن لينصرها فواجب على كل إنسان أن ينصر الحق فضلا عن قادة الأمم وزعماء الشعوب، والعدل أساس الملك. ولا تقوم السماوات والأرضون إلا بالحق أولا، ولقد عرض البيان بقوة ووضوح إلى هذه النقاط:
بطلان معاهدة سنة 1936 التي أبرمت في ظروف خاصة وتحت الضغط والإكراه فعلا، والتي تتناقض ولا شك مع ميثاق هيئة الأمم، ومع التطور الجديد في حياة الشعوب، وتفكير العالم، والتي ثار عليها الشعور المصري، ولا يمكن أبدا أن ترداها وطنية أبناء الوادي، أو تقيم على الضيم الذي أريد بها في هذه المعاهدة الظالمة الجائرة.
كما عرض في قوة ووضوح كذلك لبطلان احتلال منطقة قناة السويس، ومنافاة ذلك الاحتلال للاتفاقات الدولية، ولحق مصر في حماية القناة، وأورد في ذلك من الحجج والأسانيد ما لا يدفعه أو يجادل فيه إلا المكابرون.
وعرض ثالثا لمآسي البريطانيين، وكيف أنهم فرضوا أنفسهم فرضا على السودانيين والمصريين على السواء، وكيف أن اتفاقية السودان لم تكن أكثر من نشرة إدارية صنعت بيد إنجليزية، ليست لها قوة الاتفاقية أو المعاهدة، ولا تلزم مصر بشيء، ولا تدل على أكثر من غلو الإنجليز في استهتارهم بحقوق الأمم ومقدرات الشعوب، وأبان الخطاب عن مدى الأثر السيئ الذي اتبعته الإدارة الإنكليزية في السودان، وكيف قضت على هذه النهضة العجيبة التي بدأتها مصر في السودان.
وإذا كان الخطاب لم يعرض لتقرير الوحدة فذلك لأنها حقيقة مقررة لا تحتاج إلى إقرار من أحد، وكل الذى عرض لهذه الوحدة هي هذه الإدارة الإنجليزية، فيوم يقول المجلس: إن وجود الإنجليز في السودان وجود باطل باحتلالهم وإدارتهم، وأن عليهم الجلاء، فقد عادت الصلات بين مصر والسودان إلى الوحدة الأزلية الأبدية التي لا يفصمها شيء وما بيننا وبين الأخوة السودانيين من شئون نتفاهم فيه فيما بيننا لا دخل لغيرنا فيه، وسوف لا نحتاج في التفاهم إلى وسيط سواء أكان هذا الوسيط دولة أم هيئة، فجميل ألا يدع الخطاب للمجلس ولا للإنجليز فرصة الجدل والنقاش في وحدة طبيعية هي فوق كل نقاش وجدل.
وكانت لفتة طبيعية من رئيس الحكومة المصرية أن ينبه من فوق منبر المجلس العالمي أن مصر كانت حاملة الثقافة الإسلامية إلى السودان، وأن تعاليم الإسلام لا تعرف تفريقا بين عنصر وعنصر ولون وهذا هو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال.
ثم طالب البيان بعد ذكر المصائب والنكبات التي حلت بمصر من جراء الاحتلال، وبعد الإشارة إلى مواعيد عرقوب التي لم يتحقق منها شيء بالجلاء التام الناجز وبإلغاء الإدارة الثنائية.
ولا شك أن أضعف نقطة وردت في البيان هي الإشارة إلى الترحيب بالاتفاق الخاص بيننا وبين الإنجليز في حدود مادتي الميثاق، وإن كان ذلك معلقا على الجلاء وإلغاء الإدارة الثنائية من جهة، وفى حدود الميثاق من جهة أخرى، إلا أنها ثغرة كنا في غنى عن أن نفتحها على أنفسنا في وقت عرفنا فيه كيف يستفيد الإنجليز من أضيق الثغرات، وكيف يحرفون الكلم عن مواضعه، وكيف أن أى اتفاق معهم ينقلب بعد حين إلى صلف واستعلاء ونهم واستغلال.
وقام المندوب البريطاني يصيح بأنه لولا المعاهدة لما كانت هيئة الأمم المتحدة، ولما انتصر الحلفاء، وترجمة هذا بالعربي الفصيح -يا مستر كادوجان- أو بكل لغة على الأصح، أنه لولا موقف مصر لما انتصرت الديمقراطية، ولما كانت هيئة الأمم المتحدة، فهل هكذا يكون الجزاء؟! أو ما كان الأولى بكم أن تقدروا هذا فتكافئوها باحترام شعورها والاعتراف بحقوقها، ويسرنا أن يسمع المجلس هذا الاعتراف على رءوس الأشهاد.
ويقول المندوب البريطاني: إن من فضل المعاهدة علينا أنها جعلت بريطانيا تدافع عن مصر، فهل هذا الكلام صحيح أم أن بريطانيا كانت تدافع عن بريطانيا وكان ساعدها الأول والأقوى مصر في هذا الدفاع؟ ولكن هكذا تقلب الأهواء الأوضاع وتتجنى على الحقائق.
وعلى كل حال فإن الذين يظنون أن هذا الاحتكام وهذا البيان هو آخر المعركة ونهاية الشوط مخطئون، والحق أن هذا بدء المعركة الحقيقية بيننا وبين العدوان الإنجليزي بعد الهدنة الطويلة التي قبلها الزعماء المصريون ربع قرن، وخدروا فيها أعصاب الأمة باسم الصداقة والتفاهم، وشلوا تفكيرها السليم، وعطلوا فيها قوى الجهاد والكفاح، فإن أنصفنا المجلس وهو المأمول فالحمد لله، وكفى الله المؤمنين القتال، وإن كانت الأخرى فهذا هو النفير أيها النائمون – ويا خيل الله اركبي- والعاقبة للمتقين والله أكبر والله الحمد – (28)
جلسة مجلس الأمن الثانية
حق وقوة
أيها التاريخ أين أنت؟
استمع أعضاء مجلس الأمن وأرهف العالم المترقب من ورائهم أذنه مرة ثانية ليستمع لما يقوله الخصمان المتنازعين بريطانيا ومصر ليستمع إلى كلمة الحق، تلقيها مصر واضحة صريحة قوية بعد أن حيل بينها وبين حقها أكثر من نصف قرن، وليسمع إلى كلمة المغالطة الجريئة التي لا تتستر بغير القوة تلقيها بريطانيا، غير عابئة بحق التاريخ ولا برعاية الحقيقة، ولا بعقول المستمعين من زعماء الأمم وملايين البشر.
أيها التاريخ، أين أنت؟
هل حق ما يدعى ممثل بريطانيا من أن احتلالها لمصر كان بدعوة منها، وأنها في ظل هذا الاحتلال وجدت حريتها واستقلالها وتقدمها ورقيها، وأن عودة المصريين إلى السودان كان بفضل القوات البريطانية والضحايا من الجنود الإنجليز، وأن الأخوة السودانيين، وهم أشقاؤنا، وإخوتنا، وبنو عمومتنا، لا يريدون الوحدة معنا؟!
وإذا كان هذا هو الحق، فأين الباطل في هذا الوجود؟
يا سير كادوجان، إن تلاميذ المدارس الابتدائية في مصر وفى إنجلترا وفى كل بلد من بلاد العالم وفى كل كتب التاريخ يعلمون أن ما تقول أنت على رءوس الأشهاد في مجلس الأمن غير صحيح، وأن احتلال الإنجليز لمصر أمر بيت بليل منذ سنوات طوال، واستدرجت إليه مصر بفعل الدسائس البريطانية، وأن ثلاثة وستين وعدا بالجلاء لا تزال قائمة، وأن مصر في ظل هذا الاحتلال فقدت حريتها وكرامتها وثروتها ونهضتها، وأن القائد البريطاني "كتشنر" الذى كان على رأس القوات المصرية التي دخلت السودان كان يعلن أن مصر والسودان وطن واحد تحت حكم الخديوي، وكان يتصرف باسمه وحده، وأن السودانيين الأشقاء الأحبة لم يفكروا في الانفصال عن مصر ولم يدر هذا بخلد هؤلاء المواطنين إلا هذا النفر الذى اصطنعته السياسة البريطانية وخدعته بباطل الآمال ومعسول الوعود.
وإذا كان جنوب السودان لا يدين بالإسلام ولا يتكلم اللغة العربية ولا يزال إلى اليوم وثنيا بربريا لم يتذوق طعم الحضارة ولم يدر ما الكتاب ولا الإيمان، فأنتم يا سير ألكسندر الذين تحملون هذا الوزر وتبوؤون بهذا الإثم، وأنتم الذين حجبتم عنه هذا النور وحجبتموه عن المدنية والحضارة؛ لتتخذوا منه حجة باطلة في مثل هذا الموقف، فتركتموه في هذه الظلمات ولو خليتم بين مصر وبينه هذا المدى الطويل من الزمان لعرفت كيف نغزوه ونكسبه ونعلمه ونهذبه ونخرجه من ظلمات الوثنية إلى نور الإيمان ومن لكنة العجمية إلى الفصاحة والبيان.
إن فجر الحقيقة قد لاح وأشعة النور بدأت تمتد وتظهر وستنقشع هذه السحب مهما حاولت بريطانيا أن تزيدها كثافة وتلبدا، وحينئذ يدرك الناس جميعا وقد أدرك الكثير منهم اليوم أن السير كادوجان كان مغالطا جريئا ولم يكن على حق فيما قال.
أما قانونية المعاهدة أو بطلان قانونيتها فلا يقدم ولا يؤخر في الأمر شيئا، ولقد كان النقراشي باشا واضحا كل الوضوح محقا كل الأحقية فيما قال لأعضاء المجلس: إنه لم يرد أن يعتمد على الاعتبارات القانونية، لأنه يعتقد أن مهمة مجلس الأمن لا تقتصر على النظر القانوني إنما يتصل رسالة هذا المجلس بالمحافظة على الأمن الدولي والسهر على قيام علاقات المودة والصفاء بين الشعوب، وإنه كثيرا ما عكرت العبارات القانونية الأمن والسلام.
وبيان ذلك أن التطورات العنيفة التي تهز العالم هزا، وتغير النظم والأوضاع في الأمم والشعوب، وتبدل المشاعر والعواطف والنفوس يجب ألا يتحكم فيها النصوص الرجعية البالية، ولا الاتفاقيات الجائرة الظالمة مهما كانت شكليتها القانونية مستوفاة، ولقد كان معاهدات الصلح بعد الحرب الماضية قانونية وقع عليها رجال مسئولون في دولهم وأممهم وشعوبهم، ولكن تطور الحوادث والمشاعر جعلها غير صالحة للبقاء، وكان على الساسة أن يعيدوا فيها النظر وأن يجاروا هذا التطور الاجتماعي، وألا يحاولوا أن يقفوا في وجهه ويرفعوا أما سلاح المواد الجامدة والألفاظ والنصوص التي لا روح فيها.
فلما تلكأ زعماء العالم وجمدوا تولت الأسنة والحراب القضاء.
على تلك المعاهدات والخروج على هذه النظم والأوضاع، وكانت الحرب، واختل الأمن وضاع السلام.
والأمة المصرية اليوم، وبعد هذه الحرب، وبعد أن تبين لها من أمر هذه المعاهدة ما تبين من أنها كانت خديعة بريطانية وقع فيها الزعماء المصريون مع ما صحبها من ضغط بريطانيا وضغط الظروف العالمية الدولية، ومن أنها طبقت تطبيقا جائرا ظالما، ومن أنها لم تكن إلا وسيلة لتثبت قدم الاحتلال البريطاني، والقضاء على الحرية، والاستقلال، ومن أنها صارت لا تطابق روح التطور العالمي ولا نصوص ميثاق الأمم المتحدة، بعد هذا كله، وبعد أن اكتمل الوعى القومي في مصر، وبلغ الشعور الوطني ذروته، وأصبح وادى النيل من أقصاه إلى أقصاه لا يطيق بحال أن يصبر على احتلال القوات الأجنبية له أو تهديدها لأمته وحريته واستقلاله ووحدته.
لم يعد أمام بريطانيا أولا، وأمام مجلس الأمن ثانيا إلا أحد وجهين، إما إيثار صداقة وادي النيل واستبقاء العلاقات الطيبة بالعالمين العربي والإسلامي، وذلك بمناصرة قضية مصر والجلاء التام الناجز عن الوادي كله والتسليم بوحدته، وإما التشبث بهذه القانونية الرجعية الشكلية التي لا تغير من الحق والواقع شيئا فيكون الانفجار الذي أنذر به رئيس حكومة مصر لا عن حب للشغب أو حرص على الاصطدام، ولكن كما قال شاعرنا العربي من قبل:
إذا لم يكن إلا الأسنة مركبا
فلا رأى للمضطر إلا ركوبها
ولله عاقبة الأمور – (29)
نداء إلى الشعب المصري الكريم
من المرشد العام للإخوان المسلمين
أيها الشعب الأبي الكريم:
الآن وقد ظهر شعورك الوطني قويا فياضا في هذا اليوم الكريم، نرجو أن يكون قد وصل صداه المدوي إلى آذان الجالسين فوق مقاعد مجلس الأمن، فلا تصمها المطامع الدولية من تقدير الحقوق المقدسة للشعوب العزيزة التي صممت على أن تحيا كريمة، أو تموت كريمة.
ولننتظر الآن- هادئين- ما يكون من نتائج هذا الاحتكام ثم ترسم الأمة بعد ذلك خطواتها في سبيل استنقاذ حقها والحصول عليه.
وشهداؤك إلى الجنة، ومصيرك إلى النصر، والله أكبر والله الحمد – (30)
برقية فضيلة المرشد العام إلى رئيس مجلس الأمن
حضرة رئيس مجلس الأمن
القاهرة الدامية، والشعب المصري الثائر يستنكر كل قرار ينتقص من حقه، ويرفض العودة إلى المفاوضات الثنائية، ويعلن سقوط معاهدة 1936م، ويهيب بمجلس الأمن أن يحافظ على صيانة الأمن المهدد في الشرق.
حسن البنا - المرشد العام للإخوان المسلمين – (31)
الإخوان المسلمون وقضية الوادي أمام مجلس الأمن
مذكرة إلى سفراء ووزراء الدول الممثلة في المجلس
جناب المحترم سفير ...........
بعد التحية: إن شعب وادي النيل يقدس السلام، ويحرص عليه، والإسلام الذي يظلل هذا الشعب شعاره السلام وتحية السلام، وقد نزل قرآنه في موكب من السلام.
ولكن تقديسه لحريته، ووحدته، وحرصه عليهما أقوى وأشد، وهو غير مستعد بحال للتضحية بهما على مذبح المطامع والشهوات الاستعمارية التي لا يكن أن يستقر معهما سلام على الأرض.
ولهذا نرجو أن ترفعوا إلى دولتكم حقيقة هذا الشعور الذي تعلمونه بحكم وجودكم بين ظهراني هذا الشعب. رجاء أن تتصل بدورها بممثلها في مجلس الأمن، وتوجهه التوجيه السليم حتى يكون صوته إلى جانب الحق والعدالة والإنصاف التي تتجلى بأوضح صورها في مطالب شعب وادي النيل المعروضة على المجلس.
وهي ولا شك فرصة يمتحن فيها الضمير العالمي الذي نرجو ألا يرسب في هذا الامتحان.
تفضلوا بقبول عظم الاحترام – (32)
طلب إعلان إلغاء معاهدة 1936
والانسحاب من مجلس الأمن في إباء وعزة
برقية المرشد العام إلى رئيس الوزراء وكتابه إلى نائب الرئيس
إلى رئيس الوزراء
حضرة صاحب الدولة محمود فهمي النقراشي باشا رئيس وفد مصر فندق. بلازا نيويورك:
طالبتم بحق الوادي في الجلاء التام الناجز والوحدة بوضوح وبيان، وكشفتم عن مساوئ الاستعمار ومخازيه بقوة وبرهان، وصاحب الحق الواضح لا ينتظر اعتراف الناس أو إقرار الآخرين له ما دام هو به مؤمنا وصحبته وصدقه موقنًا.
فاتصلوا بالحكومة المصرية وانتهزوا فرصة اليوم الأغر يوم توقيع المعاهدة المزرية وأعلنوا بطلانها رسميا وإذا لم يجدوا من مجلس الأمن العدل والنصفة فقرروا الانسحاب في إباء وعزة، ولا عليكم أن تعودوا إلى صفوف المجاهدين، فلن تصل أمة إلى تحقيق الآمال بغير الجهاد والكفاح، وهما ثمن الحرية والاستقلال. والله أكبر ولله الحمد
إلى الرئيس بالنيابة
حضرة صاحب المعالى رئيس الحكومة المصرية بالنيابة السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فقد أعلنت الحكومة المصرية على لسان معالي وزير خارجيتها في البرلمان المصري أن معاهدة 1936 قد أصحبت غير ذات موضوع.
كما أعلن دولة رئيس الحكومة المصرية الحالية في مجلس الأمن، وعلى رءوس الأشهاد، ومع العالم كله، أنها قد استنفذت أغراضها، وأن الشعب المصري بأجمعه ساخط أشد السخط عليها، وغير معترف بوجودها، وأنها إنما وقعت تحت ضغط ظروف خاصة انتهى أمرها، وأنها تتنافى مع ميثاق هيئة الأمم المتحدة، فضلا عن أن الجانب الآخر قد خرق نصوصها، ولم يقيد نفسه بأحكامها في كثير من المناسبات.
ولهذا أرجو باسم الإخوان المسلمين خاصة، واسم شعب وادي النيل عامة أن تنتهز الحكومة المصرية فرصة يوم 26 أغسطس الحالي، وهو يوم ذكرى توقيع هذه المعاهدة المزرية المشئومة، فتعلن بطلانها رسميا، وأنها غير مقيدة بها في قليل ولا كثير وتخطر بهذا القرار مجلس الأمن وحكومات الدول المختلفة، وتتبع هذا القرار فورا بمستلزماته العملية والقانونية.
والحكومة المصرية حين تفعل هذا لا تزيد أنها صاغت تصريحاتها المتكررة صياغة قانونية، وقدمتها إلى العالم بصورة رسمية، وهي بهذه الخطوة المباركة تصحح خطأ وطنيا وسياسيا دفعت البلاد عنه غاليا في أدق الساعات وأحوج الظروف دون تقدير أو اعتراف بالجميل.
وإن شعب الوادي بأسره ليترقب هذا القرار بفارغ الصبر حتى يتبدل حزنه فرحا وسرورا، وظلام حياته السياسية ضياء ونورا، ويسلك إلى حريته واستقلاله ووحدته الطريق الطبيعية، طريق الكفاح والجهاد غير مقيد بسلاسل المعاهدات الوهمية أو مخدوع بمناورات السياسة الاستعمارية، وصدق الله العظيم ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾[البقرة: 214].
والله أكبر ولله الحمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته – (33)
بعد الجلسة الأخيرة لمجلس الأمن
إفلاس وغباوة سياسية
أما الإفلاس فهو هذا .. هذا الموقف العجيب الذى وقفه مجلس الأمن من قضيتنا، ولقد كان أشد الناس تشاؤما ينتظر من المجلس أن يقرر الجلاء بغير قيد ولا شرط، وأن يفر من قضية السودان ويدع حلها للطرفين المتخاصمين تحت نظره، ولم يكن أحد يشك أبدا في أن المجلس سيقطع برأي في الأمر الأول وبخاصة وقد أصدرت هيئة الأمم المتحدة قرارها المعروف بأنه لا يجوز لأمة من الأمم المشتركة في الميثاق أن تحتل قواتها أرض أمة أخرى، ذلك إلى أن السياسي اللبق المحنك فارس بك الخورى مندوب سوريا لفت نظر المجلس بلطف إلى هذا الأمر وفصله بين يديه تفصيلا، ولكن الأعضاء المؤمنين بعدالة القضية، الواثقين من حق مصر فيها، العاطفين بكل قلوبهم ومشاعرهم عليها، الذين بدا هذا الشعور رائقا سائلا على عذبات ألسنتهم، لم يستطيعوا مع هذا كله أن يقولوا كلمة الحق، ومنعتهم المصالح الاستعمارية من أن يقفوا إلى جانب العدالة والإنصاف، وهان عليهم أن يواجهوا هذا الموقف المزرى من العجز والإفلاس.
وأما الغباوة فهي التي تجلت في موقف بريطانيا من القضية منذ بدئها إلى الآن، وبخاصة في الجلسة الأخيرة، إذ وضعت بين يدي السير ألكسندر كادوجان فرصة ذهبية بهذه الإشارة اللطيفة التي تقدم بها أيضا فارس بك الخوري أن تعلن بريطانيا من تلقاء نفسها الجلاء فأضاعها وتلكأ في الاستجابة لها بقوة ووضوح.
إن بريطانيا تعلم تمام العلم أن التطور العالمي الجديد قد قضى على بدعة" الاستعمار" الظالمة الجائرة، وأن الضمير العالمي الذي ثار من قبل ثورته ضد استعباد الآخر وقد ثار ثورته اليوم ضد استعباد الأمم والشعوب، والأمر الآن أمر وقت فقط ولا استعمار بعد اليوم.
وهي تعلم كذلك أن الوعي القومي واليقظة الوطنية قد بلغت مداها في شعب وادي النيل وفى الشعوب العربية والإسلامية من المحيط إلى المحيط، وهي تشهد بعيني رأسها كفاح أندونسيا الدامي المرير الذي لا يهدأ ولا يلين ولا يستكين، وها هي ذه قد انسحبت من بورما ومن الهند وتركت مقاليدها بيد أهلها، وها هي ذه قد أخذت تقرر حق إيران في الجلاء وحق تركيا في حماية المضايق، وتندد بمطامع غيرها من الدول ورغبتها في احتلال الأمم وها هي ذي نرى من آثار هذه اليقظة في كل مكان ما لم تكن تحتسب.
وهي تعلم كذلك مبلغ ما تركت سياستها في نفس هذا الشعب الذي آزرها حين المحنة، ووقف بجانبها ساعة العسرة، وأخلص لها، ووفى يوم لم تكن تملك شيئا من البأس والقوة من كراهية وبغضاء ومقت وازدراء تزايد باستمرار وتتضاعف على مر الأيام.
وهي تعلم كذلك أن من أقصته اليمين تلقفته اليسار، ولن تستطيع أمة في وسط هذا المعترك الحامي الوطيس أن تعزل مجتمعات الناس وهي أحوج ما تكون إلى مودة هذه الأمم ومناصرة هذه الشعوب، فإن مصر ليست وحدها ولكن وراءها العرب والمسلمون على السواء.
تعلم إنجلترا كل هذا ومع ذلك تصر على بقاء عشرة آلاف جندي وأربعمائة طائرة على ضفاف القنال، وقد تغيرت دنيا الحرب وواجه الناس عصر القنابل الذرية كما تصر على التمسك بمعاهدة بالية أجمعت الأمة كلها على استنكارها وبطلان أحكامها في وقت لا ينفع فيه إلا التعاون القلبي والتعاطف الحقيقي.
فهل بعد ذلك غباوة سياسية؟!
أما إذا كانت إنجلترا لا تعلم هذه الحقائق ولا تعرفها ولا تؤمن بها فإن الأمر قد يكون أكثر غباوة.
يقولون: إن انجلترا تأتى دائما متأخرة ولكن لا يفوتها القطار فهل هي تريد أن تطبق هذه القاعدة أيضا هذه المرة؟ وها هي ذه قد أتت متأخرة فعلا وفى وسعها أن تعلن الجلاء التام الناجز فتدرك القطار. أما أن تلكأت حتى يفوت فعلى نفسها جنت براقش وسترى نفسها فريدة منقطعة في بيداء الظلم والجبروت ووحشة الوحدة والهوان، وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون – (34)
بمناسبة عودة رئيس الوزراء
المرحلة الثانية
يعود النقراشي باشا غدا إلى الوطن بعد غيبة طويلة قضاها في كفاح سياسي مستمر مطالبا بحق أمته في الحرية والاستقلال والجلاء الناجز التام وحق وطنه في الوحدة وإنكار كل تدخل أجنبي بين الأخ وأخيه في إدارة أو سياسة.
ولا شك في أن دولة النقراشي باشا قد أدى واجبه كاملا، ولم يدخر وسعا في المناضلة عن قضية البلاد، وأبلى في ذلك البلاء الحسن المشكور وليس الذنب ذنبه في أن مجلس الأمن لم يستجب لمطالب مصر العادلة الحقه، ولكنه ذنب المطامع والأهواء والتيارات السياسية المتحالفة، وقاتل الله السياسة.
ولا شك كذلك في أننا لم نخسر بالذهاب إلى مجلس الأمن، وحسبنا أن كسرنا هذا القيد الحديدي الذي ضربه الإنجليز حول قضيتنا، ووضعونا به تحت رحمة المفاوضات الثنائية يجرونها حين يشاءون، ويضربون عنها كما يريدون، ولا يضرنا حين نفاوضهم أن نخسر المفاوضات ما دمنا قد كسبنا صداقتهم المجيدة كما قال زعيم رفيع المقام! وحسبنا أننا عدنا بهذا الوضع إلى أول الطريق القوية السليمة طريق الكفاح والجهاد والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل ونسأل الله أن يجنبنا الزلل وأن يهدينا جميعا سواء السبيل.
ولاشك أننا صائرون إلى الأمام وأن قضايانا تتقدم إلى النجاح وأنها منتهية قريبا إلى ذلك، ولا شك- إن شاء الله- فنحن إذا تذكرنا ما بعد الحرب العالمية الأولى، وكيف أن زعماء مصر حينما طلبوا مجرد رفع الأحكام العرفية والسفر إلى الخارج، وبعبارة أدق إلى لندن أو باريس للتفاهم مع البريطانيين حول استقلال البلاد كان جزاؤهم النفي إلى مالطة، وأن الملك فيصل بن الحسين الذى حالف الإنكليز وبذل معهم من دماء العرب وجهودهم ما كان كفيلا بالنصر حرم عليه مؤتمر الصلح فلم يستطع أن يصل بصوته إلى المجتمعين فيه وعاد من باريس خاوى الوفاض.
إذا تذكرنا هذا وتذكرنا بعد الحرب العالمية الثانية أن رئيس مجلس الأمن كان فارس الخوري بك مندوب سوريا، وأن رئيس وزراء مصر كان يخاصم إنجلترا علنا أمام هذا المجلس ويجرحها ويشهر بها ويكشف للدول عن مآسي استعمارها لودى النيل ستين سنة، ويقرع حجة مندوبها السير كادوجان الداهية بحجة مصر الواضحة البادية، علمنا أننا نتقدم ولا شك وأننا بحمد الله أقوياء، وأن هذه الأصوات التي سكتت اليوم عن مناصرتنا ستنطق غدا متى أجبرناها بالعمل على النطق والكلام.
هذا الكلام مملول معاد وهو ليس من العمل في شيء، ولن يقنع الأمة اليوم بغير العمل، ولا يفيد القضية اليوم إلا العمل أيضا، وها هو ذا رئيس الوزراء قد عاد، ومن حقه علينا ما دمنا منصفين أن نقول له أوبة حميدة وجهاد مشكور والحمد لله على السلامة ومن حقنا عليه أن نسأله: وماذا بعد هذا؟
إن المرحلة الثانية أدق وضعا وأشد حرجا وأقسى ظروفا من المرحلة الماضية، فقد مضى علينا وقت طويل، ونحن نحصر كل همنا في انتظار المفاوضة الناجحة نستخلص بها بعض الحق من الإنجليز، وكان ميدان التحاكم ميدانا جديدا علينا، ولكنا استطعنا أن نمر بتجربته على حال إن لم تكن كسبا على طول الخط فليست خسارة على طول الخط كذلك.
وبعد: إن الجهاد الذي اضطرتنا إليه الظروف والحوادث الآن، وصرنا مكرهين عليه إكراها بعد فشل المفاوضات والتحاكم، ميدان جديد علينا كذلك أو بعبارة أدق على هذا الجيل من الناس حكامه ومحكوميه فإذا أحسنا تخير وقت المعركة ومكانها وتجهيز أدواتها ومعداتها، وأدرناها بحكمة وحماسة وقوة وإيمان وصبر فالنصر من وراء ذلك ولا شك، وإذا تأخرنا عن الوقت المناسب أو ضعفنا عن القيام بالواجب أو ترددنا في العمل اللازم فإن الفرصة ستفلت وإذا أفلتت فلن تعود.
هذه ملاحظات عابرة نضعها بين يدي صاحب الدولة رئيس الوزراء في أول لحظة يعود فيها إلى الوطن وهي فيما نرى خير ما يقدم لمجاهد كل سعادته أن يعمل لوطنه وأمته.
سائلين الله تبارك وتعالى أن يلهمنا جميعا الرشاد، وأن يأخذ بأيدينا، إلى منهج التوفيق والسداد – (35)
بمناسبة عودة رئيس الوزراء
قوى ثلاث
يظن بعض الذين لا يعلمون أننا لا نستطيع الوصول إلى حقنا ما دمنا قد أعرضنا عن المفاوضات هذا الإعراض، وما دامت الدول الكبرى لا تستطيع أن تقول كلمة الحق أو تعمل على مناصرتها، وما دامت ليست لدينا القوة المادية التي نكافئ بها قوة خصومنا البريطانيين، وهم بعد هذا قوم قد برعوا في الدسائس وإيقاد نيران الفتن وحبك (المقالب السياسية) الموضعية والدولية لمن شاء لهم الحظ العاثر أن يبتلوا بهم من الأمم والشعوب والحكومات.
وهذا كلام في ظاهر أمره صحيح وهو لم يغب عنا ولم نسقطه من حسابنا ولم نحاول أبدا أن نفر من الحقائق أو نعيش في جو من الأحلام والأماني والخيال الواسع الطليق، ولكن الذين يظنون هذا الظن مبالغون فيه وقد ذكروا شيئا و غاب عنهم أشياء ومن الخطأ في الحكم أن يصدر بناء على بعض الحيثيات دون البعض الآخر.
ونحن إن فاتنا التكافؤ في القوى المادية فإننا نملك ما هو أهم منها وأقوى وأعز. نملك هذا الإيمان بحقنا، وهو قوة ولا شك إن لم يظهر أثرها اليوم فسيظهر في الغد القريب، ونملك هذه الوحدة القوية المتماسكة بين شعوب العروبة وأمم الإسلام، ولا أقصد الوحدة الرسمية الممثلة في الجامعة والمواثيق والمعاهدات فقط، ولكن أقصد الوحدة الحقيقية القائمة على الشعور المشترك والآمال الموحدة والمصالح المتشابكة والوعى الدقيق لهذا كله والتجمع لصد تيار الظلم والوقوف في وجه هذا العدوان، ونملك فرصة هذا التنافس الدولي الذى لن تهدأ حدته ولن تذهب فورته إلا إذا رجعت الدول الطامعة عن هذا الجشع، وأصغت إلى صوت الحق والعدالة والإنصاف، وما دامت هذه المعاني لم تتحقق بعد فإن هذا التنافس قائم على أشده بين المعسكرات الدولية المختلفة، ونستطيع نحن بأيسر سبيل أن ننتفع به أعظم انتفاع، ونملك هذا التطور في المشاعر الإنسانية الذى يقوى ويشتد كلما ذكر الناس ما عانوا من آلام، وما مروا به ومر بهم من محن طوال هذه السنوات، ونملك سلاح الدعاية الصارم البتار في كل مكان، وسلاح المقاطعة السلبية، وسلاح المقاومة المنظمة، وسلاح الصبر والمصابرة على آلام الكفاح، ومن حسن الحظ أن النفوس جميعا مهيأة لذلك أحسن الهيئة.
نملك كل هذه الأسلحة الفعالة، وهي وحدها بعد إرادة الله كفيلة بأن تصل بنا إلى ما نريد وفوق ما نريد.
ولكن: لذلك شرط واحد إن لم يتوفر فلا قيمة لهذا كله، ولن نجني إلا الخيبة والفشل، ذلك هو يجمع قوى الأمة على الاستفادة من هذه الأسلحة جميعا، فإنها لن تعمل بنفسها ولكنها تعمل في يد من يحسن استخدامها من الناس وأول الإحسان وحدة الجهود واجتماع القلوب.
وفى الأمة قوى ثلاث إليها الآن تتجه الأنظار:
فالحكومة قوة.
والزعماء السياسيون قوة.
والهيئات الوطنية العاملة قوة.
وإذا التقت هذه القوى على منهاج منظم محدد مدروس، فقد قضى الأمر ولقد كان الجميع في انتظار عودة دولة رئيس الوزراء ليروا ما عنده وينظروا ما هو صانع، وها هو ذا قد عاد وليس في الوقت متسع للتردد أو التراخي أو الإهمال.
ولعل من الخير أن يبدأ دولته فورا بعد أن يرفع تقريره لجلالة الملك المعظم ويتلقى توجيهات جلالته السامية فيدعو الزعماء السياسيين ورؤساء الهيئات الشعبية فرادى وجماعات؛ ليدلي إليهم بما عنده، ويرى ما عندهم من آراء. والمصارحة أجدى والنصيحة واجبة والمبدأ الذي يجب أن يلتقي عنده الجميع أن تكون الغاية هي الكفاح في الخارج، والإصلاح في الداخل، واجتماع القلوب على منهج وميثاق يتعاون على تنفيذه الحكومة والشعب على السواء، ولو كلفنا ذلك الكثير من التضحيات – (36)
حول بيان الوفد وخطابيه
كلام للتنوير يجب أن يقال
قرأت اليوم بيان الوفد وخطابيه فكان الأثر الأول الذي أحدثته في نفسي هذه القراءة شيئا من الأسف لهذا التسرع، فإن رئيس الحكومة إنما عاد بالأمس فقط، ولا يدري أحد ما هي خطته، ولا ماذا يريد أن يصنع، وفى البلد دعوات تتردد للوحدة وجمع الصفوف وجهود تبذل بهذا الخصوص لمعالجة الموقف بهذا البيان؟ وهذا الخطاب قضاء على كثير مما كان ينتظر من أمل ولا فائدة في هذا لأحد لا للوفد ولا للوطن، والفائدة كلها للخصم الجاثم على صدره لا يريد أن يتزحزح ولا أن يتحول.
وقد جاء في بيان الوفد وفى خطابه ما يشعر أنه يرى الوحدة أساس النجاح وذلك صحيح، ولكن هل هذا الأسلوب الذي كتب به هذا الخطاب وهذا البيان والروح التي تتجلى في كل منهما مما يساعد على الوحدة أو يعين على نجاح جهود العاملين لها؟ سيقول كل من قرأهما: لا، وألف مرة لا.
وما كتب في خطاب السفير البريطاني اليوم حبذا لو كتب من قبل لمجلس الأمن، وأرسلت صورة منه إلى وزارة الخارجية البريطانية، إذن لكانت خطوة وطنية يكتسب بها الوفد تقدير خصومه وأصدقائه على السواء، وهي حينذاك أنفع منها ألف مرة منها اليوم إذ يتردد القول الآن بأنها ليست أكثر من مناورة حزبية ليست لها قيمة عملية.
ولعل أهم ما يلفت النظر في الخطاب الخاص بالنقراشي باشا وفى البيان الوفد اشتراطه أن تكون الوحدة على أساس الدستور واستفتاء الأمة، وهي النقطة التي يقف الوفد دائما عندها ولا يتحول، فيوهم الناس أنه وحده حامى الدستور المناضل عنه، والمطالب بحقه، مع أنه لا شك في أن من واجبنا جميعا ونحن أمة ديمقراطية أن نحرص على سلامة الأوضاع الدستورية، ولا يستطيع أحد أن يذهب غير هذا المذهب، ولكن هناك أمرين يجب أن يكشف عنهما، وأن يتدبرهما جيدا كل غيور على مصلحة هذا البلد راغب في الوصول إلى جمع كلمته ووحدة بنيه.
أولهما: أن قيام مجلس النواب الحالي ليس مهددا للدستور ولا مهدرا لأحكامه بالدرجة التي يتهمها الوفد ويبالغ في تصويرها للرأي العام، وإلا كان قيام مجلس نواب سنة 1942 الوفد الذى قاطعته الأحزاب وأقصى عنه بأمر الإنجليز كثير من النواب، وفصل منه بعض أعضائه بعد أن حكم لهم بصحة الانتخاب مهدرا كذلك لأحكام الدستور، ومع ذلك رضى به الوفد وحكم في ظله ولم ترتفع منه صيحة واحدة بأنه كان برلمانا لا يمثل الأمة ولا يتفق مع روح الدستور ونصه، فليسع الوفد اليوم ما وسعه حينذاك، وإذا قيل: إنها كانت أحكام عرفية قيل كذلك: إن ظروف اليوم استثنائية فلم يحدث اليوم أن واجهت الأمة من الظروف والأحداث ما تواجه في هذه الأيام والظروف الاستثنائية التي تقتضى المرونة السياسية وبغير ذلك لا يستقر أمر ولا يستقيم حال.
وثانيهما: أن الأمة اليوم وفى ظرفها الدقيق أحوج ما تكون إلى اجتماع جهود بنيها جميعا وكفاياتها حول منهج للجهاد، وميثاق للعمل وخطة للكفاح وذلك لا يتطلب أكثر من صفاء القلوب ونسيان الأشخاص وتوجيه الدعوة للاجتماع وتأليف اللجان للمدارس، وهو لاشك أولى وأحسن من شغل الأمة بتقسيم الدوائر بعد التعداد الأخير، واستنفاد الجهد في ترتيب إجراءات الانتخابات وما تستلزمه من خصومات وحزازات، ولعلنا حين نسلم بمثل هذه الخطوة نتبعها في التعاون وتحقيق الرغبات خطوات، وعلى هذا فوقوف الوفد هذا الموقف وإصراره على هذا الشرط ليس له معنى أكثر من أنه يتجاهل كل الظروف والملابسات، ويحول دون اجتماع القوى على منهاج الجهاد في أدق المواقف وأحرج الساعات.
وتتردد في صحف الوفد وبيانه وخطاباته نغمة وخلاصتها أنه إذا كان الذين في الحكم يدعون أن الأمة معهم فلم يخافوا من الاستفتاء، وهذا قول قد يبدو للناظر فيه لأول وهلة أن له نصيبا من المنطق والحق مع أنها قضية فيها نظر؛ لأن خصوم الوفد لا يسلمون معه بأن مجلس النواب القائم لا يمثل الأمة بل شأنه في هذا شأن كل المجالس السابقة وما قيل ويقال عنه قيل مثله ويقال عنها جميعا.
ومن الخير أن يقضى على هذه السنة السيئة، وأن يترك مجلس واحد ليتم مدته القانونية، وبغير ذلك لا يسود حكم الدستور ولا يستقر على حال مجلس نواب، بل يذهبون إلى ابعد من هذا فيقولون: إن التسليم بحل هذا المجلس من وجهة نظرهم اعتداء على الدستور لا يسلمون به ولا يوافقون عليه.
نكتب هذا الكلام مع احتفاظنا -نحن الإخوان المسلمين- برأينا في مجلس النواب الحالي وسابقه، لأن هذا ليس وقت الحساب الذي لا خير فيه ولا فائدة.
ويلاحظ في بيان الوفد أنه خلا تماما من التوجيه الشعبي العملي فكل ما فيه تسجيل لمواقف الحكومات من وجهة نظر الوفد ثم دعوة إلى العمل والكفاح والاستعداد وما هو هذا العمل؟ وهل ألف الوفد اللجان لدراسة فروعه وأنواعه ونتائجه وآثاره ومن الذي يدل الشعب على ما يعمل؟ ويرشده إلى طريق الاستعداد ويباشر معه خطوات التنفيذ إن لم تكن تلك مهمة الأحزاب والزعماء.
لا شيء يفيد قضية الوطن في هذا الظرف الدقيق إلا شيء واحد هو الالتقاء على منهج وميثاق، وهذه الدعوة يجب أن توجه حالا من رئيس الحكومة إلى الزعماء ورؤساء الهيئات على السواء، وأن يكون هدفها شيئا واحدا هو تحديد المنهج وإعلان الميثاق عليه وتوزيع التبعات بغير نظر إلى شيء آخر في هذه الآونة.
وإذا تفضل جلالة الملك المعظم فشمل هذه الدعوة برعاية السامية كانت تلك أبرك الخطوات. وحينئذ فقط نكون قد جاهدنا أنفسنا الجهاد الصحيح واستعددنا حقا لجهاد غيرنا ومن وراء ذلك كله النصر إن شاء الله – (37)
إننا على أتم استعداد لبذل ضحايا أخرى"
هكذا يقول صاحب المقام الرفيع مصطفى النحاس باشا في خطبته التي ألقاها أمام الوفود التي جاءت تهنئ بالشفاء، ونحن نهنئ رفعة الرئيس بشفائه، ونحب أن نناقش هذه العبارة القوية نقاشًا منطقيًا هادئًا.
ورفعة الباشا يعلم -فيما أظن- أنى لست من خصومه السياسيين، ولا أحمل له في نفسي حفيظة قديمة ولا ضغينة سابقة، ولكن هذه الكلمة بالذات في خطاب رفعته لفتت نظري، فوقفت أمامها وأحببت أن أنتهز هذه الفرصة لأتقدم إليه بهذه الكلمة.
يا رفعة الباشا، ليس من الغريب على أمة مجاهدة أن تكون على أتم استعداد لتقديم الضحايا وبذلها في كل وقت حتى تحقق آمالها، وتبلغ أهدافها السامية، وإن الشعب المصري الكريم يحسن في كل وقت تقديم هذه الضحايا بدون شك، وما لم تعتد الأمة البذل والتضحية فهي أمة محكوم عليها بالفناء والعدم، ولا يمكن أن تصل إلى غاية ما، ولكن التضحية -يا باشا- إذا وضعت في غير محلها ولم تحصل الأمة بها على شيء كانت خسارة لا قيمة لها، وخرقًا وإتلافًا لا مبرر يبرره، وإذا كانت هذه التضحية بأرواح الشباب وبدماء الأبرياء وبأرزاق الفقراء كانت التضحية جريمة لا تغتفر في حق الوطن والأمة؛ ولهذا كان من الواجب أن نحدد موضع التضحية وثمنها قبل أن نقدم عليها أو ندعو الناس إليها.
فلماذا تريدون بذل الضحايا من جديد؟ هذا هو المهم، وهذا هو الذي يجب أن نفكر فيه.
فإن كانت هذه الضحايا ستبذل في سبيل الخصومة الحزبية البغيضة، وفى سبيل أن يتغلب الوفد على ماهر والنقراشي وصدقي ومحمد محمود، وفى سبيل أن يتناحر أبناء الأمة الواحدة ويضرب بعضهم وجوه بعض، وينهش بعضهم أعراض بعض، ويصلى الشعب نار الأحقاد والأضغان، وتتمزق الأسر المتحدة، ويتناكر الإخوة الأشقاء، ويستفيد من ذلك كله طرف واحد فقط هو الخصم أو الحليف -كما تريدون- هو الأسد البريطاني الجاثم على صدر الأمة، الرابض على ضفاف النيل والقناة والبحر الأحمر والأبيض وكل ما شاء من أرض مصر، فحرام أن ينفق قرش واحد، وحرام أن يبض جسم بقطرة دم واحدة، وحرام أن تموت دجاجة في هذا الميدان فضلاً عن زهرة الشباب وزينة الفتيان، وفى هذا الوقت -يا باشا- تكون هذه التضحيات جريمة نكراء لا تضحية مشكورة، ويكون الخداع في الألفاظ.
وأما إن كانت هذه الضحايا ستبذل في سبيل حياطه الدستور، وحماية سلطة الأمة، وإعادة الحكم الصالح، وغير ذلك من هذه المعاني، فلتعلم -يا باشا- أن الأمة لا تتفقه كل هذه العبارات، إن مصر جائعة فقيرة ضعيفة تغلب فيها الأمية، فهي تريد قوتًا ونقودًا وقوة ومنعة وعلمًا ومعرفة، وسيان عندها أجاء هذا عن طريق الدستور وسلطة الأمة أم عن طريق الدكتاتور وسلطة الحكومة، هذا الجدل البيزنطي -كما يقولون- لا تأكل الأمة منه خبزًا، ولا تكوّن به جيشًا، ولا يحميها حينما تعلن الحرب العالمية القادمة فتكون جثثنا وقودها، وأبناؤنا حشوها، وجنودنا في لهوات المدافع وتحت نيران الطائرات وفى وسط الغازات السامة الخانقة القاتلة، وحلفاؤنا الأبطال من وراء ذلك كله نفتديهم بأنفسنا، وندفع عن إمبراطوريتهم ومصالحهم دونهم، ونسخر لهم كل ما في أرضنا من إنسان وحيوان ونبات وجماد.
إن كانت التضحية لهذا فحرام كذلك أن ينفق قرش، أو يموت شاب، أو يبض جسم بقطرة من الدماء، وهي جريمة نكراء لا تضحية بريئة.
لهذا -يا باشا- أصارحكم بأنكم إن أردتم ضحايا جديدة من الأمة التي ضحت كثيرًا وقدمت كثيرًا، فليس لذلك إلا سبيل واحدة هي أن تحددوا منهاجكم واضحًا عمليًا، وأن تخلصوا في إنفاذه وتحقيقه، فما هو هذا المنهاج؟ أتطوع وأتقدم إليكم بعض مواده، وأعتقد أنى في ذلك إنما أعبر عن شعور هذا الشعب بأسره.
الإنجليز -يا باشا- قوم مراوغون ماكرون، وقد أحسنوا استغلال الظروف، وخدعوكم في هذه المعاهدة، ووضعوا بها في أعناق مصر أغلالاً ثقالاً من حديد، وهم الآن يحورون نصوصها ويفسرون مدلولاتها بحسب أهوائهم كلما سنحت لهم الفرصة، ويتلاعبون بنا، ويتدخلون في كل شئوننا، ولم تتغير الأوضاع السابقة في شيء، ولئن ظهر هذا الخطر الآن واضحًا فهو إذا اشتد البأس أوضح فما علينا من بأس أن نتنكر لهم، ونعلن جهادهم من جديد.
هذه نقطة في المنهاج وأخرى: أن هذا النظام البرلماني بأوضاعه الحالية، وبحدوده هذه الواسعة المترامية، وبدستوره هذا الفسيح الجوانب والأكناف قد وسع الهوة بين القلوب، وأضر الضرر البين بالأخلاق، وبعد بنا عن تعاليم الإسلام ونظام الإسلام، فأعلنوا -يا باشا- وجوب تعديله طبقًا للتعاليم الإسلامية والقواعد القرآنية المحمدية، وهذه نقطة ثانية، فالأولى تصلح شأننا الخارجي، والثانية تصلح شأننا الداخلي، ومن مجموعهما يتركب الإصلاح العام.
وثق -يا باشا- أن عماد ذلك كله الوحدة، وهي أساس القوة، فلا يتيسر لكم عمل جدي إلا بمجموع الأمة، فما عليكم من بأس أن تقدموا منهاجكم هذا إلى خصومكم السياسيين القدماء، وتطلبوا إليهم الانضمام إلى الصف العامل، وتوحيد قوى الأمة ضد الخطر، ومن شذ شذ في النار.
إذا فعلتم ذلك -يا باشا- صدقتم مصر النصيحة، وأقمتم على الحق، ورفعتم لواء الجهاد، وحينئذ تجدون كل هذا الشعب المؤمن ضحايا أخرى في سبيل الاستقلال الصحيح، والحرية الكاملة، والحياة الصالحة السعيدة.
أما بغير هذا فلن يكون جواب الأمة لكم بعد الآن إلا أن تقول: ضحوا أنتم أيها الزعماء – (38)
- جريدة الإخوان المسلمين: العدد (89)، السنة الرابعة، 7 ربيع أول 1365/ 9 فبراير 1946، صـ3- 5.
- جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (93)، السنة الرابعة، 8 ربيع ثان 1365/ 12 مارس 1946، صـ3- 4.
- جريدة الإخوان المسلمين: العدد (99)، السنة الرابعة، 21 جمادى الأولى سنة1365 /23 أبريل 1946، صـ3
- جريدة الإخوان المسلمين: العدد (100)، السنة الرابعة، 28 جمادى الأولى سنة1365 /30 أبريل 1946، صـ3.
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (3)، السنة الأولى، 5 جمادى الثاني سنة 1365ﻫ/7مايو 1946م، صـ2.
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (14)، السنة الأولى، 19جماد الآخرة 1365/ 20 مايو 1946، صـ(1.
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (134)، السنة الأولى، 14 ذو القعدة 1365/ 9 أكتوبر 1946، ص(1).
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (135)، السنة الأولى، 15 ذو القعدة 1365/ 10 أكتوبر 1946، صـ1-4.
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (138)، السنة الأولى، 19 ذو القعدة 1365/ 14 أكتوبر 1946، صـ1.
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (140)، السنة الأولى، 21 ذو القعدة 1365/ 16 أكتوبر 1946، صـ1.
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (142)، السنة الأولى، 24ذو القعدة سنة1365 /19 أكتوبر 1946، صـ1.
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (144)، السنة الأولى، 26 ذو القعدة 1365/ 21 أكتوبر 1946، صـ1.
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (184)، السنة الأولى، 16 محرم1366/ 10ديسمبر1946، صـ1.
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (187)، السنة الأولى، 20محرم 1366/ 14ديسمبر 1946، صـ1.
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (188)، السنة الأولى، 21محرم1366ﻫ/15 ديسمبر 1946م، ص(1).
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (191)، السنة الأولى، 24 محرم سنة 1366ﻫ/18 ديسمبر 1946م، ص(1).
- جريدة الإخوان المسلمون اليومية، العدد (239)، السنة الأولى، 21ربيع أول 1366/ 12 فبراير1947، ص(1).
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (248)، السنة الأولى، 1 ربيع ثان 1366 ﻫ/22 فبراير 1947م، ص(1).
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (249)، السنة الأولى، 4 ربيع ثان1366/ 25فبراير1947، ص(1).
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (315)، السنة الثانية، 22 جماد آخر1366 ﻫ/13 مايو 1947م، ص(1).
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (316)، السنة الثانية، 23 جماد ثان1366 ﻫ/14 مايو 1947م، ص(2).
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (319)، السنة الأولى، 27جمادى الآخرة1366/ 18 مايو 1947، ص(1).
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (321)، السنة الثانية، 29 جماد ثان1366 ﻫ/20 مايو 1947م، ص(1).
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (374)، السنة الثانية، 3 رمضان 1366 ﻫ/21يوليو 1947م، ص(1).
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (375)، السنة الثانية، 4 رمضان 1366 ﻫ/22 يوليو 1947م، ص(1
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (385)، السنة الثانية، 16 رمضان 1366/ 3 أغسطس1947، ص(1).
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (387)، السنة الثانية، 18 رمضان 1366 ﻫ/5 أغسطس 1947م، ص(2)،
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (389)، السنة الثانية، 20 رمضان 1366/ 7أغسطس1947، ص(1).
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (394)، السنة الثانية، 26 رمضان 1366/ 13أغسطس1947، ص(1).
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (401)، السنة الثانية، 7شوال 1366/ 23أغسطس1947، ص(1).
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (401)، السنة الثانية، 7شوال 1366/ 23أغسطس1947، ص(1
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (402)، السنة الأولى، 8 شوال سنة1366 /24 أغسطس 1947، ص(2
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (403)، السنة الأولى، 10 شوال 1366 ﻫ/ 26 أغسطس 1947م، ص(1)
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (418)، السنة الثانية، 27شوال 1366/12 سبتمبر1947، ص(2).
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (424)، السنة الثانية، 4 ذو القعدة 1366 ﻫ/19 سبتمبر 1947م، ص(2).
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (425)، السنة الثانية، 6 ذو القعدة 1366 ﻫ/21 سبتمبر 1947م، ص(2
- جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (426)، السنة الثانية، 7 ذو القعدة 1366 ﻫ/22 سبتمبر 1947م، ص(1).
- مجلة النذير، العدد (4)، السنة الأولى، 21ربيع الآخر 1357ﻫ/ 20يونيو 1938م، ص(3-4).