الإمام حسن البنا وقضايا العالم العربي والإسلامي

إعداد موقع الإمام حسن البنا

شكل الانهيار الذي أصاب دولة الخلافة الإسلامية في أواخر عهدها تغيير في العالم الإسلامي ومحاولة الغرب تفتيت أركانه والسيطرة عليه وسلب خيراته بل والعمل على إحداث تغييرات في التركيبة الدينية لدى الشعوب الإسلامية.

عمل الغرب على طمس الهوية الإسلامية وتغيير اللغة والمظاهر الإسلامية ومحاولة فرنجة الشعوب العربية والإسلامية، بل وفرضت الدول الاستعمارية ثقافتها وأفكارها وقوانينها على شعوب العالم الإسلامي حتى سادت ثقافة المحتل، وانتشر الجهل، وانسلخ المسلمون من دينهم.

وهو ما جعل الإمام البنا يهتم بقضايا العالم الإسلامي والمطالبة بوحدته والعمل تحت راية واحدة تجمع كل شعوبها وهي راية الإسلام.

 

موقف العالم الإسلامي السياسي اليوم

وواجب أصحاب الجلالة ملوك المسلمين وحكوماتهم

نشبت الحرب الماضية والعالم الإسلامي كله منضو تحت اللواء التركي مستظل بظل الخلافة العثمانية إلا بعض أجزاء اقتطعتها يد المطامع السياسية الغربية من قبل.

كانت مصر تحت الاحتلال البريطاني ثم صارت بإعلان الحرب تحت الحماية، وخاضت البلاد العربية ميادين القتال إلى جانب الحلفاء تصديقا لوعودهم وانخداعا بالأماني المعسولة التى وضعوها أمام الأمة العربية.

ولسنا بصدد اللوم أو العتاب أو تحديد مسئولية المخطئ والمصيب فى هذا كله، فقد ذهبت تلك الأيام بما كان فيها وصارت مواقف الرجال والأمم فى ذمة التاريخ يحكم لها أو عليها. وانجلت تلك الحرب وويل للمغلوب، وغلبت تركيا على أمرها وسلبت حق سيادتها على الولايات التابعة لها.

وهنا نهضت الشعوب الإسلامية تجاهد وتكافح وتناضل وتطالب بحقها فى الحياة العزيزة الحرة الكريمة.

كانت ثورة الكماليين على أرض الأناضول وانتهت بتكوين تركيا الحديثة هداها الله وألهمها الرشد.

وكانت الثورة المصرية فى وادي النيل وانتهت بمعاهدة أغسطس 1936 التى حققت جزءا ضئيلا جدا من الأماني المصرية، ولا زالت مصر تكافح لاستكمال الباقي.

وكانت الثورة العراقية وانتهت بالمعاهدة العراقية الإنجليزية التى حققت كذلك جزءا من الأماني العراقية ومكنت العراق من السير سريعا إلى استكمال ما بقي.

واستولى الملك عبد العزيز آل سعود على الحجاز وضمه إلى نجد وكون منهما المملكة العربية السعودية.

وكافحت سورية وناضلت وكاد يتم بينها وبين فرنسا عهد وميثاق كالذي تم فى مصر والعراق مثلا، لولا أن فرنسا نكثت عهدها بعد أن وثقته قلبت للسورين ظهر المجن ولا زالت فى موقفها هذا إلى الآن.

وتعقدت قضية فلسطين ونشبت فيها الثورات تباعا، ولم يفلح ذهب اليهود ولا خداع الإنكليز فى تضليل الشعب الفلسطيني الباسل وصرفه عن أهدافه الحقة، وعن المطالبة باستقلاله الكامل فى أرض الآباء والأجداد التى رواها دم الصحابة الطاهر فأنبتت أولئك الأحفاد البررة.

واستمرت طرابلس ثائرة على الحكم الإيطالي الظالم حتى قبض على المجاهد المؤمن السيد عمر المختار وضيق الخناق على المجاهدين فقتل من قتل ونفى من نفى، وانتهى كل ذلك بأن أعلنت إيطاليا تجنيس طرابلس بالجنسية الطليانية وقذفتها بسيل من المهاجرين الطليان يلتهم الأخضر واليابس.

وقامت ثورات فى بعض جهات من هذا الوطن المتمرد على الظلم والجور كان من أظهرها ثورة الريف المغربي بقيادة الأمير محمد بن عبد الكريم وانتهت كلها بتشديد الضغط على خناق الأحرار والعاملين.

هذا بسط موجز لموقف العالم الإسلامي من نفسه ومن غيره من الأمم التى ظلمته وتدخلت فى شأنه واستبدت بأمره واغتصبت حقوقه إلى الآن.

اختل التوازن الأوربي، وجرت الأحداث سراعا تسابق الدقائق والساعات، وتغير الأفكار والآراء والمواقف والاتجاهات، وانجلت تلك الغمرة عن وجود معسكرين قويين فى أوروبا: معسكر المحور، ويضم ألمانيا وإيطاليا ومن لف لفهما من دويلات أوروبا ومن ورائهما اليابان فى الشرق. ومعسكر الدول الديمقراطية، ويضم إنجلترا وفرنسا ومن تبعهما من دول أوربا ومن ورائها أمريكا فى القارة الجديدة.

وحرب الدعاية والكتابة والتربص والأعصاب -كما يقولون- قائمة على أشدها بين الفريقين، وكل منهما يتودد إلى العالم العربي والإسلامي ويود أن يكسبه إلى جانبه فذلك هو الذي يرجح إحدى الكفتين على الأخرى فى آسيا وإفريقية على الأقل، وإذا رجحت الكفة فى هاتين فقد رجحت فى أوربة كذلك.

إن دول الشرق الإسلامي قضت عليها الحوادث والظروف الماضية والحاضرة أن تتصل بالدول الديمقراطية وأن تكون إلى جانبها وأن يرتبط مستقبلها بمستقبل هذه إلى حد كبير- هذا الوضع -إلى جانب الخصومة القائمة بين المعسكرين فى أوروبا- كان يجب أن يجعل الدول الديمقراطية تسارع إلى اكتساب مودة العرب والمسلمين اكتسابا نهائيا، وأن تسد الطريق على غيرها إلى ذلك الود، وذلك فى وسعها ولا يكلفها عناء ولا عنتا، بل لا يكلفها إلا أن تحق الحق وتعترف به لأهله، وتبطل الباطل وتقاوم الذين يريدونها عليه. فهل فعلت هذا؟

العجب أن الدولتين الديمقراطيتين إنجلترا وفرنسا فعلتا عكسه تماما كأنهما تتحديان بذلك شعور العرب والمسلمين فى كل أنحاء الأرض، فأما فرنسا فقد أساءت إلى سورية أبلغ الإساءة ففصلت عنها الإسكندرونة وقدمتها إلى تركيا رغم الصرخات العالية والاحتجاجات الكثيرة والأغلبية العربية فى هذا اللواء. وتنكرت لسورية مرة أخرى فعدلت عن إبرام المعاهدة واستبدت بالأمر فى داخلية البلاد استبدادا أدى إلى استعفاء الوزارة عدة مرات، وتعذر قيامها بمهمة الحكم، ثم أدى أخيرا إلى استقالة رئيس الجمهورية، وهذا نص استقالته التى رفعها لمجلس النواب السوري:

"إلى رياسة المجلس النيابي السوري الفخيمة":

"منحنى مجلسكم الكريم ثقته وانتخبني فى أول جلسة عقدها لرياسة الجمهورية على أثر عقد المعاهدة وإقامة الصلات بين فرنسا وسوريا على قواعد التحالف والمودة، وذلك لإدراك هذه الأمة الغاية الشريفة التى تسعى إليها من الاستقلال والسيادة القومية. وقد تعاقبت حكومات فى سوريا وأخذت تبذل قصارى جهدها فى سبيل إبرام العهد المقطوع والميثاق المعقود واثقة بأنه ينطوي على الخطة الوحيدة التى تعزز جانب الوطن السوري وترفع من شأنه، كما توثق الروابط بينه وبين الجمهورية الفرنسية حتى يسود علائقهما جو من الصفاء والإخلاص، وحتى تقوى هذه البلاد على مقابلة الأحداث وصد الأطماع. 

غير أن الجهود التى بذلت لم تسفر عن نتيجة برغم الوعود الرسمية الصادرة من رجال الوزارات التى تعاقبت فى فرنسا منذ سنة 1936 إلى الآن، فذهبت ضياعا تلك الآمال التى توجهنا بها إلى سياسة التحالف والتضامن، وشهدنا بالعودة إلى أساليب قديمة وتجارب جديدة تناقض ما تعاهدنا عليه ودخلنا الحكم على أساسه. على أن حوادث الماضي وقرائن الحاضر لا تترك مجالا للشك فى أن هذه الخطط التى يراد اتباعها واستئناف العمل بها تؤدى إلى استمرار المشاكل والخلافات، كما أنها تضعف كيان هذه البلاد وتوهن قواها وتهدد استقلالها.

ولذلك لا أرى بدا من الاستقالة من المنصب الذي عهدت إلى الآن فى القيام به وتحمل أعبائه، راجيا أن يكون فى الأيام المقبلة ما يخفف عنها الآلام والعناء وتحقق ما تصبو إليه من الكرامة والمجد".

وقد عرضت الاستقالة على المجلس فأقرها، ودعا الوزارة إلى الاجتماع فاجتمعت وقررت القيام بأعباء الحكم، ولكن المندوب السامي تحداها فى هذا فأصدر قرارا بتدخل السلطة الفرنسية فورا وتعطيل الدستور ومجلس الوزراء وعين مجلسا يتولى السلطة باسم فرنسا، وهذا نص قراره:

"وقد نشأ عن استقالة مجلس الوزراء ورئيس الجمهورية فى سوريا فقدان تام للسلطة التنفيذية، مما يجعل تدخل الدولة المنتدبة تدخلا فوريا أمرا لابد منه، وفى هذه الحالة ترى الدولة المنتدبة نفسها مضطرة إلى وقف تنفيذ الدستور فيما يتعلق بالسلطتين التنفيذية والتشريعية، والنظر فى نظام مؤقت يمكن من إدارة البلاد إدارة منظمة طبيعية.

بناء على ذلك قرر المفوض السامي أن يعهد فى السلطة التنفيذية – تحت مراقبته – إلى مجلس مؤلف من مديري مختلف المصالح الوطنية برياسة مدير الداخلية، ويؤلف مجلس المديرين بقرار من المندوب السامي ويجوز له أن يتخذ قرارات بتعيين الموظفين الملكيين، ويجوز له بناء على رأى المجلس أن يصدر مراسيم لها مفعول القوانين ولاسيما فى الشئون المتعلقة بالميزانية. وتتخذ المراسيم التشريعية بعد موافقة المندوب السامي التى تجعلها نافذة".

هذا هو موقف فرنسا فى سورية. فأما موقفها فى بقية مستعمراتها الإسلامية فعلى ما كان عليه من عسف وجور ونفى للأحرار وتعذيب للوطنين، وهؤلاء شباب المغرب وعلى رأسهم "محمد عبد الكريم" لا زالوا فى أعماق المنافي والسجون.

وأما إنجلترا فقد أخذت تتلون كالحرباء فى حل قضية فلسطين، وانتهى مجهودها وخداعها بإصدار "الكتاب الأبيض" الذي لم يرض أحدا من الأمم الإسلامية، حتى إن واحدة من الحكومات لم تشأ أن تتورط فى التوسط لدى عرب فلسطين الباسلين لقبوله.

ولم تكتف بهذا، بل أخذت جنودها تهاجم اليمن وتحتل أرضا يمانية بحتة كإقليم "شبوه" وتدعى على لسان محطات الإذاعة فيها أنها ضمن منطقة عدن المحتلة، مما أدى إلى احتجاج جلالة الإمام لدى ملك إنجلترا احتاجا صارخا هذا نصه:

"من ملك اليمن الإمام يحيى إلى صاحب الجلالة الملك الإمبراطور جورج السادس المعظم بلندن: 

بعد تقديم وتأكيد الإخلاص والتعظيمات لذات عظمتكم، أعرض لجلالتكم تأثراتي العظيمة من إذاعات راديو لندن باللسان الرسمي الحكومي وادعائها أن "شبوه" ومناطقها داخلة فى الأراضي العدنية المحتلة مستندة فى ذلك إلى معاهدة سنة1940.

وقد كنت خاطبت جلالتكم سابقا بشأن "شبوه" ومناطقها كلها وأنه لم يكن لأحد شأن فيها فى أى وقت كان لا من قبل ولا من بعد، وكنت رجوت من عدالة جلالتكم طلب أوراق المخابرة الواقعة بشأنها من عدن للاطلاع على ما حدث من الوقائع بهذا الخصوص بين عدن واليمن، فإن ادعاء عدن بشبوه ومنطقتها مخالف لكل الوقائع وعار عن كل إثبات. فحكومتي مجبورة للاحتجاج ولا يمكن لليمن السكوت عن عمل مغاير للحق ومخالف للصداقة بكل معنى.

ومعلوم لجلالتكم أن "شبوه" ومنطقتها يمانية منذ خلق العالم إلى اليوم، وسيطرة اليمن لم تزل عليها، ولا هى افترقت يوما واحدا عن أمها اليمن، وكل قرار غير شرعي بشأنها نرده بلا شك. ولم تتعهد اليمن لدولة ولا لشخص بأن تسلمه حقوقها وملكها. وهل يمكن -يا صاحب الجلالة- بيع أو إهداء أى أرض أو زراعة ممن لا يصح تصرفه فيها؟ ومن المعلوم أن العثمانيين وغيرهم لم يدخلوا "شبوه" ومنطقتها فلم يتصرفوا بشىء فيها ومنها. وهل من المعقول والمقبول المطالبة بهدية تقدم من مالكها؟ ومن المعلوم أن جدنا الإمام الهادي هو الذي عمر الحصون قبل ألف سنة، وأن سلفنا الإمام أقام فى "شبوه". فنحن متسلسلون فى شبوه، وسكانها متعلقون بحكومتنا مع جملة إخوانهم بنى جابر.

وفى سنة 1914 ابتدأت الحرب العامة وتحاربت إنجلترا مع العثمانيين. ولم يبق للدولة العثمانية وجود فى العالم. وأما تركيا الحاضرة فلم تصل إلى اليمن ولم تعمل لليمن شيئا، فهل يمكن -يا صاحب الجلالة- أن تجيز القوانين الشرعية والمدنية العالمية الاعتداء على بلاده مستقلة واغتصابها؟

وهل يستطيع أى يمنى كان أن يرضى بتسليم أرض أجداده التى حافظوا عليها إلى هذا اليوم بدمائهم وجهودهم؟ فأرجو من عدالتكم، -يا صاحب الجلالة-، أن تنظروا إلى الأمر بعين العدل، ومعلوم جلالتكم أن عرشكم العالي وحكومتكم الجليلة عقدا برضائهما وطلبهما معاهدة الوداد والصداقة مع اليمن.

وتصرح المادة الثالثة من هذه المعاهدة بأنه لا يجوز أن يتبدل أى حال بين عدن وبين اليمن إلا بالاتفاق بين الطرفين ورضائهما وموافقتهما بالطرق الودية، وأن تبقى الحالة التى كانت قائمة فى تاريخ عقد المعاهدة نافذة المفعول فهل -يا صاحب الجلالة- يرضى عدلكم وهل ترضى القوانين الدولية والحقوق السياسية والإنسانية بعد تلك المعاهدة والشروحات المذكورة الودية وبعد مرور ست سنوات من عهدها أن يعتدى على شىء من أرضنا وحقوقنا الطبيعية؟ وهل يمكن موافقتكم على هذه الاعتداءات والتجاوزات؟

وإني بكامل احترامي وتعظيمي لذات جلالتكم المعظمة، وبتمام تقديري لحكومة جلالتكم السنية ولشعبكم المنصف الكريم، أرجو من جلالتكم تحقيق وتدقيق هذه المعاملة وإصدار أوامركم العادلة إلى من يلزم؛ بأن يتفضلوا باحترام حقوقنا وشعبنا بلا جرح قلوب أمتنا وبلا استحقار أصدقائكم اليمنيين الذين هم ثابتون حالا ومستقبلا فى صداقتكم، وبأن لا يكون أى إجحاف بحقوق بلادنا ولا مخاصمة بين الدولتين المتضامنتين المتحابتين المتعاهدتين إن شاء الله.

وتفضلوا -يا صاحب الجلالة- بقبول عواطف حسن نيتي وصداقتي وتقديراتي الخالصة الفائقة. فى 11 جماد الأول 1358- 29 يونيو سنة 1939."

فهل بمثل هذا الاستفزاز تريد الدول الديمقراطية أن تحصل على صداقة المسلمين والعرب؟

إن الموقف الحالي يستدعى من العالم الإسلامي أشد الاهتمام، وإن الفرصة سانحة للمسلمين والعرب لو أرادوا أن ينتهزوا.

وحضرات أصحاب الجلالة ملوك المسلمين -وبخاصة جلالة الملك فاروق والملك عبد العزيز آل سعود وصاحب السمو الملكي الأمير عبد الإله الوصي على عرش العراق وجلالة الإمام يحيى حميد الدين- هم موضوع الرجاء فى إفادة شعوبهم من مثل هذه الحوادث، والله تبارك وتعالى سيسألهم عما استرعاهم وكل راع مسئول عن رعيته.

ومن واجب الحكومات الإسلامية أن تتفق جميعا على خطة حازمة تعلن بها إنجلترا وفرنسا فى اجتماع وفى حزم وإصرار أن تبرم المعاهدة السورية على غرار معاهدة العراق، وأن يكون بين إنجلترا وفلسطين معاهدة تستقل بها الأرض المقدسة وتظل عربية مسلمة، وأن يكفل استقلال الأوطان الإسلامية الحالية ولا يتعدى على أى جزء من أرضها.

وأن يكون بين فرنسا وتونس والمغرب معاهدات سياسية –كذلك- تكفل لهذه الشعوب المسلمة العريقة أن تصل إلى استقلالها وحريتها، فإن وافقت الحكومات الديمقراطية على ذلك فهو الخير لها وللناس، وإن أبت إلا الإصرار على هذا الموقف الظالم فليعمل المسلمون لأنفسهم وحسبهم ما فات.

لقد بدأت العراق والحجاز العمل، وقامت مفاوضات بين الحكومتين الهاشمية والسعودية، أغلب الظن أنها تناولت -فيما تناولته- هذه النواحي الحيوية للممالك الإسلامية، ولكن كل ذلك لا يكفي، فإنا نريد أن يكون الصوت إجماعيا من الحكومات الإسلامية جمعاء أو من معظمها على الأقل، وأن تكون الخطوات واضحة بينة والوسائل صريحة حازمة. وفق الله العرب والمسلمين لما فيه خيرهم وسعادتهم(1).

 

واجب العالم الإسلامي أمام ما نزل به

ما هى الوسائل العملية الممكنة؟

توالت الاعتداءات أخيرًا على المسلمين فى كل قطر من أقطار الأرض، وكشر أعداؤهم عن ناب البغضاء، وآذنوهم بحرب بعيدة المدى، وصرحوا بنيّاتهم، وكشفوا عن مخبآت ضمائرهم، وأعلنوا على رءوس الأشهاد أنهم يريدون أن يكون الدين كله لهم والحكم بيدهم، وتزول من الوجود تلك البقية من المسلمين فى كثير من أنحاء الأرض، وكلها بشدة وبلهجة قاسية وبحروف من نار، ولكن لمن نحتج؟

نحتج لأمة تجدّ فى تنصير إخوان لنا، وتعتدى عليهم كل يوم عدوانًا جديدًا فى دينهم وحريتهم وأموالهم وأولادهم، ومن تكلم أذاقته الهون وسوء العذاب؟

أم لأمة تزاحم إخوانًا لنا على معايشهم فى أوطانهم، وتقيم خطتها على طرد ذوي الأملاك إلى الصحراء والاستحواذ على أملاكهم بالقوة الجبرية حتى مات معظمهم جوعًا وعطشًا؟

أم لأمة أصبحت دسائسها ومكائدها فى البلاد الإسلامية تفوق الحصر، وأنها لتعمل فى طي الخفاء أفظع مما يتظاهر غيرها بعمله؟

أم لعصبة الأمم، وليست عصبة الأمم إلا ما نعلم؟

لقد أسمعت لو ناديت حيًا                ولكن لا حياة لمن تنادى

أيها المسلمون، عبثًا تحاولون أن يكون الخصم هو الحكم، وأن تجدوا النصفة من أعدائكم.

عبثًا تنتظرون الرحمة من قلوب هؤلاء، فقد جمدت حتى صارت كالحجارة أو أشدُّ قسوة، وأظلمت حتى أصبحت أحلك من سواد الليل، وانطمست حتى لا ترى بصيصًا من نور الحق.

عبثًا تريدون أن تسمعوا كلمة عطف من فريق منهم، فقد اجتمع الجميع عليكم، واتفقت كلمتهم فى وسائل إرهابكم، وإنهم وإن تفرقوا فى مطامعهم واختلفوا فى منازعهم فهناك سبيل واحد اتفقوا عليه وتقاسموا لينفذنّه، وهو القضاء على الإسلام والمسلمين.

وهي إحن صليبية وسياسة رجعية تدفعهم إلى أعمال هى إلى الوحشية والجنون أقرب.

لا تخدعوا أنفسكم -أيها المسلمون- وحسبكم غفلة وحسن ظن الأيام، فقد وصف الله لكم القوم فى كتابه، فقال تعالى: ﴿وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُوا﴾[البقرة: 217]، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم ما هو أصرح من ذلك، وهم لا يرضيهم منكم إلا الردة وإلا الاستعباد، وبعد كل هذا لهم معكم حقد قديم ينتقمون منكم به ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّى بَرِىءٌ مِّنْكَ﴾[الحشر: 16].

هذه حقيقة ما هو واقع، وقد صرحوا به بالقول مرات، وأكدوه بالفعل، وتواترت عليكم به الأنبياء.

صدقوني يا إخواني، لقد ذاب قلبي أسفًا، وتقطعت نفسي حسرات مما يتوالى من النكبات على المسلمين، وأردت أن أحتج فسألت نفسي: لمن؟ فأخذت أقلب الفكر، وأستعرض الأمم البعيدة فلم أجد فيها رحيمًا، والقريبة فإذا هى مكبلة بقيود ثقيلة لا تستطيع معها حراكًا، وذكرت كلمة كانت عنوانًا لمقال كتبه الأمير الجليل "شكيب": "يظهر أن هذا اليوم كله علينا وليس لنا منه شىء"، فأخذ ذلك من نفسي كل مأخذ، ولولا بقية من الأمل فى أن يتدارك المسلمون أمرهم ويجمعوا شملهم لكان الموت أولى من حياة الذلة والمهانة.

ذل من يغبط الذليل بعيش               ربّ عيش أخف منه الحمام

أنا لا أقصد لوم من يحتج، فلو لم يكن فى الاحتجاج إلا أنه عاطفة شريفة، وغيرة إنسانية، وشعور ديني يصل نفوس المسلمين بعضها ببعض ويشد أزرهم، لكان صاحبه يستحق التكرمة والثناء.

ولكن الذي أريد أن أصل إليه أن يعتقد المسلمون أن الاحتجاج وحده لا يكفي، بل لا يجدي، وأن الاحتجاج لا يرفع التبعة، ولا يعد صاحبه قد أدى واجبه، ولا يصح الاعتماد على الاحتجاجات وحدها، فقد تعوّدنا أن نهبّ ونحتج، وبعد إرسال الاحتجاج نتناسى كل شىء كأن لم يكن، ويشعر أحدنا براحة الضمير لأنه احتج، ثم تأتى الحادثة الثانية، فيكون موقفنا منها موقف الأولى، وهكذا تتوالى الحوادث كل واحدة أفظع من أختها ونقابل الجميع بالاحتجاج، هناك وسائل نستطيعها أجدى من الاحتجاج وأبلغ أثرًا وهي السبيل إلى الخلاص.

الوسيلة الأولى:

ضم الصفوف وتوحيد القوى والتعارف حتى يكون المسلمون الغيورون فى كل قطر سلسلة متصلة الحلقات، يتحرك أحد طرفيها بحركة الطرف الآخر، ثم توصل هذه السلاسل فى كل الأقطار الإسلامية تحت رعاية مؤتمر عام مؤلف من مندوبين لكل قطر إسلامي، فيكون هذا المؤتمر بمثابة رياسة عامة للمسلمين تنهض بهم للدفاع عن حقوقهم الإسلامية المشتركة، وترسم لهم سبيل العمل لهذا الدفاع، وبذلك يكون للمسلمين صوت مسموع وجامعة ترهب أعداءهم وتجمع كلمتهم. أما وسائل ذلك فكثيرة وهي سهلة يسيرة إذا انتدب لها قوم من أهل الغيرة على دين الله ونشطوا فى سبيلها.

الوسيلة الثانية:

مقاطعة كل ما هو غير شرقي فى العادات والتقاليد والبضائع، والاعتزاز بالعصبية الشرقية الإسلامية، والتظاهر بهذه العصبية حتى يشعر أعداء المسلمين بأن للمسلمين كرامة يجب أن تحفظ وقومية يجب أن تصان.

واذكروا -أيها المسلمون- أنكم أنتم الذين جرّأتم أوروبا وغير أوروبا على احتقار دينكم، وأنكم أنتم الذين فتحتم لها باب العدوان عليكم، فإنها ما مست دينكم بالسوء إلا بعد أن رأت تبرمكم به، وانشغالكم عنه، ودعايتكم لعاداتها ومظاهر حياتها، وفرنسا لو لم تر تعطيل الأحكام الشرعية فى كثير من الأقطار الإسلامية ما عطلتها فى ظهير البربر، وقس على ذلك.

وقد سمعنا ورأينا أثر ذلك التهاون منا فى ديننا فى خطابات مؤتمر المبشرين، وكيف أنهم يعدون ضعف العصبية الإسلامية من أهم الوسائل التى يعتمدون عليها فى القضاء على الإسلام واتساع دائرة الحركة التبشيرية.

إذا أنت لم تعرف لنفسك حقها            هوانًا بها كانت على الناس أهونا

فاذكروا دائمًا أن أول جان على الإسلام هم أبناؤه الأغرار المفتونون الذين تركوا مظاهره ونددوا بها، وأوروبا ترقبهم عن كثب وتمدهم فى طغيانهم وتشجعهم عليه بأساليب خفية. فقاتل الله اللادينيين من أبناء الأمم الإسلامية الذين أذلوا الإسلام وأسقطوا هيبته بما انتهكوا من حرمة الخلافة، وبما أقدموا عليه من انتهاك محارم الله، فذكّروا أنفسكم -أيها الإخوان- دائمًا بأن ملاحدة المسلمين فى مقدمة خصومكم، وأن على رءوسهم قسطًا كبيرًا من تبعة ما يقع الآن فى مختلف بلاد الإسلام، "ومن دعا إلى ضلالة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئًا".

ومن الواجب أن نحول دون تفشى أفكارهم الموبوءة بيننا، وأن نضرب على يد من يريد أن نحسن الظن بأعدائنا، ومن يخدّر أعصابنا بنظريات مزيفة وألفاظ خلابة ليس تحتها إلا فساد القومية الشرقية وضياع الوحدة الإسلامية، فلا فرق بين هؤلاء وبين الأوروبيين، ومن تولى قومًا فهو منهم كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إن اللهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾[المائدة: 51].

فقاطعوا كل ما هو إلحادي كما تقاطعون كل ما هو غير شرقي فهما بمنزلة سواء.

أليس من التناقض العجيب أن نرفع عقائرنا بالمطالبة بالخلاص من أوروبا ونحتج أشد الاحتجاج على أعمالها ومنكراتها، ثم نحن من ناحية أخرى نقدس تقاليدها ونتعود عاداتها ونفضل بضائعها.

الوسيلة الثالثة:

أن نجاهد أنفسنا قليلاً ونحكمها ونردها إلى العقل والتبصر ونفهمها أن لذة العزّة وهناءة الضمير وحياة الحرية أهنأ وأسعد من كل شىء ولا تعدلها لذة أخرى فى الوجود، وأن هذه اللذائذ المادية والشهوات الجسمية فانية منقضية، حتى يمكننا بذلك أن نتخلص من الإغراق فى ترف الحياة.

فإن أوروبا لم تضحك علينا إلا بأدوات الزينة والتخنث وآلات اللهو ووسائل الشهوات، وشغلتنا بذلك عن مهام الأمور وجلائل الأعمال. فها نحن لم نبرع فى المخترعات كما برعنا فى الرقص والتمثيل، ولم ننبغ فى العلوم والمعارف نبوغنا فى التهتك والخلاعة.

فإذا أقنعنا أنفسنا بخطأ هذه الأفكار وأمكننا أن نتحرر من رق الشهوة تبع ذلك تحررنا من رق المصالح الأوروبية ومن رق أوروبا تبعًا لذلك، وتوفر علينا ما ندفعه لشيكوريل والبون مارشيه وسلامندر وغيرهم من أموال طائلة هى عدة الجهاد لنيل الحقوق فى هذه الأيام.

الوسيلة الرابعة:

أن نذكر هذه النكبات دائمًا، وأن نتلوها على أنفسنا صباحًا ومساءً، وأن نلقنها أبناءنا ونساءنا وإخواننا، وأن ننشرها بين أصدقائنا وفى مجالسنا، حتى ينشأ شبابنا وهم على بينة من أمر أعدائهم، فلا يخدعون كما خدعنا ولا يلاقون ما لاقينا.

وهنا أقترح أن ننظر فى أجدى الوسائل لتخريج أبنائنا مشبعين بالروح الدينية، فإن نظم التعليم عندنا -والأسف ملء القلب- لا تسمح بذلك، وهي تقربنا من الأفكار الأوروبية، وتقتل فى نفوس الناشئة كل شعور إسلامي أو قومي شريف، فأحرى بالمسلمين الذين يحبون الإسلام ويريدون أن يشب أبناؤهم على مبادئه أن يعنوا بالأمر ويفكروا فى أقرب الوسائل لذلك، وأمامهم السبل كثيرة ليس هنا موضع تفصيلها وإذا صدق العزم وضح السبيل.

وأعود فأقول: إن كثيرًا من شبابنا والطبقات الراقية عندنا ماتت فى نفوسهم الغيرة الإسلامية، فهم لا يهتمون بغير أنفسهم وشهواتهم ومرتباتهم، ولا يفكرون فى إخوانهم ولا يقدرون هذه الأخوة الإسلامية، فانشروا فيهم نبأ هذه النكبات وذكروهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الأثر المروى عنه: "من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم" لعل دم العزة يجرى فى عروقهم، ولا تيأسوا من إقناعهم فقد سمعنا أن محمود عزمي وهو المتجاهر بالإلحاد والتفرنج صار بعد أن رأى استبداد فرنسا فى المغرب يقول: إن للمغاربة الحق فى التعصب للإسلام، فإذا صح ذلك -وقد سمعه منه مراسل "الفتح" فى باريس- كان فألا حسنًا فى رجوع بعض هذه الخراف الضالة إلى حظيرة الشرق والإسلام.

الوسيلة الخامسة:

إن الله بيده الأمر كله والأرض له يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، وإن الله قوى قهار لا يعجزه أن ينتزع أرضه من أيدي أقوى دولة فيستخلف فيها أضعف دولة لينظر كيف يعملون، والتاريخ كفيل بذلك وشاهد عليه: فبنو إسرائيل ورثوا الأرض التى بارك الله فيها بعد أن كانوا أذل من الذل وأقل من القلة، والعرب دانت لهم الممالك بعد أن كانوا أشد الأمم ضعفًا وتفرقًا.

وأقسم لكم أيها الإخوان لو علم الله فى المسلمين من يصلحون أن يكونوا خلفاء لله فى الأرض لأرسل على مضطهديهم عذابًا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولبعث عليهم جنودًا لم تروها، وما يعلم جنود ربك إلا هو، ولخلص الأرض من أيديهم وأورثكم إياها.

ولسنا نقصد بذلك القعود عن العمل، وإنما نريد تجديد النفوس وتطهير الأرواح وتقوية العقائد حتى تمتلئ النفوس بالأمل والإيمان، وحتى تندفع إلى العمل بقوة وثبات كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فمن واجبنا أن نتعرف إلى الله بما يرضيه عنا، وأن نسير مع أوامره ونواهيه، فإذا رضى عنا أعاننا بنصره وأوضح لنا سبيل الخلاص وكان معنا على أعدائنا، فأخذوا من مأمنهم، وزلزلوا فى مسكنهم، وذاقوا وبال أمرهم.

كتب معاوية إلى عائشة أم المؤمنين رضى الله عنهما أن اكتبى إلى كتابًا توصيني فيه ولا تكثري على فكتبت عائشة إليه: "سلام عليك. أما بعد، فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مئونة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس"، وبهذه المناسبة أذكر لحضراتكم هذا الاقتراح.

القنوت فى كل صلاة:

من الأحكام الشرعية أن "القنوت سنة فى كل الصلوات بعد الركوع الأخير إذا نزلت نازلة بالمسلمين"، وبما أن المسلمين فى هذه الأيام يواجهون كل نازلة جديدة حتى تكسرت النصال على النصال فيلوح لى جواز تطبيق هذا الحكم فى كل المساجد الإسلامية، وفى كل الصلوات فيقنت الأئمة فى كل صلاة بالدعاء للمسلمين بالنصرة والخلاص وبالدعاء على أعدائهم بالضعف والهزيمة، فما رأى سادتنا العلماء فى ذلك؟

وختامًا أيها العالم الإسلامي، إذا قدرت على مجاهدة النفوس والثبات على العمل وهو مُرّ فزت بالخلاص وكان يومه قريبًا ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾[الرعد: 11]، وإن لم يكن من عملك إلا الكلام والاحتجاج فاذكر أن خصومك عرفوا نفسيات الشعوب فلا يرهبون إلا القوة، ولا يفقهون إلا بلسان العمل المنتج، فوفر هذه الاحتجاجات وارض بما أنت فيه من الذلة والهوان، وهما سبيلان لا ثالث لهما.

فإما حياة تبعث الميت فى البلى          وتنبت فى تلك الرموس رفاتي

وإما ممات لا قيامة بعده         ممات لعمرى لم يقس بممات(2)

سنصــــل

أيها المجاهدون فى المشرق والمغرب: لا تيأسوا فإن فجر النصر قريب، ومن استقام على أول الطريق فلابد أن يصل إلى غايته، وهذا السجن وهذا النفي وهذا العذاب هو أول الطريق، فسيروا على بركة الله ﴿وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُّتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾[التوبة:32].

فى غفلة من الزمن، وغفوة من المسلمين، ناموا فيها عن مجدهم الموروث وملكهم العظيم ودولتهم الواسعة، وأهملوا تعاليم الإسلام الحنيف؛ من الأخذ بالقوة، وإعداد العدة، ودوام الجهاد، واستروحوا إلى الدعة واستكانوا فى أحضان اللذائذ والشهوات، واتبعوا الذين ظلموا (منهم) ما أترفوا فيه. فى هذا الوقت وثب خصومهم على مجدهم فسرقوه، وعلى ملكهم فمزقوه، وعلى حرياتهم فقيدوها، وعلى مصالحهم فاستأثروا بها دونهم، واستعمروا كل شبر أرض من أملاكهم، وحق قول الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وكذلك يَفْعَلُونَ﴾[النمل: 34].

بدأ المسلمون يفقدون مستعمراتهم التى رفعوا فيها راية الله ونادى فيها المؤذنون بكلمة التوحيد، ففقدوا الأندلس، وصقلية، وقبرص، وجزائر البحر المتوسط، وجنوب إيطاليا -وقد كان من ممتلكاتهم- وغير ذلك من بقع الأرض، فلم يكفهم ذلك ليتيقظوا وليجمعوا صفوفهم ويوحدوا كلمتهم ويعملوا لحماية أوطانهم. وتبع ذلك طمع أعدائهم فيهم فغزوهم فى عقر دارهم وانتقصوا ديارهم فى تاريخ طويل أسود الصفحات موجع التفاصيل، ولم تنته الحرب الأخيرة حتى قسمت رقعة الوطن الإسلامي أبشع تقسيم وأفظعه، ولم يترك قطر من أقطاره حتى هيمنت عليه دولة كافرة تحت ألفاظ مبتدعة؛ فهذه مستعمرة، وتلك حماية، وذلك انتداب، وكله معنى واحد لا يعنى إلا العبودية والاستغلال. سوريا والمغرب بأقسامه "الجزائر وتونس" مع فرنسا، ومصر وفلسطين والعراق لإنجلترا، وطرابلس لإيطاليا، حتى تركيا، وليس بعد هذا الإذلال إذلال.

ثار العالم الإسلامي لكرامته، ودبت اليقظة فى نفوس أبنائه، وفتحوا أعينهم على الحقائق، وعزموا على مقاومة الظلم مهما كانت الأثمان، وليس للحرية ثمن إلا الدماء والسجون والمنافي والعذاب والتضحيات بكل أشكالها وألوانها، فأما تركيا فقد اعتمدت على السيف والمدفع وافتدت نفسها من خصومها ببقية الأجزاء، وأما سورية فجاهدت وما تزال قضيتها معلقة، وأما العراق فتخلصت وما تزال تعمل للخلاص، وأما مصر فقد حذت حذو العراق، وأما فلسطين العزيزة الغالية على المسلمين جميعا؛ كبد العالم الإسلامي، وقلب العروبة الخافق، فقد أعياها الكلام، فانتضت الحسام وأتت بالمعجزات فى جهاد نبيل وبطولة سيعطر أريجها صفحات التاريخ، وأما المغرب فقد تمشت الحمية فى نفوس شبابه، وثارت الحماسة فى رءوس رجاله، فجمعوا كلمتهم، ورفعوا صوتهم، وطالبوا المستعمرين بحقهم المسلوب ووطنهم المغصوب، تارة بالقول والبيان، وأخرى بالسيف والسنان فى ثورات متلاصقة ونهضات متتابعة، وكان المستعمر فى جميعها لا يتغير، يدفع العدل الصادق بالقوة الغاشمة، ويقابل إيمان المجاهدين بقسوة الظالمين، فيشرد الشباب، ويعذب العاملين، ويقذف بهم فى أعماق السجون وفى أطراف البلاد، وكثير من زعماء المغرب مضى عليه العام والعامان وأكثر من ذلك وهو حبيس سجن أو قعيد منفى وما هدأت الثورة ولا وقف الجهاد. ﴿وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُّتِمَّ نُورَهُ﴾[التوبة: 32].

أيها المسلمون: لو وقف أمر المستعمرين عند السجن والتعذيب والقتل والتخريب. لقلنا أفراد يذهبون فى سبيل الله وما عند الله خير وأبقى لهم وللمؤمنين. ولكن الحظ الداهم أن مناهج الاستعمار إنما ترمى إلى سلب دينكم، وطمس لغتكم، وتحطيم مجدكم، وفصم وحدتكم، والقضاء التام على إخوانكم؛ فهناك فى المغرب الأقصى لا يزال سيف الظهير البربري مصلتا على رءوس المسلمين، وإنما يراد إبطال أحكام الله، وتنصير ثمانية ملايين من عباد الله الذين آمنوا بالله واتبعوا كتابه وأسلموا وجوههم له. وقل مثل ذلك فى كل مكان مستعمر منكوب.

أيها المسلمون: لا قيام للباطل إلا فى غفلة الحق. وإن أشد ما يمكن لأعدائكم فى دياركم قعودكم عن نصرة إخوانكم، فقد كانت الأندلس تغتصب فى الوقت الذي يهادن فيه العباسيون الفرنجة، وقد كانت الجزائر تحتل فى الوقت الذي تصادق فيه مصر القوية وفرنسا المغتصبة، ومثل ذلك كثير. وقد فهمتم هذه الحقائق جميعا وبلوتم أمم الاستعمار فى الحرب والسلم، وعرفتم أن الطريق للنجاة والسلم أمران لا ثالث لهما: وحدة وجهاد، فآزروا إخوانكم فى المغرب واستجيبوا لهم، وادرسوا قضيتهم العادلة، وأيدوهم بكل ما استطعتم من صنوف التأييد، واسلكوا سبيل الجهاد واحتملوا آلامه وعذابه فى سبيل الله وستصلون عن قريب. ﴿وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُّتِمَّ نُورَهُ﴾[التوبة: 32](3).

 

على أبواب الحرب

من جديد أخذت أبواق الحرب تصيح وطبوله تدق، وأخذت العالم رعدة القلق وهزة الاضطراب مما ينتظره من أهوالها ومما سيعانيه من نكباتها وويلاتها، وأخذت الدول فى الاستعداد البالغ السريع فى الشئون الحربية والمدنية معا.

فما حالنا فى مصر وما حال بقية شعوب العالم الإسلامي؟

لا شىء. كل شىء هادئ فى الميدان الإسلامي، لا تفكير، ولا استعداد، ولا استفادة من هذه الدروس البالغة التى تتجدد وصورها كل يوم على لوحة الحوادث، ولا انتفاع بهذه النذر التى تتوالى فى الشرق وفى الغرب، كأن العالم الإسلامي بمنجاة من الخطر، وهو بين شقي الرحى وعلى رأسه تدور الدوائر إن لم يستيقظ ويعمل ويجد وينتهز المسلمون الفرص السانحة.

قد يقول قائل: إن المستعمر الغاصب الذي امتدت أصبعه إلى كل شبر أرض من أوطاننا يحول بيننا وبين الاستفادة والعمل والتكوين وذلك صحيح إلى حد ما، ولكنه ليس صحيحا إلى الحد الذي يقعدنا على كل تفكير وكل عمل، بل إن هذه الظروف الدولية المضطربة التى تزلزل قلب المستعمر ولبه وتهز جميع أعصابه قبلنا هى فرصتنا الوحيدة نحن المسلمين.

الإنجليز لم يعملوا شيئا جديا إلى الآن لفلسطين.

فرنسا لا تزال تمكر بالعرب فى سورية ولا تزال تسيم أحرار المغرب سوء العذاب.

إيطاليا ستحشد مسلمي لوبيا العربية ومسلمي الحبشة إلى جبهات القتال فى سبيل مجد روما وتثبيت عرش الملك الإمبراطور.

هذا النزاع العالمي بين الدول الأوربية هو فرصتنا نحن المسلمين، فإلى متى السكوت يا زعماء مصر ويا زعماء العالم الإسلامي؟

أنتم ملومون أشد اللوم، مقصرون كل التقصير إن لم تسرعوا بطرح الخصومات الشخصية والخلافات الحزبية، وتجمعوا رأيكم وكلمتكم على خطة مثلى تفيدون بها أمتكم من الظروف الذهبية الحاضرة، والتي قد لا تعود، والتي يضر تقاعدكم فيها بأممكم وشعوبكم أعظم الضرر. فأخلصوا لأوطانكم ساعة من نهار.

إلى الوحدة أيها الزعماء والرؤساء الشعبيون.

وأنت أيتها الحكومات الإسلامية فى مصر وغير مصر. أنت ملومة أشد اللوم مقصرة كل التقصير إن لم تسرعي بالاستفادة من الظروف فتوجهي القوى إلى الاستعداد الكامل بإنشاء المصانع المختلفة واستكمال استقلال الوطن العسكري والاقتصادي، وذلك فى وسع الحكومات الآن وقد يتعذر عليها بعد قليل.

ثم ماذا يكون موقف الشعوب الإسلامية فى الحرب القادمة؟

أيرضون أن يساقوا إلى جبهات القتال فى حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل ليطفئوا بدمائهم نار عداوة وبغضاء أثارها جشع الدول الأوربية وطمع كل منها فيما فى يدي الأخرى، وليقف المسلم أمام المسلم يواجه بالحديد والنار والقتل والدمار، وهو أخوه فى دينه وفى عقيدته، لا يرجو أحدهما من وراء ذلك إلا المجد للغاصبين والحياة لأعداء الدين من المستعمرين.

وعلى حكومة مصر أن يتبين موقفها تماما وأن تزن خطواتها جيدا، فإن الأمر جد لا هزل فيه، فإذا أرغمت الظروف والحوادث حكومة مصر على أن تحارب، فلا أقل من أن تأخذ لنفسها ولشعبها الضمانات الكافية وأقلها ألا تتحمل شيئا ما عن نفقات الحرب العامة، وحسبها ما ستنفقه على جيشها ورجالها وما ستتعرض [له] من خسائر بسبب هذه الحرب، وإلا فتستعد حكومة مصر من الآن لدين لا يخطر لها ولا لمصري على بال، يقيدها بالقيود والأغلال أبد الدهر. هذه واحدة. والثانية أن يقصر أمد الاحتلال فى مصر فيزول بانتهاء هذه الحرب، وتعطى مصر كل حرية فى استكمال استقلالها العسكري والاقتصادي. هذا كلام يجب أن يفكر فيه ذوو الرأي منا يجب أن يتنبه له كل مصري غيور، حتى لا تنسينا المجاملات الفارغة الصدمات المتلاحقة التى لا نقوى عليها ولا نصبر لها.

وأساس ذلك كله أن توحد جهود الزعماء، وأن يطرحوا ما بينهم من خصومات، ويقفوا صفا واحدا يحافظون على حقوق الأمة، ويدفعون عنها أخطار هذا الوقت، فإن لم تنتفع بهم فى هذه اللحظات فهي فى غنى عنهم أبد الدهر. فهل هم يفعلون؟(4).

 

الدرس الذي نستفيده من الحالة العالمية

والأعمال التى يجب أن نقوم بها حالا

لا زالت الأزمة الدولية مستحكمة الحلقات، ولا زالت نذر الحرب والشدة تتوالى، ولا زالت دول العالم تتقاذف بالخطب والخطط قبل أن تتقاذف بالقنا والقنابل، ولا زالت الاستعدادات فى كل النواحي قائمة على قدم وساق، ولقد شهدت القاهرة وكثير من بلدان مصر تجارب صورية لغارات ومناورات لتذكر الناس بما سيكون إذا وقعت الواقعة وأعلنت الحرب، وأكبر الظن أن ذلك سيدوم وقتا يكفي للتنبيه والإنذار إن لم يكن فى علم الله أن تقع الحرب الطاحنة.

لئن كان الناس متألمين قلقين لهذا كله، فهناك فئة من الناس فرحة مسرورة له، وأولئك هم الإخوان المسلمون. لقد كنا فى حاجة قصوى إلى هذا النذير القدير القوى الفعال الذي يزعج هذه الشعوب الإسلامية عن شهواتها ومهازلها وصغائرها وسفاسفها، ويدفع بها إلى الجد، إلى العمل، إلى التفكير فى المجد الضائع والماضي الزاهر والمستقبل المظلم القاتم الذي ينتظر الضعفاء المستهترين، ولقد أخفقت النذر الكلامية والكتابية والتاريخية والإصلاحية الهادئة، فلم يكن يجرى إلا هذا النذير الداوى الصاخب المندفع من أفواه المدافع، ترمى باللهب، وتقذف بالشرر، وتلقى بالحمم والمهلكات.

إذن هو درس نافع كان لابد منه لهذه الشعوب الإسلامية فى أول نهضتها الحديثة وفى بدء تكونها الجديد، فهل هى ستنتفع به أم ستفور فورة وقتية ثم تعود إلى النوم على وسائد الأهواء والشهوات؟!

يجب أن نستفيد من هذا الدرس فنفيق ونستيقظ يقظة طويلة لا تهدأ ولا تنام ولا تضعف حتى تبلغ منها الغاية. يجب أن نتلقى عن حوادث العالم الآن دروس القوة واليقظة والجد والعمل والتضحية وحسن الاستعداد. يجب أن نعلم أن الوقت قد حان لنبذل ونضحي ونجرب أنفسنا فى المشقات والملمات، وندفع بها إلى اقتحام المصاعب وتذوق مرارة الجهاد، بعد أن استغرقت طويلا فى دنيا اللذائذ والمتع على حساب الكرامة والمجد. ويجب أن يوزع الحاكمون أعباء الجهاد بالقسطاس على الناس، فلا يحاولوا إرهاق الضعفاء ليستريح الأقوياء، فإن ذلك يميت حماسة الضعيف ويعصف بغيرة القوى فلا يقع عند الشدائد هذا ولا ذاك، بل يجب أن يحتمل الأقوياء القسط الأول والأكبر من أعباء العمل وتضحيات الجهاد.

فى أنباء هذا الأسبوع أن فرنسا افتتحت قرضا أهليا للسلام بمبلغ 54 مليونا من الجنيهات، فتغطى هذا المبلغ فى أقل من الصباح إلى قبيل الظهر، وكان معنى هذا أن الحكومة دعت فاستجابت الأمة لهذا الدعاء فى ساعة من نهار، وكان ذلك دليلا على تمام التعاون بين الحاكم والمحكوم. نريد شعورا كهذا بين الأمة والحكومة فى الشعوب الإسلامية، بل نريد أقوى من هذا، فإن الإسلام لا يرضى إلا بوحدة القلوب والنفوس والأيدي، والتعاون فيه على الخير فريضة من الفرائض.. ولا يتم هذا إلا إذا أنصف الحاكم، وآثر شعبه، وقضى على المحاباة والمحسوبية، وأخذ نفسه بتبعات الجهاد حتى يخلص المحكوم ويبذل غير آسف ولا نادم.

هذا هو الرأي الذي يجب أن نحذقه جيدا من الحوادث العالمية التى تطالعنا بها الليالي والأيام، بل الساعات والدقائق فى هذه الأوقات.

أما ما يجب أن نعمل فكثير:

يجب أن يتم التفاهم بين زعماء الشعوب الإسلامية والبعض الآخر حتى تكون كل أمة وحدة مجتمعة تتعاون فيها القوى، وتشترك الجهود وتتلاقى المواهب حول الصالح العام، ويجب إذا تعذر هذا فى أمة أن يتوسط بين زعمائها قادة الأمم الأخرى من أبناء هذا الإسلام، فليست الشعوب فى حاجة إلى الوحدة واستقرار الأمر فى زمن من الأزمان بقدر ما هى فى حاجة إلى ذلك الآن.

ويجب أن يتم التفاهم بين شعوب المسلمين بعضهم والبعض الآخر، فإنما هم أمة واحدة وشعب واحد فى الحقيقة برغم هذه التجزئة الاستعمارية وهذا التحديد الجغرافي الذى لا تعرفه العقيدة ولا يقره الإسلام، على أن المصلحة ووحدة الألم والأمل والداء والدواء تحتم على هذه الشعوب التحالف التام، ولقد أباحت قضية فلسطين المباركة لزعماء العالم الإسلامي والعربي أن يتعارفوا ويتصل بعضهم ببعض، وهى قضية يجب ألا تقف عند هذا الحد، ويجب ألا تذهب هكذا دون انتفاع بها بل يجب أن ينمو هذا التعارف ويزداد بالتزاور والمحالفات والاتفاقات الاقتصادية والثقافية والدفاعية والهجومية وكل أنواع الروابط السياسية والاقتصادية والأدبية حتى تبلغ الوحدة مداها، ففي ذلك كل القوة لهذه الشعوب جميعا.

ويجب أن تنتهز الفرصة فتأخذ هذه الشعوب جميعا فى الاستعداد وتقوية نفسها حتى تستعيد حريتها واستقلالها، وألا تيأس من ذلك فلا يأس مع الحياة، وكم سررنا حين علمنا أن الحكومة المصرية ستشرع فى القريب فى إنشاء ثلاثة مصانع للأسلحة: ولتعلم حكومة مصر أنه ليس هناك أجدى على البلد وأولى بالإنفاق من هذه المشروعات الثابتة التى تغنينا عن غيرنا فى شأن هو أخص شؤون الحياة فى هذا العصر وهو إعداد العدة للدفاع عن النفس والوطن.

ولا يجوز لأمة تشعر بكرامتها أن تعتمد على جنود سواها، أو تطمئن إلى دفاع غيرها عنها مهما كانت الروابط وثيقة، أو تهمل تركيز شئونها اعتمادا على كثرة المصانع واستعدادها فى بلاد غير بلادها، ويجب أن تحدد الشعوب الإسلامية أهدافها وتتفاهم فيها وتعمل عليها مجتمعة وتصدر فيها سياسة واحدة.

وأعتقد أن هذه الأهداف لا تخرج عن ثلاثة أمور هى أصل على استقلال هذه البلدان الإسلامية جميعا واستعادة حريتها المفقودة وتخليصها من النير الأجنبي كله، ثم تبادل المنافع الاقتصادية والثقافية وتنمية التعارف بين أبناء هذه الأقطار جميعا بحيث يزول الشعور بالفوارق التى أقامها فى النفوس من لاحظ لهم فى الإسلام، ثم التجمع حول نظام مشترك تصدر عنه السياسة العليا لكل هذه الشعوب فى ظل معالم الإسلام السمحة ومراميه السامية: ذلك ما يجب أن تلتقى حوله قلوب المسلمين وعواطفهم فى شرق الأرض وغربها، وذلك ما يجب أن يصدروا عنه ويستعدوا وينتهزوا الفرصة السانحة لتحقيقه. 

ومن يدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا(5).

 

موقف العالم الإسلامي السياسي اليوم

وواجب أصحاب الجلالة ملوك المسلمين وحكوماتهم

نشبت الحرب الماضية والعالم الإسلامي كله منضو تحت اللواء التركي مستظل بظل الخلافة العثمانية إلا بعض أجزاء اقتطعتها يد المطامع السياسية الغربية من قبل.

كانت مصر تحت الاحتلال البريطاني ثم صارت بإعلان الحرب تحت الحماية، وخاضت البلاد العربية ميادين القتال إلى جانب الحلفاء تصديقا لوعودهم وانخداعا بالأماني المعسولة التى وضعوها أمام الأمة العربية.

ولسنا بصدد اللوم أو العتاب أو تحديد مسئولية المخطئ والمصيب فى هذا كله، فقد ذهبت تلك الأيام بما كان فيها وصارت مواقف الرجال والأمم فى ذمة التاريخ يحكم لها أو عليها. وانجلت تلك الحرب وويل للمغلوب، وغلبت تركيا على أمرها وسلبت حق سيادتها على الولايات التابعة لها.

وهنا نهضت الشعوب الإسلامية تجاهد وتكافح وتناضل وتطالب بحقها فى الحياة العزيزة الحرة الكريمة.

كانت ثورة الكماليين على أرض الأناضول وانتهت بتكوين تركيا الحديثة هداها الله وألهمها الرشد.

وكانت الثورة المصرية فى وادي النيل وانتهت بمعاهدة أغسطس 1936 التى حققت جزءا ضئيلا جدا من الأماني المصرية، ولا زالت مصر تكافح لاستكمال الباقي.

وكانت الثورة العراقية وانتهت بالمعاهدة العراقية الإنجليزية التى حققت كذلك جزءا من الأماني العراقية ومكنت العراق من السير سريعا إلى استكمال ما بقي.

واستولى الملك عبد العزيز آل سعود على الحجاز وضمه إلى نجد وكون منهما المملكة العربية السعودية.

وكافحت سورية وناضلت وكاد يتم بينها وبين فرنسا عهد وميثاق كالذي تم فى مصر والعراق مثلا، لولا أن فرنسا نكثت عهدها بعد أن وثقته قلبت للسورين ظهر المجن ولا زالت فى موقفها هذا إلى الآن.

وتعقدت قضية فلسطين ونشبت فيها الثورات تباعا، ولم يفلح ذهب اليهود ولا خداع الإنكليز فى تضليل الشعب الفلسطيني الباسل وصرفه عن أهدافه الحقة، وعن المطالبة باستقلاله الكامل فى أرض الآباء والأجداد التى رواها دم الصحابة الطاهر فأنبتت أولئك الأحفاد البررة.

واستمرت طرابلس ثائرة على الحكم الإيطالي الظالم حتى قبض على المجاهد المؤمن السيد عمر المختار وضيق الخناق على المجاهدين فقتل من قتل ونفى من نفى، وانتهى كل ذلك بأن أعلنت إيطاليا تجنيس طرابلس بالجنسية الطليانية وقذفتها بسيل من المهاجرين الطليان يلتهم الأخضر واليابس.

وقامت ثورات فى بعض جهات من هذا الوطن المتمرد على الظلم والجور كان من أظهرها ثورة الريف المغربي بقيادة الأمير محمد بن عبد الكريم وانتهت كلها بتشديد الضغط على خناق الأحرار والعاملين.

هذا بسط موجز لموقف العالم الإسلامي من نفسه ومن غيره من الأمم التى ظلمته وتدخلت فى شأنه واستبدت بأمره واغتصبت حقوقه إلى الآن.

اختل التوازن الأوربي، وجرت الأحداث سراعا تسابق الدقائق والساعات، وتغير الأفكار والآراء والمواقف والاتجاهات، وانجلت تلك الغمرة عن وجود معسكرين قويين فى أوروبا: معسكر المحور، ويضم ألمانيا وإيطاليا ومن لف لفهما من دويلات أوروبا ومن ورائهما اليابان فى الشرق. ومعسكر الدول الديمقراطية، ويضم إنجلترا وفرنسا ومن تبعهما من دول أوربا ومن ورائها أمريكا فى القارة الجديدة.

وحرب الدعاية والكتابة والتربص والأعصاب -كما يقولون- قائمة على أشدها بين الفريقين، وكل منهما يتودد إلى العالم العربي والإسلامي ويود أن يكسبه إلى جانبه فذلك هو الذي يرجح إحدى الكفتين على الأخرى فى آسيا وإفريقية على الأقل، وإذا رجحت الكفة فى هاتين فقد رجحت فى أوربة كذلك.

إن دول الشرق الإسلامي قضت عليها الحوادث والظروف الماضية والحاضرة أن تتصل بالدول الديمقراطية وأن تكون إلى جانبها وأن يرتبط مستقبلها بمستقبل هذه إلى حد كبير- هذا الوضع -إلى جانب الخصومة القائمة بين المعسكرين فى أوروبا- كان يجب أن يجعل الدول الديمقراطية تسارع إلى اكتساب مودة العرب والمسلمين اكتسابا نهائيا، وأن تسد الطريق على غيرها إلى ذلك الود، وذلك فى وسعها ولا يكلفها عناء ولا عنتا، بل لا يكلفها إلا أن تحق الحق وتعترف به لأهله، وتبطل الباطل وتقاوم الذين يريدونها عليه. فهل فعلت هذا؟

العجب أن الدولتين الديمقراطيتين إنجلترا وفرنسا فعلتا عكسه تماما كأنهما تتحديان بذلك شعور العرب والمسلمين فى كل أنحاء الأرض، فأما فرنسا فقد أساءت إلى سورية أبلغ الإساءة ففصلت عنها الإسكندرونة وقدمتها إلى تركيا رغم الصرخات العالية والاحتجاجات الكثيرة والأغلبية العربية فى هذا اللواء. وتنكرت لسورية مرة أخرى فعدلت عن إبرام المعاهدة واستبدت بالأمر فى داخلية البلاد استبدادا أدى إلى استعفاء الوزارة عدة مرات، وتعذر قيامها بمهمة الحكم، ثم أدى أخيرا إلى استقالة رئيس الجمهورية، وهذا نص استقالته التى رفعها لمجلس النواب السوري:

"إلى رياسة المجلس النيابي السوري الفخيمة":

"منحنى مجلسكم الكريم ثقته وانتخبني فى أول جلسة عقدها لرياسة الجمهورية على أثر عقد المعاهدة وإقامة الصلات بين فرنسا وسوريا على قواعد التحالف والمودة، وذلك لإدراك هذه الأمة الغاية الشريفة التى تسعى إليها من الاستقلال والسيادة القومية. وقد تعاقبت حكومات فى سوريا وأخذت تبذل قصارى جهدها فى سبيل إبرام العهد المقطوع والميثاق المعقود واثقة بأنه ينطوي على الخطة الوحيدة التى تعزز جانب الوطن السوري وترفع من شأنه، كما توثق الروابط بينه وبين الجمهورية الفرنسية حتى يسود علائقهما جو من الصفاء والإخلاص، وحتى تقوى هذه البلاد على مقابلة الأحداث وصد الأطماع. 

غير أن الجهود التى بذلت لم تسفر عن نتيجة برغم الوعود الرسمية الصادرة من رجال الوزارات التى تعاقبت فى فرنسا منذ سنة 1936 إلى الآن، فذهبت ضياعا تلك الآمال التى توجهنا بها إلى سياسة التحالف والتضامن، وشهدنا بالعودة إلى أساليب قديمة وتجارب جديدة تناقض ما تعاهدنا عليه ودخلنا الحكم على أساسه. على أن حوادث الماضي وقرائن الحاضر لا تترك مجالا للشك فى أن هذه الخطط التى يراد اتباعها واستئناف العمل بها تؤدى إلى استمرار المشاكل والخلافات، كما أنها تضعف كيان هذه البلاد وتوهن قواها وتهدد استقلالها.

ولذلك لا أرى بدا من الاستقالة من المنصب الذي عهدت إلى الآن فى القيام به وتحمل أعبائه، راجيا أن يكون فى الأيام المقبلة ما يخفف عنها الآلام والعناء وتحقق ما تصبو إليه من الكرامة والمجد".

وقد عرضت الاستقالة على المجلس فأقرها، ودعا الوزارة إلى الاجتماع فاجتمعت وقررت القيام بأعباء الحكم، ولكن المندوب السامي تحداها فى هذا فأصدر قرارا بتدخل السلطة الفرنسية فورا وتعطيل الدستور ومجلس الوزراء وعين مجلسا يتولى السلطة باسم فرنسا، وهذا نص قراره:

"وقد نشأ عن استقالة مجلس الوزراء ورئيس الجمهورية فى سوريا فقدان تام للسلطة التنفيذية، مما يجعل تدخل الدولة المنتدبة تدخلا فوريا أمرا لابد منه، وفى هذه الحالة ترى الدولة المنتدبة نفسها مضطرة إلى وقف تنفيذ الدستور فيما يتعلق بالسلطتين التنفيذية والتشريعية، والنظر فى نظام مؤقت يمكن من إدارة البلاد إدارة منظمة طبيعية.

بناء على ذلك قرر المفوض السامي أن يعهد فى السلطة التنفيذية – تحت مراقبته – إلى مجلس مؤلف من مديري مختلف المصالح الوطنية برياسة مدير الداخلية، ويؤلف مجلس المديرين بقرار من المندوب السامي ويجوز له أن يتخذ قرارات بتعيين الموظفين الملكيين، ويجوز له بناء على رأى المجلس أن يصدر مراسيم لها مفعول القوانين ولاسيما فى الشئون المتعلقة بالميزانية. وتتخذ المراسيم التشريعية بعد موافقة المندوب السامي التى تجعلها نافذة".

هذا هو موقف فرنسا فى سورية. فأما موقفها فى بقية مستعمراتها الإسلامية فعلى ما كان عليه من عسف وجور ونفى للأحرار وتعذيب للوطنين، وهؤلاء شباب المغرب وعلى رأسهم "محمد عبد الكريم" لا زالوا فى أعماق المنافي والسجون.

وأما إنجلترا فقد أخذت تتلون كالحرباء فى حل قضية فلسطين، وانتهى مجهودها وخداعها بإصدار "الكتاب الأبيض" الذي لم يرض أحدا من الأمم الإسلامية، حتى إن واحدة من الحكومات لم تشأ أن تتورط فى التوسط لدى عرب فلسطين الباسلين لقبوله.

ولم تكتف بهذا، بل أخذت جنودها تهاجم اليمن وتحتل أرضا يمانية بحتة كإقليم "شبوه" وتدعى على لسان محطات الإذاعة فيها أنها ضمن منطقة عدن المحتلة، مما أدى إلى احتجاج جلالة الإمام لدى ملك إنجلترا احتاجا صارخا هذا نصه:

"من ملك اليمن الإمام يحيى إلى صاحب الجلالة الملك الإمبراطور جورج السادس المعظم بلندن: 

بعد تقديم وتأكيد الإخلاص والتعظيمات لذات عظمتكم، أعرض لجلالتكم تأثراتي العظيمة من إذاعات راديو لندن باللسان الرسمي الحكومي وادعائها أن "شبوه" ومناطقها داخلة فى الأراضي العدنية المحتلة مستندة فى ذلك إلى معاهدة سنة1940م.

وقد كنت خاطبت جلالتكم سابقا بشأن "شبوه" ومناطقها كلها وأنه لم يكن لأحد شأن فيها فى أى وقت كان لا من قبل ولا من بعد، وكنت رجوت من عدالة جلالتكم طلب أوراق المخابرة الواقعة بشأنها من عدن للاطلاع على ما حدث من الوقائع بهذا الخصوص بين عدن واليمن، فإن ادعاء عدن بشبوه ومنطقتها مخالف لكل الوقائع وعار عن كل إثبات. فحكومتي مجبورة للاحتجاج ولا يمكن لليمن السكوت عن عمل مغاير للحق ومخالف للصداقة بكل معنى.

ومعلوم لجلالتكم أن "شبوه" ومنطقتها يمانية منذ خلق العالم إلى اليوم، وسيطرة اليمن لم تزل عليها، ولا هى افترقت يوما واحدا عن أمها اليمن، وكل قرار غير شرعي بشأنها نرده بلا شك. ولم تتعهد اليمن لدولة ولا لشخص بأن تسلمه حقوقها وملكها. وهل يمكن -يا صاحب الجلالة- بيع أو إهداء أى أرض أو زراعة ممن لا يصح تصرفه فيها؟ ومن المعلوم أن العثمانيين وغيرهم لم يدخلوا "شبوه" ومنطقتها فلم يتصرفوا بشىء فيها ومنها. وهل من المعقول والمقبول المطالبة بهدية تقدم من مالكها؟ ومن المعلوم أن جدنا الإمام الهادي هو الذي عمر الحصون قبل ألف سنة، وأن سلفنا الإمام أقام فى "شبوه". فنحن متسلسلون فى شبوه، وسكانها متعلقون بحكومتنا مع جملة إخوانهم بنى جابر.

وفى سنة 1914 ابتدأت الحرب العامة وتحاربت إنجلترا مع العثمانيين. ولم يبق للدولة العثمانية وجود فى العالم. وأما تركيا الحاضرة فلم تصل إلى اليمن ولم تعمل لليمن شيئا، فهل يمكن -يا صاحب الجلالة- أن تجيز القوانين الشرعية والمدنية العالمية الاعتداء على بلاده مستقلة واغتصابها؟

وهل يستطيع أى يمنى كان أن يرضى بتسليم أرض أجداده التى حافظوا عليها إلى هذا اليوم بدمائهم وجهودهم؟ فأرجو من عدالتكم، -يا صاحب الجلالة-، أن تنظروا إلى الأمر بعين العدل، ومعلوم جلالتكم أن عرشكم العالي وحكومتكم الجليلة عقدا برضائهما وطلبهما معاهدة الوداد والصداقة مع اليمن.

وتصرح المادة الثالثة من هذه المعاهدة بأنه لا يجوز أن يتبدل أى حال بين عدن وبين اليمن إلا بالاتفاق بين الطرفين ورضائهما وموافقتهما بالطرق الودية، وأن تبقى الحالة التى كانت قائمة فى تاريخ عقد المعاهدة نافذة المفعول فهل -يا صاحب الجلالة- يرضى عدلكم وهل ترضى القوانين الدولية والحقوق السياسية والإنسانية بعد تلك المعاهدة والشروحات المذكورة الودية وبعد مرور ست سنوات من عهدها أن يعتدى على شىء من أرضنا وحقوقنا الطبيعية؟ وهل يمكن موافقتكم على هذه الاعتداءات والتجاوزات؟

وإني بكامل احترامي وتعظيمي لذات جلالتكم المعظمة، وبتمام تقديري لحكومة جلالتكم السنية ولشعبكم المنصف الكريم، أرجو من جلالتكم تحقيق وتدقيق هذه المعاملة وإصدار أوامركم العادلة إلى من يلزم؛ بأن يتفضلوا باحترام حقوقنا وشعبنا بلا جرح قلوب أمتنا وبلا استحقار أصدقائكم اليمنيين الذين هم ثابتون حالا ومستقبلا فى صداقتكم، وبأن لا يكون أى إجحاف بحقوق بلادنا ولا مخاصمة بين الدولتين المتضامنتين المتحابتين المتعاهدتين إن شاء الله.

وتفضلوا -يا صاحب الجلالة- بقبول عواطف حسن نيتي وصداقتي وتقديراتي الخالصة الفائقة. فى 11 جماد الأول 1358- 29 يونيو سنة 1939."

فهل بمثل هذا الاستفزاز تريد الدول الديمقراطية أن تحصل على صداقة المسلمين والعرب؟

إن الموقف الحالي يستدعى من العالم الإسلامي أشد الاهتمام، وإن الفرصة سانحة للمسلمين والعرب لو أرادوا أن ينتهزوا.

وحضرات أصحاب الجلالة ملوك المسلمين -وبخاصة جلالة الملك فاروق والملك عبد العزيز آل سعود وصاحب السمو الملكي الأمير عبد الإله الوصي على عرش العراق وجلالة الإمام يحيى حميد الدين- هم موضوع الرجاء فى إفادة شعوبهم من مثل هذه الحوادث، والله تبارك وتعالى سيسألهم عما استرعاهم وكل راع مسئول عن رعيته.

ومن واجب الحكومات الإسلامية أن تتفق جميعا على خطة حازمة تعلن بها إنجلترا وفرنسا فى اجتماع وفى حزم وإصرار أن تبرم المعاهدة السورية على غرار معاهدة العراق، وأن يكون بين إنجلترا وفلسطين معاهدة تستقل بها الأرض المقدسة وتظل عربية مسلمة، وأن يكفل استقلال الأوطان الإسلامية الحالية ولا يتعدى على أى جزء من أرضها.

وأن يكون بين فرنسا وتونس والمغرب معاهدات سياسية –كذلك- تكفل لهذه الشعوب المسلمة العريقة أن تصل إلى استقلالها وحريتها، فإن وافقت الحكومات الديمقراطية على ذلك فهو الخير لها وللناس، وإن أبت إلا الإصرار على هذا الموقف الظالم فليعمل المسلمون لأنفسهم وحسبهم ما فات.

لقد بدأت العراق والحجاز العمل، وقامت مفاوضات بين الحكومتين الهاشمية والسعودية، أغلب الظن أنها تناولت -فيما تناولته- هذه النواحي الحيوية للممالك الإسلامية، ولكن كل ذلك لا يكفي، فإنا نريد أن يكون الصوت إجماعيا من الحكومات الإسلامية جمعاء أو من معظمها على الأقل، وأن تكون الخطوات واضحة بينة والوسائل صريحة حازمة. وفق الله العرب والمسلمين لما فيه خيرهم وسعادتهم(6).

 

موقف العالم الإسلامي السياسي

انتهت حرب الكلام بين الدول الأوربية المتناحرة وتغيرت الأوضاع الدولية فى أوروبا، فأخفق اتفاق إنجلترا وفرنسا مع روسيا وحل محله ميثاق روسي ألماني، وكانت مفاجأة غير منتظرة وأمر أدهش له العالم؛ أن يتفق الهر هتلر- وهو الذى بنى دعوته الأولى على مكافحة الشيوعية الروسية التى ندد بها ونال منها، ولكن القوم فى أوروبا لا يعرفون إلا المصلحة المادية، وسرعان ما ينسون المبادئ والعقائد والأفكار مهما كانت سامية نبيلة- وتبع ذلك أن تشددت عزيمة ألمانيا فأقدمت على غزو بولونيا واجتياحها بالقوة المسلحة، وردت إنجلترا وفرنسا على ذلك بإعلان الحرب على ألمانيا وسوق الجيوش إلى الميدان الغربي؛ حيث رابطت أمام خط سيجفريد الألماني- وكانت مفاجأة أخرى أن تقدمت روسيا بجيوشها تجتاح القسم المجاور لها من الأرض البولونية، وبذلك تم للجيوش الألمانية والروسية أن تقضى على استقلال بولونيا وتتوزع فيما بينها أرضها وتضطر حكومتها إلى الفرار حيث تألفت فى باريس من جديد، ومهما كان من خلاف بين الروس والألمان على خط الحدود، فإن الأمر الواقع الآن أن بولونيا قد قسمت مرة أخرى بين روسيا وألمانيا، والذى نحب أن نلفت إليه أنظار الشعوب الإسلامية أن بولونيا تضم ستين ألفا من المسلمين غالبيتهم فى أنحاء "فيلنوونوجرديك"، وقد أقاموا فى بولونيا منذ القرن الخامس الميلادي، وكانت الجمهورية البولندية تسمح لهم بإقامة شعائر دينهم بتمام الحرية، فأخلصوا لها كل الإخلاص، وحاربوا فى صفوفها، واشترك عدد كبير من ضباطهم وهم معرفون بالشجاعة والإقدام- شأن المسلم المجاهد- فى الحرب الأخيرة ودافعوا كثيرا عن المدينة المعدودة مركز الإسلام فى بولندا، وفيها يقيم المفتي الحاج الدكتور يعقوب سليمان شينكيفتش. والآن وقد صار هذا القسم تحت حكم البلشفية الروسية، فهل تدع حكومة السوفيات المسلمين فيه يتمتعون بشعائر دينهم وحريتهم كما كانوا فى عهد الحكومة البولونية؟ أم أنهم سيعملون على بلشفتهم، ويحاربونهم فى عقائدهم، ويهدمون ما بقي لهم من مساجد ومعابد كما فعلوا بهم ذلك من قبل حين اقتسمت روسيا وألمانيا بولندا فى أواخر القرن الثامن عشر؟ من واجب الحكومات الإسلامية -وبخاصة الحكومة التركية التى هى على صلة بالروس والتي هى أقرب حكومات المسلمين إلى بولندا- أن تتحرى ذلك، وأن تعمل على حماية هذه الجالية الإسلامية الشديدة المتمسكة بدينها القديم. ولا ندرى هل تصغى حكومة تركيا إلى هذا النداء أم تعتبره شأنا إسلاميا خاصا يتنافى مع ما اختارته لنفسها من أن تكون حكومة "لا دينية"؟

كان اجتياح بولندا سببا فى تخوف دول البلقان وفى تردد تركيا بين المعسكرين المتخاصمين؛ محور موسكو برلين تارة، ومحور فرنسا وإنجلترا تارة أخرى، ووقفت إيطاليا موقف المترقب المنتظر، ولم تحدد مواقفها تحديدا صريحا بعد، وأخذت اليابان ترقب هى الأخرى مجرى الحوادث، وأعلنت أمريكا سخطها على عمل ألمانيا، ولم تعترف بالحالة الواقعة فى بولندا الآن، واعتبرت الحكومة البولونية القائمة فى فرنسا حكومة شرعية واعترفت بها، وارتفعت صيحات بوجوب الصلح ووضع الحسام والاتفاق على ما يريح العالم من عناء الحرب. ولا ندرى ماذا ستلقاه هذه الدعوة من الإصغاء وما سيكون لها من النجاح؟ وإن كان أغلب الظن أن هذه النفوس الظمأى الداوية بالأطماع والأهواء لسوف لا يرويها إلا الدم المتفجر من البشرية الذبيحة.

ذلك هو الموقف الدولي عامة. فما موقف العالم الإسلامي خاصة؟!

لقد قدمنا أن العالم الإسلامي قضت عليه ظروف وأوضاع أن يرتبط بالدول التى تسمى نفسها ديمقراطية؛ وهي إنجلترا وفرنسا ارتباطا وثيقا، وأن تشتبك مصالحه بمصالحها اشتباكا قويا، وقد برهنت الحكومات والشعوب الإسلامية من جانبها أنها وفية لهذه المصالح، مقدرة للموقف تمام التقدير، منزهة عن العبث والكيد الرخيص والاستغلال الذي لا يتفق مع الشرف الدولي والنزاهة النبيلة، وأخذت الحكومات المتعاهدة مع إنجلترا كمصر والعراق تنفذ تعهداتها بكل إخلاص.

ومع هذا كله فإلى الآن لم تقدم الدول الديمقراطية دليلا واحدا على تقديرها لهذا الموقف النبيل من الشعوب الإسلامية، واكتفت بأن تتناولها ببعض كلمات المديح والإطراء فى الخطب والمقالات التى لا تقدم ولا تؤخر. فسوريا الجنوبية (فلسطين) لا تزال قضيتها حيث هى لم يؤثر فيها تصريح المفتي الأكبر بالثناء على فرنسا، ولا كتابه للحاكم البريطاني ولا تصريح المجاهدين أنفسهم بأنهم لن يطعنوا إنجلترا من الخلف ولن يستغلوا اشتغالها بالحرب الأوربية فى الاتفاق مع خصومها أو التقرب إليهم. وكان أقل مقتضيات رد الجميل فى مثل هذا الموقف أن تأمر الحكومة الإنجليزية حالا بالإفراج عن المعتقلين، والتصريح بالعودة للمبعدين، والعفو الشامل عن المسجونين، وإعادة النظر فى سياستها بالنسبة للحقوق العربية الواضحة.

وسوريا الشمالية لا يزال الأمر فيها على ما كان عليه، ولم تظفر إلى الآن من فرنسا حتى بوعد منها أنها ستعود إلى الإنصاف والعدل، بل حوكم كثير من رجالاتها، وحكم عليهم بأحكام قاسية شديدة تقبلوها راضين هادئين.

وسوريا الوسطى (لبنان) تغير فيها نظام الحكم تغيرا تاما ولو إلى حين كما يقول المندوب الفرنسي، وأوقف دستورها وحكمت حكما أجنبيا مباشرا أو ما يقرب منه.

وكان من واجب الدول الديمقراطية أن تنتهز هذه الفرصة فتعدل سياستها مع هذا القطر الشقيق، وبخاصة فرنسا التى شهدت أن أول دم أهدر على أرضها وللدفاع عن حدودها أمام خط "ماجينو" إنما كان دم المسلمين العرب من المغاربة الجزائريين والسينغاليين.

إن شعوب العالم الإسلامي قسمان: قسم تحت سلطان الحكم الأجنبي المباشر، وهذا لا يملك أمر نفسه، ولا يستطيع أن يختط لنفسه طريقا خاصا فهو تحت رحمة الأقدار. ونسأل الله أن يتداركه بلطفه ورحمته.

وقسم قد تحرر ولو بعض الحرية: فمن واجبه فى هذه الظروف العصيبة -حكومات وشعوبا- أن يكون دائم اليقظة والتنبه للحوادث والمفاجآت، فلا يتورط فى خطوات وخصومات هو فى غنى عنها ولا تعود عليه بشىء، وليلتزم الحدود التى رسمتها له الاتفاقات والمعاهدات، وعليه أن ينتهز هذه الفرصة للإسراع فى إعداد العدة، وتقوية نفسه تقوية تنفعه فى المستقبل، وتحفظ عليه كيانه واستقلاله بعد أن تضع الحرب أوزراها، وعليه كذلك أن يكون مطمئنا هادئا، فإننا إن لم نستفد من هذه الحرب القائمة فلن نخسر فيها أكثر مما يخسر غيرنا. والصلح خير لنا والحرب ليست بضارة بنا. ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾[البقرة: 216](7).

 

موقف العالم الإسلامي السياسي اليوم

عرضنا لهذا الموضوع فى الجزء الخامس من هذا المجلد بعد نشوب هذه الحرب الطاحنة بشهور قلائل، وقد جرت الحوادث مسرعة وتطورت الأمور تطورا عظيما، فقد فاجأت ألمانيا الدول المتحالفة باحتلال الدنمارك، ثم بغزو النرويج وهولندا ولوكسمبرج وبلجيكا والاستيلاء عليها بعد مقاومات لم تستغرق طويلا من الوقت، ثم وجهت بعد ذلك قوتها إلى فرنسا فهزمتها فى أسابيع قليلة واحتلت باريس مع قسم عظيم من الأراضي الفرنسية، واستقرت الحكومة الفرنسية فى "فيشى" بعد سقوط باريس، وعقدت هدنة بين فرنسا وألمانيا تخلت بها فرنسا عن حليفتها إنجلترا تخليا تاما، ومن عجائب القدر أن توقع شروط هذه الهدنة فى نفس غابة "دكانيبان" التى وقعت فيها شروط الهدنة السابقة بين الألمان المنهزمين والحلفاء المنتصرين، وأن يكون ذلك فى عربة القطار ذاتها التى وقعت فيها شروط الهدنة السابقة، ولقد بين المارشال "بيتان" رئيس الحكومة الفرنسية والقائد العام لجيوش فرنسا حينذاك عن أسباب انهيار فرنسا بكلمات قلائل ولكنها عظيمة المرمى حقا، فقال: "لقد دمرت روح اللهو والملذات ما شيدته روح التضحية". ثم خاطب الفرنسيين فقال: "أدعوكم إلى أن تهتموا بأخلاقكم قبل كل شىء". وكذلك يريهم الله آياته فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يبين لهم أنه الحق، وكذلك يصدق قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِى كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾[الأنعام: 123].

وبهذا التحول فى شئون السياسة العالمية سقطت ثلاث دول من دول الاستعمار الكبرى وهي: فرنسا وبلجيكا وهولندا. إن فرنسا تبسط سلطانها على الهند الصينية، وعلى سورية، وعلى المغرب بأقسامه تونس والجزائر ومراكش، وعلى المستعمرات الإفريقية الأخرى ومعظم سكانها من المسلمين، وبانهزامها يكون لهذه الأمم الحق فى تقرير مصيرها، ويكون من واجبها أن تعمل لذلك، ومن واجب العالم الإسلامي كله أن يساعدها على التحرير وعلى أن تنال حقوقها التى طال عليها الأمد. وإن هولندا تحكم أكثر من سبعين مليونا من المسلمين فى أندونسيا وما يجاورها، ومن حق هؤلاء -وقد أصبحت هولندا نفسها محتلة- أن يتحرروا وأن ينالوا حقوقهم، ومن واجبهم أن يعملوا لذلك، ومن واجب العالم الإسلامي أن يعينهم على العمل. ولقد أخذت اليابان تتطلع إلى هذا الأجزاء من الممالك الإسلامية فى آسيا، وأخذت ألمانيا وإيطاليا تمهدان للاستيلاء على ما يمكن الاستيلاء عليه من ذلك فى سورية، وفى المغرب الأقصى، وتطلعت أسبانيا من جانبها إلى اقتطاع ما يمكن اقتطاعه من جسم المغرب الذي اغتصبته فرنسا لتحل محلها فيه. هذه أماني باطلة، وهذا ظلم لابد أن تكون له عاقبته، فعلى هذه الدول أن تفكر فى أساس جديد حقا يصلح لإقامة سلام إنساني ولن يكون هذا إلا بالعدل والإنصاف ومنح الشعوب حريتها واستقلالها ومعاملتها بروح التعاون على خير الإنسانية كلها، ومن واجبنا -نحن المسلمين- أن نعمل لذلك ما استطعنا.

ثم دخلت إيطاليا ميدان القتال وقد قاربت فرنسا الهزيمة، وإيطاليا تجاور مصر قلب العالم الإسلامي فى إفريقية، وبذلك وقع الالتحام بين القوات الإيطالية والإنجليزية على الحدود المصرية، وتوغل الإيطاليون -فعلا- فى أرض مصر حتى وصلوا إلى "سيدي براني" وعسكرت قواتهم هناك، وأخذوا يهددون البلدان والمدن المصرية بالغارات الجوية فى كثير من الأحيان.

وبدا لإيطاليا أن تنذر اليونان باحتلال أرضها، فقاومت اليونان ووقعت الحرب وحمى وطيسها، ونحن نكتب هذه الكلمات، والمعارك على أشدها بين القوات اليونانية والإيطالية فى ميدان كوزينرا بألبانيا وأبيدوس وغيرها، ولا تزال القوات اليونانية صامدة للغزاة صمودا باسلا أخلف ظن إيطاليا التى ما كانت تقدر أنها ستلقى هذه المقاومة على ما يظهر، ولقد شدت إنجلترا ظهر اليونان، وأمدتها ببعض المساعدات من الطائرات والرجال، وانتهزت الفرصة السانحة فأخذت تغير على الأسطول الإيطالي والسواحل الإيطالية وتلحق بها أضرار جمة.

ولقد بدا لألمانيا -من قبل- أن تحدث انقلابا فى رومانيا فتم لها ما أرادت، وخلع الملك "كارول" وتنازل لابنه الملك "ميشيل" عن العرش، [وطبقت النظم والمبادئ النازية فى شئون الحكومة تحت رياسة الجنرال "أنتونسكو" رئيس حزب الحرس الحديدي النازي]، وتولت أمر الجيش الروماني بعثة عسكرية ألمانية، وبذلك انتقل مسرح الحوادث إلى البلقان.

وفى هذه الأثناء وقعت اليابان مع ألمانيا وإيطاليا تحالفا عسكريا كان الرد عليه من جانب إنجلترا فتح طريق بورما الذي تستمد منه الصين حاجتها من الذخائر والأسلحة، ووقعت الانتخابات الأمريكية لرياسة جمهورية الولايات المتحدة ففاز بها الرئيس "روزفلت" للمرة الثالثة، وكان لذلك مغزاه فى تقرير المساعدات الأمريكية لإنجلترا.

هذه هى الصورة الموجزة المجملة للحوادث التى مرت بالناس خلال هذه الفترة، وهي حوادث غيرت وستغير أوضاع الأمم وأنواع الحكومات والدول، وعجيب أو طبيعي أن يكون العالم الإسلامي كله إلى الجمود أقرب منه إلى الحركة والعمل.

فأما أن ذلك عجيب؛ فلأن كل شىء فى الحياة الآن يتغير ويتجدد ويتبدل ويترقب. وأما أنه طبيعي فلأن المسلمين حرموا التفكير، أو بعبارة أدق حرية العمل لأنفسهم زمنا طويلا، ولا زالت القيود الثقيلة التى وضعها الغرب فى أيديهم وأعناقهم شديدة الوطأة ضيقة الحلقات، ولكن واجبهم الملحّ الآن أن يعملوا على تحطيم هذه القيود، وأن يجدوا فيما فيه خيرهم وسعادتهم.

إن مصر والعراق واليمن والحجاز وإيران والأفغان وتركيا وفلسطين وسورية والهند والمغرب وغيرها كلها فى موقف المترقب المنتظر، ولا يدري كثير منها عن موقف الآخر شيئا، ولقد قالوا: إن هناك سعيا جديا لإنشاء وحدة عربية بين العراق والحجاز واليمن ومصر وسورية وفلسطين تعمل على استنقاذ هذه البلاد جميعا وتوحيد خطتها أمام الخطر الداهم الذي يهدد الجميع ولكنا لم نر -بعد- بوادر سعى جدي لهذه الغاية. وقيل: إن هناك تفكيرا فى تكوين وحدة عربية تركية تشمل هذه الدول؛ ومنها تركيا وإيران والأفغان، ويضم إليها بقية البلدان الإسلامية فتعود بذلك الجامعة الإسلامية من جديد، ولم نر كذلك بوادر سعى جدي كذلك.

لعل من الخير للعالم الإسلامي الآن أن يقف وقفته هذه حتى يتبين له وجه العمل المنتج المثمر النافع، ولا غضاضة فى الانتظار ما لم نستبن الطريق، ولكن من واجبه -مع هذا- أن يستعد كل شعب من شعوبه بأسرع وأقوى ما يمكن لمواجهة الأحداث الطارئة، وليست منه ببعيد، ومن واجبه كذلك أن يتواصل ويتحد فقد انقضى عهد الدويلات الصغيرة ولم يبق صالحا للبقاء إلا الإمبراطوريات العظيمة بعدتها وعددها ومبادئها، وحق قول الشاعر العربي القديم: "وإنما العزة للكاثر". ومن واجبه كذلك أن يقدر نعمة الله عليه بنظام الإسلام الحنيف ومناهجه فى إصلاح المجتمع، ومن واجب العالم الإسلامي الآن أن تقدر كل أمة من أممه هذه الحقائق فتهب لتأسيس نهضة جديدة يكون شعارها النظام الإسلامي الاجتماعي فى الداخل، والتحرر من كل سلطان أجنبي فى الخارج، والتعاون التام بين الأمم الإسلامية فى جميع أنحاء الأرض، فإلى أمراء المسلمين وملوكهم وعلمائهم وإلى الشعوب الإسلامية نوجه القول. ﴿للهِ الأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ﴾[الروم: 4](8).

 

ناصح أمين

فى نهاية الحرب الماضية أعلنت الدول المنتصرة أنها ستنصف الشعوب المظلومة، وتعاون الأمم المهضومة على نوال حقها، فى ظل استقلال كامل وحرية صحيحة ومصير تقرره لنفسها بمحض اختيارها ورضاها، وفرح الناس بهذا واستبشروا وانتظروا أن تتحقق الوعود وتصح الأحلام، فإذا بالإنسان هو الإنسان يفئ فى الشدة إلى رشده ويرجع إلى طبيعة الإنصاف فيه، فإذا زالت عنه شدته عادت إليه نزعة الطمع والاستئثار وصدق الله العظيم: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ﴾[الزمر: 8].

ونتج عن هذا الخلف فى الوعود والعبث بحريات الشعوب أن نهضت الأمم العربية والإسلامية تطلب بحقوقها؛ فهبت مصر والعراق والشام وفلسطين والمغرب وتركيا وغيرها تعمل لحريتها وتقدم الضحايا من دماء أبنائها وكريم أموالها، لا تعدل شيئا بحريتها واستقلالها طول هذه الفترة الماضية التى سبقت هذه الحرب العالمية الثانية.

وقد وصل بعض هذه الشعوب إلى بعض حقه، واستمرت الشعوب الأخرى فى نضالها وتضحياتها حتى أذن مؤذن هذه الحرب التى لم تر الإنسانية لها مثلا فى قسوتها وشدة فتكها بالمحاربين والأبرياء على السواء.

وقامت الدول القوية المحاربة تعلن من جديد عزمها الأكيد على تحرير الأمم المستعبدة وتقوية الأمم الضعيفة، وأعلنت أنها إنما تحارب لتحرير الإنسانية ونصرة مبادئ العدالة والإنصاف والحرية.

وجاء ميثاق الأطلنطي مؤكدا لهذه التصريحات وتلته تصريحات زعماء الدول ورؤساء الحكومات تؤكده وتزكيه وتثبته وتنميه.

ليس أحب إلينا -نحن العرب والمسلمين- من أن ننصر مبادئ العدالة والحرية والإنصاف، فإن خلقنا -نحن العرب- منذ وجدنا حرية وعدالة وإنصاف، وديننا -نحن المسلمين- عدالة وحق وإحسان: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ والبغي يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾[النحل: 90] وليس فى الدنيا أوفى من النفس العربية، ولا أكبر وفاء من الشريعة الإسلامية للأصدقاء وللأعداء على السواء: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى﴾[المائدة: 8].

ونرجو ألا تكون هذه الوعود الممنوحة والعهود الموثقة والمواثيق الغليظة عاطفة أملتها ظروف الضيق، بل نتمنى أن تكون حقيقة يقوم عليها سلام الناس، وأكبر الظن أن دروس الحرب الماضية وما أعقبها، ودروس هذه الحرب وما فيها سوف لا تنسى من قريب.

ولهذا نتوجه -نحن الإخوان المسلمين- بالنصح إلى شعوب الأمة العربية والإسلامية بأن تتكاتف وتتحد وتسوى صفوفها فى داخل بلادها فتكون كل أمة يدا واحدة فى سبيل مطالبها الحقة العادلة، وتكون كلها كذلك صفا واحدا وقلبا واحدا فى سبيل هذه المطالب والحقوق، فإن الإيمان هو أول القوى والجماعة بعد ذلك هى سبيل النصر ويد الله مع الجماعة، فلتحدد الأمم العربية والإسلامية أهدافها تحديدا واضحا ولتتجمع داخل حدودها وخارج هذه الحدود لتجاهد مجتمعة موحدة فى سبيل الوصول إلى ما تريد، ولا سبيل إلى النصر إلا الإيمان والوحدة.

تلك نصيحتنا إلى الأمم العربية والإسلامية. ونصيحتنا إلى الدول الديمقراطية -وقد حالفت هذه الدول العربية والإسلامية وصاحبتها فى الهناءة والشدة فلم تر منا إلا كل مناصرة ومعاونة ووفاء- أن تبر معها بوعودها، وأن تعينها صادقة على تحقيق آمالها، وأن تعمل على إزالة العقبات والعراقيل من طريقها، فتكتسب بذلك مودتها وتأييدها كسبا صادقا حقيقيا. والعربي والمسلم إذا أحب أخلص الحب، وإذا وعد صدق الوعد، وإذا عمل بالغ فى الإحسان، ولن تجد الدول الديمقراطية حلفاء صدق وأعوان حق كالأمم العربية والإسلامية إذا لقيت منها المساعدة الصادقة على استكمال استقلالها وتحقيق آمالها.

ولا تكتفى الأمم العربية الإسلامية والعربية بمجرد الوعود الكلامية أو المواثيق المكتوبة ولكنها تريد أدلة عملية، وبين يدي الأمم الديمقراطية الآن عدة قضايا عربية وإسلامية تستطيع أن تبرهن فيها للعرب وللمسلمين على أنها جادة فى إنصافهم، صادقة فى تحقيق ما تعدهم به.

فهذه قضية المغرب الأقصى، وقد خرجت فرنسا من الميدان بين يدي الحلفاء، وقد كان قيام فرنسا فى هذه البلاد بناء على انتداب باطل أو حماية غير حقيقية، فهل تستطيع فرنسا الآن أن تكون وصية على غيرها أو حامية لسواها على فرض أنها كانت تستطيع ذلك من قبل؟! إن العرب والمسلمين ليسوا من القصور أو الضعف أو التأخر بالدرجة التى تجعلهم تحت وصاية غيرهم، والدول الديمقراطية تستطيع الآن ولا حرج عليها أن تعلن أن شمال إفريقية من حدود مصر إلى ساحل المحيط أمم عربية مستقلة لها حريتها ولها كرامتها القومية على أن تترك تفاصيل ذلك لما بعد نهاية هذا الحرب.

وهناك قضية فلسطين وقد أقفل الكتاب الأبيض نفسه باب الهجرة إليها، فالعرب والمسلمون يترقبون بعد هذا ألا تعكر هذه الثقة بينهم وبين الدول الديمقراطية بتصريحات وتصرفات لا خير فيها ولا نتيجة من ورائها، فإن فلسطين عربية مسلمة، وستظل كذلك حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ويأبى الله غير ذلك ويأباه العرب والمسلمون فى كل أقطار الأرض.

لهذا أؤكد أن الإخوان المسلمين صادقين فى نصيحتهم، أمناء فى قولهم حين يتقدمون إلى الأمم الإسلامية والعربية بالحرص الكامل على وحدة الصفوف فيها، ويتقدمون إلى الدول الديمقراطية بوجوب مناصرة آمال العرب والمسلمين مناصرة حقيقية ومساعدتهم على استكمال حريتهم واستقلالهم من لدن خليج فارس إلى ساحل الأطلنطي وفى كل بقعة فيها شعب عربي أو أمة مسلمة، وسيكون هذا الإنصاف الفعلي -ولا شك- أقوى دعائم السلام المنتظر. ولله عاقبة الأمور(9).

 

بمناسبة مؤتمري واشنطن وسان فرنسيسكو

الإسلام شريعة الحضارة الإسلامية

لا شك أن حدث الأحداث فى هذه الفترة من الزمن هو ما يدور فى أمريكا من مفاوضات ومباحثات ودراسات فى هذه المجامع العالمية فى واشنطن تارة وفى سان فرنسيسكو أخرى وما يسبق ذلك من لقاء بين أقطاب الأمم وزعماء العالم.

إن عدة آلاف من زعماء الشعوب والدول قد احتشدت فى هذه البقاع الآن تفكر فى مستقبل الإنسانية وتتلمس سبل السلام والهداية والخير والطمأنينة للناس، ولا شك أن هؤلاء المجتمعين صادقو العزم فى أن يتلمسوا لأممهم سبل الراحة، فأما الدول الكبرى فلما ذاقت من هول الحرب وقسوتها وفظائعها، وأما الدول الأخرى فلما عانت من هول الضغط وشدة القسر ولما يتردد فى صدورها من آمال كابر وأمان عذاب.

وإن من وراء هؤلاء الآلاف من العلماء عين الدنيا كلها، وأذن الدهر، وشعوب العالم جميعا، متلهفة مترقبة آملة متطلعة تنتظر فجر الطمأنينة وبشائر السلم الدائم ونور العدالة والإنصاف المشرق الوضاح.

ولقد كانت بشارة طيبة وفاتحة حسنة أن يعلن المؤتمرون فى واشنطن أنهم يريدون أن تمثل فى تشريع محكمة العدل الدولية كل عناصر الحضارات الإنسانية وأمهات قواعد التشريعات العالمية؛ وفى مقدمتها حضارة الإسلام وشريعته مستقلة صالحة لأن تكون مصدرا من مصادر التشريع والتقنين العالمي. ولقد أحسن مندوبنا فى مصر صنعا إذ كان فى مقدمة مقترحاتهم هذا المقترح، وحين أقول مندوبينا فلست أقصد مندوبي مصر وحدها، ولكن أقصد أولئك الكرام الفضلاء من ممثلي الشعوب العربية والإسلامية الذين أقروا مقترح وفد مصر واتفقوا جميعا على تأييده ومناصرته.

هذه فرصة لنا -نحن العرب ونحن المصريين- لنقول للعالم: هاؤم اقرءوا كتابيه، إننا لسنا -كما كان يظن الناس- همجا ولا متأخرين، ولكنا منذ القديم وقبل أن تتفتح عين أوروبا على النور أو تكتشف أمريكا فى العالم المتمدين المعروف، كنا نتعامل بشريعة سامية المبادئ، عالية المقاصد، خصيبة فسيحة، تماشى العصور والأجيال، وتسد حاجة من شاء من الأمم والشعوب، وهذه فرصة للعالم كله ليسمع هذا الصوت الذى حيل بينه وبينه من قديم، ولينتفع بآثار رحمة الله التى اختصنا بها أولا -نحن الشرقيين- فجعل أرضنا مشرق شمس الوحى ومطلع أنوار الهداية، ومنبت الأنبياء والمرسلين، وموطن الصالحين والقديسين، ومدرسة الكتب السماوية تتلقاها النفوس المؤمنة لتنشرها فى الأرض ولتسعد بها الأشقياء والمحرومين.

هذه فرصة لنا وللعالم نريد أن نقول فيها للناس عامة وللمؤتمرين خاصة بملء أفواهنا: إنكم تنشدون السلام وقد اجتمعتم هنا للناس، وهذه الأمم كلها ترقب على أيديكم الطمأنينة والسلام، ونحن العرب ونحن المسلمين ونحن الشرقيين قد ورثنا السلام فى فلسفاتنا، وفى أدياننا، وفى كتبنا، وفى تاريخنا الطويل العريض الزاهي المشرق؛ حتى صار قطعة من أرواحنا ومعنى من معاني وجودنا وكياننا؛ فقرآننا هدى ورحمة ونور وشفاء يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾[الأنبياء: 107]. وإنجيلنا يعلن فى الناس المسرة وعلى الأرض السلام.

وليس فى الدنيا كلها دين ولا نظام اجتماعي جعل السلام تدريبا عمليا يطبع به أنصاره ومعتنقيه كما جعل ذلك الإسلام فى شريعة الحج وهي شريعة السلام؛ فمنذ يحرم الحاج فقد صار سلاما لنفسه، فلا يقص ظفرا ولا يحلق شعرا، سلاما لغيره من بنى الإنسان، فلا يجادل أحدا ولا يعلن حربا ولا يثأر من خصم حتى لو لقى قاتل أبيه لما أستطع أن يبسط له بالقول لسانا ولا بالأذى يدا: ﴿فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِى الْحَجِّ﴾[البقرة: 197]. 

بل إنه ليكون سلاما لغيره من الحيوان والنبات، فلا يصطاد حيوانا ولا يعلم طائرا ولا يعضد شجرا ولا يقطع نباتا، وهكذا يظل الحاج فى هذا الميدان من السلام حتى يتحلل. فهل فى الدنيا شريعة فرضت على أبنائها السلام كما فرضه على الحاج الإسلام؟

نريد أن نقول للناس فى هذه الفرصة ونصيح فى آذان الدول القوية والشعوب القادرة المحكمة هذه عناوين حياتنا سلام فى سلام فمم تخافون؟ لا تقفوا فى طريق حريتنا، ولا تحولوا بيننا وبين أن نستكمل قوتنا ولا تتهيبوا العدوان فى وحدتنا، بل ساعدونا على ذلك وأعينونا عليه، وسترون من هذه النفوس التى طبعت بالسلام سدا منيعا يقف دون المبادئ الهدامة، والأفكار المدمرة، والثورات المخربة، والمطامع الفاسدة، ويشيع فى الدنيا كلها معنى الطمأنينة الحق والسلام الدائم الصحيح.

نريد أن نقول لهؤلاء المؤتمرين ولغيرهم: إنكم تريدون أن تعلنوا فكرة الإخاء والمساواة وهذه من مواريثنا وذخائر كنوزنا نحن المسلمين، فإنما جاء ديننا ليقضى على نعرة الأجناس والألوان ويعلن المواساة بين بنى الإنسانية: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً واتقوا اللهَ الَّذِى تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء: 1].

نريد أن نقول لهؤلاء المؤتمرين ولغيرهم: إنكم تريدون أن تثبتوا دعائم الديمقراطية الصحيحة وتقروا مبادئها فى الأرض وتعلنوها فى الناس شريعة العصر الجديد وثمرة هذا الجهد الجهيد والكفاح الشديد؛ ولكنا -نحن المسلمين- قد تلقيناها درسا أوليا فى أبجدية ديننا وفى تاريخ أسلافنا، وطبقناها نظاما عمليا على أديم صحرائنا وفى ظل مضاربنا وخيامنا، وسجلها الله حكما عربيا، فى آيات كتابنا كما نظمناها أدبا رائعا فى قصيد شعرائنا.

نريد أن نقول لهؤلاء المؤتمرين ولغيرهم: إنكم اجتمعتم ها هنا لتقروا فكرة العدل لتكون دعامة السلام ومبدأ العقوبة لمن أبى إلا سبيل الإجرام، وهذا بعض ما يحفظه صبياننا فى المكاتب، ويدرسه علماؤنا فى المساجد، ونعلنه فى مجتمعاتنا فى الصباح وفى المساء؛ لأن القرآن يقول فى العدل المقرون بالرحمة: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ﴾[النحل: 90]، وفى العدل فى الحكومة: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾[النساء: 58]، وفى العدل مع الخصوم: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾[المائدة: 8]، وفى العدل ولو على الأقارب والأصدقاء: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوالدين وَالأقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾[النساء: 135].

ثم يقول فى حماية العدل بالقوة حين لا يجدي إلا العقاب: ﴿فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تفئ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[الحجرات: 9].

نريد أن نقول لهؤلاء المؤتمرين ولغيرهم: إنكم اجتمعتم هنا لتقروا هذه المبادئ وأمثالها وأنتم على ذلك مشكورون، ولكنكم لا تملكون فى مجامعكم هذه إلا الرسائل السياسية والأسباب المادية ولا تعتمدون إلا على النصوص القانونية ولكنا نملك مع هذا كله مفاتيح النفوس الإنسانية بتوجيهها نحو الله، وربطها بأسباب السماء، ووصلها بالملأ الأعلى، وإحيائها بهذا الفيض الغامر من روحانية كتبنا وأنوار عقائدنا وإيماننا: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا﴾[الشورى: 52] ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِى بِهِ فِى النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِى الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا﴾[الأنعام: 122] ﴿يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَّشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ﴾[النحل: 2]. نحن لهذا أقدر على الوصول والدوام والخلود، وما أجمل أن تمتزج هذه الوسائل جميعا فيلتقي وازع السلطان بوازع القرآن.

نريد أن نقول كل هذا وأن نؤدي بهذا القول واجبنا نحو أنفسنا وميراثنا وديننا ووطننا ونحو العالم كله، فنحن مطالبون –ولا شك- بأن نضع لبنة فى هذا البناء الإنساني الجديد، والعجيب أن عندنا نحن أفضل اللبنات، بل إننا لنستطيع أن نقيم على دعائم حضارتنا للناس -لو أرادوا- بناء على أمتن القواعد وأحدث النظم والمبتكرات وصدق الله العظيم:

﴿قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ*يَهْدِى بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾[المائدة: 15-16].

فإلى الذين يستطيعون القول ويكون لقولهم أثره وخطره، وإلى الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه نتقدم بهذه الكلمات(10).

 

من الساعات الفاصلة

هناك ساعات فاصلة فى تاريخ الأمم وحياة الشعوب ترسم فيها خطوط المستقبل، ويتحدد فيها الاتجاه إلى عدة أجيال، وقد تكون هذه الساعات لحظات مفاوضات سياسية، أو معركة حربية، أو ثورة اجتماعية، أو رسالة روحية. والمهم أن الأمة فى وجهة هذه اللحظة الفاصلة فى تاريخها صعب عليها بعد ذلك أن تعود وأن تسير فى غير هذه الطريق، ولهذا تتضاعف التبعة على القادة وتعظم فى مثل هذه اللحظات.

والعالم العربي والإسلامي يجتاز هذه الآونة؛ هذه الساعات الفاصلة فى تاريخه، وإن قلوب سبعين مليونا من العرب ومن ورائهم ثلاثمائة مليون من المسلمين لتخفق إشفاقا وتترقب بفارغ الصبر نتائج الاجتماعات التى يعقدها زعماء الأمم ورؤساء الحكومات وقادة الشعوب فى هذه الأيام، سواء أكانت هذه الاجتماعات رسمية أم شعبية، خاصة بين قطر وقطر أو عامة تضم كثيرا من الزعماء. وإني لأتخيل قصر الزعفران فى اجتماع مجلس جامعة الأمم العربية لأول مرة بمناسبة الحوادث الدامية الأسيفة فى سوريا ولبنان، فأرى من حوله بكل وضوح نطاقا من قلوب العرب وآمالهم فى كل مكان، فأشفق على هؤلاء الزعماء وأكبر التبعة التى ألقيت على عاتقهم، وأسأل الله فى خشوع عميق أن يلهمهم الرشد، وأن يحقق فيهم وبهم الآمال، وألا يجعلهم فجيعة لهذه الأمم وفتنة لمن ورائهم من الشعوب.

إن أهداف الأمة العربية واضحة لا غموض فيها ولا تعقيد، وكلها حق وصدق وخير، فلا بغى فيها ولا عدوان.

إن الأمة العربية تريد أن تسترد حقها الطبيعي فى الحرية والاستقلال وتعتقد أن ذلك من خيرها، بل من ضرورات حياتها، فلا يستطيع شعب عربي أن يرضى بحياة الذلة والاستعباد تحت أى اسم أو وصف بعد اليوم، كما تعتقد أن ذلك من خير العالم الأوروبي والأمريكي، فإن قيام جامعة قوية حرة مستقلة من العرب فى الشرق يحفظ التوازن الكامل فى القارتين العظيمتين إفريقيا وآسيا، ويمهد السبيل أفضل تمهيد لعلاقات فاضلة ثابتة تقوم على أساس التعاون والحب والإخاء وتضمن الطمأنينة والسلام.

إن سوريا ولبنان لا ترضيان بغير هذا الاستقلال بديلا: وإن مصر والعراق لا تسكتان عن مطالبهما القومية واستكمال استقلالهما التام: وإن شمال إفريقية من حدود مصر الغربية إلى ساحل المحيط لم تهدأ له ثائرة فى يوم ما، وقد اشتعلت فيه الثورة بعد الثورة وقودها جثت وهام، وسيظل هكذا حتى يصل إلى حقه فى الحرية والاستقلال.

لقد اغتصبت إيطاليا طرابلس وبرقة اغتصابا، وما فتئ أهلها يكافحون هذا الاستعباد الطاغي عشرين عاما، وآثروا الموت والنفي والتشريد والجوع وأقسى الآلام على أن يذلوا أو يستكينوا، فمن حقهم على الحلفاء -وقد وجدوا كل معاونة منهم فى المجهود الحربي- أن يردوا عليهم حقهم، وأن يسلموا بحرية هذه البلاد ووحدتها واستقلالها، وليس موقف ليبيا بأقل من موقف الحبشة وقد ردت عليها إنجلترا الوحدة والحرية والاستقلال.

وتونس ومراكش لم تكونا يوما من الأيام مستعمرين فرنسيين، ولكن فرنسا أقامت فيهما باسم معاهدة وانتداب، وقد انقضت تلك الأيام، وبليت هذه الأفكار، وتجدد العالم، وتمرد التونسيون والمراكشيون، ولا زالوا متمردين على هذه الصداقة الإكراهية، ورغبوا جاهدين فى الحرية والاستقلال. والجزائر المؤمنة المجاهدة الصابرة المحتسبة تقوم فيها الثورة بعد الثورة، وينهض للمطالبة بحقها الشهداء تلو الشهداء لم تقصر ولم تن يوما من الأيام.

هذه الشعوب كلها شعوب إفريقيا الشمالية تنتظر ساعة الخلاص وكلمة الإنصاف، وتستنجد الضمير الإنساني، وتستنجز وعود الحلفاء، وتضيف إلى أعباء مجلس الجامعة العربية عبئا هو أولى باهتمامه من كثير مما بين يديه من الأعمال.

وفلسطين لا تزال عقدتها لم تحل بعد، وليست مشكلة من المشكلات المعقدة إذا خلصت النيات؛ ففلسطين عربية طرأ عليها اليهود، فإما أن يعيشوا فيها كمواطنين طيبين لهم ما لأهل البلاد وعليهم ما عليهم ويتركوا هذه النزعات الفاسدة والأوهام الخرافية، وإما أن يرحلوا عنها، وفى بلاد الله متسع لمن شاء.

تلك أهداف الأمة العربية فى مستقبلها القريب.

وإذا أضيف إلى هذا أن هذه الأمة العربية قد ورثت كتابا هو أجمع الكتب لمناهج الإصلاح، ورسالة هى أفضل الرسائل فى تحقيق الميادين الإنسانية السابقة، وحضارة ترتكز على خير الفرد والمجموع معا والتكافل والتضامن الاجتماعي بين كل الطبقات- ومن واجب الأمة العربية -وهذا الكنز بين يديها وديعة غالية- أن تنتفع بدرره وتستفيد من جواهره. بل إن عليها أن تكشف للناس عن ذخائره وتدلهم على فوائده ودخائله، فما كان هذا الكنز خاصا بأمة دون أمة ولا بشعب دون شعب ولكنه رحمة الله للعالمين.

إذا أضيف هذا المعنى إلى الهدف السابق كان هدفا ثابتا للأمة العربية أن تهتف فى الناس برسالة الإسلام، وأن تضع يد الإنسانية الحائرة على مفتاح هذا الكنز الغالي الثمين؛ لتساهم بقسط موفور فى بناء مستقبل الحضارة الإنسانية على أقوم دعائم الإخاء والسلام.

إن على الأمة العربية فى هذه الساعات الفاصلة أن تستيقظ تماما، وإن على القادة أن يحكموا توجيه عجلة القيادة، فليست القضية قضية اليوم أو الغد ولكنها ذخيرة الآباء والأجداد وميراث الآباء والأجداد.

أما حوادث سوريا ولبنان -بالذات- فلعلى لا أقول قولا غريبا إذا صرحت بأني سررت لها وفرحت حين وقعت وكنت أطالع أنباءها بسرور ولذة، لأننا -نحن المسلمين والعرب- لا نهاب. الموت ولا نرهبه فجاهليتنا كفاح ونضال، وشاعرنا هو الذي يقول:

تسيل على حد الظباة نفوسنا             وليست على غير الظباة تسيل

وإسلامنا يوحى إلينا ويملى علينا: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ*فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[آل عمران: 169-170].

ونحن بهذه الأرواح والدماء قد دفعنا ثمن الحرية والاستقلال فاستحققنا بذلك أن نستولي على البضاعة كاملة غير منقوصة، فحيا الله ذكرى هؤلاء الشهداء وأثابهم على جهادهم أجزل الثواب.

ولقد أدت سوريا ولبنان ما وجب عليهما، وبقي بعد ذلك على الأمة العربية أن تعمل حتى تصل إلى أهدافها وتتحقق مطالبها وآمالها والله مع العاملين(11).

 

الدقائق الغالية

هذه الدقائق -لا أقول الساعات والأيام والشهور- التى يجتازها العالم، دقائق غالية حقا فى تقدير الزمن وفى مستقبل الأمم والشعوب، ولهذا كان لزاما على الزعماء والقادة والمسئولين عن مصائر هذه الأمم أن ينتهزوها وألا يضيعوها، وأن يقدروها حق قدرها، فالفرصة حين تفوت لا تعوض، وتعقب حسرة آكلة وندما لا يجدي.

ومصر قلب الدنيا النابض، ومهد الحضارة الإنسانية الأولى، وملتقى المواصلات الدولية. ومحور الاتصال بين قارات العالم، والمشرفة على البحرين العظيمين الأبيض والأحمر، ووارثة الإسلام الحنيف، والداعية إلى الأخذ به، وزعيمة أممه وشعوبه.. مصر هذه قد ساهمت فى مجهود الحلفاء الحربي مساهمة جليلة عظيمة، قد حولت دفة الحرب ووجهتها صوب النصر. وهي فى هذا كانت مدفوعة بعامل الوفاء الصادق، مستجيبة لنداء العهد الذي أخذته على نفسها، ملبية استصراخ الحرية المستذلة.

إن مصر قد ساهمت ماديا كما ساهمت معنويا فى هذا المجهود الحربي الذي حشد له الحلفاء مواردهم وأوقفوا عليه جهودهم. ساهمت ماديا فقدمت مواصلاتها عونا للحلفاء، وعرضت عليهم الفسيح من أراضيها ليقيموا عليها منشآتهم الحربية، وغير ذلك كثير. وساهمت معنويا، فوقفت إلى جانب الحلفاء فى أحلك ساعات الحرب، وقد اقتحم العدو الحدود وجاوزها، ولكن مصر كانت ثابتة الجنان وفية الفؤاد، ونزلت عن حرية شعبها فقيدتها حرصا على النصر وسعيا إليه، وهى إذ يرتفع صوتها، إنما تريد أن تأخذ مكانها فى هذا العالم الجديد، مكانا لائقا جديرا بصدق عواطفها وإخلاص نياتها، وهى لا تطلب فضلا بل تريد حقا، وإنها إذ تتوجه بهذا إلى حليفتها، توجه النداء عاليا إلى الزعماء والقادة فيها؛ أن هذا هو وقت الحاجة إلى مجهودهم، وتلك هى الآونة التى تتوحد فيها كلمتهم، فإنها فرصة سانحة لتحقيق الأماني القومية التى يجيش بها قلب مصر النابض.

إن مصر تنشد مستقبلا فيه كرامة وقوة، مستقبلا يحقق لها المكانة التى تجعلها جديرة بزعامة الشرق العتيد، خليقة بأن تساهم جاهدة فى إيجاد عالم إنساني قويم.

أيها الزعماء والقادة: إن لكم أمة تريد النهوض الكامل والحياة الماجدة. وإن لكم فى البلاد الشقيقة شعوبا تتطلع إلى أن تؤدوا لها ما عليكم من واجبات نحوها، شعوبا تذود عن حرياتها وتناضل عن حياتها. هذا لبنان وهذه سوريا يعبر الواقع عن حالهما، وتلك فلسطين تدعو الإخوة إلى الإصغاء إليها، وبلاد المغرب تنادى فى صوت مجلجل، فلموا شعثكم، ووحدوا صفوفكم واقصدوا هدفكم بقلب واحد وقوة واحدة، وانسوا أشخاصكم، واعلموا أن هناك شخصا واحدا تفنى فيه ومن أجله أشخاصكم، ذلكم هو الوطن، هو مصر وشقيقاتها، وإنها فرصة غالية إذا أفلتت فلن تعود، وإننا نعتقد أنكم أحرص على انتهازها، وأعقل من أن تتركوها تفوت فلا تعقب إلا حسرة لا تسمن ولا تغنى من جوع(12).

 

كلمتان بعد الهدنة العامة

الآن وقد استجاب الله دعاء الملايين من عباده، وأقر القلوب الواجفة، ورحم النفوس المعذبة، فأعلنت نهاية الحرب الحالية، ورفرفت حمامة السلام وطلع هلال رمضان ومعه الطمأنينة والسلم والأمان، لنا كلمتان:

أما الأولى فللدول الظافرة المنتصرة نحب أن نقول لها: إن للظفر نشوة وإن للنصر سورة قد يخفى معها وجه الحق ويستخف فيها الظافر المنتصر بغيره من الناس، وهكذا الإنسان فى الضراء دائم التضرع والرجاء، فإذا انكشفت الغمة عادت إلى طبيعة النسيان: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِىىَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ﴾[الزمر: 8] ولكن أغلب الظن أن هذا الدرس القاسي العنيف الذى تلقته الإنسانية فى هذه الحرب طوال ست سنوات لا ينسى بمثل هذه السهولة ولا يتبخر من الرؤوس والنفوس بمثل هذه السرعة، والأمل معقود فى استقرار الطمأنينة واستمرار السلام بإدراك الدول الكبرى لهذه الحقيقة، وكثيرا ما ردد زعماؤها قولتهم المشهورة: "لقد كسبنا الحرب وبقى أن نكسب السلم".

وهناك حقائق مسلمة لا تقبل الجدل ولكنها قد يطغى عليها النسيان أو التناسب، نضعها بين يدي الدول الكبرى بهذه المناسبة فيما يتعلق بمصر والبلدان العربية والإسلامية.

(1) هناك يقظة وصحوة، وإدراك عميق ووعى قومي دقيق يجرف هذه الشعوب فى مصر وفى كل بلد عربي وفى كل قطر إسلامي، ويلح عليها إلحاحا عنيفا أن تطالب بحقوقها، وأن تتلمس الحياة العزيزة الكريمة، حياة الحرية والاستقلال والتمتع بالحقوق الطبيعية للإنسان الراقي، ولا يمكن بحال أن تخدع هذه الشعوب عن هذه الحقوق بعد اليوم، فقد تلقى فى طريقها الأشواك والعقبات ولكنها لن تمنعها عن مواصلة السير، وكل تأخير سيفوت على الإنسانية الظامئة للسلام الحقيقي والتعاون الصادق ما نأمله منهما ونرجوه. وقد أدركت الدول الكبرى هذه الحقيقة ولم تستطع أن تتجاهلها أو تتناساها ولكنها تحاول أن ترضى هذه اليقظة ببعض القشور والمظاهر، وتستر الأوضاع البغيضة بالأساليب الحبيبة، ولكن حذار فلن يدوم هذا الوضع طويلا، وثوب الرياء يشف عما تحته، وسيكون أثر رد الفعل حين تنكشف الحقائق وتظهر النيات مرا قاسيا يطيح بالثقة وهي أساس التعاون ودعامة السلام.

(2) وقد أخلص هذا الشرق العربي الإسلامي لقضية الحلفاء فى هذه الحرب إخلاصا منقطع النظير، وعاون فى المجهود الحربي رسميا وعمليا معاونة فعالة كان لها أثرها الجليل فى الوصول إلى النصر. ولقد كان إجماع مصر والبلاد العربية والإسلامية على هذا الموقف، وبذلها كل مجهود فوق الطاقة، وإيثارها مصلحة الدول الحليفة على مصلحتها الخاصة، موضع إعجاب وإكبار وثناء زعماء الأمم المتحدة ورؤساء حكومتها وصحافتها بما لا يدع زيادة لمستزيد، فقد وقف العرب والمسلمون من حدود الهند إلى الدار البيضاء ومن حدود الأستانة إلى جنوب إفريقيا صفا واحدا يرمى عن قوس واحدة ويهدف إلى غرض واحد؛ هو مساعدة الحلفاء على النصر، وأخفقت كل الدعايات والأساليب والإغراءات فى تحويل هذه الشعوب العربية والمسلمة عن هذا الموقف. 

ومن الإجحاف أن ينكر إنسان فضل هذه المساعدات القيمة فى وقت كان لكل مساعدة قدرها ولكل ساعة من الوقت قيمتها. لقد جندت مصر -مثلا- بكل أهلها ومواردها فى خدمة المجهود الحربي، ولقد آثرت بقوتها وملبسها ومساكنها وأرضها ومرافقها ومواصلاتها وراحتها وأمنها وطمأنينتها، فلم تدخر وسعا فى هذا الإيثار، ولم تسمح لنفسها أن تساوم على أساسه فى ساعات العسرة ولا أن تفاتح فى شىء فى غير الوقت المناسب، معتمدة فى ذلك على نبل حلفائها، تاركة هذه الحقوق وديعة مقدسة بين يدي الضمير الإنساني حين تجئ ساعة السلام.

ومثل مصر فى ذلك سودانها وكل بلد عربي وكل بلد مسلم، فالهند وإيران والعراق والأفغان وسورية ولبنان وفلسطين وشرق الأردن ولوبيا وتونس والجزائر ومراكش، كل هذه الأقطار قد جندت تجنيدا كاملا واشتركت اشتراكا فعليا فى أعنف قتال رأته الدنيا إلى الآن.

ومن حق هذه البلاد –إذن- أن تنال نصيبها من العدالة والإنصاف، وأن يعترف لها بحقوقها، وأن تمنح حريتها كاملة واستقلالها غير منقوص.

(3) وهذه البلاد العربية المسلمة لا تريد علوا فى الأرض ولا فسادا، ولا تبغي استطالة على أحد أو عدوانا، ولا تطالب بغير الحقوق الطبيعية التى يعترف بها الجميع ولا يعترض عليها أحد، والتي ملأ زعماء الأمم المتحدة الدنيا صراخا ونداء من أجل إحقاقها وإيصال البشرية إليها. تريد هذه البلاد حرية كاملة فى أرضها، واستقلالا يحرم على غيرها أن يتدخل فى صميم شئونها، ولا يمكن أن يكون هذا الاستقلال حقيقة وتلك الحرية صحيحة إلا إذا جلت الجنود الأجنبية جلاء تاما عن أرض هذه الأوطان، وسلمت مرافقها لأهلها تسليما كاملا، وانكفت يد التدخل فلم تمتد إلى شأن من الشئون كائنا ما كان.

وتريد هذه البلاد أن يعترف لها بحدودها الطبيعية، وألا يزاحمها غيرها فى أرضها الأساسية، فحينما تطلب مصر أن تتوحد مع السودان وأن ترفع عنهما معا سلطة إنجلترا وتدخلها، لا تريد بذلك أن تستعمر قطرا ولا أن تتملك شعبا ولا أن تغنم أرضا، ولكنها تريد أن تحرر نصفها الجنوبي الذي ربطه بها النيل رباطا لا انفصام له، وستتكلف مصر فى سبيل ذلك كثيرا وتضحى بالكثير، فإن السودان -وهو أكبر من مصر مساحة وأكثر مطالب فى شئون الإصلاح عامة- سيكلف مصر كثيرا، ولكن متى كان الأخ يبخل بتعهد أخيه والإنفاق عليه؟ ليس السودان مستعمرة تريدها مصر، ولكنها مصر الجنوبية حين تضم إلى أختها الشمالية، وبتوحد وادي النيل ستتوحد الإدارة والنيابة، وتنشأ المدارس فى السودان كما تنشأ فى مصر تماما، وتتوحد القوانين وتنشأ المحاكم فى السودان كما تنشأ فى مصر، وتعمم الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية فى السودان كما تعمم فى مصر، وتتوحد الجنسية فتتوحد بذلك الحقوق، فيكون السوداني مديرا أو وزيرا أو رئيس حكومة لأنه مصري لحما ودما وجنسا وقانونا، فمصر هبة النيل والسودان كذلك. فهل يقال بعد هذا: إن مصر تريد أن تستغل السودان أو تحول دون استقلاله؟! بل إنه ليس هناك ما يمنع أبدا إذا تم هذا التوحيد أن يغير اسم المملكة المصرية إلى مملكة وادي النيل حتى لا تستأثر مصر بالاسم دون نصفها الجنوبي السوداني.

وحينما تطالب فلسطين -ويؤيدها فى ذلك كل الشعوب العربية- أن تظل أمة عربية وحكومة عربية وأن يدفع عنها شر البلاء النازل بها من مطامع الصهيونية فهي لا تنابز بهذا أحدا خصومة ولا تضيق على أحد السبيل، ولكنها تحتفظ بوجودها الأساسي، ففلسطين عربية ولن تكون غير ذلك: وما يريده اليهود بها قضاء عليها وبلاء على جيرانها، وتمزيق لوحدة أمة لم تعرف يوما من الأيام بأن شيئا استطاع أن يفرق بينها ويحول دون شعورها القوى العميق بوحدتها التى لا نظير لها فى وحدات غيرها من الأمم.

وحينما تطالب لوبيا وتونس والجزائر ومراكش بحقها فهي لا تعنى أكثر من أن تتحرر وتستقل، ويرفع عنها احتلال غاشم فرض نفسه عليها بغير حق طوال هذه السنين.

وهكذا نرى أن هذه البلاد لا تطلب شططا، ولا تعنت أحدا، ولا تبالغ فى مطلب، وتقف عند الحدود الضرورية الأساسية لكل أمة تحب أن تعيش فى كرامة واعتزاز.

وتريد هذه البلاد بعد ذلك أن تترك لها الحرية فى داخل بلادها فى إقامة الحكم فيها على قواعد صالحة من دينها وفضائلها وأخلاقها، وأن يرتكز الإصلاح الاجتماعي فيها على هذه الدعائم الروحية التى ورثتها من أديانها وفلسفاتها وروحانياتها؛ لأنها لا يمكن أن تعيش إلا كذلك، وهي مهد الأديان والفلسفات والشرائع؛ ولأنها أو لأن بعضها جرب غير هذه السبيل فلم يستفد إلا الضرر والفساد، لأنه جرى على غير طبعه وبنى على غير تصميمه؛ ولأن من خير الإنسانية كلها أن تعود إلى هدى السماء بعد أن أفلست تعاليم الأرض.. وعلى الدول الكبرى أن تحسن الظن بهذا الاتجاه، فليس هو من التعصب الممقوت ولا هو من الجمود الذميم، وقد قضت الحوادث والأيام على هذه الأوهام ومكنها روح السلام الحقيقي وحنين الإنسان إلى أسمى ما أودع فيه من معان، ولفتة كريمة يوجه الله بها عباده إلى ما فيه الخير لهم فى الدنيا والآخرة: ﴿قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِى بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾[المائدة: 15-16].

أليس من العدل والإنصاف أن تجيب الدول الكبرى هذه الشعوب إلى ما تريد؟

(4) وإن الشعوب العربية والإسلامية لتدرك تمام الإدراك أن من المستحيل الآن على أمة من الأمم أن تعيش فى معزل عن العالم، أو بمنجاة من تيارات الحوادث العامة التى صارت تتعرض لها الأمم على السواء، ولو كانت العزلة تصح لأحد لصحت من قبل لأمريكا التى أخلدت إليها حينا من الدهر، ثم غرقت بعد ذلك فى الشئون العالمية إلى الأذقان. إن الشعوب العربية والإسلامية لتدرك هذا المعنى تمام الإدراك، وهي لهذا مستعدة تمام الاستعداد للتعاون مع غيرها، بل إنها لتذهب فى هذا التعاون إلى أبعد حدوده، وليس ذلك بغريب على هذا الشعوب، بل هو مستقر فى أعماق نفوسها، وفى ثنايا تاريخها، وفى توجيهات شرائعها وأديانها وفلسفتها، ولكنها تريده تعاونا يعترف بوجودها، ويحفظ حقوقها، ولا تنال معه عزتها وكرامتها، ولا تستلب فيه خيراتها بدون فائدة تعود عليها من غيرها.

(5) ولا محل مطلقا للخوف من تقوية هذه الشعوب وإنهاضها بعد تطور العلائق الإنسانية بين الناس هذا التطور، وتنظيمها، وتنسيقها بالمعاهدات والمؤتمرات، وتدعيمها بنظم التربية والتعليم، والتنشئة المركزة على حب الخير والسلام. ثم هناك بعد ذلك القوة العالمية التى نيط بها حفظ الأمن والسلام، تردع المعتدين بالجزاء الرادع، وتأخذ بتلابيبهم بالعقاب الزاجر، على أن ماضي هذه الشعوب وطبيعة تكوينها النفساني خير ضمان يكفل ابتعادها عن العدوان.

فإذا كانت هذه الحقائق الخمس مسلمة من الدول الكبرى، فهل ترى أن هناك شيئا يصح أن يكون عقبة فى طريق إنصاف هذه الدول العربية الإسلامية وإراحة بالها بتقرير حقوقها وتدعيم حريتها واستقلالها.؟!

وأما الكلمة الثانية فلحكومات والشعوب العربية والإسلامية. وهذه نحب أن نقول لها: إن الفرصة الآن سانحة للكلام وللعمل وللمطالبة ولتحقيق الآمال والأماني التى طال عليها الأمد، وإن هذا الوقت هو أنسب الأوقات لذلك، بل لعله لا وقت سواه الآن، فإن أفلتت هذه الفرصة فالله وحده هو الذي يعلم متى تعود، ولهذا يجب عليها أن تبذل كل مجهود، وأن تعمل كل ما فى وسعها لتصل إلى ما تريد، وإنما يتأتى لها ذلك بأمرين:

بالوحدة. الوحدة الكاملة التى تجمع كلمة الأمة فتكون صفا كالبنيان المرصوص، وتؤلف بينها وبين حكومتها فى العاطفة والرأي والعمل، فتحسن الحكومة التوجيه وتحسن الأمة الطاعة والتنفيذ، ويتعاون الجميع بقلب رجل واحد على تحقيق المقصود، وبغير هذه الوحدة يكون الأمل فى النجاح ضعيفا أو معدوما، وقد تخسر الأمة من حيث تريد الكسب. والغريب أن هذا الشعور إجماعي مستفيض وأن عناصر السلامة فى الشعوب لا زالت كثيرة متأصلة، وإنما يكون الضعف فى القيادة دائما وإلى الله المشتكى: فعلى الصف الأول أن يسوى نفسه، وأن يجيد الاستماع لهذا الإنذار الذي لن يطول به وقت حتى يتحقق "اعتدلوا أو اعتزلوا".

فالوحدة هى الأساس الأول. والجهاد هو الأساس الثاني. فإلى الجهاد أيها المظلومون فقد جاءت ساعتكم وبدأ دوركم، ولست أقصد جهاد السلاح فقد ملته الدنيا وكرهت اسمه ومجت مدلوله ومعناه، ولكن الجهاد بالحق ﴿وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾[الفرقان:52].

حددوا مطالبكم وأهدافكم ثم أصموا الآذان نداءا وصراخا بها، وأعلنوها على الملأ، وأظهروا للناس تمسككم بها بكل سبيل، اخطبوا، واكتبوا، وجهزوا الوفود والبعثات فى الداخل والخارج لتظهر حقكم ولتدل الناس على مبلغ الإجحاف بكم، اتخذوا كل سبيل حتى تشعر الدنيا كلها بما تريدون، وستجدون فى الناس منصفين ينضمون إليكم ويشدون أزركم ويدافعون عن قضيتكم، وإذا كان زعماء الدول قد فجعوا الدنيا فى الحرب الماضية بما نسوا من تعهداتهم وأخلفوا من وعودهم، فأكبر الظن أن الضمير الإنساني اليوم أصفى نفسا وأدق حسا وأحكم تقديرا منه إذ ذاك، وبين أيدينا قوة الإيمان بحقنا، وقوة الثبات والدأب على المطالبة به والعمل له، وقوة الاجتماع على هذا الحق، وقوة الله العلى الكبير الذى ينصر المظلومين ويدافع عن الذين آمنوا ومتى اجتمعت لنا هذه القوى فلن نغلب أبدا، وإن واجهتنا القنابل الذرية! فهل نجتمع؟ ذلك ما نهيب بشعوبنا أن تصل إليه والله غالب على أمره(13).

 

حقوقنا

نحن المصريون والعرب والمسلمون لنا حقوق ثابتة لا جدال فيها ولا مراء، وهذا أوان معرفتها والمطالبة بها والحصول عليها.

نحن لا نريد صدقة من أحد، ولا نستجدى الناس شيئا، ولا نريد أن نتعدى على فرد أو شعب صغير أو كبير، فليس العدوان من شيمتنا، ولكنا نريد حقوقنا الطبيعية المشروعة التى ملأت الدول الثلاث الكبرى بريطانيا وأمريكا وروسيا أقطار الدنيا إعلانا لها ونداء بها، وقالت ألف مرة فى صراحة ووضوح: إنها تفنى رجالها وتنفق أموالها وتحارب فى سبيلها.

من حقنا "الحرية"، الحرية الكاملة فى ديارنا وأقطارنا، فنحن بحمد الله شعوب كاملة ناضجة، ليست فى حاجة إلى حماية، أو وصاية، أو انتداب، أو توجيه، أو إرشاد من غيرنا، وإن كنا نؤمن بحاجة العالم كله إلى التعاون والتساند والتكاتف لتصل الإنسانية إلى ما تريد من طمأنينة ورقى وسلام، ولتعوض ما فقدته من أخلاقها ومواريثها ومدنيتها فى هذه الحرب الضروس. 

إن بلادنا وأوطاننا مهد الحريات، ومشرق النبوات ومنبع الفلسفات، وباعثة النهضات والحضارات، وأستاذ الدنيا كلها يوم كان أهل الأرض من غيرنا لا زالوا همجا رعاعا يعيشون عيشتهم البدائية فى الأدغال والغابات، ولسنا فى حاجة إلى أن نقيم الدليل على ذلك، فإن التاريخ كله يشهد لنا بعراقة الأصول، وطهارة النفوس، وزكاء الفروع، ويسجل ما أسدينا للدنيا من خدمات، ولا ينكر علينا ذلك إلا جاحد أو مكابر. ونحن فى حاضرنا نتوثب لاستعادة ماضينا، ونتطلع إلى أفضل منه فى مستقبلنا، ونريد أن نساهم فى بناء الحضارة الإنسانية مع الأحرار العاملين.

لهذا كان من حقنا أن نعيش أحرارا فى ديارنا، نتصرف فى شئوننا كما نشاء وكما يتفق مع مصلحتنا ومصلحة الإنسانية التى نؤمن بحقها علينا وعلى كل إنسان. ومظاهر حريتنا معروفة: أن يرحل عن أرضنا كل جندي أجنبي، وأن تمتنع الدول كائنة ما كانت عن التدخل فى شئوننا، فنحن نعرف ما يجب أن نأخذ وما يجب أن ندع، وبقاء الجنود الأجانب فى أرضنا وتدخل الدول بأي شكل فى شئوننا يقضى على حريتنا، ويجعل استقلالنا استقلالا نظريا لا يعدو أن يكون حبرا على ورق علينا تبعاته ومغارمه ولغيرنا ثمراته ومغانمه، ولا يرضى هذا لنفسه شعب كريم. وماذا تجنى الدول الكبرى من احتلال الأمم والشعوب ببضعة آلاف من الجنود؟

إن أريد بذلك الدفاع عن المصالح كما يقولون، فقد أصبحنا فى عصر لا تقوم الحرب فيه على الآلاف ولا المئات، ولكنها حين تقوم سينفر لها كل من فى الأرض جميعا، وتقوم معها قيامة الناس من هذه المدمرات المهلكات. وإن أريد المعنى الرمزي إلى الاحتلال والاستذلال، فقد أصبح هذا المعنى باليا عتيقا رجعيا، لا يساير تطور الزمن، ولا منطق الحوادث، ولا ما تصبو إليه الإنسانية من تعاون صحيح بدافع الشعور والإيمان بالحاجة إلى هذا التعاون. وإذا أريد التخويف، فالشعب الناهض حين ينهض يعتقد أن أقل ما ينتظره الموت فى سبيل غايته، فهو لا يخاف ولا يخشى، وقد نهضنا والحمد لله فلم نعد نخاف.

ثم ما قيمة هذا التدخل السافر أو المقنع فى شئون الدول؟ أليس خيرا منه فى عرف الناس الآن لمصلحتهم تبادل المنافع والمصالح فى صدق وإخلاص ووضوح؟ هذا حقنا الأول لا نعدل به شيئا وسوف نعمل له حتى نصل إليه. وما ضاع حق وراءه مطالب.

حقنا الثاني: "الوحدة". فنحن فى عرف التاريخ، وفى تقسيم الكرة الأرضية، وفى جغرافيا الزمن، وفى منطق الحوادث الاجتماعية والمظاهر الحيوية أمة واحدة، وحدتها الأوضاع والحوادث واللغة والعقائد والدين والمصالح والآلام والآمال، فلن يفصلها شىء، من الذي يستطيع أن يفصل السودان عن مصر وهما قطر واحد؟ ومن الذي يستطيع أن يفرق بين مصر وسوريا (بأقسامها الأربع) والعراق شرقا وبين مصر وليبيا وتونس والجزائر ومراكش غربا؟ بل من الذي يستطيع أن يفصلها عن إيران وأفغان وتركيا؟ أو عن القلوب المسلمة المؤمنة فى جميع أنحاء الأرض، وقد وحد بيننا وبينها الإسلام، وسجل ذلك فى الأرض وفى السماء ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾[الحجرات: 10]. ومحاولة هذا الفصل محاولة فاشلة، ولئن تأخرت الوحدة المنشودة اليوم فستحقق غدا ولا شك؛ لأن الدنيا تصير إلى هذا، ولا قيام للباطل إلا فى غفلة الحق، وقد صحا الحق وأهله، فليزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا.

وحقنا الثالث: "الإسلام". فنحن أمة مسلمة ورثت هذا الدين منذ أربعة عشر قرنا من الزمان فألفته وألفها، وآمنت به ورفعها، وارتضته لدنياها وآخرتها، وجاهدت فى سبيله بدمها وأرواحها وأبنائها وأموالها، واستنقذته مرات من يد الصليبيين تارة، ومن يد التتار البرابرة تارة أخرى، ومن يد الدسائس والمكايد مرات، وقامت فيها معاقله عالية البنيان شامخة الذرى.

ثم هو بعد ذلك كله أرقى نظام اجتماعي عرفته الدنيا، فقد أخذ خير ما فى الديمقراطية من حرية وشورى واعتداد بالفرد وإعلاء لقيمته، كما أخذ خير ما فى الاشتراكية من تقريب بين الطبقات ومساواة بين الناس وتقرير لسلطة الدولة على المصالح العامة، وصاغ ذلك كله صياغة حكيمة، ووصل به إلى أعماق القلوب فقرره فى النفوس شعورا ووجدانا وعقيدة وإيمانا، كما وصل به إلى حياة الناس العملية، فجعله عبادة لله ومحبة للخلق، ومظاهر للحياة اليومية تثبت هذه المعاني العالية فى النفوس، وتقضى على كل ما يخالفها من الشبهات والأوهام والشكوك وليس وراء ذلك مطمح للمصلحين، ومن هنا بنى الإسلام الأمة النموذجية التى استحقت أن توصف بأنها خير أمة أخرجت للناس!

ذلك هو ديننا الذي آمنا به نظاما اجتماعيا لحياتنا، وصلة بيننا وبين الله تارة وبيننا وبين الدنيا تارة أخرى، ولهذا الدين شعائره العملية ورأيه الواضح فى كل الشئون الحيوية فى الحكم، وفى القضاء، وفى التعليم، وفى البيوت، وفى الشوارع، وفى الفنون، وفى الحياة كلها، ونحن نريد أن نعيش كما يأمر هذا الدين.

هذا الدين لا يفرق وحدتنا، ولا يفصم عروتنا، ولا يشق جماعتنا، فهو بغير المؤمنين به أبر وأعدل وأرحم من أن يظلمهم مثقال ذرة، وهو الذي يعلن مساواتهم التامة بأبنائه متى جمعتهم ذمة التعاون على خير الأمة فيقول "لهم مالنا وعليهم ما علينا". هذا حقنا الثالث سنجاهد حتى نصل إليه وعلى الأمم غير المسلمة ألا تتوجس خيفة من هذه الدعوة إليه فنحن يوم نكون مسلمين حقا شعوبا ودولا سنكون أقوى لبنة فى بناء الإنسانية الجديدة. وسيعلمون.

لقد أعلنت الدول الكبرى بريطانيا وروسيا وأمريكا أنها تحارب فى سبيل حرية الشعوب فى دينها وحكمها ومظاهر حياتها، ولقد وقف المصريون والعرب والمسلمون مع دول الحلفاء فى هذه الحرب وقفة عجيبة وساعدوها فى كل شىء، وساهموا فى المجهود الحربي ماديا وأدبيا وعمليا وروحيا وماليا، وكان لهذا الموقف أثره فى النصر. والروح العالمية الجديدة لا تقبل بعد اليوم المناورات والمساومات ولا تنتظر اللف والدوران، ولكنها تريد العمل السريع الواضح الحاسم، ومن خير الدول الكبرى أن تنصف غيرها لتكسب قلوبها وجهودها.

فإذا أدركت الدول الكبرى هذه الحقائق وآمنت بها وساعدتنا على أن ننال حقوقنا الثلاثة "الحرية" "والوحدة" "والإسلام" فشكرا لها وسنظل ليدها هذه أوفياء. وإن أبت علينا ذلك فسنعرف كيف ننصف أنفسنا إن لم ينصفنا الناس، وسنعرف كيف نصل إلى حقنا وسنصل بإذن الله.

لسنا مغرورين ولا مخدوعين، ونحن نعرف أننا عزل من السلاح ومن مظاهر القوة المادية، ونحن نشعر أقوى الشعور بما فى أيدينا وأعناقنا وأرجلنا من السلاسل والأغلال، ولكنا مع ذلك سننتصر لأننا مؤمنون، ولأننا اعتزمنا العمل والجهاد بصدق وإخلاص وإرادة لا خيلاء معها ولا رياء، ولأن إرادة الله أن يمن على المستضعفين فى الأرض ويجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين.

سننتصر بأهون الوسائل، وستعرف الدول الكبرى منا ما لم تكن تعرف، ستبعث فضائلنا العليا من جديد، وستظهر روحنا العاصفة الجارفة الجبارة التى سترها حسن الظن وفسحة الأمل حينا من الدهر، وسيردد الهاتف فى الدنيا من جديد:

﴿وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرونَ﴾[القصص: 6].

﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ﴾[ص: 88].

﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ﴾[غافر: 55](14).

 

إلى مؤتمر وزراء الخارجية

فى هذا الوقت الذي تقررون فيه مصير الشعوب، نتشرف بأن نعلن إليكم -باسم الإخوان المسلمين فى مصر وفى العالم العربي والإسلامي عامة- أن الأمم العربية والإسلامية فى جميع أنحاء العالم تأمل ألا تهضم حقوقها الثابتة فى الحرية والاستقلال التى ضمنها ميثاق الأطلنطي ودعمها اشتراكها فى المجهود الحربي مع الأمم المتحدة، حتى تتوطد دعائم السلم على أساس العدالة والأخوة الإنسانية(15).

 

لا تظلموا الفرصة السانحة

حضرات السادة المحترمين... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

لا تدعنا هذه الظروف الملحة لنتكلم طويلا، ولكنها تطالبنا –ولا شك- بعمل حاسم حازم سريع متواصل، وهي ساعة مباركة وفرصة طيبة أتاحتها لنا جبهة الدفاع عن أفريقيا الشمالية لنصارح قادة الأمة العربية وزعماءها بما يخالج النفوس ويعتلج فى الصدور.

أيها السادة الفضلاء الأعزة:

نحن لا نخشى عليكم الضعف فأنتم بحمد الله فى قوة من إيمانكم، ولا نخشى عليكم الغفلة فأنتم فى يقظة من عظيم عزتكم، ولكن نخشى – وأنتم تلائمون بين تبعاتكم الرسمية ومشاعركم الوطنية- أن تظلموا خصومكم فتقدروا قوتهم فوق قدرها فترهبوها، وأن تظلموا الفرصة السانحة وهي أغلى من الذهب والماس فلا تنتهزوها، وأن تظلموا شعوبكم التى نضج فيها الوعي واكتملت فيها الحماسة والاستعداد فلا تعتزوا بها.

فاعلموا أيها السادة أن خصومكم لن يكونوا أضعف مما هم عليه اليوم وهم فى أعقاب حرب طاحنة لم تبق لهم ولم تذر، وأن شعوبكم تغلى مراجل صدورها بلهيب من الحماسة واليقظة والعزم لن يهدأ حتى يصل إلى غايته، وأن الفرصة السانحة لا تعوض فاذكروا قول الله العلى الكبير: ﴿ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وعلى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ﴾[المائدة: 3]. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(16).

 

حول قضايا العالم الإسلامي

خواطر مهداة إلى الأمة البريطانية عامة

وإلى المستر تشرشل ووزراء الدومنيون خاصة

هناك حقائق قائمة حول قضايا العالم الإسلامي لا ينكرها الآن إلا غافل أو مكابر، ومن الخير أن يواجه الناس الحقائق بشجاعة وأن يسرعوا فى الانتفاع بما وراءها من خير ودفع ما تنذر به من سوء، وما أحوج قادة العالم إلى سرعة الإدراك وإلى الشجاعة الكاملة فى هذه الأوقات العصيبة التى تجتاز البشرية فيها مرحلة انتقال من أدق مراحل تاريخها.

من هذه الحقائق أن العالم الإسلامي عربيا وغير عربي، بدأ يحدد أهدافه وبدأت حقوقه السياسية تبرز واضحة مجسمة أمام ناظريه بعد أن غفل عنها طويلا بفعل الحكومات الجائرة أو الأمم الأجنبية المستعمرة، فكل مسلم على ظهر الأرض الآن يعلم تماما هذه القضايا ويحس بأحقيتها إحساسا عميقا لا نزاع فيه. يدرك كل مسلم الآن:

1-     أن أندونسيا يجب أن تكون دولة إسلامية حرة تتكون من سبعين مليونا من المسلمين.

2-     وأن المسلمين فى الهند يجب أن يمنحوا حريتهم وأن يسلم لهم بوجهة نظرهم فى "الباكستان" حتى تقوم فى الهند دولة إسلامية حرة كذلك قوامها مائة مليون مسلم.

3-     وأن إيران المسلمة يجب ألا يهدد استقلالها وألا تكون مسرحا للدسائس والفتن وأن تجلو عنها كل القوات الأجنبية.

4-     وأن فلسطين المقدسة من صميم الوطن العربي والإسلامي، وهي عند العرب والمسلمين أولى القبلتين وثالثة الحرمين. وفكرة قيام الوطن القومي اليهودي أو الدولة الصهيونية فيها هوس سيأسى، لا يمكن أن يكون من ورائه إلا الفتنة التى لا يعلم مداها إلا الله، ولن يكون هناك وحدة عربية ولا استقلال حقيقي لشعوب الجزيرة المباركة، إلا إذا اطمأنت على أن فلسطين باقية بيد العرب.

5-     وإن وادي النيل دولة واحدة لا يمكن أن تكون إلا حرة مستقلة موحدة، ولا يمكن أن يقبل شعبه إلا هذا الوضع.

6-     وإن الشمال الإفريقي كله ليبيا بأكملها وتونس والجزائر ومراكش، قد أعجزت المستعمر عن أن ينال منها شيئا بالرغبة أو بالرهبة، وظلت وستظل عربية مسلمة تناضل وتجاهد فى سبيل الحرية والاستقلال، وستظل كذلك حتى تصل وهي واصلة بإذن الله.

دعك من شعور كل مسلم إلى جانب هذا كله بالرابطة القوية التى تربطه بالأقليات الإسلامية الأخرى أينما وجدت، فى آسيا، فى الصين واليابان والفلبين والجمهوريات السوفياتية الأسيوية، وفى أوروبا فى البلقان وإسبانيا وفنلندا وبولندا والقوقاز... إلخ، وفى إفريقيا فى الحبشة ونيجيريا والصومال... إلخ. ومن عطفه الأكيد على هذه الأقليات وتمنياته الطيبة لها ودعائه فى صلواته ومناجاته لربه أن يخلصها من الظلم، وأن ينقذها من الجور، وأن يهب لها الطمأنينة والخير والسلام.

ومن هذه الحقائق أن هذا الشعور فى كل هذه الشعوب التى تبلغ أربعمائة مليون من البشر قد أصبح من القوة ومن الانتشار ومن الحيوية بحيث لا يمكن بحال من الأحوال أن يكبت أو يقتل أو يموت، فهو يستمد قوته من اليقظة الشاملة التى غذتها الصيحات المدوية العالية بمبادئ الحرية والعدل خلال حربين عظيمتين غيرتا وجه العالم وأثرتا فى نفوس أبنائه أعمق الأثر، كما يستمد من التضحيات العظيمة الكثيرة التى بذلتها هذه الشعوب نفسها خلال هاتين الحربين كذلك من نفوس وأموال وثمرات وجهود وضيق مادى وأدبى، كما يستمد ذلك من إدراك هذه الأمم والشعوب لعراقتها فى تاريخ الإنسانية، وما أسدت من حضارات وفلسفات، وحملت من مشاعل وأضواء، وأشرفت به على الدنيا من رسالات ونبوات، فهي مهد نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم، وهى مشرق الفلسفة الصينية والهندية والحضارة الفارسية والآثار الآشورية والبابلية والحمورابية والفينيقية والمدنية المصرية، وهى بعد ذلك كله وارثة مجد الأمويين والعباسيين والغزنويين والأتراك العثمانيين. سلسلة من الأمجاد والمفاخر لم يتحل جيد التاريخ بمثل قلادتها الزاهية بالدر والجوهر من مآثر سلف هذه الأمم وأخلافهم. كما يستمد ذلك أخيرا من الخلق العربي القويم، ومن الإسلام الحنيف العظيم الذي جاء بالحرية الكاملة للأفراد والشعوب جميعا، وغرس معاني العزة فى نفوس المؤمنين به والمنقادين له. ﴿وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾[المنافقون: 8]، وحرم على الناس تحريما قاطعا أن يستعبد بعضهم بعضا وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا، ومنعهم منعا باتا أن يتخذ بعضها بعضا أربابا من دون الله ولكن أخوة وتعاون: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾﴾[الحجرات:13].

ومن هذه الحقائق أن هذه الأمم والشعوب أمم ذات وفاء وصدق إذا قالت وفت، وإذا تعهدت أنفذت، ولا يمكن إلا أن تكون هكذا؛ لأن الأمم التى أنجبت السموءل وعرفت حاجب بن زرارة، وكان من بينهما صاحب النعمان، والأمم التى تقرأ فى كتابها دائما: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَد جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾[النحل: 91]، وتقرأ: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً﴾[الإسراء: 34] حتى فى عهد المشركين ﴿إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾[التوبة: 4]، وتقرأ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾[التوبة: 119]، وتعلم أن الكذب قرين الكفر فى قول الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِى الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾[النحل: 105] وتعلم أنه مقرون باللعنة والطرد ﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾[آل عمران: 91].

هذه الأمم لا يمكن أن تكون إلا مضرب المثل فى الصدق والوفاء، ولقد كانت كذلك، فقد وفت وصدقت مع الأوربيين مرتين فى أقل من نصف قرن فى الحرب الأولى وفى الحرب الثانية، ولعلها لم تؤت إلا من هذا الجانب، وهي على ذلك ليست نادمة، فحسبها أن بقيت لها صفة الشرف ومنقبة النبل والوفاء.

ومن هذه الحقائق أن إنجلترا اليوم غير إنجلترا بالأمس، بريطانيا فى هذه الأيام، ليست بريطانيا دزرائيلى وغلادستون وسل رودس، فقد تطورت الأفكار والأوضاع وشب عمرو عن الطوق، وظهر فى عالم المنافسة خصوم أقوياء أشداء وخرجت أمريكا من صومعتها لتأخذ بنصيبها من خيرات العالم، وبرزت روسيا على المسرح العالمي الدولي ترتل أنغام الشيوعية والمساواة والحرية والإنصاف إلى آخر هذا القصص الطويل العريض، وحملت بريطانيا أعباء حربين طاحنتين كانت فيهما على شفا الانهيار لولا قضاء تحقق وقدر مضى وكلمة سبقت، والأمور بيد الله. فبريطانيا اليوم غير بريطانيا بالأمس وقد أدرك كثير من ساستها وفلاسفتها هذه الأوضاع، بل لعل شعبها نفسه قد أدرك هذا الوضع وعبر عن هذا الإدراك بانتصاره لتعاليم العمال فى الوقت الذي قاده المحافظون إلى النصر.

وقد بدا ذلك واضحا كذلك فى كثير من التصريحات والخطب التى يلقيها الساسة فى مجلس العموم ومجلس اللوردات. 

ومن هذه الحقائق أخيرا أن هذه الظروف والملابسات خلال الفترات الطويلة من تاريخ الأمم العربية والإسلامية الحديث التى قضت عليها أن تتعامل مع إنجلترا صديقة وحليفة أحيانا، ومحاربة وشريكة فى السلاح أحيانا أخرى، ومخاصمة مناضلة فى سبيل حريتها مرة ثالثة. هذه الظروف نفسها قربت بين هذه الشعوب وبين الأمة البريطانية ومجموعة أمم المملكة المتحدة تقريبا حقيقيا.

ولولا هذه الأغاليط الفظيعة التى يقع فيه الساسة الإنجليز من حين إلى حين، كغلطة لجنة التحقيق الفلسطينية، وغلطة تشدد المستر "تشرشل" فى أمر الجلاء عن مصر. وهكذا، لولا هذه الأغاليط لسارت العلاقات بين هذه الأمم وبين بريطانيا على حال من التفاهم تيسر الوسائل وتحقق الغايات.

وإذا كانت هذه الحقائق محل اتفاق من الجميع وقد أدركناها تمام الإدراك، فلماذا تعوزنا الشجاعة التى تجعلنا نقدم غير هيابين على الانتفاع بهذه الفرصة السانحة، فرصة تهيؤ النفوس والأوضاع لتعاون حقيقي له أثره البالغ فى النظام العالمي الجديد وتحقيق السلام والسعادة لبنى الإنسان؟

ولماذا لا تخطو الأمة البريطانية والحكومة البريطانية الخطوة الأولى فى شجاعة وإقدام ولا تخشى التهديد ولا الوعيد ولا تستسلم للنزعات والأوهام؟

أريد أن أقترح على الأمة البريطانية والحكومة البريطانية وأمم المملكة المتحدة وحكوماتها بعد أن بسطت أمام الجميع هذه الحقائق: أن تؤمن إيمانا صادقا بوجوب التعاون مع العالم الإسلامي فى هذه الساعات الفاصلة من تاريخ البشر: وأن تثق بنياته الطيبة نحوها ثقة إلى حد وأن تعطيه البرهان الصادق على ذلك بأن تمنحه قوتها الأدبية والمادية معا لتتحقق مطالبه العادلة فى الحرية والاستقلال، وعليها هى أن تبدأ لأنها الأقوى والأظهر فى ميدان السياسة الدولية، وبيدها -لا بيده- تحقيق هذه الأحلام، ولها إن فعلت ذلك فجلت عن الأرض الإسلامية التى تحتلها، وأعلنت حريتها واستقلالها، وأقامت من نفسها محاميا لا يتراجع ولا يلين فى قضاياه التى تتصل بغيرها- لا كما فعل المستر بيقن فى قضية ليبيا، إذ سحب اقتراحه باستقلالها وشايع مطامع أهل الجشع والاستغلال، لها إن فعلت ذلك أن يمنحها العالم الإسلامي كله أربعمائة مليون قلب من أطهر القلوب وأقواها، وأن تكون قوة دوله وأممه المادية والأدبية سورا يحميها ويحف بها ويدفع عنها العوادي والأضرار، ويحالفها محالفة حقيقة لا تقوم على قوة الحديد والنار وسلطان الدبابات والحراب، ولكن تقوم على التقدير الصدق والوفاء وتبادل المصالح وسعة الإدراك.

لماذا لا تكون عند بريطانيا الشجاعة الكافية للإقدام على هذه التجربة فتضرب عصفورين بحجر واحد، تقيم سورا حول نفسها وتكون السابقة إلى تحقيق مبادئ العدالة والإنصاف والحرية التى هتفت بها؟ وإن ذلك -ولا شك- أجدى عليها من أن تتحدى هذه المشاعر وتقف فى وجه هذه الأمم فتكشف عداوتها، ولن تثنيها بعد ذلك عما تريد، وكل ما فى وسعها أن تؤخره أو تعطله بعض الوقت، ثم تتغلب سنة الوجود وطبيعة الحياة فتصل إلى حقها. ولن تجد لسنة الله تبديلا.

حلم من الأحلام يتردد فى الخاطر، ويتراءى أمام النواظر، لعل الأيام تغيره، وحقائق اليوم أحلام الأمس وأحلام اليوم حقائق الغد ﴿للهِ الأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللهِ﴾[الروم:4-5](17).

 

دول العروبة والإسلام

بين أطماع الاستعماريين وآمال الشيوعيين

أخذت الدول الأوروبية منذ قرون خلت تفتح أعينها على ما فى الشرق من خيرات، وتنصب الحبائل والشباك، وترسم السياسات البعيدة المرامي والمقاصد لتقسيم تركة الرجل المريض، ولتقتنص هذا الصيد السمين.

وتسابقت فى ذلك إنجلترا وفرنسا وأرادت كل منهما أن تتغلب على الأخرى وأن تبسط نفوذها السياسي والثقافي والاقتصادي، ولكن القاهر الأصيل تغلب فى النهاية وكان يخرج من كل شوط من أشواط هذه المنافسة بما يريد.

فإنجلترا هى التى حطمت إمبراطورية محمد على، وحالت دون مصر ودون ثمرات حروبها وفتوحها وانتصاراتها، وقضت على أسطولها وحدت من قدرة جيشها، ووقفت لها بالمرصاد تقاوم كل نهضة فيها وتحول دون أى خير يأتيها، حتى انتهى أمرها باحتلالها والاستئثار بالسودان دونها.

وإنجلترا هى التى أوقعت العداوة والبغضاء بين الترك والعرب فى إقليم الجزيرة، وأذكت نار الحقد والحسد فيما بينهم حتى جندت من العرب جيوشا تناصرها وتزاملها فى السلاح، وتقف إلى جانبها فى وجه إخوانهم فى العقيدة والدين، ثم قلبت لهم ظهر المجن فاحتلت أرضهم وباعت فلذة كبد هذه الأوطان لليهود، وتربصت بشريكتها فرنسا الدوائر حتى أخرجتها من الميدان وطردتها من الجزيرة نهائيا لعلها تستطيع أن تنفرد بشىء من السيطرة والسلطان.

وإنجلترا هى التى أغمضت العين عن فرنسا لتلتهم إفريقية الشمالية وتبتلعها لقمة سائغة فى نظير إغضائها عن عدوان إنجلترا على مصر السودان، ثم هى التى تضيق عليها الخناق الآن وتحاول بكل سبيل أن تقصيها عن هذه الأرض ليخلو لها حوض البحر الأبيض المتوسط، ولتقيم على آثارها إمبراطورية إفريقيا الإنجليزية كما يحلمون.

وإنجلترا هى التى حطمت دول الإسلام العزيزة المجيدة فى الهند، وأوقفت تياره المتدفق على هذه البلاد بالخير والبر والرحمة والنور والهداية لتقيم للوثنية نصبا وتماثيل ومحاريب، ما دام ذلك سيمكن لها فى هذه الأرض ويدر عليها ما تطمع فيه من خيراتها وثروتها وموادها الخام ويجعل منها سوقا نافعة للبضائع الإنجليزية.

وإنجلترا هى التى وقفت على باب اليمن لتسد عليها المنافذ ولتقيم حولها حصارا بريا وبحريا فى عدن والمحميات، فلا تشم نسيم الحرية ولا تجد إلى الاتصال بالعالم من سبيل.

إنجلترا هى التى فعلت بالعالم الإسلامي وبدول العروبة والإسلام الأفاعيل، ووقفت لها بالمرصاد ثلاثة قرون أو تزيد، تحطم من كيانها وتهد من بنيانها حتى تم لها ما أرادت وأصبحت هذه الدول جميعا الآن منطقة نفوذ لها، تتحكم فى مقدراتها، وتتدخل فى أوضاعها، وتضع العقبات فى طريق قوتها المادية والأدبية والعسكرية والاقتصادية.

ولكنها مع هذا كله عجزت عجزا تاما عن قتل روح الشعوب الإسلامية، فلم تهن ولم تضعف ولم تستسلم لهذا الجبروت يوما من الأيام، وهذه الثورات المتعاقبة فى مصر وفى العراق وفى فلسطين وفى سوريا أقرب شاهد وأوضح دليل.

وظهرت روسيا فى الميدان ترسم لنفسها مجالها الحيوي، وتطل مراكبها على البحر الأبيض المتوسط، وتدخل فى منطقة نفوذها أوروبا الشرقية جميعا وتطالب بسهمها الحرام فى أفريقيا وفى آسيا تنافس هذا النفوذ القديم فى القارتين معا، ويبدو هذا الصراع واضحا جليا عمليا فى مناطق النفوذ والاحتلال، وسياسيا فى مؤتمرات الصلح وجلسات مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة.

وأغرق المتنافسان فى الخداع، ولبس كل منهما مسوح الرهبان وجلود الضأن على قلوب الذئاب، وحاول كل منهما أن يستر الطمع المادي بدعوى رسالة السلام والإصلاح تقدمها إنجلترا باسم الديمقراطية وتقدمها روسيا باسم الشيوعية.

والعالم العربي والإسلامي والشرق كله يترقب وينظر فى حيرة بين هذه الأطماع والآمال، ويتهيأ للعمل ولكن لم يعمل بعد.

لقد خطت إنجلترا خطواتها البارعة فى ميدان السياسة وهي الخبيرة العليمة بهذه الخطوات، فجمعت دول العروبة فى ظل الجامعة العربية، وهي تحاول أن توسع النطاق بربط هذه الجامعة بميثاق سعد أباد، ولا أظنها ستقف عند هذا الحد حتى تربطها بالهند الجديدة وبما وراء الهند من أمم إسلامية وأصقاع، ولعلها تذهب إلى أبعد من ذلك، لا حبا فى سواد عيوننا ولا رغبة فى تسويتنا وتجمعنا، ولكن لتقيم من هذه الأمم سورا أمام أطماع خصومها وأعدائها وإن شئت قلت حلفائها وأصدقائها.. وقاتل الله رياء السياسة.

ولكنا مع هذا يجب أن نرحب بهذه الخطوات، وأن ننتفع بها، وأن نستفيد منها، وأن نحولها لمصلحتنا نحن؛ وذلك بصلابة الحكومات ويقظة الشعوب. ولن يمر بنا ظرف أبدع وأوفق وأكثر ملاءمة لتحقيق ما نرجو من استقلال ووحدة كهذا الظرف الذي نحن فيه.

فعلينا -إذن- أن ننتفع بالفرصة السانحة وألا ندعها تفلت من أيدينا أبدا. يجب أن تتصلب الحكومات وتتشدد وألا تخشى التهديد والوعيد، فهو سراب خادع لا وجود له. ويجب أن تتيقظ الشعوب وتنهض، فإن الكلمة لها والأمر أمرها وعلينا أن نضع أمام العقيدة، عقيدة ومعنا الحق ومعهم الباطل ولا يستويان.

علينا أن نعلن الإسلام بأصوله السامقة وتعاليمه العالية وقواعده الحقة أمام الديمقراطية التى ترادف الفوضى والإباحية، وأمام شيوعيهم التى ترادف الإلحاد والدكتاتورية الدولية.

وعلينا أن نتجمع ونتشجع ونتساند ونتكاتف ونعمل ونجاهد فى كل ميدان، ميدان الدعاية الدولية، وميدان المقاطعة الاقتصادية، وميدان الكفاح العملي حتى نصل، وإنا لواصلون. ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾[يوسف: 21](18).

 

لحظات لا نظير لها

لا أظن أن هذه اللحظات التى تجتازها أمة وادي النيل وتجتازها كذلك غيرها من أمم العروبة والإسلام لها نظير فى تاريخها الطويل منذ قضى عليها أن تذهب ريحها، وأن يضعف سلطانها، وأن تمتد إليها يد الغصب والقهر والجبروت أجيالا طويلة كادت تأتى فيها على ناحية من نواحي القوة والحيوية لولا أن الله بها رءوف رحيم.

هذه لحظات لا مثيل لها حقا فى تاريخ هذه الأمم من حيث دقة قضاياه وتشابهها وارتباط بعضها ببعض وتنافس الغاصبين عليها، فاستكمال استقلال أندونسيا والتسليم بالباكستان فى الهند وتدعيم الجامعة العربية لتخليص فلسطين، وتحرير وادي النيل وصيانة وحدته، وإنقاذ ليبيا والمغرب بأقسامه تونس والجزائر ومراكش، كلها قضايا دقيقة متشابهة فى دقتها، وأحقيتها، ووضوحها وسطوع الحجة فيها، وقيام الدليل القاطع على وجوب إنصافها، ورد حقوق هذه الشعوب إليها، وإلا فعلى الحق والعدالة والطمأنينة السلام.

وهي لحظات لا مثيل لها كذلك من حيث تدفق هذا الشعور الموحد، وانتفاضته من هذه القلوب وسريانه من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ونضج الوعي والإدراك نضجا لا يمكن أن يروج معه زيف، أو تخفى معه خديعة، أو تنال منه مغالطة المغالطين، أو مكابرة المكابرين، أو عناد المتغطرسين. وإنك لتجلس إلى المواطن الأندونيسية أو الهندي أو العربي أو المصري أو المغربي فلا ترى إلا شعورا واحدا، وإحساسا واحدا، وهدفا واحدا، تركز فى النفوس وتبلور فى المشاعر، فلن يضعف ولن يغلب ولن تأتى عليه الحوادث أو الأيام.

كما أن هذه اللحظات لا مثيل لها كذلك من حيث وضوح التنافس الدولي بين المعسكرات الكبرى الطامعة فى بسط نفوذها على هذه البقاع كلها أو بعضها، وهي تعلم تمام العلم أن هذه المحاولة مع هذا الوعي الجديد فى نفوس هذه الشعوب الغامرة لا يعلم نتائجها إلا الله.

ومن هنا كانت واجبات الحكومات العربية والإسلامية ثقيلة قاسية، ولكنها واجبات محتومة لابد من النهوض بها والقيام بأعبائها.

ومن أول هذه الواجبات أن تنسى الحكومات والأحزاب والهيئات ورؤساء الدول وقادة الأمم ما كان فى الماضي نسيانا تاما، فتصفوا النفوس، وتطهر القلوب، ويعفو القادر عن العاجز، ويأخذ القوى بيد الضعيف، ويشد الجميع بعضهم أزر بعض فى هذا الجهاد القومي الطويل المدى البعيد الأثر فى الحاضر والمستقبل، وأن تطرح المطامع الإقليمية أو الشخصية أو الحزبية جانبا فى هذه الفترة من تاريخنا حتى يستقر أمرنا على حال، ثم يكون لكل منا بعد ذلك أن يدعو إلى ما يريد وينهج النهج الذي يراه ينفع ويفيد.

بالأمس تقدم كثير من الشخصيات ورؤساء الهيئات فى مصر بعريضة إلى المفوضية العراقية لتلتمس العفو من سمو الوصي عن السيد رشيد عالي الكيلاني الذي لم يكن يوما من الأيام ثائرا على العرش والأسرة الهاشمية الجليلة، ولكنه كان ثائرا على الظلم غاضبا للكرامة القومية والحقوق الوطنية. وإن هؤلاء الذين وقعوا هذا العريضة وتقدموا بها لعظيمو الأمل فى أن يستجيب لرجائهم ويستمع لندائهم. وماذا على الأحزاب المصرية والهيئات جميعا لو تهادنت إلى أن ينتهي عرض القضية وانصرفت إلى الدعاية لحق مصر وبذلت فى هذا السبيل كل ما تستطيع من قول وعمل وكتابة وجهود؟

ثم تجتمع كل هذه القوى من أقصى الشرق فى أندونسيا إلى الدار البيضاء فى المغرب الأقصى لمكافحة هذا الظلم الأوروبي والأمريكي الواقع على هذه الأوطان والمتحفز لاغتصاب حقوقها من جديد.

هذا ولا شك أول هذا الواجبات الثقال. ثم يأتى من بعده واجب آخر، هو بذل كل همة فى إعداد الشعوب سواء فى وادي النيل أو غيره، للنضال والكفاح فى سبيل حقوقها إذا فرض وتغلبت روح السيطرة والشر على مشاعر العدالة والخير فى نفوس المتحكمين فى قرارات هيئة الأمم المتحدة من الدول الكبرى، وإن أى حكم جائر تصدره الهيئات الدولية لا يكون معناه أبدا استخذاء الشعوب أو استسلامها، بل معناه الصريح روح اليأس من العدالة فى ظل التفاهم والسلام وإثارة كل معاني الخصومة والبغض التى لا يستقر معها أمن ولا يقوم عليها نظام.

لابد من التفكير فى هذين الواجبين باهتمام وسرعة إنفاذ فإن الوقت قصير، والفرصة إن ضاعت لا يمكن أن تعوض والتبعة جسيمة، وهذه اللحظات لا مثيل لها فى تاريخنا فلنتوحد ولنستعد والأمور بيد الله(19).

 

أيها العرب اثبتوا للمحنة فإن النصر مع الصبر

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ*وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ*وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾[الأنفال: 45-47].

أيها العرب ماذا تخشون؟

أتخشون أن تتألب عليكم الشعوب الطامعة، وتهضم حقكم الحكومات الجائرة، وتجتمع كلمة الأمم المختلفة على مناوأتكم، ويقول أعضاء مجلس الأمن كلمتهم فى غير صفكم، ويفرضون عليكم العقوبات الاقتصادية أو يسوقون إليكم القوات العسكرية. أتخشون هذا؟ ولكم فى سلفكم أحسن الأسوة وأكرم القدوة: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ*فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ*إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ﴾[آل عمران: 173-175]. وهذا نفير الحق يدعوكم وكتاب الله يناديكم: ﴿أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ*قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍٍ مُّؤْمِنِين*وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾[التوبة: 13-15]. وليس بعد قول الله تعالى قول لقائل وليس وراء الله للمرء مذهب. فاثبتوا للمحنة واصبروا للشدة، وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون. ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين.

إن بين الهزيمة والنصر صبر ساعة لن تتقدم فيها آجال أراد الله أن تتأخر، ولن تتأخر فيها أعمار شاء الله أن تنقضي: ﴿قُل لَّوْ كُنْتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾[آل عمران: 154]. وإنما مواقف الكرامة ومعالم البطولة والشهامة يمتحن الله بها عباده الصادقين، ليبتلي الله ما فى قلوبكم ويمحص ما فى صدوركم والله عليم بذات الصدور..

قال معاوية: لقد هممت أن أفر يوم صفين لولا أنى ذكرت قول القائل:

أقول لها وقد طارت شعاعا               من الأبطال ويحك لن تراعى

فإنك لو سئلت بقاء يوم          عن الأجل الذي لك لم تطاعي

فصبرا فى مجال الموت صبرا            فما نيل الخلود بمستطاع

فدفع الله عنى عار الهزيمة وخزيها.

فصبرا فى مجال الموت صبرا أيها الأبطال من أبناء العرب حتى يفتح الله بينكم وبين الناس بالحق وهو خير الفاتحين. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

والله الذي لا إله إلا هو لن تغلبوا من قلة، فأنتم كثير كعدد الطيس ولن تغلبوا من فقدان عدة، فإن معكم قوة الله التى لا تغلب وجنده الذي لا يهزم ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ﴾[المدثر: 31]. ﴿وَللهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾[الفتح: 7]. ولكنكم تغلبون من أمرين اثنين: أن تختلفوا وتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، أو أن تفسد النيات وتلتوى المقاصد، وتحل الدنيا فى قلوبكم محل الآخرة، فيتأخر عنكم النصر، ويتخلف المدد الإلهي والتأييد الرباني، ولا ينفعكم بعد ذلك شىء: ﴿إِن يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِى يَنْصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾[آل عمران: 160].

ولا نستطيع أن نتصور رجلا واحدا يؤمن بالله ورسوله -حاكما كان أو محكوما- تختلج نفسه فى هذه الساعة الحاسمة من تاريخنا بغير الفناء فى جماعة، والنزول على أمر الله، والعمل للنصر بأي ثمن، وليكن بعد ذلك ما يكون. ولقد عرض الله علينا من سيرة أسلافنا ما يرد الأبصار الطامحة ويلجم النفوس الجامحة ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِى الأمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِننْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾[آل عمران: 152].

 فيا أيها العرب: اثبتوا للمحنة فإن النصر مع الصبر، واجمعوا كلمتكم، وأخلصوا نيتكم، وطهروا قلوبكم، واستقيموا على أمر الله، ولا ترهبوا بعد ذلك أحدا، ولا تنزلوا على حكم الكافرين -كائنين من كانوا- ولا تعبئوا بتهديد أو وعيد، وكونوا مع الله يكن الله معكم: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ﴾[الحج: 40].

والله أكبر ولله الحمد(20)

 

دعائم النصر

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ*وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ*و*وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾[الأنفال: 45-47] قرآن كريم.

أيها العرب والمسلمون: اسمعوا وتدبروا واعتبروا وصدق الله العظيم: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾[القمر]. وإن آيات الكتاب الكريم فى صدقها وأحقيتها لأثبت من المعادلات الرياضية التى لا تختلف نتائجها ولا تضطرب أرقامها. ومن أصدق من الله قيلا؟ وهذه هى قواعد النصر. أليست فى هذه الآيات الكريمة: 

1-     الثبات. فإن المؤمن لا يتزعزع، ولا يتردد، ولا يهن، ولا يضعف أبدا؛ لأنه لا ينتظر إلا إحدى الحسنيين: الشهادة أو النصر، ولا يتوقع إلا ما كتب الله له. ولو أن أهل الأرض اجتمعوا جميعا على أن ينفعوه لم ينفعوه إلا بشىء قد كتبه الله له، وإنه مأجور على ما يلقى من ذلك، وأشد ما يحرص عليه الناس آجالهم وأرزاقهم، وأشد ما يدعوهم إلى التردد والضعف والخوف على هذه الأعمار أن تقصر بالموت والخشية على هذه الأرزاق أن تنقص بالنفقة. والمؤمن واثق تمام الثقة أن الأجل والرزق بيد الله وحده لا سلطان عليهما لأحد غيره ففيم التردد والخوف والضعف والوهن. إن المؤمن ثابت لا يلين، قوى لا يضعف، وكثيرا ما كان الفرق بين الهزيمة والنصر ساعة من ثبات: ﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِىٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾[آل عمران: 146].

2-     وذكر الله تبارك وتعالى، وهو أمان الخائفين وأمل اللاجئين. والمؤمن يعلم تمام العلم، ويوقن أعمق اليقين بأن قدرة الله أعظم القدر، وأن قوة الله أجل القوى، وأن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. فإذا أحاطت به عوامل اليأس، وهتفت به هواتف الهزيمة من كل مكان، وأحدقت به قوى الأعداء من كل جانب، ذكر صادقا أن وراء ذلك كله قوة القوى القدير، العلى الكبير الذى له ما فى السموات والأرض، ومن فيهما جميعا عباده، بيده ملكوت كل شىء وهو على كل شىء قدير، له مقاليد السموات والأرض وما يعلم جنود ربك إلا هو إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، فماذا عسى أن ينال من نفسه تهويل المهولين أو قوة المتكاثرين أو عدة المعتدين: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾[آل عمران: 173].

3-     وطاعة الله ورسوله: فلا قتال إلا لغاية، ولا عمل إلا فى حدود، وإذا كانت الغاية مرضاة الله ورسوله، وإذا كانت الحدود حدود الله ورسوله، وما وضع العليم الخبير لعباده من نظم ومناهج وأحكام وقواعد تبصرهم بالخير وتأمرهم به وتحذرهم من الشر وتنهاهم عنه- كانت تلك ولا شك أنبل الغايات وأشرف المقاصد، يهون فى سبيلها البذل، ويطيب من أجلها الكفاح: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾[النساء: 76].

4-     والوحدة والإخاء فى العاطفة والقيادة والجندية والقول والعمل والشعور والروح والقصد والغاية، الوحدة فى كل شىء هى أساس القوة وملاك العزة، وما تفرق قوم إلا ضعفوا، وما اختلف نفر إلا ذلوا، والوحدة صميم الإيمان والفرقة معنى من معاني الكفر: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾[الحجرات: 10].

5-     الصبر. وهو أصل الثبات، فلا ثبات إلا للصابرين. والثبات مظهر وعمل، والصبر عاطفة وخلق. والصابرون يوفون أجرهم بغير حساب فى الدنيا بالنصر والظفر، وفى الآخرة بالمثوبة والأجر ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾[البقرة: 155]. ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ﴾[البقرة: 45]. ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾[السجدة: 24]..

6-     تصحيح النية وطهارة القصد. فلا يكون الغرض عدوانا على أحد، أو إبطالا لحق، أو إنفاقا لباطل، أو تهجما على آمنين، أو اغتصابا لآخرين، بل يكون دفاعا مشروعا، أو نجدة لمظلوم، أو حماية للمثل العليا أن تنتهك حرمتها، ولقواعد العدالة والإنصاف أن تتهدم بفعل المطامع والشهوات: ﴿وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾[الأنفال: 47].

أيها العرب والمسلمون: فى هذا الوقت العصيب الذي تدفقت فيه عليكم قوى الشر من كل مكان، فتألب الشرك بقضه وقضيضه عليكم فى الهند، وتألبت اليهودية العالمية بعدتها وعددها عليكم فى فلسطين، ووقفت دول الاستعمار الباغية المخادعة ترمق المعركة لتقتسم الأسلاب، وتلقى فى النار بالوقود لتزداد اشتعالا حتى يأتى على الأخضر واليابس، ورأيتم مصداق قول الله تبارك وتعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾[المائدة: 82].

فى هذا الوقت- أيها العرب والمسلمون- يجب أن لا تيأسوا ولا تهنوا ولا تحزنوا، فقد وعدكم الله النصر، ولا شك فى موعوده متى عرفتم قواعده، وأقمتم دعائمه، وأخذتم فى أسبابه، وعرفتم كيف تحققون هذه الأمور الستة: الثبات، وذكر الله، وطاعة الله ورسوله، والوحدة، والصبر، ونبل المقصد.

والله معكم ومن كان الله معه فلن يغلب أبدا. والله أكبر والله الحمد(21).

 

إن فى ذلك لعبرة

الشعور الإسلامي مرن كالهواء: تضغطه فيلين ثم يتداخل ثم ينكمش ويتقلص فى غير ضعف ولا قلة، وإنما هى مطاوعة لا تزيده إلا قوة فى المقاومة، وتجمعًا ضد الضغط الواقع عليه، حتى إذا بلغ أشده، انفجر فدوى لانفجاره صوت هائل يملأ أجواء الفضاء، ويهز الخافقين هزًا، وانتشر فعاد أوسع مما كان، يتعدى مكانه الأول إلى غيره من البقاع، ذلك ما حصل فى بلاد الأفغان ذلك المعقل الإسلامي الأشب، فقد عاد الملك السابق أمان الله خان من سياحته وقد فتنته فواتن الزخرف الأوروبي الذى يبهر الناظر إلى مظاهره، ويستر عن عينيه ما تحتها من بؤس ومثالب، وزين له الكماليون ما أرهقوا به أمتهم، فأراد أن يمثل تلك الرواية على أرضه الأفغان وبين جبالها الشماء، ولقد كان فى ذلك هازئًا بشعور أمته، مستضعفًا لروحها وإيمانها، معتديًا على حريتها وقومتيها، وخارجًا على حكم التاريخ وناموس الاجتماع، مكلفًا شعبه ما لا يطيق من العنت والإرهاق فى دينه ودنياه، وهب أن الأفغان فرّطت فى تقاليدها، واستهانت بعاداتها وإيمانها، وجارت الملك السابق فيما يريد أن يحملها عليه، فليت شعري من لهذا الأفغاني القانع بتقشفه المعتز بعصبته، أن يصبح بين عشية وضحاها باريسيًا تجرح خديه خطرات النسيم، ويدمى بنانه لمس الحرير، وهو لا يجد وسائل هذه الحياة المترفة الباذخة ويحول دونه ودونها رقة الحال وقلة المال؟

ومن أغاليط العظماء أنهم يقيسون أكواخ الفقراء بقصور الأمراء، ويحسبون حياة البائسين كحياة المالكين، ويظنون أن الشعب الذي يعجزه أن يجد الخبز يستطيع أن يأكل "بسكوتًا"، فما بالك والأفغان صلبة فى دينها، قوية فى إيمانها، راسخة فى عقائدها، محافظة أشد المحافظة على قوميتها وتقاليدها.

ولو أن الملك السابق سلك تنفيذ ما يريد خطة الحزم واختار لإصلاح بلاده منهجًا إصلاحيًا صادقًا يحقق آمالها ويوافق هوى فى قوادها، ولم يتشبث بذلك الإصلاح الوهمي الذى يتناول الظواهر بطلاء تحته العار والدمار، ولا يصيب بواطن الأمور بشىء من الإصلاح، وتقع القشور دون اللباب، لوجد من علماء الأفغان وعظمائها من يؤازره ويناصره ويتفانى فى خدمة مبادئه وإصلاحه، أمثال پير صاحب المجاهد الشهيد الذى كان خير معوان لوالد الملك الأمير حبيب الله خان فى كل ما يحاوله من إصلاح مجدٍ يعود على الأفغان بالخير والإسعاد، ولكنه سلكك سبيل الشدة والعسف وأغراه شياطين تركيا بذلك، وغرّه ما تكتب صحف المرائين الذين يصفقون لكل دولة عنه وعما يسمونه باسم الإصلاح من التمدح والثناء، وأخذته نشوة ذلك الإغراء فلم يقدر ما يحيط به من ظروف وأحوال، ولا شك أن هذه الصحافة الخادعة تحتمل تبعة كبيرة مما وقع للملك السابق، فكان من هذا الملك تلك الثورة التى عمت الأفغان من أقصاها إلى أقصاها، وكان عنها تقويض عرش الملك الشاب وانتزاع تاجه واضطراره للتنازل عن ملكه لشقيقه الأكبر عناية الله خان، ولقد كان فى هذه المأساة برهان جديد على قوة الشعور الإسلامي الكامن فى نفوس المسلمين، والذى كان مفهومًا لكل ذي بصيرة أنه لابد أن يكتسح ما أمامه فى يوم من الأيام، وإن سكن قليلاً تحت ضغط الحوادث والظروف.

وعلى أن الاستبداد وإن بلغ منتهاه وامتد سلطانه فلن يصل إلى القلوب والمشاعر، ولن يجد إلى الأرواح المؤمنة سبيلاً، وعلى أن ما تراه من استكانة العالم الإسلامي اليوم تحت عبء الجبروت إنما هو سحابة صيف عن قليل تقشع، ورجعة إلى الخلف يستعد بها للاندفاع إلى الأمام، ولابد أن تعمل نواميس الاجتماع عملها، ويقول التاريخ كلمته الفاصلة، إن عاجلاً وإن آجلاً.

فلا يهنئ هؤلاء المستبدين ما يتراءى من نزول شعوبهم على إرادتهم، فبين الضلوع داء دوى وشعور خفي، وستبدى لهم الأيام ما كانوا يجهلون، وإن تملقتهم بطانة السوء وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون.

وأما وقد نزل الملك السابق أمان الله خان عن عرشه، فليكن فى ذلك درس نافع لمن كانوا يحاولون أن يأخذوا أخذه، وليحذروا أن يحل بهم حكم القضاء الذي لا يرد، وليغيروا هذه البرامج المعوجة، وليتركوا لروح الأمم وأمزجتها اختيار النظم الصالحة لها، وليكونوا مجددين حقًا لا هدامين، ومصلحين لا عابثين، وترى هل تتعظ إيران وغيرها بجارتها الأفغان، والسعيد من وعظ بغيره؟ أم تخرج على حكم الطبيعة فتكون فيها مأساة كذلك المأساة.

ومما يؤسف أن بعض الناس لا يفرق حتى الآن بين الإصلاحات والمفسدات، ويخلط بين برامج الإصلاح الحقيقي وأعمال العبث الصبياني، فيسمى ما كان يريد أن يقوم به الملك السابق أمان الله خان وأضرابه برنامجًا إصلاحيًا ويبنى على ذلك أن الشعب الأفغاني يكره الإصلاح ويحارب أهله ويأبى ترك الجمود والتأخر.

وهذا الصنف بين خبيثٍ فتنته الزخارف الوهمية كما فتنت أمان الله خان وغيره، وبين مخدوع لبس عليه الأمر واشتبه أمامه الحق بالباطل، فأما الأول: فليس يجدي معه القول شيئًا، وأما الثاني: فنقول له: ليس فى الشرق الإسلامي كله من يرفض الإصلاح ويصر على التأخر والجمود، بل إن الجميع فى يقظة عامة وتعطش إلى الحياة الكاملة المجيدة، وسير حثيث نحو الرقى والمجد، ولكن بشرط أن يكون هذا السير فى طريقه الحقيقي المثمر، وبشرط ألا يتنافى مع الروح الشرقية.

الآن مفتونون بهذه الظواهر الغربية يأخذون المدنية الأوروبية من أطرافها ونهايتها ويفضلون الخطوات التى سار فيها الغرب حتى وصل إلى النهاية، ومن هنا كانت الثورات والفتن والقلاقل، وخير لزعماء الشرق أن يدعوا هذه الفكرة الخاطئة -فكرة التقليد الأوروبي- ويسيروا بأممهم فى طريق شرقي مبتكر يصل بهم إلى العظمة والنهوض ولتكن تلك الغاية مطمح أنظار الجميع، وأساس برامج الإصلاح الشرقي، وليذكروا دائمًا أن الشرق شرق والغرب غرب رضوا بذلك أم أبوا.

وأن الإسلام لا يناهض المدنية ولا يقعد بالأمم عنها، بل يسوقهم إليها سوقًا ويدفعهم إليها دفعًا لو أنهم فهموه على وجهه وأقاموا أحكامه كما أراد الله أن تقام، والله من ورائهم محيط(22).

 

السبيل إلى الإصلاح فى الشرق

تسود العالم الشرقي حال من الفوضى والاضطراب فى جميع مظاهر حياته الفكرية والاجتماعية والسياسية، وتلك وإن تكن طبيعة عصر الانتقال الذي يجتازه العالم الشرقي الآن ومظهر النهضة الحديثة التى تتمخض بها أممه، إلا أنها تجعل المركز حرجًا يخشى أن ينتج عنه وأد الشرق فى ربيع حياته، والقضاء على الإسلام ولما يتمتع العالم بجنى ثمراته وحكم نظراته، ما لم تكن الحكمة والسداد رائد قادة الشعوب الشرقية ومفكريها.

وكثير من أهل العقول الراجحة فى الشرق الآن يعتقد أنه إن ظلت هذه الحالة المضطربة تسود الفكر الشرقي، ولم يعمل قادته على التخلص منها بتعيين غاية توجه إليها قوى هذه الشعوب المتيقظة، وتنصرف نحوها جهودها، فستكون العاقبة وبالاً على الشرق وأهله والإسلام وبنيه، وتنتهز الأصبع الأجنبية المستعمرة التى تتستر بقفاز رقيق، وتتحين الفرص لتنشب أظفارها الحديدية فى جسم الشرق البضّ، فتقلبه كما يشاء لها الهوى والتقلب، وقد يكون خير السبل لإصلاح الشرق وتخلصه من ورطته الفكرية أن يوجه زعماؤه وقادته جهود الأمم إلى غاية منتزعة من روح الشرق، ملائمة لمزاج أهله لا تنحصر فى التقليد لأوروبا ولا لغيرها، بل قوامها إنهاض الشرق من كبوته، واستخدام قواه الكامنة فى الإصلاحات العلمية والاقتصادية والمدنية، التى يكون من ورائها قوة الشرق المادية والأدبية.

إلى هذه الأمور الثلاثة يجب أن تتوجه عناية الزعماء فى الشرق: العلم والاقتصاد والحقوق السياسية، أما العادات، وأما العقائد والأديان، وأما الآداب ومظاهر الحياة الاجتماعية الأخرى، فهذه لا سبيل إلى نقلها من أمة إلى أمة إلا بفعل الزمن وحده، والأوامر والمراسيم والنظم والقوانين والقهر والجبروت، فكل ذلك لا يفيد إلا هياج الخواطر وثوران النفوس، ولا يغنى من الإصلاح الحقيقي شيئًا، ثم ندمر هذه النظم القاهرة أمام جبروت الشعوب وسلطان الزمن.

اليابان سارت فى طريق إصلاح حكيم مبنى على العلم والاقتصاد، فارتقت وتقدمت وغزت أمم الغرب فى خصائصها ومظاهر حياتها وقوتها، وتبع ذلك -بفعل الزمن وحده- ما تستدعيه الحال من تحور فى العادات والتقاليد.

وتركيا والأفغان سارتا فى طريق متهوّر أهوج فأرهقت الحكومة الأولى شعبها فى دينه ودنياه، وحملته من عذاب الاستبداد نارًا مستعرة يبدو دخانها خلال هذه المؤامرات المتتالية على الحكومة، وتظهر أبخرتها فى الزلازل النفسية التى تتمخض بها المدن التركية، وإن كنا لا نعلم من ذلك إلا قليلاً، وانتهت مناورة الحكومة الثانية بتلك الثورة الفظيعة الماحقة التى تخشى أن تكون وبالاً على الأفغان والشرق.

يا زعماء الشرق، حنانيكم فالأمر جلل. يجب أن نفرق بين ما يؤخذ وما يترك، فليست مظاهر الحياة الأوروبية كلها صالحة ملائمة لمزاج الشرق. فليكن قائدكم فى الاختيار المنفعة وصالح المجموع لا الهوى والشهرة ومصلحة طائفة خاصة، ويجب أن نجعل لتاريخنا وحضارتنا وماضينا نصيبًا من التقدير والإجلال، فلا نفنى فى غيرنا من الأمم، ولا ننكر فضلاً سجله التاريخ لأسلافنا ولهج الزمان بذكره وعرفته لهم الأمم جمعاء، وكان دعامة من دعائم المدنية الحالية.

اجعلوا الشرق جسمًا قويًا متماسكًا يثب إلى الحياة والرقى على رجليه، ولا تجعلوه مقعدًا مشلولاً يمشى بأعضاء غيره، فإنكم لا تأمنون أن يلقيه فيتحطم هيكله ويتهشم بناؤه.

يجب أن نلاحظ نفسيات الشعوب والجماعات، وضرورة التدريج فى إدخال ما يجب أن ندخله من النظم والإصلاحيات، وأن نلاحظ أن المدنيات لا تؤخذ من نهاياتها، وإنما تنقل من أصولها ومبادئها، وأن هذه المظاهر التى يحاول زعماؤنا بثها فينا وانتشارها بيننا لم تكن فى أوروبا إلا عن دواع وأصول لم تتوفر فى الشرق ولا تتوفر فيه أبدًا.

بقي أمر هام أود أن أهمس به فى آذان قادتنا ومفكرينا، ذلك أن أسألهم عن سر عدائهم للإسلام ولنظمه، وموقفهم منها موقف المتحسب المتوجس، وما الذي يمنعهم من أن يجعلوه أساسًا يقيمون به صرح ما يريدون، ويعلم الله والباحثون من العلماء أن الإسلام بروحه وقواعده دين تجديد وثقافة، وشعاره: ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾[الإسراء: 85] مردفة بقوله تعالى: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْمًا﴾[طه: 114].

والعجب أنه مع نصوع الحقائق ووضوحها لا نزال نرى فريقًا من قصار النظر فى الأقطار الشرقية خاصة يرمون الإسلام بما هو منه براء، ويتوهمون فيه قيودًا ثقيلة من الجمود تقيد الفكر وتمنعه الحرية والبحث، ويقيسونه بتلك النظم العتيقة الكنسية التى لم تقم نهضة أوروبا إلا بتحطيمها والقضاء عليها، وتراهم لذلك يستخدمون الألفاظ التى تداولها المؤرخون لمسميات ذاك العصر، فيقولون: رجال الدين، الرئاسة الدينية، والنظر الديني الضيق، والسلطة الروحية، وغير ذلك من العبارات، ولعل هذا اللبس اللفظي هو الذى جعلهم يتورطون فى تشبيه النظم الإسلامية بغيرها من النظم.

وواجبنا إزاء ذلك أن نرفع عن أعين من يريد الحقيقة من هذه الطائفة حجاب الوهم، ونوضح له هذا العبث اللفظي وخداع العناوين التى وضعها مؤرخو أوروبا لذلك العهد، وأن نوضح لهم أن نظم الإسلام ليست من تلك القيود فى شىء، بل هى دعائم المدنيات وبواعث النهضات.

وعلينا بعد ذلك أن نجعل هذا الإسلام المتمكن فى نفوس أهله أساسًا للنهضة الشرقية الحديثة، وبذلك تصطبغ نهضتنا بصبغة شرقية مجيدة تجذب نحوها أفئدة الشعوب وتعيد للشرق مجده المسلوب وعزه المغتصب.

وقد يتخيل بعض الزعماء الذين يبتعدون عن الإسلام فيمن يسمونهم رجال الدين معارضة لإصلاحهم وعقبة فى طريق نهوضهم، فيودون لذلك أن يبتكروا هذا الطريق ويسلكوا إلى النهوض من طريق غيرهم، فليعلم هؤلاء أن هذا الصنف من رجال الدين لا يوجد فى علماء الإسلام الآن والحمد لله، وإن كان ظهر فى بعض العصور تحت تأثير الحوادث والدسائس، فقد أخذ فى الاختفاء وحل محله عنصر حي قوى فهم الإسلام على حقيقته، وتشرب بروحه السامية ومبادئه العالية، فكان بمعزل عن الجمود الممقوت والتشبث المذموم.

وهذا العنصر -والحمد لله- كثير فى البلاد الإسلامية الشرقية، ومثله حية قائمة أمام أنظار الجميع، وهو يود من صميم فؤاده أن يؤيد زعماء النهضات وقادة الفكر الشرقي، ويتفق معهم على وضع الأساس الصالح لبناء مستقبل الشرق.

فلم لا يسعى كل من الطرفين فى إزاحة هذا الستار الرقيق من الأوهام الذي يحجب كليهما عن الآخر، ويسيران متكاتفين بالأمم الشرقية إلى غاية الكمال؟

ومن أوجب الواجبات وأول وسائل النجاح -ولاسيما فى ظروف حرجة كالتي تحيط بالشرق الآن- أن توحد جهود الأمة وتوجه قواها جمعاء إلى ما فيه خيرها وسعادتها.

أما أن تقف قوة ضد قوة، وتستخدم طائفة للقضاء على أخرى، وتنتهج خطة للإصلاح لا يكون وراءها إلا الثورة، فلا يقدرون مقتضيات الأحوال، ولا يلتفتون إلى سنن الكون وقواعد الاجتماع، ولا يصغون إلى أصوات الألم المنبعثة من قلوب الشعوب الدامية.

أما أن يتخذ زعماء الشرق أداة لتنفيذ المآرب والأغراض، وملهاة يلهو بها ساسة أوروبا وعواهلها، وكعابًا تنقلها أصبع الغرب على رقعة الشرق كما تشاء وهم غافلون، يبيتون لهم المكائد وينصبون لاصطيادهم من الشرك.

فذلك كله أو بعضه مما يعرقل سير النهضة الشرقية، ويؤخر ثمارها، ويحول دون نضوجها إن لم يقض عليها، ولن نجني منه إلا قلقًا واضطرابًا لا يغنيان من الحق شيئًا، ذلك إلى ما يعقبه من رد الفعل الذي يبدل فائدة النهضة بالضرر وخيرها بالشر.

تلك كلمة أتوجه بها إلى كل من يعنيهم أمر الشرق المحبوب ويهمهم مستقبله، ناضحة بمرارة الهمّ ومضاضة الألم الذي يتولاني كلما ذكرت الشرق المجيد وما ينتظره من الكوارث إن دامت به الحال على ما نرى من الفوضى والخلل، وأهم ما أقصد إليه فى هذه الكلمة -وأرجو أن تكون موضع عناية القادة، ومحل بحوث المفكرين- أمور: 

1-     أن تحدد غاية أساسية توجه إليها قوى الشرق.

2-     أن تكون تلك الغاية ملائمة للمزاج الشرقي متفقة مع روحه العامة الذاتية.

3-     أن تستند النهضة إلى الإسلام فى نظمه وروحه ومبادئه.

4-     أن نعنى بالمهم من المظاهر: كالعلم، والاقتصاد وندع السفاسف التى لا تقدم ولا تؤخر: كالعادات، والآداب التواضعية.

5-     أن نوحد جهود أبناء الأمة الواحدة ثم الأمم الشرقية جميعًا فى السعي لتحقيق أماني الشرق.

6-     أن نحترس فى نقل ما نأخذه عن الأجانب، فلا نأخذ إلا ما ينفعنا حقيقيًا.

ذلك ما أريد أن أنبه إليه الأفكار، وألفت نحوه شبابنا الذين غفلوا عن مستقبل بلادهم، ومصير دينهم، وأهملوا البحث والتقصي، وخدعوا بتمويه الأعداء، فأعجبوا بآرائهم، وجاروهم فى أهوائهم، والله خير حافظًا لديننا وبلادنا(23).

 

لا القومية ولا العالمية .. بل الأخوة الإسلامية

يجد مبدأ القومية من زعماء الأمم وقادة الشعوب من يناصره ويقدسه ويبثه بكل وسيلة فى نفوس الناس، ويضع المناهج والبرامج لينشأ الجيل القادم جيلاً مقدسًا لقوميته معتزًا بعصبيته، فهيتلر ينادى فى أمته: ألمانيا فوق الجميع، ومصطفى كمال ينادى فى أمته: تركيا فوق الجميع، وموسولينى ينادى أمته: إيطاليا فوق الجميع، ولا يقفون عند النداء، بل يستخدمون التاريخ والذكريات، والقوة إذا احتاج الأمر فى تثبيت هذا المبدأ فى نفوس شعوبهم.

ويرتفع مع هذا صوت الفلاسفة وعلماء الاجتماع وبعض السياسيين يوضحون للناس خطر التمسك بمبدأ القومية، وضرورة التشبع بمبدأ العالمية ونسيان فكرة الوطن الخاص، والعنصرية الجنسية.

ومصر -التى تعودت تقليد الغرب، والإعجاب بنظمه وبرامجه- تقف على مفترق هذين الطريقين، فتارة تسمع فى جرائدها من يحبذ القومية، وأخرى تسمع من يهيب بها إلى العالمية، ويدلى كل منهما بأدلته وبراهينه.

اسمعوا يا قوم، أما مبدأ "العالمية" فهو وإن كان مبدأ الإنسانية والسلام والخير العام، إلا أن أمم الغرب وحكومات الاستعمار جعلته شبكة تصطاد بها ضعاف العقول، وتكسر به حدة المقاومة عند الشعوب المظلومة حتى تكون لقمة سائغة لها، وما دامت الأمم الغربية تعتقد فى أمم الشرق الحطة والجهالة والذلة والمهانة، وتترفع عن الاختلاط بها، وتظن أنها من طينة غير طينتها، وكل ما تريده منها أن تمتص دمها، وتنتفع بخيراتها، وتستخدم أبناءها فى قضاء شهواتها السياسية ومآربها الاستعمارية، ما دامت أمم على هذه الروح الفاسدة مع ما بينها هى نفسها من التباغض والتحاقد، فإن مبدأ العالمية عند الشرقيين من أخطر المبادئ على حياة أممهم.

وأما مبدأ "القومية" فهو مبدأ خطر كذلك لا ينتج إلا الشرور والآثام والحروب والتخاصم والتنافس والتزاحم، فإذا كانت كل أمة تدعى أنها سيدة الجميع وتعمل للوصول إلى هذه السيادة، فمتى تهدأ الثورات أو يسود السلام؟ وها نحن نرى نتائج تمسك أمم بهذا المبدأ فى مؤتمراتهم التى لم يفلح واحد منها حتى الآن، ذلك إلى أنه غير طبيعي؛ لأن العالم يسير إلى الوحدة والاتصال، وكل ما صادم الطبيعة لابد أن يزول.

فكلا المبدأين بالنسبة لمصر وللشرقيين ضار غير ملائم لهم، فالعالمية مع جمالها النظري قضاء عليهم، والقومية مبدأ خاطئ من أساسه، فإذا وفقنا إلى تربية النشء وتكوين نفوس الأمة على مبدأ يضمن لنا حب الخير العام والسلام والعمل لفائدة الأمم جميعًا، وذلك كل ما فى العالمية من جمال، ويضمن لنا -مع هذا- التمسك بعزتنا والدفاع عن حوزتنا، والذود عن أوطاننا ومقدساتنا -وذلك كل ما فى القومية من فائدة- كنا قد وصلنا إلى خير كثير، وأخذنا من كلا المبدأين فائدته، وتجنبنا ضرره، وبرئنا من وصمة التقليد، وفضلنا الغرب الذى تلعب به الأهواء والشهوات، ودللنا بعملنا هذا على أسمى معنى من معانى الاستقلال النفسي.

ولا أدرى لماذا نذهب بعيدًا وهذا المبدأ بين أيدينا أرشدنا إليه العزيز الحكيم فى كتابه الكريم، وهو الذى يعلم مصالح عباده، ويرشد خلقه إلى أقوم السبل فى حياتهم المادية والروحية معا، ذلك المبدأ الذى يجب أن ينشأ عليه أبناؤنا، وتتربى عليه نفوسنا، هو مبدأ "الأخوة الإسلامية"، الأخوة الإسلامية التى قررها القرآن الكريم فى قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾[الحجرات: 10]، وقررها النبى صلى الله عليه وسلم فى قوله: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام ماله ودمه وعرضه" رواه الستة إلا النسائي، وورد بها كثير من الآيات والأحاديث.

إننا إذا تمسكنا بهذا المبدأ قويت رابطتنا النفسية، وقويت رابطتنا بالأمم الشرقية، وعصمتنا العقيدة من الاستكانة للغاصب، والخنوع للذل والاستعباد.

وقد يقول قائل: إن الأمة الواحدة من أمم الإسلام تضم عناصر مختلفة تدين بغير دين الإسلام، فلا يوجد بين أفرادها إلا الجنسية القومية.

والجواب على ذلك: إن سماحة الإسلام تجعل بره وصلته تتسع لأبناء قومنا وإن كانوا على غير ديننا كما قال تعالى: ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إليهم إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[الممتحنة: 8]، بل إن تعاليم الإسلام تقضى على أبنائه أن يكونوا مع أهل التعاقد معهم سواسية، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم.

إننا إذا جعلنا مبدأ الأخوة الإسلامية هو مبدأ التربية عندنا وأساس مناهجنا ونظمنا خدمنا أنفسنا، وخدمنا العالم الذي يسير إلى الإسلام بخطوات واسعة، وخدمنا الحضارة والمدنية اللتين لن تجدا دينًا يتمشى معهما ويكمل ما نقص من مظاهرهما غير الإسلام، وبنينا الجيل القادم على أقوى دعامة، وأمتن أساس، فلنكن شجعانًا فى التحرر من نير التقليد الأجنبي ولو مرة واحدة(24).

 

ناحية واحدة لا تكفي

الأمة التى تجتاز دور انتقال خطير والتي تريد أن تركز حياتها المستقبلة على أساس متين من أسس الرقى والتقدم، وتنتفع ببوادر النهوض واليقظة -كأمتنا- الآن لا يكفيها أن تعالج ناحية واحدة من نواحي الإصلاح، بل لابد لها من أن تتناول كل النواحي بالتقويم والتجديد حتى يقوى بعضها بعضًا؛ فالناحية الاجتماعية والناحية الاقتصادية والناحية الخلقية والناحية الأدبية الفنية والناحية الفكرية العلمية والناحية السياسية والقانونية كلها فى حاجة إلى أن يشملها منهاج المصلح إذا شاءت الأمة أن تظفر بنهضة متناسقة لا اضطراب فيها ولا قصور.

وقد أثرت عوامل الانتقال فى كل هذه النواحي فى الأمم الشرقية، فواجب المصلحين أن يعنوا بها جميعًا، وألا تشغلهم ناحية عن ناحية.

إن النظم الاجتماعية فى الشرق الآن مضطربة متذبذبة لا شرقية ولا غربية، فنظام الأسرة ونظام المدرسة ونظام العادات والآداب العامة حتى المقابلة والمحادثة والتزاور والتحية وأكبر من ذلك وأصغر لا قاعدة لها ولا أساس تجرى عليه فيها، فهناك المتدين المتشدد، وهناك الإباحي المتهتك، وهناك المبالغ فى المحافظة على العادات الموروثة والتقاليد، وهناك الهازئ الساخر بها، وليس فى البلد "عرف اجتماعي عام" يقف كل واحد عند حده ويحدو الناس إلى فكرة أساسية مشتركة تملى عليهم نظامًا متحدًا تصطبغ به الأمة وتمتاز.

وإن الناحية الاقتصادية عندنا علة العلل؛ فالديون الأهلية تأخذ بخناق الأفراد والأسر الكبيرة ونظم البنوك ومواد القانون التجاري وإباحة الربا كلها شواظ من نار مسلط على التجار والزراع والملاك والوارثين يقضى على ما ورثوا، وينقل ذلك كله إلى اليد الأجنبية، ويثقل كاهل البلاد بعبء فادح، وإن مما يدمى القلب أن تعلم أن الدَّين الأهلي لو وزع على أرض مصر المنزرعة لخص الفدان الواحد منها ما يزيد على سبعين جنيهًا فى المتوسط، ومعنى هذا أن أرض مصر المزروعة كلها دين لغير المصريين، أو ملك لهم بعبارة أخرى.

والشركات الأجنبية والبضائع الأجنبية والكماليات الأجنبية والخمور الأجنبية والنساء الأجنبيات والسماسرة الأجانب عوامل مدمرة للثروة الوطنية، وهي عقبة كئود فى سبيل النهوض الاقتصادي، وسبب كبير فى كثرة العاطلين من الأيدي القادرة على العمل، وفى استنزاف الصُّبابة التى تبقى بأيدي الوطنيين من المال أو العقار.

أما الناحية الخلقية فقد انهدمت أصولها فى النفوس، وتحطمت قواعدها وقوانينها، وضل الناس طريق الخلق الفاضل فى كل بيئة وكل مجتمع وكل مكان، وأصبحت ترى مظاهر هذا الاضطراب الخلقي والفساد النفساني فى كل مظهر من مظاهر حياة الأمة.

أنفة وكبرياء من الرؤساء والمسئولين على الفقراء والمستضعفين حيث يحمد التواضع واللين، وذلة وصغار من هؤلاء المتكبرين أمام المعتدين الجبارين حيث تمتدح العزة وتحمد الكرامة وتكون الشجاعة فى الحق أفضل ما تتحلى به إنسانية إنسان، وتهتك وإباحة ومجون وخلاعة ولذائذ وشهوات ومتع وسهرات حيث يجر كل ذلك الوبال على رءوس الوادعين الآمنين الفضلاء، الذين تحجزهم فضيلة أنفسهم عن غشيان المنكر أو اقتراف المآثم وغش وخداع وكذب وجبن وخور وخلف وأثرة وأنانية وإهمال وتضييع، وقل غير ذلك كثير مما فشا بيننا وذاع فينا وقضى على فضائلنا الشرقية وأخلاقنا النبيلة، التى كانت كل عدتنا وسر عزتنا وأس قوتنا وجمال حياتنا وحصن منعتنا وإنما الأمم الأخلاق، وإن أعداءنا قد نالوا منا بضعف أخلاقنا أضعاف ما نالوا بقوتهم وجبروتهم ونارهم وحديدهم، وإنهم كذلك قد تمكنوا من أمرنا بقوة أخلاقهم أكثر مما مكنت لهم فى ديارنا قوتهم المادية، تلك حقائق إن لم يرها بعض الناس اليوم فسيراها غدًا يوم يكون تاريخ الاجتماع هو الحكم الفصل.

وإن الناحية التعليمية الفكرية فيها هذا الاضطراب نفسه؛ فنحن بين محافظ شديد المحافظة لا يبغى بالقديم بديلاً، وبين متحلل إلى أقصى حدود التحلل يريد التجديد فى كل شىء، وبين متوسط يحاول التوفيق ولا يجد سبيله، ولابد من ميزان يزن كل شىء ويأخذ من كل شىء أحسنه، ويحمل الأمة على سياسة معينة توصلها إلى هذا الحسن الجميل.

وقد أغنتنا الصحف السيارة عن الإفاضة فى شأن الناحية السياسية، وكلنا بأمرها جد عليم.

هذا تصوير مختصر مصغر لأثر طور الانتقال فى مظاهر حياة أمتنا.

وإنك لتعجب حين ترى اهتمام المصلحين والرؤساء وجهود القواد والزعماء ومن ورائهم تيار الأمة العامة قد اتجه كل ذلك إلى ناحية واحدة لا يفكر فى غيرها إلا لمامًا ولا يعرض لسواها إلا اضطرارًا، تلك هى الناحية "السياسية"، فالناس جميعًا لا يعنون بغير شئون السياسة، ولا يتحركون إلا باسم السياسة، ولا يفكرون إلا فى الإصلاح السياسي، وكلما حدثت إنسانًا فى بقية شئون الأمة كان جوابه: إن البلاء السياسي أصل هذا الفساد، فمن الواجب أولاً أن نقضى على هذا الوباء السياسي، ثم بمجرد انتهاء قضيتنا انصرفنا إلى بقية الإصلاحات، ثم يدلى لك بحججه وبراهينه.

هذا كلام وجيه فى جملته وله حظه من النظر والفكر، وحقيقة إن أصل البلاء هذا الوباء السياسي الذي بلينا به، ولكن هذا القائل نسى أن خصم الأمة السياسي لم يتمكن من سياستها هذه السياسة إلا بعد أن أضعف أخلاقها، وكبلها بالقيود الاقتصادية الثقيلة، وذبذب أفكار أبنائها وعقائدهم وتركهم فوضى لا يعرفون جهة يوجهون إليها آمالهم، ولا مطمحًا تسمو نحوه نفوسهم، ونحن إذا أردنا أن نعمل للخلاص دون علاج هذه الحال طال بنا الأمد، وكنا فى كل مرة خاسرين، وكان هو الرابح، والتجارب تؤيد ذلك.

فمن خدمة القضية السياسية والعمل لها بل أكاد أقول: إن هذا هو الطريق الوحيد المنتج أن نعالج نواحي الإصلاح الأخرى ونضع لها دواء ناجعًا حاسمًا فى الوقت الذي يعمل فيه السياسيون للناحية السياسية الصرفة، فنتقدم خطوات فى كل ميدان.

ومن الغريب أن هذه الخطة -خطة تربية المناعة الخلقية، وفك القيود الاجتماعية والاقتصادية عن عنق الأمة- كانت السياسة التى اتجهت إليها نية زعيم كبير من زعماء الشرق الذين لهم فى نفوس أبنائه أكبر الأثر فى أخريات أيامه، وقد عرف عنه أنه جمع معاونيه الرسميين وغير الرسميين وأدلى إليهم بهذه الخطة الحازمة الحكيمة، ولولا أن القضاء عاجله لمس الناس آثارها واضحة جلية فى كل مناهجه.

خلاصة هذه الكلمة أن انصراف الأمة جميعًا إلى ناحية واحدة هى الناحية السياسية وإهمال بقية النواحي ليس من الحكمة فى شىء، ولسنا نقول بذلك: أهملوا قضيتنا السياسية -وهي مطمحنا، ولا دعوا الغاصبين يعبثون بحقوق البلاد المقدسة. كلاَّ فما إلى ذلك قصدنا، ولكنا نقول: ضعوا للنهضة منهاجًا شاملاً يصلح الأخلاق والاجتماع والفكر والاقتصاد، ويحقق آمال الوطن، ويسير بالأمة إلى الكمال.

ولعلنا إن فتشنا عن هذا المنهج لم نجده فى غير القرآن الكريم، وفى غير مبادئ الإسلام القويم، فإلى "منهج القرآن" أيها الزعماء والمصلحون(25).

 

أمة فى ميدان الجهاد

ليست أمة أولى من أمم الشرق الإسلامي بأن تكون فى ميدان الجهاد، فقد دنت الآونة، وأزفت الآزفة، ولا ندرى لعل الساعة تكون قريبًا، فقد جاء أشراطها، وهذه نذرها تتوالى سراعًا وتمر تباعًا، وهي فرصة قد تكون لنا وقد تكون علينا، فهي إن انتهزناها وأحكمنا الانتفاع بها لنا نغسل فيها عار العبودية، ونتنسم نسيم الحرية، ونرد بها حقًا مغصوبًا ومجدًا مسلوبًا، وهي إن بغتتنا على غرة وأخذتنا ونحن فى غفلة علينا تعركنا بثقالها ويكون عليها غنمها ولغيرنا غرمها.

فأمم الشرق فى مركز حرج دقيق وليس أولى منها باليقظة والتبصر والحذر والاستعداد، فكل أمة من أمم الشرق أمة مجاهدة، ولقد زعموا أننا كذلك فهل هذا صحيح؟

أستطيع أن أتصور المجاهد شخصًا قد أعد عدته، وأخذ أهبته، وملك عليه الفكر فيما هو فيه نواحي نفسه وجوانب قلبه، فهو دائم التفكير، عظيم الاهتمام على قدم الاستعداد أبدًا، إن دعي أجاب وإن نودى لبى، غدوه ورواحه وحديثه وكلامه وجده ولعبه لا يتعدى الميدان الذى أعد نفسه له، ولا يتناول سوى المهمة التى وقف عليها حياته وإرادته يجاهد فى سبيلها، تقرأ فى قسمات وجهه، وترى فى بريق عينيه، وتسمع من فلتات لسانه ما يدلك على ما يضطرم فى قلبه من جوى لاصق وألم دفين، وما تفيض به نفسه من عزمة صادقة وهمة عالية وغاية بعيدة، ذلك شأن المجاهدين من الأفراد والأمم، فأنت ترى ذلك واضحًا جليًا فى الأمة التى أعدت نفسها للجهاد، تلاحظه فى مجالسها وأنديتها، وتراه فى أسواقها وشوارعها، وتستشعر فى مدارسها وبيوتها، وتستجليه فى شبابها وشيبها ونسائها ورجالها، حتى ليخيل إليك أن كل مكان ميدان وكل حركة جهاد.

أستطيع أن أتصور هذا؛ لأن الجهاد ثمرة الإدراك يولد الشعور وينفى الغفلة، والشعور يبعث على الاهتمام واليقظة، والاهتمام يؤدى إلى الجهاد والعمل، ولكل ذلك آثاره ومظاهره.

أما المجاهد الذي ينام ملء جفنيه، ويأكل ملء ماضغيه، ويضحك ملء شدقيه، ويقضى وقته لاهيًا لاعبًا عابثًا ماجنًا فهيهات أن يكون من الفائزين، أو يكتب فى عداد المجاهدين.

والأمة التى ترى كل حظها من الجهاد كلمات تقال، أو مقالات تكتب، ثم إذا فتشت قلوب القوم وجدتها هواء، وإذا خبرت اهتمامهم بالأمر رأيته هباء، وانغمسوا فى غفلة لاهية ونومة عابثة، فمحالُّهم وأنديتهم ومجامعهم وبيوتهم لا ترى فيها إلا لهوًا ومجونًا وعبثًا ودعابة ولعبًا وتسلية وقتلاً للوقت فى غير فائدة، كل هم أحدهم متعة فانية، أو لذة زائلة، أو ساعة مرحة، أو نكتة مستملحة، فهذه الأمة إلى الهزل أقرب منها إلى الجد، بل لا حظ لها فى الجد أبدًا.

فأين نحن الآن من ميدان الجهاد؟ إن أردت أن تعرف فارقب الشواطئ والمصايف والمرابع والمخارف والقهاوى "والبارات" والمراقص "والصالات" والمجامع والمنتديات فهناك المجاهدون.

يا قومنا اسلكوا سبيلاً غير هذه، أو فدعوا علم الجهاد فسوف يأت ﴿اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ﴾[المائدة: 54](26).

 

سؤال؟

"ما السبب فى أننا نرى الشعوب المسلمة مستعمرة ذليلة، ونرى ما استقل منها أخذ يندفع فى طريق الخروج على التقليد والأخذ بما يسمونه التفرنج"؟ هذا هو السؤال الذي وجهه إلىّ صديق أعلم عنه التمسك بدينه والغيرة على أمته، ألقاه فى لهجة تنم عن ألم دفين ويأس من صلاح حال المسلمين، وما عرفت عنه من قبل إلا قلبًا مفعمًا بالأمل مغمورًا بالرجاء.

فأما أن المسلمين الآن مستعمرون أذلاء فليس لتعاليم دينهم فى ذلك جريرة، وعلم الله وشهد التاريخ أنهم يوم تمسكوا بها سادوا وشادوا وعمروا الأرض وأناروا للإنسانية طريق الفلاح، وأسعدوا الدنيا بحضارة لم تزل وستظل بهجة الحياة وحديث الدهر وعنوان الفضيلة، بعد ذلك تنكروا لدينهم وجهلوه وأهملوه ولبسوه كما يلبس الفرو مقلوبًا، وأمامك الإسلام بتعاليمه القرآنية وسماحته الفطرية وغرره النبوية، وأمامك ما يعيث به هؤلاء القوم ويسمونه إسلامًا أتراه يمت إلى الإسلام الصحيح بصلة قليلة أو كثيرة؟ خذ أى تشريع وتشريع الإسلام القويم وانظر بعد ذلك هل كان حظ قومنا منه إلا أنهم درسوه وحللوه وقسموه وحددوه وذرعوه وشبروه ثم تركوه وفارقوه؟ ومن ظريف المفارقات المبكية أن تدخل معهدًا من معاهد طلب العلم الديني فى مصر فترى الطلبة يتذكرون دروسهم، وفيهم من يتذكر أحكام الصلاة فيؤذن للوقت وتقام الصلاة وهم جلوس يتذكرون أحكام الصلاة؟! فحظ هؤلاء وأمثالهم من الإسلام أنهم درسوا الإسلام أما أنهم أسلموا فذلك ما لا أستطيع أن أسلمه لهم ولأمثالهم.

الإسلام دين يتسامى بنفس المسلم إلى أعلى حدود الكرامة، ويجعل له السيادة والعزة، فهل فهم المسلمون هذا وعملوا به، أم استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير فصار إسلامهم ذلاً ومهانة وضعفًا واستكانة؟

الإسلام ينادى بالجهاد فى سبيل الحق ويبوئ المجاهدين مقام درجات الدين، فصرفه المسلمون عن معانيه السامية إلى معانيه الدنية، وقنعوا من الجهاد بجهاد النفس كما وضعوا لأنفسهم لا كما أمرهم الله أن يكونوا..

الإسلام خلق وفضيلة وإيمان ورجولة فأين أخلاق المسلمين من تعاليم هذا الدين؟ يطول بي القول إذا أوردت لك ما يمر بك الدقيقة تلو الدقيقة من مفارقات القوم وخروجهم على ما سن لهم هذا الدين الحنيف من أخلاق.

كل خير فى تعاليم الإسلام، فيوم كان المسلمون مسلمين كانوا سادة، ويوم نبذوا هذا الإسلام وشرعوا لأنفسهم ما لم يأذن به الله وصلوا إلى ما هم فيه وسيظلون كذلك حتى يعودوا إلى دينهم ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾[الرعد: 11]، وصدق رسول الله القائل: "إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه حتى ترجعوا إلى دينكم".

وأما أن الشعوب التى استقلت اندفعت فى طريق نبذ التقليد والأخذ بالتفرنج فذلك لجهل قادة النهضة بتعاليم الإسلام وبعدهم عنها، ولرغبتهم فى تقليد الأمم الغربية ومسايرتها، ولضعفهم عن الوقوف أمامها والاعتزاز بما تراه هى حربًا عليها؛ ولأن كثيرًا منهم لا يمت إلى الشرق إلا بصلة المولد، وكثير منهم حرم حتى هذه الصلة، وإنما هم شرقيون مولدًا تربوا فى أحضان الغرب وكرعوا من بؤرة ثقافته وعاداته وأخلاقه وأفكاره، ثم رمى بهم الشرق فكانوا أشد عليه من الأجانب، ولأن المتدينين الذين صادفوا هؤلاء كان كثير منهم سبة على الدين، ومعوانًا لهؤلاء على هدمه ومحاربته فى أشخاصهم وأشخاص أعمالهم التى لا تمت إلى الإسلام الصحيح، فهؤلاء المجددون أحد رجلين: إما ماكر بالإسلام على علم، وإما مخدوع؛ لأنه يجهل تعاليم الإسلام، وكلاهما خطر.

وهم وإن ظهروا بمظهر القوة فى بادئ نهضاتهم فسيكون لذلك الأمر ما بعده، وسيكشف الزمن ما فى ذلك من تزييف.

لو أتاح الله لهؤلاء القادة من يبصرهم الرشد، ويزعهم عن التورط فى مثل هذه المهاوى السحيقة، وتريثوا وأخذوا يسيرون بأمتهم فى طريق تجديد إسلامي صحيح يعود بها إلى كتاب الله وسنة ورسوله لكان لهم فى العالم الآن شأن آخر، ولضمنوا لأنفسهم ولأمتهم نهضة موطدة الأركان ثابتة الدعائم، ولقدموا للإنسانية أجل خدمة تلهج بها الأجيال، وينير سناها ما بين المشرق والمغرب، ولكن حمى الاندفاع شديدة، وسورة التقليد غالبة، وسلطان الشهوات جبار، والأهواء تتجارى بأصحابها كما يتجارى الكلب بصاحبه، وهى تجربة قاسية ستكشف عن مر الثمر، وسيأتي اليوم الذى يعود فيه إلى نصابه، ويأبى الله إلا أن يتم نوره(27).

 

من قواعد الإصلاح

يجب أن يكون الهدف الذي يرمى إليه المصلحون فى العالم الإسلامي الآن واضحًا محدودًا مرتكزًا على أصول وقواعد ذات خطوات ومراحل، وأن الأصول الأساسية فى نجاح الغاية وإنتاج الإصلاح أن نرمى إلى: 

"تجديد حياة الأمم الإسلامية، وتدعيم نهضتها الحديثة على أصول إسلامية خالصة، وإنقاذ العالم كله بإرشاده إلى تعاليم الإسلام".

(1) فأما تجديد حياة الأمم الإسلامية: فمن المعلوم أن هذه الأمم قد مرت عليها من الأحداث والظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية وغيرها ما أفقدها حريتها ومجدها ومظاهر رقيها، وقضى على دولتها وسلطانها، وجعلها آخر الأمم فى كل شىء، وتفصيل ذلك يطول، والداء مشترك والشعور متحد. كل ذلك جرى على هذه الأمم وهي مهد الحضارة، وأم المدنيات، ومنبع العلوم والمعارف، ومهبط النبوات والشرائع. على أنها مع شدة الضغط وقوة القهر لا تزداد على المحنة إلا صلابة، وكأنما تزيد الحوادث حيويتها الخالدة ظهورًا وقوة. هذه الأمم المجيدة لابد أن تعود إليها حريتها ولابد أن يبعث مجدها من جديد، وتتبوأ مركزها بين الأمم، ولابد أن تساهم بنصيب فى رقى الإنسانية حديثًا، كما وضعت لها أصول الرقى قديمًا، ولابد أن يسعد العالم بروحانيتها من بعد كما سعد بها من قبل ﴿وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُّتِمَّ نُورَهُ﴾[التوبة: 32].

(2) وأما تدعيم النهضة على أصول إسلامية خالصة: فمن المعلوم كذلك أن الأمم الإسلامية بعد الحرب العالمية وقفت على مفترق طريقين: طريق المدنية الأوروبية بزخارفها ومظاهرها ومباهجها ومفاتنها ومتعها ونسائها وفضتها وذهبها، وطريق الحياة الروحية التى نبتت فى الشرق وأورقت فى الشرق وغذتها الفلسفات وباركتها النبوات، وكان ختام ذلك كله الإسلام الذي جعله الله رحمته الكبرى للعالمين. فأما بعض الأمم الإسلامية فقد خفي عليها جمال دينها، وأحاطت بها ظروف أبعدتها عن أصوله وفضائله، فتنكرت لعقائدها، ولبست أرواحًا غير أرواحها، واندفعت فى تيار التقليد الأوروبي لا تلوى على شىء، حتى صارت شبه أوروبية فى كل شىء، قوم تم لهم ذلك، وقوم على إثرهم يسيرون، والموجة تطغى والسيل ينهمر.

ومن وراء هؤلاء أمم محيرة لا تدري فى أى الطريقين تسير؟!

على أن الدعاية الأوروبية قد نجحت تمامًا فى غزو الفكرة الإسلامية، وإحلال غيرها من الفكر المدنية محلها فى مظاهر الحياة العامة، ولم تبق بين المسلمين إلا قشورًا لا تنفع، ففي السياسة وفى القانون وفى الخلق وفى الاجتماع زاحمت الفكرة الإسلامية أفكارًا أخرى أضعفت قوتها وأذهبت ريحها وصرفت الأبصار عنها.

ومهمة الإخوان المسلمين أن يردوا الأمة إلى أصول الإسلام، وأن يحرروا العقول والأفكار من هذا التعبد المخجل للأفكار الأوروبية البحتة. إن مدنية أوروبا ليست فيها من ناحية جمال إلا ناحيتها العلمية، وهذه لا يأباها الإسلام بل يحض عليها ويأمر بها، وما عدا ذلك فنحن فى غنى عنه وفى الإسلام خير منه لو كشف المسلمون عن أسراره وفهموه فهمًا صحيحًا، ذلك ما ننادى به ولله الأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾[الروم: 4-5].

(3) وأما إنقاذ العالم بإرشاده إلى تعاليم الإسلام: فمن المعلوم كذلك أن الإسلام يوم كانت له الدولة، ويوم سعدت بقبوله الإنسانية، ويوم تولى أبناؤه الغر الميامين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعه بإحسان قيادة العالم باسمه وعلى حكمه ورسمه، استفاض فى الناس الخير وانتشر بينهم الإنصاف والعدل، وتحققت أحلام الفلاسفة، وتساوت طبقات الأمم أمام القانون العادل الرحيم، وتذوقت الدنيا طعم الفضيلة عملية شائعة لا كلامية مسطورة فى بطون الكتب، وكان استعمار الإسلام للدنيا أبرك استعمار عليها، حتى شاد بذلك المنصفون من الأوروبيين أنفسهم.

كذلك كانت الدنيا يوم حكمها الإسلام فى فترة من الدهر يريد الله أن تكون آيته فى كونه وحجته على خلقه إلى يوم القيامة، فلما دالت تلك الدولة وألقيت إلى الغرب مقاليد القيادة فغمر الدنيا بماديته تبدلت الحال غير الحال.

وها أنت ترى آثار هذه المدنية الميكانيكية المادية أتلفت على الناس أرواحهم، وأضوت أجسامهم، وأفسدت أخلاقهم، وأقضَّت مضاجعهم، وأسالت مدامعهم، وأبعدت الهوة بين نفوسهم ومنازلهم ودرجاتهم، فاستفاضت الأحقاد والأضغان، وكثرت المشاكل والإحن، واستعرت الخصومات والفتن، ولم يبق قلب واحد ينعم بالهدوء والسكينة فى أمة من الأمم التى أرسل عليها شواظ هذه المدنية الناري، بل اشتعلت هذه القلوب بنيران الشكوك والأوهام والمطامع والآلام، ولا يزال الناس يكرعون من هذه الكأس، ويتغنون بجمال هذه المدنية رغم انهيار أصولها وتهدم أسسها فى أعز مواطنها، وهذه أصولها السياسية تنهار بالدكتاتوريات، وأصولها الاجتماعية بفشو الآراء والمذاهب المتطرفة، والاقتصادية بهذه الأزمات التى أخذت بالخناق، والفكرية بتسخير العقل البشرى واستغلال نتائج العلم والعرفان -وهما أجمل ما فى هذه المدينة- فى القضاء على المستضعفين والعدوان على الآمنين، وما قيمة علم لا فضيلة معه.

والعلاج الوحيد لإنقاذ الإنسانية وحل مشاكلها "الإسلام" ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾[البقرة: 143](28).

الأمة العربية بين حضارتين

بمناسبة انعقاد مؤتمر الوحدة العربية يتقدم قلم التحرير بهذه الكلمة فى لون الحضارة التى يجب أن تصطبغ بها الأمة العربية فى حاضرها الآمل ومستقبلها الزاهر إن شاء الله.

الرأي العام العربي يذهب فى هذه الناحية مذهبين مختلفين: فمن الناس من يدعو إلى الحضارة الغربية ويحض على الانغماس فيها وتقليد أساليبها "خيرها وشرها، حلوها ومرها، نافعها وضارها، ما يحب منها ما يعاب"، ويرى أنه لا سبيل للنهوض والرقى إلا بهذا "ومن زعم لنا غير ذلك هو خادع أو مخدوع".

ومن الناس من ينفر من هذه الحضارة أشد التنفير، ويدعو إلى مقاومتها أشد المقاومة، ويحملها تبعة هذا الضعف والفساد الذي استشرى فى الأخلاق والنفوس. ولا شك أن كلا الفريقين قد تطرف، وأن الأمر فى حاجة إلى دراسة أعمق وأدق، وإلى حكم أعدل وأقرب إلى الإنصاف والصواب.

لقد وصلت الشعوب الغربية من حيث العلم والمعرفة واستخدام قوى الطبيعة والرقى بالعقل الإنساني إلى درجة سامية عالية، يجب أن تؤخذ عنها وأن يقتدى بها فيها، وهى إلى جانب ذلك قد عنيت بالتنظيم والترتيب وتنسيق شئون الحياة العامة تنسيقا بديعا يجب أن يؤخذ عنها كذلك، وهذه الحقائق لا يكابر فيها إلا جاهل أو معاند، ولكن هذه الحياة الغربية والحضارة الغربية التى قامت على العلم والنظام فأوصلها إلى المصنع والآلة، وجبى إليها الأموال والثمرات، وملكها نواصي الأمم الغافلة التى لم تأخذ فى ذلك أخذها ولم تصنع صنيعها– هذه الحياة المادية الميكانيكية البحتة مع ما صحبها من خصومة حادة بين علماء الدنيا وحراس الدين قد أغفلت هذه الأمم عن أخص خصائص الإنسانية فى الإنسان؛ عن الغرائز ومستلزماتها، والمشاعر ومطالبها، والنفس وعالمها، وطرائق تنظيم ذلك كله وضبطه ضبطا يضمن خيره ويحبس شره، ودفعت بها دفعا عنيفا إلى التبرم بالعقائد والأديان والخروج عليها خروجا قاسيا شديدا وإقصائها إقصاء تاما عن كل نواحي الحياة الاجتماعية العملية.

فأسقطت الحياة الغربية من حسابها جلال الربانية، والتسامي بالنفس الإنسانية، والاعتقاد بالجزاء الأخروي. واضطربت بذلك بين يديها المقاييس الخلقية وانطلقت غرائز الشر من عقالها تحت ستار الحرية الشخصية أو الاجتماعية، ونجم عن ذلك أن تحطمت الفضائل فى نفوس الأفراد، وتهدمت الروابط بين الأسر، وفسدت الصلات بين الأمم، وصارت القوة -لا العدالة- شريعة الحياة، واندلعت نيران هذه الحرب فتذوق حرها المحاربون والآمنون على السواء.

وقد أدرك هذه الحقيقة أخيرا ساسة الأمم الغربية أنفسهم فهبوا ينادون بوجوب العناية بالشئون الروحية، ويتغنون بالمثل الخلقية العليا، ويهيبون بالحكومات أن تصبغ المدارس ومناهج التعليم والتربية بعد الحرب بهذه الصبغة، وأن تعود بالشعوب إلى الأديان والعقائد الموروثة. وفى الكتاب الأبيض الذي أصدرته الحكومة الإنجليزية عن التعليم بعد الحرب، وفى تقارير الأحزاب التى وضعت فى ذلك، وفى مناقشة مجلس العموم واللوردات لهذا الكتاب من هذا الشيء الكثير.

ونحن العرب قد ورثنا مفاخر هذه الحياة الروحية ومظاهرها، فأقطاب الرسالات العظمى وأنبياؤها المطهرون فى أوطاننا نشأوا وعلى أرضنا درجوا، ورموز الديانات المقدسة لا زالت شامخة باذخة فى ديارنا تهوى إليها قلوب المؤمنين بالكتب والرسل فى أنحاء الأرض 

وهذا القرآن الكريم الذي ورثناه -نحن العرب- فخلد لغتنا، ورفع الله به ذكرنا، وخاطب به نبينا فقال: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾[الزخرف: 44]. كما خاطبنا فقال: ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾[الأنبياء: 10]. هذا القرآن قد حدد أهداف الحياة الروحية تحديدا دقيقا مبسطا بعيدا عن الأوهام الخيالية والفروض الفلسفية، ووفق بينها وبين مطالب الحياة العملية توفيقا عجيبا لم يستقم لغيره من الكتب، ولم يتح لسواه من مناهج الحياة ونظمها.

فإذا كنا -نحن العرب- نملك هذه الثروة الروحية الجليلة التى تصل القلب الإنساني بجلال الربانية فتملؤه بذلك إشراقا وريّا، وتكرم فى الإنسان معنى الإنسانية فترفع فى عينه قيم الفضائل العليا، وتذكر الناس بجزاء الآخرة فتسموا بهم عن الوقوف عند أغراض الحياة الدنيا، وتوثق بين بنى الإنسان رابطة من الأخوة لا تمتد إليها يد التفريق والبلى، وتقيم ميزان العدالة الاجتماعية بين مختلف الطبقات على أساس من التعاون والرضى، وتضع لأصول المشكلات حلولا ترتكز على الحق لا على الهوى. إذا كنا نملك ذلك كله، فإن من العقوق لمجدنا وكتابنا وللإنسانية كذلك ألا نتقدم للدنيا بهذه الدواء الواقي والعلاج الشافي.

ولهذا نعتقد أن من واجب الأمة العربية أن تعمل على الاستمساك بقواعد حضارتها التى تقوم على ما ورثت من فضائل نفسية وأوضاع أدبية ودوافع روحية، على أن نقتبس من الحضارة الغربية كل ما هو نافع مفيد من العلوم والمعارف والصناعات والأساليب، وعلى أن ندعو أمم الغرب إلى الانتفاع بهذا الميراث الروحي الجليل، ونبصرها بما فيه من خير، ونذكرها بما تحتويه من نفع وضر، وبذلك تقوم الصلة بيننا وبينها على أساس من التعاون المشترك يتآزر فيه العقل والقلب على إنقاذ الإنسانية واستقرار الأمن والسلام.

وقد يقال إن هذا المعنى ينحدر بالعاملين له والداعين إليه إلى معنى من التعصب الديني أو التحزب المذهبي يمزق وحدة الوطن المجتمع ويفرق بين المسلم وغير المسلم، وهذا وهم خاطئ؛ فنحن إنما ندعو إلى الفضائل الروحية والمثل الدينية العليا التى يدعو إليها أهل الأديان جميعا، كما ندعو إلى الانتفاع فى حياتنا العملية بهذا التراث القرآني المجيد الذي هو للمسلم دين ونظام، ولكل عربي قومية ومجد، وللدنيا بأسرها طمأنينة وسلام(29).

 

العروبة والإسلام

نزل القرآن الكريم عربيا، واختير نبى الإسلام العظيم عربيا، وفى هذا الدين الإسلامي معنى من معاني العروبة الخالصة: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ*نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ*عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ*بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُّبِينٍ﴾[الشعراء: 192-195]. ففعل فى نفوس الأمة العربية فعل السحر، وصقل جواهر الخلق الحر من نفسها، فجعل استقلالها ثورة على الخرافة، وجهادها حربا على الباطل، وشجاعتها نصرة فى جانب الحق، وكرمها وسخاءها بذلا فى سبيل الله العلى الكبير، وامتد بذلك رواق العروبة الصريحة من قلب الجزيرة حتى بلغ قرني الدنيا، واستظل به أمم وشعوب لم تكن تدرى ما الكتاب ولا الإيمان، واتسع بذلك معنى العروبة وانتقل الدم العربي الصافي إلى عروق كريمة فارت به وغلا فيها حتى حول كل شىء يتصل بحياتها عربيا خالصا، فلم تصبح الأمة العربية هذه الآلاف تضمها رمال الصحراء وتحجبها حدود الجزيرة، ولكنها صارت ثمانين مليوناً من المسلمين من فلذات كبد الإنسانية تحتل قلب الدنيا من الخليج الفارسي إلى المحيط الأطلسي بعد مراكش، ويظاهرها ويمدها ثلاثمائة مليون من المسلمين يفكرون بعقلها ويشعرون بوجدانها ويؤمنون بالوحدة القوية الحقيقية التى تربطهم بها، ويعتقدون أن قوتها قوة لهم وضعفها ضعف لهم، وأن المصلحة العامة إلى جانب العقيدة الروحية قد جعلت من الجميع أمة واحدة مشتركة الآلام والآمال.

وكان من عجيب صنع الله لهذا الإسلام أن ضمنه معنيين كريمين عظيمين: 

أولهما- أن جعله رسالة المبادئ الإنسانية السامية التى لا يقوم أمر السموات والأرضين ومن فيها إلا عليها: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ﴾[المؤمنون: 71] فهذا الإسلام يدعو أول ما يدعو إلى الربانية وحسن الصلة بالله، ثم إلى الإنسانية والتسامي بحقيقة الإنسان، ثم إلى العالمية وتأكيد معنى الأخوة والرحمة والصلة بين الناس، وكل ما جاء به من فرائض ونوافل وعبادات وأعمال وأقوال وأحكام إنما يقصد به تثبيت هذه المعاني العليا فى نفوس الناس حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.

وثانيها- أن هذا الدين العالي قد أسس على معنى من التسامح والسعة والصفح والغفران تجعله أمنا وسلاما وقسطا ومعدلة مع الذين لا يؤمنون به ولا يدينون له، على صورة لم ير التاريخ لها مثيلا، فهو يفرض على أتباعه أن يؤمنوا بكل نبى سبق وبكل كتاب نزل، وهو يثنى على الأنبياء والكتب والحواريين والرسل والأمم التى سبقته والمؤمنين ممن تقدموه ويدعو المؤمنين به إلى أن ينهجوا نهجهم ويأخذوا أخذهم: 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أنصاري إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ﴾[الصف: 14].

والمسلم يرى فى كتابه هذه المعاني واضحة لا لبس فيها ولا غموض.

فهو يقرأ عن موسى عليه السلام: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهًا﴾[الأحزاب: 69]. وعن توراة موسى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ﴾[المائدة: 44]. وعن شعب موسى وأمة موسى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِى إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ*وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأمْرِ﴾[الجاثية: 16-17].

كما يقرأ عن المسيح عليه السلام: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِى الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِين *وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾[آل عمران: 45-46]. وعن إنجيل عيسى: ﴿وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ﴾[المائدة: 46]. وفى شعب عيسى: ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾[المائدة: 82].

يقرأ مثل هذا الثناء على الأنبياء السابقين جميعا والكتب السابقة كلها: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾[البقرة: 285].

ولا يقف هذا الدين الإسلامي الحنيف عند هذا الحد، بل يفتح باب التعاون العملي والاتصال العقلي بين المسلمين وغيرهم من المخالفين لهم فيقول: ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ﴾[المائدة: 5]. وانظر إلى مدى التسوية هنا -حتى فى العبارة- لترى كم كان هذا الدين ساميا متساميا راغبا أشد الرغبة فى تمهيد الطريق للتعاون والامتزاج والاتحاد. وبهذين المعنيين استطاع الإسلام أن يقدم للدنيا حضارة تقوم على الفضائل النفسانية والعزائم العملية، وأن يقيم فى التاريخ إمبراطورية لم يمنعها اختلاف الأجناس والعقائد من أن تكون مثال العدالة والتسامح.

ومن هنا كان على العرب جميعا مسلمهم وغير مسلمهم أن يعتزوا بالإسلام ويفخروا به ويشيدوا بذكره ويتعصبوا له، وان يعتبروا ثقافته وتشريعه وحضارته هى اللون الأساسي الذي يجب أن تصبغ به حياتهم العملية.

فأما المسلمون فلأنه دينه وقومتيهم ومفخرتهم الخالدة ومعجزتهم الباقية. وصدق الله العظيم: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾[الزخرف: 44]. ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾[الأنبياء: 10].

نكتب هذا بمناسبة ما يتردد كثيرا من وجوب إبعاد المعاني الإسلامية عن كل ما يتصل بالأوضاع العامة(30).

المصادر

  1. مجلة المنار، الجزء الخامس، المجلد (35)، 1جمادى الثانية 1358ﻫ- 18 يوليو 1939م، ص(34-41).
  2. مجلة الفتح، العدد (255)، السنة السادسة، 2صفر 1350ﻫ- 18يونيو 1931م.
  3. مجلة النذير، العدد (21)، السنة الأولى، 23 شعبان 1357ﻫ- 17 أكتوبر 1938م، ص(3-4).
  4. مجلة النذير، العدد (9)، السنة الثانية، 27 صفر 1358ﻫ- 18 أبريل 1939م، ص(3-4).
  5. مجلة النذير، العدد (14)، السنة الثانية، 3 ربيع الثاني 1358ﻫ- 23مايو 1939م، ص(3-5).
  6. مجلة المنار، الجزء الخامس، المجلد (35)، 1جمادى الثانية 1358ﻫ- 18 يوليو 1939م، ص(34-41).
  7. مجلة المنار، الجزء السادس، المجلد (35)، رجب 1358ﻫ- أغسطس 1939م، ص(67-71).
  8. مجلة المنار، الجزء العاشر، المجلد (35)، شعبان 1359ﻫ- سبتمبر 1939م، ص(16-19).
  9. مجلة الإخوان المسلمين، العدد (32)، السنة الثانية، 15 ربيع الثاني 1363ﻫ- 8 أبريل 1944م، ص(3-4).
  10. مجلة الإخوان المسلمين، العدد (58)، السنة الثالثة، 20 جمادى الأولى 1364ﻫ- 3 مايو 1945م، ص(3-4).
  11. مجلة الإخوان المسلمين، العدد (61)، السنة الثالثة، 4 رجب 1364ﻫ- 14 يونيو 1945م، ص(3-4).
  12. مجلة الإخوان المسلمين، العدد (62)، السنة الثالثة، 18رجب 1364ﻫ- 28يونيو 1945م، ص(3).
  13. مجلة الإخوان المسلمين، العدد (67)، السنة الثالثة، 15 رمضان 1364ﻫ- 23 أغسطس 1945م، ص(3-4، 20).
  14. مجلة الإخوان المسلمين، العدد (69)، السنة الثالثة، 29 رمضان 1364ﻫ- 6 سبتمبر 1945م، ص(3-4).
  15. مجلة الإخوان المسلمين، العدد (70)، السنة الثالثة، 14 شوال 1364ﻫ- 20 سبتمبر 1945م، ص(18).
  16. مجلة الإخوان المسلمين، العدد (98)، السنة الرابعة، 14 جمادى الأولى 1365ﻫ- 16 أبريل 1946م، ص(13).
  17. جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (17)، السنة الأولى، 22 جمادى الآخرة 1365ﻫ- 23 مايو 1946م، ص(1).
  18. جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (146)، السنة الأولى، 28 ذو القعدة 1365ﻫ- 23 أكتوبر 1946م، ص(1).
  19. جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (327)، السنة الثانية، 7 رجب 1366ﻫ- 27 مايو 1947م، ص(1).
  20. الاعتصام، العدد الخامس، السنة العاشرة، رمضان 1367، يوليو 1948، ص(16-17).
  21. الاعتصام، العدد السادس، السنة العاشرة، 23شوال 1367- 28 أغسطس 1948، ص(4).
  22. مجلة الفتح، العدد (134)، السنة الثالثة، 27شعبان 1347ﻫ- 7فبراير 1929م، ص(1-2).
  23. مجلة الفتح، العدد (145)، 15ذو القعدة 1347ﻫ/ 25أبريل 1929م، ص(1).
  24. جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (8)، السنة الأولى، 11ربيع الثاني 1352ﻫ/ 3أغسطس 1933م، ص(1-3).
  25. جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (30)، السنة الثانية، 21شعبان 1353ﻫ/ 29نوفمبر 1934م، ص(3-6).
  26. جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (18)، السنة الثالثة، 14جمادى الأولى 1354ﻫ/ 13أغسطس 1935م، ص(3-4).
  27. جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (23)، السنة الثالثة، 19جمادى الثانية 1354ﻫ/ 17سبتمبر 1935م، ص(3-5).
  28. جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (47)، السنة الرابعة، 26ذو الحجة 1355ﻫ/ 9مارس 1937م، ص(1-3).
  29. مجلة الإخوان المسلمين، العدد (55)، السنة الثانية، 3 ربيع ثان 1364/ 17 مارس 1945، ص(12).
  30. الشرق الجديد، العدد (3)، السنة الأولى، جمادى الثانية 1364- يونيو 1945، ص(31-32).
المقال التالي نماذج من شرح الحديث النبوي للإمام حسن البنا
المقال السابق كتابات الإمام حسن البنا حول سبل إصلاح الأمة الإسلامية