الخلفية التاريخية للرسالة
كانت المراحل التي رسمها الإمام الشهيد حسن البنا لمسيرة جماعة الإخوان المسلمين تتكون من التعارف والتكوين والتنفيذ وحدد لكل مرحلة فترة زمنية، مع المحافظة على السير بكل المراحل جنبا إلى جنب وعدم توقف المرحلة السابقة التي انتهت فترة زمنها.
وفي الفترة الثانية وهي مرحلة التكوين والتي بدأت مع عام 1939م رأى الإمام البنا أن يحذوا بالجماعة في إطار جديد من العمل والعناية به خاصة الجانب التربوي، خاصة بعدما دخلت الدعوة في طور المحن والاضطهاد وهو طور جديد تعرضت له الجماعة، ومن ثم جاءت هذه الرسالة لتعبر عن المرحلة الجديدة.
صدرت الرسالة عبر صحف الإخوان أول ما صدرت في أغسطس 1942م وظلت تدرس وسط الإخوان حتى أضاف عليها الإمام البنا بعض الإضافات والتغييرات في أكتوبر 1948م، أي قبل حل الجماعة بشهرين فقط. وقد طبعت على ذلك في الكتب.
وعالج فيها الإمام البنا خصائص الدعوة، بين كونها دعوة ربانية وعالمية وأنها ليست دعوة قومية ولا حزبية، كما أنه تناول الشبهات التي تثار حول دعوة الإخوان، والعقبات التي تحيط بها، وأوضح السبيل للنجاة والثبات أمام هذه العقبات.
وإلى نص الرسالة كاملة
هذا طور جديد في دعوة الإخوان المسلمين، أحببت أن أتحدث إلى القراء عنها فيه.. فقد نشأت هذه الدعوة والناس في انصراف عن الفكرة الإسلامية، وفى إعجاب بالفكرة الغربية المادية، فأخذت طريقها في هدوء إلى قلوب الطبقة الأولى من الناس، طبقة الجماهير المؤمنة السليمة العقائد والصدور، وظلت في نفوسهم أمنية عزيزة، وعاطفة متوقدة كريمة، وشعلة مشرقة منيرة، على حين كانت جمهرة المفكرين وأهل الرأي والتوجيه يروجون للفكرة الأخرى، ويهتفون بها، ويدعون الناس إليها، ويزينونها في الأسماع والأبصار والقلوب بمختلف صنوف التزيين والتحسين.
وشاء الله أن تقع الأحداث العنيفة التي هزت كل العقول والمشاعر والقلوب والأفكار، وأشعرت الإنسانية الحاجة الشديدة إلى إعادة النظر في مناهج الحياة، وقواعد المدنية، ودعائم التحضر، وانطلقت الأصوات من كل مكان تهيئ لنظام جديد وعلاج جديد.
وصادف ذلك امتحان لدعوة الإخوان كشف عن جوهرها، ولفت أنظار الناس إليها، وجمع كثيرًا من القلوب النافرة حولها، وبذلك انتقلت الدعوة إلى القلوب المؤمنة والعقول المفكرة، وأصبحت قاعدة مسلمًا بها بعد أن كانت عاطفة متحمسة، ونظر إليها كثير من الناس على أنها مبادئ ممكنة التحقيق صالحة للتطبيق، فلم تعد حلمًا في الرؤوس، أو وجدانًا في النفوس فقط.
وكان طبيعيًّا أن تكثر الأسئلة عن مرامي الدعوة وكنهها، وعن الطرق التي يسلكها أهلها والقائمون بها في علاج ما يحيط بتطبيق مبادئها وتعاليمها من مشاكل داخلية وخارجية، ولم يعد يكفى في الجواب عن ذلك كلام مرتجل، أو خطابة تثير المشاعر، أو عبارات تؤثر في العواطف، بل صار واجبًا على أهل هذه الدعوة أن يصوروها للناس تصويرًا منطقيًّا دقيقًا واضحًا مبنيًّا على أدق قواعد البحث العلمي، وأن يرسموا أمام الناس الطرق العملية المنتجة التي أعدوها لتحقيق ما يريدون، ولتذليل ما سيصادفون من عقبات لابد من وجودها في الطريق.
ولعل طورًا آخر ينتظر هذه الدعوة حين توضع موضع التجربة العملية، وحينئذ يتم هذا الهيكل الذي تجهز له هذه اللبنات، وحينئذ يرى الناس أي خير سينالون من تطبيق هذه المبادئ السامية، وتحقيق هذه الأهداف العالية.
وسأتناول في أعداد هذه المجلة تباعًا -إن شاء الله- خصائص هذه الدعوة ومراميها، والشبهات التي تورد عليها، والعقبات التي تحيط بها في هذا الطور الجديد، مستمدًا من الله المعونة والتوفيق.
أخص خصائص دعوتنا أنها ربانية عالمية:
ربانية
أ- فأما أنها ربانية فلأن الأساس الذي تدور عليه أهدافنا جميعًا، أن يتعرف الناس إلى ربهم، وأن يستمدوا من فيض هذه الصلة روحانية كريمة تسموا بأنفسهم عن جمود المادة الصماء وجحودها إلى طهر الإنسانية الفاضلة وجمالها. نحن الإخوان المسلمين لنهتف من كل قلوبنا:
"الله غايتنا" فأول أهداف هذه الدعوة أن يتذكر الناس من جديد هذه الصلة التي تربطهم بالله تبارك وتعالى، والتي نسوها فأنساهم الله أنفسهم ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ البقرة: 21. وهذا في الحقيقة هو المفتاح الأول لمغاليق المشاكل الإنسانية التي أوصدها الجمود والمادية في وجوه البشر جميعًا فلم يستطيعوا إلى حلها سبيلاً، وبغير هذا المفتاح لا إصلاح.
عالمية
ب- وأما أنها عالمية فلأنها موجهة إلى الناس كافة؛ لأن الناس في حكمها إخوة: أصلهم واحد، وأبوهم واحد، ونسبهم واحد، لا يتفاضلون إلا بالتقوى، وبما يقدم أحدهم للمجموع من خير سابغ وفضل شامل ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِى تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ النساء: 1.
فنحن لا نؤمن بالعنصرية الجنسية، ولا نشجع عصبية الأجناس والألوان، ولكنا ندعو إلى الأخوة العادلة بين بنى الإنسان.
وحدة الجنس
قرأت لأحد زعماء الغرب أنه يقسم الجنس البشرى إلى: مبتكرين، ومحافظين، ومخربين، وهو يعتبر قومه مبتكرين، ويعتبر قومًا آخرين من الغربيين محافظين، ويعتبرنا نحن الشرقيين وما إلينا عدا هذين مخربين مدمرين.
هذا التقسيم ظالم جائر فضلاً عن أنه غير صحيح بأصله، فالجنس البشرى كله مرده إلى دم واحد وطينة واحدة، وإن اختلفت البيئات والوسائط والمدارك والثقافات. وإذا هذب الإنسان استطاع أن يرتقي من رتبته إلى أعلى منها بدرجة ما يصل إليه من تهذيب. وليس هناك جنس من بنى آدم لا يمكن إصلاحه في حدود ظروفه وبيئته الخاصة به. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن هذا الشرق الذي وضع في صف المخربين والمدمرين هو مبعث المدنيات، ومشرق الحضارات، ومهبط الرسالات، وهو مفيض ذلك كله على الغرب، لا ينكر هذا إلا جاحد مكابر.
الأخوة أساس السلام
ومثل هذه المزاعم الباطلة إنما هي نزوات من غرور الإنسان وطيش الوجدان لا يمكن أن تستقر على أساسها نهضات، أو تقوم على قاعدتها مدنيات، وما دام في الناس من يشعر بمثل هذا الشعور لأخيه الإنسان فلا أمن ولا سلام ولا اطمئنان حتى يعود الناس إلى علم الأخوة فيرفعونه خفاقًا، ويستظلون بظله الوارف الأمين، ولن يجدوا طريقًا معبدة إلى ذلك كطريق الإسلام الذى يقول كتابه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ الحجرات: 13. ويقول نبيه صلى الله عليه وسلم: ليس منا من دعا إلى عصيبة، وليس منا من مات على عصيبة" رواه أحمد من حديث جبير بن مطعم (رضى الله عنه).
ولهذا كانت دعوة الإخوان المسلمين ربانية إنسانية.
بين العقلية الغيبية والعقلية العلمية
أساس الدعوة
قدمت أن دعوتنا دعوة ربانية إنسانية، وأحب أن أزيد هذا المعنى وضوحًا ليتقرر في نفوس الناس، فهو الأساس الأول الذي تقوم عليه هذه الدعوة، وهو أسمى أهدافها فعلاً، فمن حقه علينا، ومن حق الناس علينا –كذلك- أن نفيض فيه بعض الإفاضة، وأن نجليه ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً. أول أوصاف دعوتنا أنها (ربانية).
ألوان التفكير
ولقد تذبذب العقل البشرى منذ وجد الإنسان على ظهر الأرض إلى يومه هذا -وأغلب الظن أنه سيظل كذلك حتى تتداركه هداية من الله- بين أطوار ثلاثة، وإن شئت قلت: بين ألوان ثلاثة من ألوان التفكير والتصور:
طور الخرافة
1- طور الخرافة والبساطة والتسليم المطلق للغيب المجهول والقوى الخفية البعيدة عنه. فهو ينسب إليها كل شيء، ويفسر بها كل شيء. ولا يرى لنفسه معها عملاً ولا فكرًا، وكثيرًا ما استبد هذا الطور بالإنسان في أدوار حياته الأولى يوم عاش على هذه الأرض يجهلها وتجهله، ولعل أقوامًا من بنى الإنسان لا يزالون يعيشون على هذا النحو إلى الآن.
طور الجمود
2- وطور الجمود والمادية والتنكر لهذا الغيب المجهول، والخروج على هذه القوى البعيدة عن حس الإنسان، والتمرد على كل ما يتصل إليها بسبب، ومحاولة تفسير مظاهر الكون جميعًا محاولة مادية صرفة حسية صرفة وفق قوانين تجريبية اهتدى إليها الإنسان بطول تجاربه ودوام بحثه وتفكيره. وكثيرًا ما طغى هذا التفكير على العقل الإنساني في هذه العصور الحديثة، التي وصل فيها الإنسان إلى الكشف عن كثير من مجهولات الطبيعة، وعرف فيها الكثير من خواص الكائنات، فظن أنه واصل لا محالة بهذا الأسلوب إلى معرفة كل ما هناك، وإن كان الذي يعرفه بالنسبة إلى الذي يجهله كالذرة من الرمال في الفلاة الواسعة الفسيحة.
وفى هذا الدور أنكر الإنسان المادي الألوهية وما يتصل بها، والنبوات وما يمت إليها، والآخرة والجزاء والعالم الروحي بكل ما فيه، ولم ير شيئًا إلا هذا العالم الأدنى المحدود يفسر ظواهره بحسب قوانينه المادية الصرفة.
التفكير الصحيح
كلا هذين اللونين من ألوان التفكير خطأ صريح، وغلو فاحش، وجهالة من الإنسان بما يحيط بالإنسان.
3- ولقد جاء الإسلام الحنيف يفصل القضية فصلاً حقًّا، فيقرر حق العالم الروحي ويوضح صلة الإنسان بالله رب الكائنات جميعًا، وبالحياة الآخرة بعد هذه الحياة الدنيا، ويجعل الإيمان بالله أساس إصلاح النفس التي هي من عالم الروح فعلاً، والتي لا سبيل إلى صلاحها إلا بهذا الإيمان، ويصف ذلك العالم الغيبي المجهول وصفًا يقربه إلى الأذهان، ولا يتنافى مع بديهيات العقول، وهو مع هذا يقرر فضل هذا العالم المادي وما فيه من خير للناس لو عمروه بالحق وانتفعوا به في حدود الخير.
ويدعو إلى النظر السليم في ملكوت السماوات والأرض، ويعتبر هذا النظر أقرب إلى معرفة الله العلى الكبير.
هذا الموقف من الإسلام الحنيف ألزم العقل البشرى لونًا من ألوان التفكير، هو أكملها وأتمها وأكثرها انطباقًا على واقع الحياة ومنطق الكون، وأعظمها نفعًا لبنى الإنسان: ذلك هو الجمع بين الإيمان بالغيب والانتفاع بالعقل. فنحن نعيش في عالمين فعلاً لا في عالم واحد، ونحن عاجزون عن تفسير كثير من ظواهر الكون فعلاً، عاجزون عن إدراك كل الحقائق الأولية التي تحيط بنا. ونحن في إدراكها ننتقل من مجهول إلى مجهول حتى ينتهي بنا العجز إلى الإقرار بعظمة الله، ونحن نشعر من أعماق قلوبنا بعاطفة الإيمان قوية مشبوبة؛ لأن الإيمان من فطرة نفوسنا وهو لها ضرورة من ضرورات حياتها كالغذاء والهواء والماء للأجسام سواء بسواء.
ونحن بعد ذلك نلمس أن هذا المجتمع الإنساني لن يصلحه إلا اعتقاد روحي يبعث في النفوس مراقبة الله والتعزي بمعرفته، ومن هنا كان لزامًا على الناس أن يعودوا إلى الإيمان بالله والنبوات وبالروح وبالحياة الآخرة، وبالجزاء فيها على الأعمال ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ الزلزلة: 7-8.
كل هذا في الوقت الذي يجب عليهم فيه أن يطلقوا لعقولهم العنان لتعلم وتعرف وتخترع وتكتشف وتسخر هذه المادة الصماء، وتنتفع بما في الوجود من خيرات وميزات: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ طه: 114.
إلى أي تفكير ندعو الناس؟
وإلى هذا اللون المعتدل من التفكير الذي يجمع بين العقليتين الغيبية والعلمية ندعو الناس.
لقد عاش الغرب أخريات أيامه مادي النزعة لا يشعر بغير المادة، ولا يعترف بغير المادة، ولا يحس بوجود غيرها حتى ماتت في نفوس أبنائه عواطف الرحمة الإنسانية، وخبت أنواع الروحانية الربانية. وهيمن الغرب على الدنيا بأسرها بعلومه ومعارفه ومباهجه وزخارفه وكشوفه ومخترعاته وجنوده وأمواله، وصبغ الفكر البشرى في كل مكان بصبغته هذه.
والآن والدنيا كلها تكتوى بهذه النيران تنبثق هذه الدعوة من جانب جديد لتهيب بالناس في الشرق والغرب معًا أن يمزجوا المادة بالروح، وأن يؤمنوا بالغيب والشهادة، وأن يتعرفوا من جديد إلى الله: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ الذريات: 50.
مكان القومية والعروبة والشرقية والعالمية من هذه الدعوة
دعوة إنسانية
... وكما أن دعوتنا هذه ربانية تدعو إلى هجر المادية ومقاومتها، والوقوف في وجه طغيانها، والحد من سلطانها، والفرار إلى الله والإيمان به والاعتماد عليه وحسن مراقبته في كل عمل.
فهي كذلك إنسانية تدعو إلى الأخوة بين بنى الإنسان، وترمى إلى إسعادهم جميعًا؛ لأنها إسلامية، والإسلام للناس كافة ليس لجنس دون جنس، ولا لأمة دون أخرى، ﴿تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ الفرقان: 1.
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ الأعراف: 158.
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ سبأ: 28.
ومن هذا العموم في بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ومدى رسالته استمدت دعوتنا العموم في هدفها ومرماها، فهي دعوة توجه للناس جميعًا، وتؤاخي بينهم جميعًا، وتسعى لخيرهم جميعًا، ولا تعترف بفوارق الأجناس والألوان، ولا تتغير بتغير الشعوب والأوطان.
ألفاظ ومذاهب
وتتردد في أفواه الدعاة والناس ألفاظ كثيرة تعنون بها آراء ومذاهب، فأين مكان هذه الألفاظ من دعوتنا؟ إن لكل لفظ من هذه الألفاظ، ولكل رأى من هذه الآراء مكانًا في دعوتنا، لا لأننا نعمل لإرضاء الجميع، ولا لأننا نحابى الجميع، ونجامل في الفكرة وعلى حسابها، ولكن لأن طبيعة دعوتنا هكذا عموم وشمول:
القومية
"فالمصرية" أو "القومية": لها في دعوتنا مكانها ومنزلتها وحقها من الكفاح والنضال.
إننا مصريون بهذه البقعة الكريمة من الأرض التي نبتنا فيها، ونشأنا عليها. ومصر بلد مؤمن تلقى الإسلام تلقيًا كريمًا، وذاد عنه، وكافح في سبيله، ورد عنه العدوان في كثير من أدوار التاريخ، وأخلص في اعتناقه، وطوى عليه أعطف المشاعر وأنبل العواطف، وهو لا يصلح إلا بالإسلام، ولا يداوى إلا بعقاقيره، ولا يطب له إلا بعلاجه. وقد انتهت إليه بحكم الظروف الكثيرة حضانة الفكرة الإسلامية والقيام عليها، فكيف لا نعمل لمصر ولخير مصر؟ وكيف لا ندفع عن مصر بكل ما نستطيع؟ وكيف يقال: إن الإيمان بالمصرية لا يتفق مع ما يجب أن يدعو إليه رجل ينادى بالإسلام ويهتف بالإسلام؟! إننا نعتز بأننا مخلصون لهذا الوطن الحبيب، عاملون له، مجاهدون في سبيل خيره، وسنظل كذلك ما حيينا، معتقدين أن هذه هي الحلقة الأولى في سلسلة النهضة المنشودة، وأنها جزء من الوطن العربي العام، وأننا حين نعمل لمصر نعمل للعروبة والشرق والإسلام.
وليس يضيرنا في هذا كله أن نعتني بتاريخ مصر القديم، وبما ترك قدماء المصريين من آثار الحضارة والعمران، وبما سبقوا إليه الناس من المعارف والعلوم والفنون. فنحن نرحب بـ "مصر القديمة" كتاريخ فيه مجد، وفيه عزة، وفيه علم ومعرفة. ونحارب هذه النظرية بكل قوانا كمنهاج عملي يراد صبغ مصر به، وعودتها إليه بعد أن هداها الله بتعاليم الإسلام، وشرح له صدرها، وأنار به بصيرتها، وزادها به شرفًا ومجدًا فوق مجدها، وخلصها بذلك مما لاصق هذا التاريخ من أوضار الوثنية، وأدران الشرك، وعادات الجاهلية.
العروبة
"والعروبة" أو "الجامعة العربية"، لها في دعوتنا كذلك مكانها البارز، وحظها الوافر؛ فالعرب هم أمة الإسلام الأولى، وشعبه المتخير، وبحق ما قال رسول الله r: "إذا ذل العرب ذل الإسلام"، ولن ينهض الإسلام بغير اجتماع كلمة الشعوب العربية ونهضتها، وإن شبر أرض في وطن عربي نعتبره من صميم أرضنا، ومن لباب وطننا.
وشاعر دعوة الإخوان هو الذي يقول:
ولست أدرى سوى الإسلام لي وطنًا الشام فيه ووادي النيل سيان
وحينما ذكر اسم الله في بلد عدت أرجاؤه من لب أوطاني
ومن أناشيد الإخوان المتداولة بينهم الذائعة فيهم قول شاعر دعوتهم:
وطني الإسلام لا أفدى سواه وبنوه أين كانوا إخوتي
مصر والشام ونجد ورباه مع بغداد جميعًا أمتي
إن هذه الحدود الجغرافية والتقسيمات السياسية لا تمزق في أنفسنا أبدًا معنى الوحدة العربية الإسلامية التي جمعت القلوب على أمل واحد وهدف واحد، وجعلت من مكان هذه الأقطار جميعًا أمة واحدة مهما حاول المحاولون وافترى الشعبيون.
ومن أروع المعاني في هذه السبيل ما حدد به الرسول r معنى العروبة؛ إذ فسرها بأنها اللسان والإسلام؛ فقد روى الحافظ ابن عساكر بسنده إلى مالك قول النبي r: "يا أيها الناس، إن الرب واحد، والأب واحد، وإن الدين واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي اللسان، فمن تكلم بالعربية فهو عربي".
وبذلك تعلم أن هذه الشعوب الممتدة من خليج فارس إلى طنجة ومراكش على المحيط الأطلسي كلها عربية تجمعها العقيدة، ويوحد بينها اللسان، وتؤلفها بعد ذلك هذه الوضعية المتناسقة في رقعة من الأرض واحدة متصلة متشابهة لا يحول بين أجزائها حائل، ولا يفرق بين حدودها فارق، ونحن نعتقد أننا حين نعمل للعروبة نعمل للإسلام، ولخير العالم كله.
وإن في تألب الدول الاستعمارية الكامنة ضد الشعوب العربية والإسلامية الذي استفحل الآن أمره، وانكشف خبثه في قضية فلسطين، وسائر القضايا العربية أكبر حافز على الوحدة بين هذه الشعوب المناضلة.
الشرقية
"والشرقية": لها في دعوتنا مكانها، وإن كان المعنى الذي يجمع بين المشاعر فيها معنى وقتيًّا طارئًا، إنما ولده وأوجده اعتزاز الغرب بحضارته وتغاليه بمدنيته، وانعزاله عن هذه الأمم التي سماها الأمم الشرقية، وتقسيمه العالم إلى شرقي وغربي، وندائه بهذا التقسيم حتى في قولة أحد شعرائه المأثورة: "الشرق شرق، والغرب غرب، ولا يمكن أن يجتمعا". هذا المعنى الطارئ هو الذي جعل الشرقيين يعتبرون أنفسهم صفًّا يقابل الصف الغربي، أما حين يعود الغرب إلى الإنصاف ويدع سبيل الاعتداء والإجحاف فستزول هذه العصبية الطارئة، وتحل محلها الفكرة الناشئة، فكرة التعاون بين الشعوب على ما فيه خيرها وارتقاؤها.
العالمية
أما "العالمية" أو "الإنسانية": فهي هدفنا الأسمى، وغايتنا العظمى، وختام الحلقات في سلسلة الإصلاح، والدنيا صائرة إلى ذلك لا محالة، فهذا التجمع في الأمم، والتكتل في الأجناس والشعوب، وتداخل الضعفاء بعضهم في بعض ليكتسبوا بهذا التداخل قوة، وانضمام المفترقين ليجدوا في هذا الانضمام أنس الوحدة، كل ذلك ممهد لسيادة الفكرة العالمية، وحلولها محل الفكرة الشعوبية القومية التي آمن بها الناس من قبل، وكان لابد أن يؤمنوا هذا الإيمان لتتجمع الخلايا الأساسية، ثم كان لابد أن ينزعجوا عنها لتتألف المجموعات الكبيرة، ولتتحقق بهذا التآلف الوحدة الأخيرة. وهي خطوات إن أبطأ بها الزمن فلابد أن تكون، وحسبنا أن نتخذ منها هدفًا، وأن نضعها نصب أعيننا مثلاً، وأن نقيم في هذا البناء الإنساني لبنة، وليس علينا أن يتم البناء، فلكل أجل كتاب.
وإذا كان في الدنيا الآن دعوات كثيرة ونظم كثيرة يقوم معظمها على أساس العصبية القومية التي تستهوي قلوب الشعوب، وتحرك عواطف الأمم، فإن هذه الدروس القاسية التي يتلقاها العالم من آثار هذه القوة الطاغية كفيلة بأن يفئ الناس إلى الرشد ويعودوا إلى التعاون والإخاء.
أسس العالمية في الإسلام
ولقد رسم الإسلام للدنيا هذه السبيل فوحد العقيدة أولاً، ثم وحد النظام والأعمال بعد ذلك، وظهر هذا المعنى السامي النبيل في كل فروعه العملية.
فرب الناس واحد، ومصدر الدين واحد، والأنبياء جميعًا مقدسون معظمون، والكتب السماوية كلها من عند الله، والغاية المنشودة اجتماع القلوب، ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ الشورى: 13.
والقرآن عربي، وهو أساس هذا الدين، وركن الصلاة، وأفضل القربات إلى الله، وتلك هي الوسيلة العملية إلى وحدة اللسان بعد وحدة الإيمان.
وهذه الصلاة، وتلك الزكاة، والحج والصوم، إنما هي كلها تشريعات اجتماعية يراد بها توثيق الوحدة وجمع الكلمة، وإزالة الفوارق، وكشف الحجب والموانع بين بنى الإنسان.
ومن هنا كانت دعوتنا ذات مراحل نرجو أن تتحقق تباعًا، وأن نقطعها جميعًا، وأن نصل بعدها إلى الغاية.
نرجو في مصر دولة مسلمة تحتضن دعوة الإسلام، وتجمع كلمة الأمم العربية، وتعمل لخيرها، وتحمى المسلمين في أكناف الأرض من عدوان كل ذي عدوان، وتنشر كلمة الله وتبلغ رسالته.. ﴿حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾ البقرة: 192.
يقظة الروح... الإيمان... والعزة... والأمل
يقظة الروح
وينظر الناس في الدعوات إلى مظاهرها العملية وألوانها الشكلية، ويهملون كثيرًا النظر إلى الدوافع النفسانية والإلهامات الروحية التي هي في الحقيقة مدد الدعوات وغذاؤها، وعليها يتوقف انتصارها ونماؤها. وتلك حقيقة لا يجادل فيها إلا البعيد عن دراسة الدعوات وتعرف أسرارها، إن من وراء المظاهر جميعًا في كل دعوة لروحًا دافعة، وقوة باطنة تسيرها وتهيمن عليها وتدفع إليها، ومحال أن تنهض أمة بغير هذه اليقظة، اليقظة الحقيقية في النفوس والأرواح والمشاعر: ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ الرعد: 11.
ولهذا أستطيع أن أقول: إن أول ما نهتم له في دعوتنا، وأهم ما نعول علية في نمائها وظهورها وانتشارها هو هذه اليقظة الروحية المرتجاة. فنحن نريد أول ما نريد: يقظة الروح، حياة القلوب، صحوة حقيقية في الوجدان والمشاعر، وليس يعنينا أن نتكلم عما نريد بهذه الدعوة من فروع الإصلاح في النواحي العملية المختلفة بقدر ما يعنينا أن نركز هذه الفكرة في النفوس.
أهداف وتحديد
نحن نريد نفوسًا حية قوية فتية، قلوبًا جديدة خفاقة، مشاعر غيورة ملتهبة مضطرمة، أرواحًا نزاعة طموحة متطلعة متوثبة، تتخيل مثلاً عليًا، وأهدافًا سامية لتسمو نحوها وتصل إليها، ولابد من أن تحدد هذه الأهداف والمثل، ولابد من أن تحصر هذه العواطف والمشاعر، ولابد من أن تركز حتى تصبح عقيدة لا تقبل جدلاً، ولا تحتمل شكًّا ولا ريبًا.
وبغير هذا التحديد والتركيز سيكون مثل هذا الصحوة مثل الشعاع التائه في البيداء، لا ضوء له ولا حرارة فيه، فما حدود هذه الأهداف وما منتهاها؟!
نهج الدعوة الأولى
إننا نتحرى بدعوتنا نهج الدعوة الأولى، ونحاول أن تكون هذه الدعوة الجديدة صدى حقيقيًّا لتلك الدعوة السابقة التي هتف بها رسول الله r في بطحاء مكة قبل ألف ومئات من السنين، فما أولانا بالرجوع بأذهاننا وتصوراتنا إلى ذلك العصر المشرق بنور النبوة، الزاهي بجلال الوحي، لنقف بين يدي الأستاذ الأول، وهو سيد المربين، وفخر المرسلين، الهادين المهديين، لنتلقى عنه درس الإصلاح من جديد، وندرس خطوات الدعوة من جديد.
إيمان
أي نور من وهج الشموس الربانية أشعله النبي الكريم في قلوب صحابته، فأشرقت وأضاءت بعد ظلمة وديجور؟ وأي ماء من فيض الحياة الروحية أفاضه عليها، فاهتزت وربت ونمت فيها الأزاهير، وأورقت بالوجدانيات والمشاعر، وترعرعت فيها العواطف والضمائر؟!
إن النبي r قذف في قلوب صحابته بهذه المشاعر الثلاثة فأشرقت بها وانطبعت عليها:
-قذف في قلوبهم أن ما جاء به الحق وما عداه الباطل، وأن رسالته خير الرسالات، ونهجه أفضل المناهج، وشريعته أكمل النظم التي تتحقق بها سعادة الناس أجمعين، وتلا عليهم من كتاب الله ما يزيد هذا المعنى ثباتًا في النفس وتمكنًا في القلب:
﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ﴾ الزخرف: 43-44، ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ﴾ النمل: 79، ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ الجاثية: 18، ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ النساء: 65.
فآمنوا بهذا واعتقدوه وأصدروا عنه.
-وقذف في قلوبهم أنهم ما داموا أهل الحق وغيرهم أهل الباطل، وما داموا حملة رسالة النور وغيرهم يتخبط في الظلام، وما دام بين يديهم هدى السماء لإرشاد الأرض فهم إذن يجب أن يكونوا أساتذة الناس، وأن يقعدوا من غيرهم من الأمم مقعد الأستاذ من تلميذه: يحنو عليه ويرشده ويقومه ويسدده ويقوده إلى الخير ويهديه سواء السبيل.
وجاء القرآن الكريم يثبت هذا المعنى، ويزيده كذلك رسوخًا ووضوحًا، وصاروا يتلقون عن نبيهم من وحي السماء:
﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ آل عمران: 110، ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ البقرة: 143، ﴿وَجَاهِدُوا في اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ الحج: 78.
فآمنوا بهذا أيضًا واعتقدوه وأصدروا عنه.
أمل
-وقذف في قلوبهم أنهم ما داموا كذلك مؤمنين بهذا الحق معتزين بانتسابهم إليه، فإن الله معهم يعينهم ويرشدهم وينصرهم ويؤيدهم ويمدهم إذا تخلى عنهم الناس، ويدفع عنهم إذا أعوزهم النصير، وهو معهم أينما كانوا. وإذا لم ينهض معهم جند الأرض تنزل عليهم المدد من جند السماء، وأخذوا يقرءون هذه المعاني واضحة في كتاب الله:
﴿إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ الأعراف: 128، ﴿أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ الأنبياء: 105، ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ﴾ الحج: 40، ﴿كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ المجادلة: 21، ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ يوسف: 21، ﴿إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّى مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ الأنفال: 12، ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الروم: 47، ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا في الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ القصص: 5.
اقرءوا هذا وفهموه جيدًا فآمنوا به واعتقدوه وأصدروا عنه.
عناصر النجاح
وبهذه المشاعر الثلاثة: الإيمان بعظمة الرسالة، والاعتزاز باعتناقها، والأمل في تأييد الله إياها، أحيا الراعي الأول قلوب المؤمنين من صحابته بإذن الله، وحدد لهم أهدافهم في هذه الحياة، فاندفعوا يحملون رسالتهم محفوظة في صدورهم أو مصاحفهم، بادية في أخلاقهم وأعمالهم، معتزين بتكريم الله إياهم، واثقين بنصره وتأييده، فدانت لهم الأرض، وفرضوا على الدنيا مدنية المبادئ الفاضلة، وحضارة الأخلاق الرحيمة العادلة، وبدلوا فيها سيئات المادية الجامدة حسنات الربانية الخالدة، ويأبى الله إلا أن يتم نوره.
أول ما ندعو إليه
وإلى هذه المشاعر الثلاثة ندعو الناس أولاً.
أيها الناس، قبل أن نتحدث إليكم في هذه الدعوة عن الصلاة والصوم، وعن القضاء والحكم، وعن العادات والعبادات، وعن النظم والمعاملات، نتحدث إليكم عن القلب الحي، والروح الحي، والنفس الشاعرة، والوجدان اليقظ، والإيمان العميق بهذه الأركان الثلاثة: الإيمان بعظمة الرسالة، والاعتزاز باعتناقها، والأمل في تأييد الله إياها، فهل أنتم مؤمنون؟
الفرد المسلم... البيت المسلم... الأمة المسلمة
وهذا الشعور القوى الذي يجب أن تفيض به النفوس، وهذه اليقظة الروحية التي ندعو الناس إليها لابد أن يكون لها أثرها العملي في حياتهم، ولابد أن تستتبعها ولا شك نهضة عملية تتناول الأفراد والأسر والمجتمعات.
ستعمل هذه اليقظة عملها في الفرد فإذا به نموذج قائم لما يريده الإسلام في الأفراد... إن الإسلام يريد في الفرد وجدانًا شاعرًا يتذوق الجمال والقبح، وإدراكًا صحيحًا يتصور الصواب والخطأ، وإرادة حازمة لا تضعف ولا تلين أمام الحق، وجسمًا سليمًا يقوم بأعباء الواجبات الإنسانية حق القيام ويصلح أداة صالحة لتحقيق الإرادة الصالحة، وينصر الحق والخير.
وقد وضع الإسلام تكاليفه الشخصية على القواعد التي توصل إلى هذه النتائج كلها ففي العبادات الإسلامية أفضل ما يصل القلب بالله، ويربى الوجدان الشاعر والإحساس الدقيق، وفى النظر الإسلامي ما يرقى بالعقول والألباب، ويدفعها إلى كشف ستائر الكون، ومعرفة دقائق الوجود.
وفى الخلق الإسلامي ما يربى الإرادة الحازمة، والعزيمة الماضية الصارمة، وفى النظام الإسلامي في الطعام والشراب والمنام وتوابع ذلك من شئون الحياة ما لو اتبعه الأفراد لحفظوا أجسامهم من مهلكات الأدواء، ولظلت في وقاية من فواتك الأمراض.
ولهذا نوجب على الأخ المسلم أن يتعبد بما أمر الله به ليرقى وجدانه، وأن يتعلم ما وسعه التعليم ليتسع إدراكه، وأن يتخلق بأخلاق الإسلام لتقوى إرادته، وأن يلتزم نظام الإسلام في الطعام والشراب والنوم ليحفظ الله عليه بدنه من غوائل الأمراض والسقام.
والإسلام حين يضع هذه القواعد لا يضعها للرجال ويدع النساء، ولكن الصنفين في هذه الناحية الفردية في الإسلام سواء، فعلى الأخت المسلمة أن تكون كالأخ المسلم في دقة وجدانها، وسمو إدراكها، ومتانة خلقها، وسلامة بدنها.
وسيكون لهذا الإصلاح الفردي أثره في الأسرة، فإنما الأسرة مجموعة أفراد، فإذا صلح الرجل وصلحت المرأة -وهما عماد الأسرة- استطاعا أن يكونا بيتًا نموذجيًّا مؤسسًا على القواعد التي وضعها الإسلام، وقد وضع الإسلام قواعد البيت المسلم فأحكم وضعها، فأرشد إلى حسن الاختيار، وبين أفضل طرائق الارتباط، وحدد الحقوق والواجبات، وأوجب على الطرفين رعاية ثمرات هذا الزواج حتى تينع وتنضج في غير عبث ولا إهمال، وعالج ما يعترض هذه الحياة الزوجية من المشاكل أدق علاج، واختط في كل نظراته طريقًا وسطًا لا تفريط فيه ولا إفراط.
وإذا صلحت الأسرة فقد صلحت الأمة، وإنما الأمة مجموعة هذه الأسرة، وإنما الأسرة أمة مصغرة، والأمة أسرة مكبرة، وقد وضع الإسلام للأمة قواعد الحياة الاجتماعية السعيدة، فعقد بين بنيها آصرة الأخوة، وجعلها قرينة الإيمان، ورفع مستوى هذه الصلة إلى المحبة، بل إلى الإيثار، وقضى على كل ما من شأنه أن يمزق هذه الروابط، أو يضعف هذه الوشائج، وحدد الحقوق والواجبات والروابط والصلات، فللأبوة حقها وعليها واجبها، وللبنوة مثل ذلك، ولذوي القربى حقوقهم وعليهم واجباتهم، وفصل مهمة الحاكم والمحكوم أدق تفصيل، وبين المعاملات بين الناس أحكامها بأفصح بيان، ولم يجعل لأحد على أحد فضلاً إلا بالتقوى، فلا سيد ولا مسود، ولا أمراء ولا عبيد، ولكن الناس في ذات الله سواسية كأسنان المشط، إنما يتفاوتون بعمل الصالحات، وكذلك حدد صلات الأمم بعضها ببعض، وبين حقوق كل صنف فيها وواجباته، ولم يدع من ذلك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
وقد عالج الإسلام بعد ذلك مشاكل المجتمعات؛ فالوقاية مما يؤدى إليها أولاً، واستئصال ما عساه أن يحدث منها ثانيًا. فلكل مشكلة اجتماعية عنده دواء، والدواء الأول والأساس في كل علاج صلاح النفوس والتضامن الاجتماعي بين بنى الإنسان.
والإسلام حين يحيط بكل ذلك، لا يسلك سبيل العنت، ولا يحمل الناس على ما يؤدى إلى الحرج، ولكنه يريد بالناس اليسر، ولا يريد بهم العسر، ويضع القواعد الكلية، ويدع الفرعيات الجزئيات، ويرسم طرائق التطبيق، ويكل للأزمان والعصور بعد ذلك أن تعمل عملها، وهو لذلك شريعة كل زمان ومكان، وهو لذلك يفرض نشر دعوته حتى تشمل الناس أجمعين، وتحقق قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ الأنبياء: 107.
وإذا قوى الشعور الذي أشرنا إليه آنفًا، وأدى إلى نتيجته التي وصفناها الآن، فطبق نظام الإسلام على الفرد والبيت والأمة، ووصلت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى القلوب والآذان، فقد تحققت فكرتنا، واستجيبت دعوتنا، ويأبى الله إلا أن يتم نوره.
بين الصبغة الاستقلالية والصبغة التقليدية
نحن نريد الفرد المسلم، والبيت المسلم، والشعب المسلم، ولكنا نريد قبل ذلك أن تسود الفكرة الإسلامية حتى تؤثر في كل هذه الأوضاع وتصبغها بصبغة الإسلام، وبدون ذلك لن نصل إلى شيء، نريد أن نفكر تفكيرًا استقلاليًّا يعتمد على أساس الإسلام الحنيف، لا على أساس الفكرة التقليدية التي جعلتنا نتقيد بنظريات الغرب واتجاهاته في كل شيء، نريد أن نتميز بمقوماتنا ومشخصات حياتنا كأمة عظيمة مجيدة تجر وراءها أقدم وأفضل ما عرف التاريخ من دلائل العظمة، ومظاهر الفخار والمجد.
لقد ورثنا هذا الإسلام الحنيف واصطبغنا به صبغة ثابتة قوية، تغلغلت في الضمائر والمشاعر، ولصقت بحنايا الضلوع وشغاف القلوب؛ واندمجت مصر بكليتها في الإسلام بكليته: عقيدته ولغته وحضارته، ودافعت عنه، وذادت عن بيضته، وردت عنه عادية المعتدين، وجاهدت في سبيله ما وسعها الجهاد بمالها ودم أبنائها، وأنقذته من براثن التتار وأنياب الصليبيين، وردت الجميع على أعقابهم خاسرين، واستقرت فيها علوم الإسلام ومعارفه، واحتوت الأزهر أقدم جامعة تقوم على حياطته ورعايته وحراسته، وانتهت إليها زعامة شعوبه الأدبية والاجتماعية، وصارت مطمح أنظار الجميع ومعقد آمالهم.
هذا الإسلام، عقيدته ونظمه ولغته وحضارته، ميراث عزيز غال على مصر، ليس تفريطها فيه بالشيء الهين، ولا إبعادها عنه أو إبعاده عنها بالأمر المستطاع، مهما بذلت في سبيل ذلك الجهود الهدامة المدمرة. ومن هنا بدت مظاهر الإسلام قوية فياضة زاهرة دفاقة في كثير من جوانب الحياة المصرية: فأسماؤنا إسلامية، ولغتنا عربية، وهذه المساجد العظيمة يذكر فيها اسم الله، ويعلو منها نداء الحق في الصباح وفى المساء، وهذه مشاعرنا لا تهتز لشيء اهتزازها للإسلام وما يتصل بالإسلام. كل ذلك حق، ولكن هذه الحضارة الغربية قد غزتنا غزوًا قويًّا عنيفًا بالعلم وبالمال، وبالسياسة وبالترف، والمتعة واللهو، وبضروب من الحياة الناعمة العابثة المغرية لم نكن نعرفها من قبل. فأعجبنا بها، وركنا إليها، وأثر هذا الغزو فينا أبلغ الأثر، وانحسر ظل الفكرة الإسلامية عن الحياة الاجتماعية في كثير من شئونها الهامة، واندفعنا نغير أوضاعنا الحيوية ونصبغ معظمها بالصبغة الأوروبية، وحصرنا سلطان الإسلام في حياتنا على القلوب والمحاريب، وفصلنا عنه شئون الحياة العملية، وباعدنا بينه وبينها مباعدة شديدة، وبهذا أصبحنا نحيا حياة ثنائية متذبذبة أو متناقضة.
الإسلام بما فيه من روعة وجلال، وبسلطانه الساحر العذب الجذاب، وأصوله الثابتة المدعمة القويمة، وحجته البالغة يجذب إليه القلوب والمشاعر، ويجعلنا نحن المؤمنين به في حنين دائم إليه. وهذه الحياة الغربية بما تحتويه من مباهج ومفاتن، وبما لها من مظاهر القوة المادية، تحاول أن تسيطر وتهيمن على ما بقى لنا من شئوننا الحيوية. هذا وضع مشاهد ملموس يراه ويعلمه كل ما يعنيه أمر هذه الأمة، ولابد أن ينتهي هذا التذبذب إلى استقرار، ولابد أن يتغلب أحد الجاذبين على الآخر، ولكل شيء نهاية!
فنحن الإخوان المسلمين نشفق كل الإشفاق من أن تكون نهاية هذا الشعب التحلل مما بقي له من مظاهر الإسلام، والانغماس الكلى في الحياة الغربية بكل مظاهرها، ولقد ارتفعت بذلك صيحات، وقامت على قواعده دعوات، وسبقتنا إليه شعوب وحكومات، وإن كان ذلك كله قد خفت وطأته الآن أمام ما يقاسي العالم كله من محن وويلات.
نحن نشفق من هذا المصير، وندعو إلى أن تعود مصر إلى تعاليم الإسلام وقواعده، تعتمد عليها، وتستمد منها، وتبنى على أساسها النهضة الجديدة، وتركز عليها الأوضاع الاجتماعية في المستقبل القريب -إن شاء الله.
وإذا كان الإسلام يدعو إلى أن نأخذ من كل شيء أحسنه، وينادى بأن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها، ولا يمانع في أن تقتبس الأمة الإسلامية الخير من أي مكان، فليس هناك ما يمنع من أن ننقل كل ما هو نافع مفيد عن غيرنا ونطبقه على قواعد ديننا، ونظام حياتنا، وحاجات شعبنا.
أما أثر هذا التذبذب في مظاهر حياتنا العملية فكبير واضح، ولعله مصدر كثير من المشكلات في التعليم والقضاء، وفى حياة الأسرة، وفى منابع الثقافة العامة، وفى غير ذلك من شئون الحياة، هل هناك أمة غير مصر يسير التعليم فيها من أول خطواته على هذين اللونين من ألوان التربية؟! فهناك التعليم الديني يتصل بنصف الأمة وينتهي إلى الأزهر ومعاهده وكلياته، وهناك التعليم المدني يتصل بالنصف الثاني ويتميز كل من النصفين بخواصه ومميزاته. وهل لذلك من سبب سوى أن السلسلة الأولى هي أثر الإسلام الباقي في نفوس هذه الأمة، وأن السلسلة الثانية هي نتاج مجاراة الغرب والأخذ عنه.
فما الذي يمنع من أن يتوحد التعليم في مراحله الأولى على أساس التربية القومية الإسلامية، ثم يكون بعد ذلك التخصص؟ وهل هناك أمة غير مصر ينقسم فيها القضاء إلى شرعي وغير شرعي، كما ينقسم إلى ذلك القضاء المصري؟ وهل لذلك من سبب سوى أن القضاء الأول: أثر الإسلام في الحياة المصرية، والثاني: وليد النقل عن الغرب والأخذ عنه؟ وما الذي يمنع من أن تتوحد المحكمة على أساس اعتبار الشريعة الإسلامية هي شريعة البلاد والمصدر الأول للتقنين؟
وهذه البيوت المصرية، ألسنا نلمح فيها أثر هذه الحياة المذبذبة المتناقضة؟ فكثير من الأسر المصرية لا زال شديد المحافظة على ما ورث من تعاليم الإسلام وآدابه، في الوقت الذي انسلخ فيه الكثير عن هذه التعاليم، وخرج على هذه الآداب، وغلبت علية نزعة التقليد في كل شيء، بل جاوز بعضنا ذلك الحد حتى صار غربيًّا أكثر من الغربيين.
ولابد من وضع حد لهذا التفاوت الغريب حتى نظفر بالأمة الموحدة، فبدون الوحدة لا تتحقق نهضة، ولا تحيا أمة حياة الكمال.
لهذا يدعو الإخوان المسلمون إلى أن يكون الأساس الذي تعتمد عليه نهضتنا هو توحيد مظاهر الحياة العملية في الأمة على أساس الإسلام وقواعده، وبذلك تبنى مصر نفسها، وتقدم للعالم كله أكمل نماذج الحياة الإنسانية الصحيحة.
وسيلتنا العامة.. بين جماعة وفكرة
هدف الدعوة
حاولت في الكلمات السابقة أن أوضح الهدف العالي الذي يعمل له الإخوان المسلمون، وهو تخليص الحياة الإسلامية مما علق بها من أدران التقليد، والرجوع بها إلى هدى الإسلام الحنيف الذي يعتمد على الربانية والصلة بالله تبارك وتعالى، ويرسم طرق العمل الصالح للإنسانية جميعًا، ويخرج ﴿النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ* اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا في السَّمَوَاتِ وَمَا في الأرْضِ﴾ إبراهيم: 1-2.
والآن أحاول أن أضع بين يدي القارئ الوسيلة العامة للوصول إلى هذه الغاية، أما التفصيل في الأهداف والمسائل فذلك ما سأحاوله في الكلمات التاليات -إن شاء الله.
الوسيلة العامة
والكلام عن الوسيلة العامة للإخوان المسلمين يقف بنا أمام هذه الدعوة كجمعية من الجمعيات التي تقوم بالخدمة العامة، ثم يقف بنا كذلك أمامها كدعوة من الدعوات التجديدية لحياة الأمم والشعوب التي ترسم لها منهاجًا جديدًا تؤمن به وتسير عليه.
الخدمة العامة
لاشك أن جماعات الإخوان المسلمين جماعات تقوم بالخدمة العامة من بناء المساجد وعمارتها، ومن فتح المدارس والمكاتب والإشراف عليها، ومن إنشاء الأندية والفرق وتوجيهها ورعايتها، ومن الاحتفال بالذكريات الإسلامية احتفالاً يليق بجلالها وعظمتها، ومن الإصلاح بين الناس في القرى والبلدان إصلاحًا يوفر عليهم كثيرًا من الجهود والأموال، ومن التوسط بين الأغنياء الغافلين والفقراء المعوزين، بتنظيم الإحسان وجمع الصدقات؛ لتوزع في المواسم والأعياد، لاشك أن الإخوان المسلمين يقومون بهذا كله ولهم فيه -والحمد لله- أثر يذكر، وقد تضاعف نشاطهم في هذه النواحي مضاعفة ملموسة في هذا الدور من أدوار الدعوة بطبيعة التفات الناس لها وإقبالهم عليها.
ووسيلة الإخوان في هذه الميادين: التنظيم، والتطوع، والاستعانة بأهل الرأي والخبرة، وتدبير ما تحتاج إليه هذه المشروعات من أموال من المشتركين تارة ومن المتبرعين تارة أخرى، إلى ما يدفع لمثل هذه المشروعات من الجهات الرسمية المختصة في بعض الأحيان.
ولسنا نقول: إن الإخوان قد اكتملت جهودهم في هذه الناحية، ولكنا نقول: إنهم يسيرون بخطوات واسعة نحو الكمال، والله الموفق والمستعان.
هؤلاء هم الإخوان، وتلك هي دعوتهم كجماعة من جماعات الخدمة العامة.
فكرة وتربية
ولكن الإخوان -كما علمت- ليسوا كذلك فحسب، ولكن لب دعوتهم، فكرة وعقيدة يقذفون بها في نفوس الناس ليتربى عليها الرأي العام، وتؤمن بها القلوب، وتجتمع من حولها الأرواح، تلك هي: العمل للإسلام والعمل به في كل نواحي الحياة.
أما الوسيلة إلى تحقيق ذلك فليست المال، والتاريخ منذ عرف إلى الآن يحدثنا: أن الدعوات لا تقوم أول أمرها بالمال، ولا تنهض به بحال، إنها قد تحتاج إليه في بعض مراحل طريقها، ولكنه محالٌ أن يكون قوامها أو دعامتها، فرجال الدعوات وأنصارها هم دائمًا المقلون من هذا المال، وسل التاريخ ينبئك.
وليست الوسيلة القوة -كذلك؛ فإن الدعوة الحقة إنما تخاطب الأرواح أولاً، وتناجى القلوب، وتطرق مغاليق النفوس، ومحال أن تثبت بالعصا، أو أن تصل إليها على شبا الأسنة والسهام، ولكن الوسيلة في تركيز كل دعوة وثباتها معروفة معلومة مقروءة لكل من له إلمام بتاريخ الجماعات...
وخلاصة ذلك جملتان: إيمان وعمل، ومحبة وإخاء.
ماذا فعل الرسول
ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تركيز دعوته في نفوس الرعيل الأول من أصحابه أكثر من أنه دعاهم إلى الإيمان والعمل، ثم جمع قلوبهم على الحب والإخاء، فاجتمعت قوة العقيدة إلى قوة الوحدة، وصارت جماعتهم هي الجماعة النموذجية التي لابد أن تظهر كلمتها، وتنتصر دعوتها، وإن ناوأها أهل الأرض جميعًا، وماذا فعل الدعاة من قبل ومن بعد أكثر من هذا؟ ينادون بالفكرة ويوضحونها ويدعون الناس إليها، فيؤمنون بها، ويعملون لتحقيقها، ويجتمعون عليها، ويزدادون عددًا، فتزداد الفكرة بهم ظهورًا حتى تبلغ مداها، وتبتلع سواها، وتلك سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
وليست دعوة الإخوان بدعًا في الدعوات، فهي صدى من الدعوة الأولى يدوي في قلوب هؤلاء المؤمنين ويتردد على ألسنتهم. ويحاولون أن يقذفوا به إيمانًا في قلوب الأمة المسلمة ليظهر عملاً في تصرفاتها، ولتجتمع قلوبها عليه، فإذا فعلوا ذلك أيدهم ونصرهم وهداهم سواء السبيل.. فإلى الإيمان والعمل، وإلى الحب والإخاء، أيها الإخوان المسلمون، والله معكم، وتلك هي وسيلتكم، والله غالب على أمره..
المدرسة التي نريدها، نظرة في تاريخ التعليم الحديث
الروح التقليدي والروح الاستقلالي
لا شك أن الوسائل الرسمية، وبخاصة في الأمم الحديثة النهضة أقوى أثرًا، وأعظم خطرًا في تكييف حياة الشعوب وتوجيه نهضتها، وإذا كان لب دعوتنا الفكرة الإسلامية فإن من أهم ما يعنينا أن تتجه هذه الوسائل وجهتها، وأن تعتمد عليها، وأن تستمد منها.
والمدرسة هي أول العوامل التي تؤثر في حياة الأمة، وتبنى جيلها الحاضر والمستقبل، وكثير من النهضات كان مبعثه المدرسة، وكان أساسه مناهج التعليم، وإذا اتجهت المدرسة الاتجاه السليم الذي يمليه الإسلام وتوجبه الوطنية الصحيحة، فقد خطونا إلى الإصلاح الحقيقي أوسع الخطوات.
ولقد كانت مصر إلى عهد قريب ليس فيها إلا المكاتب القليلة العدد، الصحيحة المنهج، يتعلم فيها الناشئون، ومن وراء ذلك الأزهر يلجأ إليه من أرادوا الاستزادة من العلم، والارتواء من معينه الفياض، حتى جاء محمد على باشا فأكثر من المدارس، واستقدم الخبراء من الأجانب، وأرسل البعوث إلى البلاد الغربية؛ لتخصص بكثير من النواحي الضرورية، وأنشأ المطبعة الأميرية، وأحدث نهضة علمية قوية، كان أكبر قصده من ورائها أن يرتفع مستوى العلم والمعرفة في هذا البلد، وأن يجد من المصريين الأكفاء المخلصين الذين يقومون بعبء الحكم والإدارة وتنظيم شئون الحياة الرسمية المختلفة، وقد كان محمد حذرًا كل الحذر في هذا التوجيه الجديد، فهو وإن كان قد بعث البعوث، واستقدم الخبراء، ووصل الحياة العلمية في مصر بالحياة العلمية في أوروبا، إلا أنه كان حريصًا كل الحرص على بقاء الصبغة الإسلامية والشعور الوطني القوى في نفوس المصريين، وقد أثبت الواقع صلاحية الذين اختارهم من طلاب الأزهر حينذاك لكل شئون الحياة العلمية والفنية التي تخصصوا بها، كما أثبت كذلك صلاح هذا الأسلوب وعظيم نفعه في بلد قوى الروح مجيد التاريخ، لم تفنه الأجيال والحوادث في غيره من الأمم والشعوب طول حياته المريرة الحافلة بالحوادث الجسام.
ثم ركدت هذه الريح العالية حينًا. ثم هبت بعد ذلك رخاء، وأخذت طريقها إلى القوة والاكتمال، وجاءت الحوادث الكثيرة فدفعت مصر في هذه الطريق العلمية خطوات واسعة موفقة لا تزال تنمو وتتسع وتزداد، ولا زلنا نشعر بالحاجة إلى هذا النمو وهذا الازدياد، بيد أن الفكرة التي استولت على موجهي المدرسة المصرية في هذه العهود كانت تقليدية بحتة كل أثرها أن تظهر المعاهد بالمظهر الذى تبدو به المدارس الأجنبية، وكان من مقدمات هذه الفكرة أن تبتعد المدرسة عن كل ما يتصل بالفكرة الدينية أو يمت إليها بسبيل، وهذا إن كان مفيدًا نافعًا في غير البلاد الإسلامية فهو غير صحيح ولا مفيد في بلاد الإسلام، التي تعتبر الفكرة الإسلامية هي روح الحياة الاجتماعية وقلبها النابض، ومن المحال إقصاؤها عن ميدان هذه الحياة.
وكان عن هذا التوجيه الجديد للمدرسة في مصر أن انشطرت الأمة إلى شطرين رئيسيين، شطر يعكف على المدرسة المصطبغة بصبغة الإسلام والوطنية المصرية، ويمثلها الأزهر ومعاهده وروافده، وشطر يعكف على المدرسة المدنية التي تصطبغ بصبغة الحياة الغربية والمناهج الغربية، وتمثلها سلسلة التعليم العام من الابتدائي والثانوي والعالي والجامعي، وهذا التقسيم لا نظير له فيما نعلم في بلد من بلدان العالم المتحضر، ولا يمكن معه أن تتوحد ثقافة شعب أو تجتمع مشاعره على هدف أسمى، وهو أخطر ما يكون على وحدتنا ونهضتنا، وهو أثر من آثار التذبذب في التوجيه الذى يجب أن يزول، وأن يحل محله الوضوح والاستقرار والعزم والحزم، وإلى جانب هاتين السلسلتين التعليم الأجنبي والمعاهد الأجنبية التي تنشئ وحدها جيلاً آخر له خواصه ومميزاته التي هي أبعد ما يكون عنا.
ثم إذا نظرنا إلى هاتين السلسلتين وجدنا أثر التجاذب بينهما، إلى جانب الحوادث الكثيرة، والأغراض الكثيرة، قد أحدث ذلك كله من الاضطرابات والمشاكل في كل منهما ما يستدعى الحل السريع والعاجل الحاسم، فكم تحدث المتحدثون في الدوائر الأزهرية عن إصلاح الأزهر ومشاكله المزمنة والطارئة، وكم تحدث المتحدثون في وزارة المعارف عن سياسة التعليم ووجوب استقرارها ووضوحها، وعن المشاكل المزمنة والناشئة فيها. ولسنا نحاول في هذا الاستعراض الموجز الإلمام أو الإحاطة بكل هذه النواحي، ولكنا نريد أن نكشف عن رأى الإخوان المسلمين في المدرسة المصرية في تلخيص وإيجاز، وأستطيع أن أقول:
إن الإخوان المسلمين يرون أن أمر التعليم في مصر يحتاج إلى خطوة جريئة، وإلى سياسة تجديدية تتناول كل أنواعه ومشاكله، وأمهات نواحي الإصلاح في ذلك أن تكون الروح الموجهة ترمى إلى صبغ المدرسة بالصبغة الإسلامية، لا إلى إقصائها عن هذه الصبغة، ثم إلى توحيد هاتين السلسلتين في سلسلة واحدة لحساب الفكرة الإسلامية لا على حسابها، ثم ضم أنواعه المتشابهة بعضها إلى بعض حتى تقرب الثقافات، وتوحد النفقات، ويقضى على الفوارق في الأدوار الواحدة من التعليم، ولابد من تشجيع اللغة العربية، والتاريخ الإسلامي، والتربية الوطنية في كل مراحل التعليم، والعناية التامة بالخلق والقدوة الحسنة، والنواحي العملية الاستقلالية.
يريد الإخوان المسلمون روحًا جديدًا من صميم الإسلام يهيمن على سياسة التعليم لينشئ نظامًا جديدًا يتخرج به جيل يهتف بالإسلام ويؤمن به ويعمل له.